115

ساعتونه د کتابونو ترمنځ

ساعات بين الكتب

ژانرونه

2

لا يخلق الناس وحسب، بل هو يفتح لنا أبواب عالم الجنة المسحور، ويستحضر لنا أطياف الظلام، ويعرض لنا ساحراته في زوايا الأسرار المحجوبة عن رحمة الله، ويعمر الهواء بلواعب الجنة وهواتف الأرواح، فإذا بهاته الأخلاق التي لا وجود لها في غير أوهام الخيال تتراءى في صدق واتساق، وتبدو لنا - ولو كانت أعجوبة شائهة مثل كليبان - على نمطها الذي يخيل إليها لو ظهرت في الحياة لسارت في شئونها هذه السيرة، ولك أن تقول: إنه كما ينفذ بقريحته الخصبة إلى عالم الطبيعة ينفذ بالطبيعة إلى عالم القرائح وراء الواقع والحقيقة، فنحن نضل في تيه الدهشة حين نرى الخوارق والأعاجيب، وما لم يرد على الأسماع قريبة منا هذا القرب الحميم.»

هذه قدرة لم يضارع شكسبير فيها أحد من شعراء الأرض قاطبة، ولم ينسغ في الغرب شاعر يسوغ للشهرة والعبقرية أن تسولا له التطاول إلى مقامه، إلا شهد له بهذه المنزلة التي لا تطاول، واعترف بها اعتراف من يقر بعظمة الله فلا غضاضة فيها ولا عار، إذ هي قدرة شذت وانفردت حتى علت على الأنانية والعصبية، وأصبحت من عجائب الطبيعة التي لا يضير المرء أن يشهد بها لهذه الأمة أو لتلك، ولا يخطر له أن ينكرها على أهلها وصاحبها، إلا إذا خطر له أن ينكر الشلال على نياجرا أو الدر على البحار، فليس شكسبير بإنسان من الناس في هذا الاعتبار ولكنه خارقة إلهية لا يدخلها الناس فيما بينهم من المنافسات والموازنات، بل لقد اتخذ بعض النقاد هذه الخارقة فيه سبيلا إلى انتقاصه فقالوا إنه قطعة من الطبيعة العمياء، وإنه يبني شخوصه كما يبني النحل خلاياه بلا قصد ولا علم، ولا احتمال للغلط ولا فضل في الإتقان.

إن كثيرا من قراء الأدب عندنا لا يفهمون وجه المعجزة في جعل أناس كثيرين يتكلمون كما ينبغي لهم أن يتكلموا، ويعملون كما ينبغي لهم أن يعملوا، ويعرضون لها في المعرض الذي يلائمهم من الفكر والخليقة والسن والحالة النفسية والمقام، فهؤلاء عليهم أن يذكروا المشقة التي يعالجونها حين يعن لهم أن يصفوا إنسانا يعرفونه ويعاشرونه ويسمعون كلامه في كل موقف، ويشهدون عمله في كل مجال. إنهم يعالجون مشقة عظيمة في استجماع تلك الأقوال والأعمال ثم في تحليلها وتقسيمها ثم في استخراج ما وراءها من المشارب والطباع، ثم في نقل تلك المشارب والطباع إلى أوصاف في اللغة تطابق الحقيقة، وتدل على صاحبها أصدق دلالة، فإذا كان هذا مبلغ المشقة في وصف من نشاهد ونعاشر، فأشق منه جدا أن نصف من نتخيله أو نقرأ عنه أو نخلقه على غير مثال نراه، وأصعب من هذا وذاك أن نترقى من الوصف إلى تركيب «الشخص»، وإرساله مرسل الأحياء حين يشعرون ويتكلمون ويعملون، نعم. ذلك أصعب جدا من مجرد تسمية الصفات وسرد عناوين الأخلاق والكفايات، فإنك قد تنظر إلى الرجل فتعرف مكره واحتياله، ولكن المسافة لا تزال بعيدة بين هذه المعرفة وبين أن تبين لنا كيف يعمل الماكر المحتال في كل حادث يتفق له وكل موقف يجمعه بسواه، والمسافة لا تزال بعيدة أيضا بين تبيين عمله في الحوادث والمواقف وبين خلق تلك الحوادث والمواقف خلقا يناسب مجمل أحواله ومجمل أحوال المشتركين معه في الرواية الواحدة، وقد تعرف المئات من الناس كلهم يوصفون بالصدق والعلم والمروءة والدماثة، ولكنك تنظر إليهم إذا تأملتهم فتعلم أنهم «شخصيات» متعددة متفرقة على اتفاقهم في أسماء الصفات والطباع، بل نجد أن أحدهم قد يعمل في حالة من الحالات ما يأبى أن يعمله غيره، ويقول في شيء من الأشياء ما لا يقوله الآخرون، فالوصف إذن مشقة عظيمة ولكنه قدرة لا تذكر إلى جانب القدرة على تركيب الشخصيات والمواقف، والفرق بينهما كالفرق بين من يتفرج ويفهم ما يتفرج به وبين من يخلق الشيء الذي يفهمه الناظرون.

