ساعتونه د کتابونو ترمنځ
ساعات بين الكتب
ژانرونه
ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول: إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير، فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع نحن الشرقيين أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداءة؛ لأنها وليدة البواعث وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث أي في الخلق والإحساس، وليس تفاوتا في العقل والتفكير، وطريقنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح، وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل. (2)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابا للمعرفة مستثنيا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجا باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»
أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها، وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، هي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن نفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وأن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء. فالدنيا لا تتغير ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الخلق والتنويع، وليس من المنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يغرب عنا أبدا أن وراء هذه الحواس ينبوعا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكا لا حد له من الصيغ والتعريفات. (3)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعهما فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان البدائي بل الحيوان أكبر فلاسفة الأرض لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب، أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة، ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق، وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان، وكم خالفه أهلها وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم، ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»
هذا الذي يقوله الأستاذ الزهاوي! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون، و «أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها، فالحب عاطفة ولكنه يجرح نفوسا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيما لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها، فإن أصحاب العقول لربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنيين و«أولاد البلد» المتظرفين.
وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ: إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين. وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة والخيال، ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.
ولقد ذكر الأستاذ اسم دارون صاحب النشوء والارتقاء، فهل له أن يذكر أيضا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع، وتلاقح الإنسان والحيوان! نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل من تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضا أن دارون ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب النشوء والارتقاء؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.
ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق» وهذا الذي أقوله أنا وأقول معه: إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يقول عن عمل من أعمال الناس ينبغي أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم فما هي السعادة! إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنساني «عاطف» فلا حاجة به لإنسان. •••
نود أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما يعوزهم، فيجب أن يعلموا أن الذي يعوزهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل، أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ الزهاوي أن يسأل نفسه هذه الأسئلة وهي: (1)
ألا يمكن أن يقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟ (2)
ناپیژندل شوی مخ