ساعتونه د کتابونو ترمنځ
ساعات بين الكتب
ژانرونه
والزهاوي تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول - بالمنطق - أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فهو يقول: «في المجمل مما أرى أن مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في أصلها إلا قوة، وأن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى يحتوي على عدد غير متناه من العوالم النجمية، وأن في كثير من هذه العوالم نظاما مثل نظامنا الشمسي، وأن في ذلك النظام أرضا مثل أرضنا وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن محدود ثم يختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانا مثلي وآخر مثلك وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم فيها ما جرى لهم في هذه تماما.
وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم وبعضها في بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا فهو يولد في غيرها من جديد من نفس آبائه الذين ولد في أرضه هذه منهم، وإذ إن هذه الأرضين لا تتناهى فكل فرد من الناس غير متناهي العدد غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالا في هذا الكون اللامتناهي، وأن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدا إذا كان هنا شقيا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا ونتولد منهم كما تولدنا، ونموت كما في هذه المرة، وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى الأبد. ... ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار، وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره الأولى؟ فأجيب إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى، فهو مثل العلم بالذكر وكفى به نفعا أنه يظان الإنسان أن موته موقت ليس أبديا، وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة. الأول أن العالم بما فيه من الأجرام غير متناه، والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم بل ينحل تركيبه، وينحل إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكون مادة بعد تطورات متعددة ثم ينحل، ثم يتركب إلى ما لا يتناهى، والثالث أن جواهر كل جرم من الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن يوجد جرم واحد غير متناهي السعة، والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على أشكال متناهية؛ لأن جواهرها متناهية وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر فهو كغيره من الأشكال يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر أيضا يعود بشكله وعقله، وإلا لم يكن الدور تاما والعالم أجمع تابع لهذا الناموس الدوري الأعظم.»
هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ الزهاوي في رسالته «المجمل مما أرى»، فالمنطق هنا يتكلم ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه يستلزم الدور ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى والحركات لا تتناهى والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار فيما يلي أو فيما سبق قبل الآن، يجب أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان لأن لا نهاية الفضاء موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها الذي هي فيه؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررا على هذه الأرض بعينها، فلماذا نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟ •••
ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ الزهاوي صاحب ملكة علمية رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعر، فمن ينشده فلينشد عالما ينظم أو يجنح إلى الفلسفة فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان.
البطولة1
على ذكر سعد
من هو البطل؟! لا نريد أن نستوحي جواب هذا السؤال من أقوال المؤرخين وعلماء النفس ورجال المعرفة والأدب، وإنما نريد أن نستمع إلى أقوال العامة الذين يحسون البطولة، ويؤمنون بها ولا يقرءون الكتب أو يبحثون في موضوعاتها، فإذا سألت هؤلاء من هو البطل؟! فيغلب أن تسمع منهم جوابا واحدا هو أشبع الأجوبة وأخطؤها، أو هو خطأ لأنه يصف لك البطولة من ناحية بارزة فيها كدأب العامة ومن لا يتكلفون النقد والمقابلة، ثم هو يدع نواحيها الأخرى ومراميها فلا يبقي لها بالا ولا يظن أن لها شأنا في تقدير البطولة و«تكوين» الأبطال، ذلك الجواب الشائع الخاطئ هو أن البطل من لا يخاف، وفلان بطل عندهم؛ أي إنه مقتحم هجام لا يبالي العواقب، ولا يرتدع عند خطر، وتلك الصفة الغالبة للبطولة في رأي الأكثرين.
أما أن البطل شجاع فهذا صحيح لا غبار عليه، وأما أنه لا يخاف فهنا موضع النظر والتأمل؛ لأن الشجاعة ليست هي عدم الخوف وإنما هي التغلب على الخوف، وليست هي نقيض العقل والحكمة وإنما هي نقيض الجبن والضعف، فرب رجل لا يبالي الخطر يكون اقتحامه جهلا بالخطر وغفلة عن العواقب، ويشبه في هجومه على الأمور حيوانا يثب على فريسته كما يندفع الحجر ألقت به يد قوية فهو لا يملك الجمود في مكانه، وإنما الشجاعة الإنسانية التي تشرف هذا الإنسان وترفعه إلى مقام البطولة هي أن تعرف الخوف ثم تكون أنت أكبر منه وأقوى من أن تستكين له وتنكل عن قصدك لأجله، فالبطل يخاف ولكنه لا يستسلم لخوفه، وربما كان في إقدامه ضرب من الخوف أعلى من هذا الذي يفهمه السواد، كخوف الضمير أو خوف الصغر في نظر نفسه، أو خوف العار على الأقل وهو ضرب نبيل شائع بين الناس أكثر من شيوع خوف الضمير، أو خوف حساب الإنسان لنفسه.