فإذا قيل لأدبائنا هؤلاء الذين لا يفهمون معجزة شكسبير: إن هذا الشاعر قد أبدع في قريحته مئات من تلك «الشخصيات» التي ينم وصفها فضلا عن خلقها على قدرة نادرة وعبقرية رفيعة، فحري بهم إذن أن يلموا بطرف من تلك العبقرية، ويقفوا على حذر عند ذلك الغور، وأن يذكروا أن هذا كله فضل يضاف إليه فضل مثله في الإعجاز والإغراب، وهو فضل الجمال الذي كسيت به تلك الصور، والبلاغة التي نطقت بها تلك الشفاه، والشاعرية التي تبهر السامع بنظيمها كما تبهر المتأمل بنفاذها وإلهامها، والسحر الذي هو حسب القائل من فخر إن لم يكن لها لهو فخر تلك الفطنة وذلك الإلهام.

كبر على بعض النقاد أن يسلموا بتلك القدرة المعجزة، أو تلك القدر المعجزات لرجل نشأ كما نشأ شكسبير وتعلم كما تعلم، فراحوا يذكرون أفرادا من العلماء والوجهاء ينحلونهم رواياته، ويرجعون إليهم بفضل تأليفه ونظمه! وهي حماقة يولع بها طلاب التسلية واللغو، ولا يعيرها التفاتة من يفقه ما التأليف وما المألفون، ولو لم يكن في روايات شكسبير من الأغلاط التاريخية والجغرافية والهفوات النحوية والصرفية، ما ليس يصدر عن أولئك العلماء والدارسين لجارت تلك الحماقة على كثيرين، فما أشبه هؤلاء اللاغين المتبطلين بمن يسمعون أن رجلا حمل الجبل فيسألون: هل كان الرجل مصارعا مضبور الخلق، أو كان رجلا لا علم له بالجلاد ورفع الأحمال؟ إنا ها هنا حيال «معجزة» لا شك فيها ولا خلاف في وجودها، ولن تكون المعجزة أقل إعجازا حين تحمل اسم مؤلف مستور، أو تحمل اسم «شكسبيرها» المشهور!

