ساعتونه د کتابونو ترمنځ
ساعات بين الكتب
ژانرونه
الوطنية (2)1
اطلع القراء في العدد الماضي على كلام الأستاذ رامزي موير في الوطنية، ومعالمها، والعناصر التي تميز الأوطان وتكونها، وانتهوا من كلامه، ونحسبهم قد علموا قصده الذي ينزع إليه ولا يجاهد في كتمانه، فهو يريد أن يقول: إن الإمبراطورية البريطانية يمكن أن تصبح على تمادي الأيام وطنا جامعا لأوطان كثيرة، وإن وطنية المستقبل - لا بل الوطنية في جميع أدوارها - لا تمنع الانضواء إلى علم الإمبراطورية، والدخول في عداد شعوبها.
فإن قيل له: وكيف يتفق هذا على تباعد الديار، واعتراض الأرضين والبحار؟ جاز له أن يقول: إن الوحدة الجغرافية لم تكن قط شرطا لازما من شروط الوطنية، فإن الإغريق كانوا موزعين على أرجاء الأرض وكانوا يذكرون أوطانهم، ولا ينسون قوميتهم، وإن احتج عليه محتج باختلاف الأديان أو باختلاف اللغات أو باختلاف الأجناس، سرد له الأمم التي اشتركت في «حاسة القومية» على ما بينها من اختلاف في اللغة والدين والسلالة، أو ذكر له الحكومات التي بثت في الأمم معاني الوطنية بما شرعت لهم من القوانين العادلة، ووطدته بينهم من النظام المكن، وهكذا لا يعترض عليه معترض إلا وجد مثلا يدفع به اعتراضه، ويخرج منه على مشابهة بين الإمبراطورية وبين وطن قديم أو حديث في هذا الاعتبار أو ذاك.
كذلك شأن الوطنية في تسيير حقائق العلم والروح لأهوائها وعصبياتها، ورامزي موير مثل واحد من أمثلة هؤلاء العلماء الإنجليز الذين يوسطون العلم، ويبدءون وينتهون بالعصبية، على أنه ليس بأعجب الأمثلة التي تجلو لك هذه الخلة في قومه، فهو مؤرخ شئون حديثة والشئون الحديثة قريبة إلى مباحث السياسة ومنازعها وعاداتها في الإقناع والتفكير، فإذا رأيت له أسلوب الصحفي العامل في خدمة الإمبراطورية والدعوة إليها، فليس في هذا مناقضة كبيرة لصناعته ونوع بحثه ، أما العجيب حقا فهو أن ترى رجلا مثل أوليفر لودج يتغنى بمآثر الإمبراطورية ويعد احتلالها مصرا في صفحات المجد والفخار، فقد يصل العالم إلى هذه النتيجة من طريق درسه واستقرائه، ولكنه لا يحق له أن يقرر فيها «رأيا علميا» حتى يلم بكل ما صنعته إنجلترا لمصر قبل الاحتلال وبعد الاحتلال وحتى يسأل نفسه: هل وقفت إنجلترا في طريق الحكومة الوطنية قبل الاحتلال وحاربتها بالكيد والدسيسة لكي تعوق تقدمها أو لم تفعل؟ وهل ما عملته إنجلترا لتثقيف المصريين في مدى أربعين عاما هو كل ما يجب على طالب المجد والفخار أن يعلمه أو دون ذلك؟ وهل شجعت إنجلترا أحسن الأخلاق وأكرمها في أبناء مصر أو شجعت أخلاقا لا ترضاها في أبنائها، ولا تقابل من يتسم بها منهم بغير الذم والزراية؟ فإذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وراجع الوثائق والأسانيد التي لا بد له من مراجعتها، وقابل بين ما تم وما كان يمكن أن يتم، ووازن بين الأغراض المدعاة والأغراض الصحيحة، فله بعد ذلك أن يحكم حكمه ويفصل في الأمر، كما يفصل العالم في معضلاته، ولكن هل راجع أوليفر لودج هذه المراجع وحاسب نفسه ذلك الحساب؟ نظن أنه لم يفعل، وإنما أوليفر لودج الإنجليزي هو الذي يتكلم عنا، وليس أوليفر لودج صاحب الدقة الرياضية، والسبحات الروحية، وقائل الكلمة يزنها بميزان لا يختل قيد شعرة، ولو كان فارغا أو حائما على حواشي الفروض، فإذا كان لكل هذا دلالة نستفيدها فتلك الدلالة «العلمية» هي أن الوطنية أقوى وأعمق في الضمائر، وأعظم سلطانا على العقول، مما أراد العالم الإنجليزي أن يقول.