قد تسمع جوابا آخر على سؤالك من سواد الناس وأشباه السواد، فيقولون لك: إن البطل هو من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، ويكونون أيضا على صواب في هذا الجواب من ناحية واحدة وعلى خطأ كثير من نواحي عدة. إذ البطل قد ينهزم كثيرا في ميدان جهاده بل هو قد يؤثر الهزيمة أحيانا على الظفر؛ لأنه لا يحارب بكل سلاح ولا ينشد كل غاية، وليس من النادر بين الأبطال من ماتوا مهزومين في عصرهم وغالبهم أناس دونهم في العظمة والبطولة أو ليسوا من العظمة والبطولة على شيء؛ وكأي من هزيمة هي أشرف من نصر يجيء بذميم الوسائل وحقيرها، ويكون محصورا موقوتا لا نفع فيه لأحد ولا أثر له بعد حينه، ولعل الأصح هنا أن يقال: إن البطل من يغلب نفسه ويقوى على شهواته، لا من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، فإذا وقف البطل بين فتنة الطمع والغواية، وفتنة الحرب والسطوة، فخطر الأولى عليه أكبر من خطر الثانية، وحاجته إلى البطولة التي يقمع بها قسوة نفسه أعظم من حاجته إلى البطولة التي يصرع بها قوة خصمه، فليست الغلبة في كل حال هي شأن البطل، وإنما تطلب منه الغلبة على النفس أحيانا، كما تطلب منه الغلبة على الخصوم.
أوسع من هؤلاء نظرا وأرفع نفوسا من يصفون البطولة بصفة غير الاقتحام والغلبة، وهي صفة الإيثار وقلة الحرص والأنانية، ولكننا نحب أن نقول هنا: إن الأثرة والإيثار خلتان تلتقيان كثيرا في أجواء العظمة وميادين «المصالح الكبيرة»، فمن الإيثار في هذه الأجواء والميادين ما هو أثرة بارزة، ومن الأثرة ما هو إيثار محمود. وصاحب الشريعة الذي يفرض على الإنسان أن يؤمن بشرعه أو لا يرى له حقا في الحياة ماذا تسمى فريضته تلك إلا أنانية لا أنانية بعدها، وأثرة تفوق كل أثرة؟ تسميها أنانية وأثرة بلا مراء، ولكنك لا يسعك أن تفرق بينها وبين الإيثار في سبيلها، ولا تدري كيف يكون هذا الرجل مؤثرا أو غير مستأثر إذا هو أراد أن يكون، والعظيم - مذ كان عمله يتناول الأمة بأسرها أو يتناول الدنيا بجملتها - يخدم الناس ويبرهم ويؤثرهم على نفسه حين يخدم وطره، ويحرص على إنجاز عمله، فالأنانية هنا قوة تلهب الغيرة في قلب العظيم لمنفعة الناس لا لمنفعته، وهي خديعة طبيعية تخدعه بها الفطرة كما تخدع الأحياء باللذة التي يجدونها في تخليد النوع وحفظه من الفناء، ولو أنك فرضت على العظيم الذي هذا خلته أن يصبح أنانيا بغير هذه الأنانية النافعة، لما استطاع ولا قدر على أن ينصف نفسه من تلك القوة التي تسخره وتوهمه أنها تأجره على ما يعمل ولا أجر له على هذا العناء، ولو جردته من هذا الخلق لجردته من شيء يتعبه هو وينفع الآخرين وبلغته الراحة التي كانت تعز عليه وحرمت الناس جهده ونصبه الذي كانوا ينعمون به؛ ولسنا نقول: إن الفرق معدوم بين الأنانية والإيثار في الأبطال والعظماء، فإن من هؤلاء أناسا يوصفون بهذه الخلة وأناسا يوصفون بتلك، ومنهم أناس إذا تعارضت الدوافع الذاتية والدوافع الغيرية اختلف المسلك بينهما على حسب اختلافهم في الطبائع والميول، ولكنا نقول: إن الأنانية لا تحرم البطل بطولته إذا نزل بها في ميدان العمل الكبير ومستبق الهمم الجسام.
ناپیژندل شوی مخ