شكسبير (2)1

رواياته التمثيلية

كان من المستحيل على عبقرية شكسبير أن تستكمل ظهورها في أي فرع من فروع الشعر والأدب غير الرواية المسرحية، فهذه المعرفة الملهمة بالطبيعة الإنسانية، وهذه القدرة على تصوير الشخوص والمواقف، وهذه السليقة الجياشة بالعواطف والسرائر، وهذا الذهن الحي الذي يهتدي عفو البديهة إلى أخفى الخفايا وأصدق الحقائق، وهذا النظم الساحر الذي يبدع إبداعه في أرق الغزل، كما يبدعه في أهول الهول وأضخم المشاهد، كل هذه الملكات الكاملة في تلك القريحة النادرة ما كان لها من مجال تبرز فيه على أحسنها، وتستتم فيه قواها أفسح وأصلح من مجال الرواية المسرحية. ولو كانت الرواية القصصية قد راجت في عصر شكسبير رواجها في القرن الثامن عشر وما بعده، لكان محتملا أن ينصرف إليها وأن يميل به ازدحام سابقته بالشخوص وحوادث الحياة إلى تأليف القصص واختراع الأبطال من الخيال أو من محفوظات التاريخ ونوادر أهل زمانه، ولكننا فيما نظن كنا نخسر «بداهة» شكسبير ووحي قريحته لو أنه اتجه هذا المتجه، وأخذ في تأليف قصصه على أساليب الروائيين الذين نعرفهم في الآداب الحديثة، فإن «الروائي» يشرح ويحلل وينظر نظرة المتفرج أو يدرس شخوصه دروس العالم المتفقه، أما شكسبير فلم يكن هذا ميدانه في رواياته المسرحية، وإنما كان يخلق الشخوص ويحيا حياتها من الداخل، ويجيئنا بها لنراها كما نرى الأحياء في هذه الدنيا، ونأخذ أخبارها من أقوالها وأفعالها كما نأخذها من وقائع الأيام وامتزاج الناس بالناس، فهو لا يقول لنا انظروا إلى «هاملت» كيف تضطرب عزيمته، ويختل صوابه، ويثقل رياء الناس على طبعه، وكيف يقول لكم هذا القول ليطابق ما صورته لكم من ذكائه، وطيب طويته، وتذبذب عزمه، بل يقول لنا هاكم «هاملت» فانظروا كيف هو واحكموا عليه كما تحكمون، وهو لا يشرح لنا «الشخوص» التي يمثلها، وإنما يضعها في مواضعها، ويمزج بين حياتنا وحياتها ثم يتركها لمن شاء أن يشرحها ويدرسها ويفهمها كما نفهم الرجال والنساء في مواقف الحياة، وهو لا يقص علينا ما صنعه أبطاله وما هم خليقون أن يصنعوه، وإنما يرينا إياهم وهم يصنعون ما يليق بهم ويصفون أنفسهم بألسنتهم وأعمالهم، وليس هذا مجال الدرس والتحليل، ولكنه مجال الخلق والإنشاء، أو ليس هو مجال القصة ولكنه مجال التمثيل .

كذلك لو انصرف شكسبير إلى نظم الشعر في الغزل والوصف والمغازي والوقائع لما ظهر لنا كاملا ولا نصف كامل؛ لأن ملكات الذهن الإنساني ليست مما يشبه بالمصابيح الكهربائية التي يضيء سائرها إذا تعطل بعضها، ولكنها في هذا المعنى أشبه بخلايا الجسم الحي إذا سرت إلى بعضها جراثيم الفساد، أو علل الجمود، فقلما تسلم بقيتها من خطر العدوى أو خطر الإجهاد والإرهاق، فإذا طبع الذهن على أن يكون شاعرا وناقدا ومفكرا معا، فهو يكون مفكرا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر والنقد، وناقدا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر والتفكير، وشاعرا ناقصا إذا هو لم يستوف حظه من الملكتين الناقدة والمفكرة، فلو انقطع شكسبير للغزل مثلا لأفسده عليه الفكر المعطل والطبيعة الواسعة حين تهم أن تظهر في الغزل ولا يتسع لها فيه سبيل الظهور، ولو انقطع للملاحم لجار فيه جانب القاص الراوية على جانب الخالق المصور على البداهة، ولو انقطع للتأمل لاختلط عليه الأمر بين الخلق والابتكار وبين النظر في أسبابه وأساليبه، فالمصادفة التي ساقت شكسبير إلى الكتابة المسرحية هي المصادفة التي أهدت شكسبير إلى العالم، وحفظت شكسبير من الضياع.

ناپیژندل شوی مخ