على أنه هب أن رامزي موير لم يكن إنجليزيا، وإنما كان روسيا أو جرمانيا يسوق آراءه في مصلحة الإمبراطورية البريطانية، فعل يدعو ذلك إلى قبول كلامه، أو هل هو خليق أن يهدينا إلى حجة في ذلك الكلام يرضاها المنصف، ويسلمها الباحث النزيه؟ كلا! فإن كلاما كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية، وتقريب الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى مستقيم. قد تقول مثلا ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ أهي اللغة؟ كلا! فإن أناسا كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون، أهي أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله، أو يقوم مقامه في حيوان، أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين، وبعض الناس يزحفون على أربع، أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقا بين دم الرجل ودم المرأة، وبين دم الشيخ ودم الصبي، وكلهم من بني الإنسان، وزد على هذا أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا؛ فإن أناسا في ذروة العظمة قد يرجح عليهم في نقاوة الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة، أهي قابلية التناسل؟ كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع واحد، وقد يعيش الرجل والمرأة معا عيشة الأزواج ولا ينسلان.
وقد تقول هذا وأشباهه في المعالم والمزايا التي تملأ الأبصار والمسامع فلا تكون إلا مقاربا لمن يقول: إن الوطنية تشبه عدم الوطنية؛ لأن هذه المزية أو تلك من مزاياها قد تنعدم في بعض الأوطان، فالحقيقة من وراء هذه الأمثلة والشكوك هي أن الوطنية وعدم الوطنية نقيضان، وأن المزايا التي توجد بها الوطنية شيء، والمزايا التي تنعدم بها شيء سواه، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون وطنيا وغير وطني في آن، فإذا كانت مزايا الوطنية لا تجتمع كلها في وقت واحد في وطن واحد فهذا هو الأمر المعهود من قديم الزمن، والأمر الذي لا غرابة فيه ولا ينتظر غيره، ولكن: هل منع ذلك أن تكون أوطان، وأن تكون غيرة على أوطان، وعداوة وصداقة في سبيل الأوطان؟ لا! لم يمنعه فيما مضى ولا هو بمانعه فيما يلي، ولا هو بمتغير في جوهره؛ لأننا عرفنا أن اللغة وحدها أو أي معلم من معالم القومية، لا يتمم القومية بجميع المعالم في جميع الأوطان.
ومهما يقل المؤرخون، فإن هناك شيئا مشتركا في كل وطن نعلمه، وهو الشعور بفخر واحد وإهانة واحدة تميز كل وطن من سواه. كيف يأتي هذا الشعور ويتغلغل في الأفراد؟ أيأتي من اللغة، أو وحدة المكان، أو اتفاق العقيدة، أو ذكريات الألم والفخار؟ هذا شيء يقع فيه الاختلاف على التحديد والتمييز، ولكنه لا ينفي الحقيقة الأولى، وهي أن الشعور موجود وإن تعددت أسبابه وعوامله، وهذا الذي يعنينا ولا يعنينا سواه.
ربما قال الباحثون: إن الأوان قد آن أو سيئون للنظر في مساوئ العصبيات، وأخطار الإحن والعداوات التي تشجر بين الأقوام والأوطان، وربما قالوا: إن تهوين هذه الفوارق ضرورة يقضي بها حب السلام وحقن الدماء، فإذا نحن لم نستغن بالعلم على كشف الضلالات والأوهام، فأي شيء يصل بنا إلى ما نريده؟ أما الذي نقوله نحن فهو أن مساوئ العصبية كمساوئ الشخصية من أكثر الوجوه، فما من جريمة أو سيئة أو رذيلة إلا ومردها إلى شعور الإنسان بشخصيته، وانقياده لدوافع الأنانية والأثرة، لكنا ننظر إلى الجانب الآخر فلا نرى فضيلة ولا مبرة ولا شهرة حسنة إلا ومردها إلى مثل ذلك، أي إلى شعور الإنسان بشخصيته وانقياده لدوافع الأنانية والأثرة، فإذا أحصينا للإنسانية حظا بلغته من فهم، أو إحساس، أو عمارة، أو حضارة، فإنما أساس ذلك كله أن كل إنسان شخص مستقل بنفسه، عامل لمنفعته، متجنب لضرره، وإذا قصد المصلحون أن يمنعوا شرور المجرمين، ومصارع النزاع بين الناس، فهم لا يمنعونهم بنسيان الشخصية والشعور بها، وإنما يمنعونها بالتوفيق بين شخصيات كثيرة، تتعدد في ظواهرها وبواطنها، ولا يحول التعدد بينها وبين التناصف ورعاية الحدود.
كذلك الوطنية إنما هي للأمم بمثابة الشخصية للأفراد - بها يناط الواجب في الحياة، وعليها تفرض الحقوق - فمن كان يبتغي عند أمة من الأمم خيرا تؤديه في هذه الدنيا، أو حصة تساهم بها في ثقافتها وعمارتها، فلن يكون ذلك إلا بشخصية قومية تفرض عليها الأعباء، وتطلب منها الحقوق، وإذا حدث في يوم من الأيام أن أمة وقفت بين واجب العصبية وواجب الفكر والحكمة: العصبية تنفخ فيها روح العزة والإباء، والفكر يميل بها إلى الخضوع والدعة فقد تستغني عن الفكر في هذا الموقف، فتكون خسارتها موقوتة، ومصابها مما يعوض بعد، ولكنها إذا استغنت عن روح العصبية ضاعت أبدا، ولم يغثها المرشدون والحكماء، وفقدت وحي الطبيعة الذي ركب في الطبائع لحفظ الأفراد والأقوام، فالفكر يهدي في الأوقات بعد الأوقات، وقد يخطئ وقد يصيب، أما الغريزة أو الفطرة فتخطئ وتصيب أيضا، ولكنها على طول الزمن طريق الهداية الذي ينتهي إلى الصواب.
ولو رددنا بني الإنسان إلى مبدأ الخليقة ليعودوا كرة أخرى مفكرين لا عصبية بينهم لاجتنبنا بعض الخسائر التي يساقون إليها مع أوطانهم وعشائرهم، ولكننا نخسر معها كل ما ربحناه الآن من تنافس الأمم، ومن فضائل النفوس التي تحفظ الناس أفرادا وجماعات، وتصم آذانهم عن خدعة الفكر المضلة في الأحايين وتعصمهم من مخاطره التي يجر إليها حب السلامة وحصر الأمر، فالفكر كالمصباح تهتدي به إلى مواقع قدميك خطوة بعد خطوة في شعب السراديب وأتياه الظلام، والأنانية الفردية أو الأنانية القومية كالحبل المشدود بين تلك الشعب يهديك إلى الوجهة في مفترق كل طريق، وقد تستغني عن المصباح إذا أخذت بالحبل المشدود وقاربت بين خطاك، أما الحبل المشدود فلا غنى لك عنه بحال.
ناپیژندل شوی مخ