من الطبيعي في قصة من هذا النوع، أن أبي راح يدخن ويعاقر الخمر؛ مع أن كل أصدقائه مارسوا هذا أيضا، أيا كانت مواقفهم في الحياة. أصيب بسكتة دماغية وهو بعد في خمسينات عمره، ومات بعد شهور عديدة أمضاها في الفراش. ولم يكن أمرا مدهشا أن رعته أمي طوال تلك الفترة؛ إذ أبقته ماكثا في البيت. وفي المقابل، بدلا من أن يصبح رقيقا معها مقدرا ما تفعله من أجله، راح يكيل لها الشتائم القذرة، التي جعلها حظه العاثر مبهمة، ولم تكن أمي لتفهمها، لكنها بدت مرضية تماما بالنسبة إليه.
في الجنازة، قالت لي امرأة: «والدتك قديسة.» أتذكر شكل هذه المرأة جيدا جدا، مع أني لا أتذكر اسمها. شعر أبيض مجعد، وجنتان مزينتان بالحمرة، ملامح جميلة. كانت الكلمات التي همستها إلي شجية. كرهتها على الفور. تجهم وجهي. كنت في ذلك الوقت في عامي الثاني الجامعي. لم ألتحق أو لم أدع للالتحاق بأخوية أبي. رافقت أناسا كانوا يخططون لأن يصبحوا كتابا وممثلين، وكانوا حينها ظرفاء، مخلصين في إهدار الوقت، نقادا للمجتمع بوحشية، ملحدين جددا. لا أحترم الناس الذين يتصرفون مثل القديسين. وللصدق، لم يكن هذا ما كانت تستهدفه أمي، كانت بعيدة بما يكفي عن تلك التصورات الورعة؛ فلم تطلب مني قط في أي من زياراتي للمنزل، أن أذهب إلى غرفة والدي لأجرب كلمة تصالح معه، ولم أذهب قط. لم يكن لدينا تصور عن التصالح أو التبرك؛ لم تكن أمي حمقاء.
لقد كرست نفسها لي - لم يستخدم أي منا هذه الكلمة، لكني أعتقد أنها الكلمة الصحيحة - حتى التاسعة من عمري. علمتني بنفسها، ثم أرسلتني إلى المدرسة. يبدو هذا وصفة للتسبب في كارثة. صبي أمه المدلل ذو الوجه الأرجواني، رمي فجأة وسط الساخرين الهازئين والإهانات القاسية من الهمجيين الصغار. لكني لم أقض وقتا سيئا، ولا أعرف لماذا حتى يومنا هذا. كنت طويلا وقويا بالنسبة لسني، وربما نفعني هذا، مع أني أعتقد أن الجو في البيت، ذلك الطقس من المزاج العكر والشراسة والاشمئزاز - حتى ولو من أب لا أراه غالبا - ربما هو ما جعل أي مكان آخر معقولا، وشبه مقبول، وإن كان بنحو سلبي وليس إيجابيا. لم تكن المشكلة مع من يبذلون مجهودا في التعامل معي بلطف. كان لي اسم؛ جوز- العنب، إلا أن كل فرد تقريبا كان له لقب ما ينتقص من شأنه. كان هناك صبي تفوح من قدمه رائحة كريهة مميزة - لم يفلح معها على ما يبدو الاستحمام اليومي - استحق معها لقب «النتن». تأقلمت مع الوضع. كتبت لأمي رسائل كوميدية، وردت بالأسلوب نفسه إلى حد ما؛ إذ اتخذت نبرة لطيفة يشوبها شيء من السخرية الطفيفة عن الأحداث التي تدور في البلدة والكنيسة؛ أتذكرها حين وصفت خلافا حول الطريقة الصحيحة لتقطيع الشطائر من أجل وقت احتساء شاي السيدات؛ بل ونجحت حتى في أن تتحدث بحس فكاهي يخلو من المرارة عن أبي الذي كانت تشير إليه ب «نعمة الرب».
أرى أني قد جعلت من أبي وحش هذه القصة، ومن أمي البطلة المخلصة والحامية، وأعتقد أن هذا حقيقي. لكنهما ليسا الشخصيتين الوحيدتين في قصتي، ولم يكن المنزل هو البيئة الوحيدة التي عرفتها - فأنا هنا أتحدث عن الفترة التي سبقت التحاقي بالمدرسة - فما أصبحت أرى أنه الدراما العظيمة في حياتي حدث فعليا خارج المنزل.
دراما عظيمة. يحرجني أني كتبت هذا. أتساءل ما إذا كان التعبير يعطي انطباعا بالسخرية المبتذلة أو السخافة. لكني فكرت بعد ذلك، أليس من الطبيعي تماما أن أرى حياتي هكذا، وأتحدث عنها هكذا، ننظر بعين الاعتبار إلى الكيفية التي أكسب بها دخلي؟
أصبحت ممثلا، أيدهشك هذا؟ كنت أصاحب في الجامعة مجموعة تمارس نشاطا مسرحيا بالطبع، وأخرجت في عامي الأخير مسرحية، وابتكرت مادة للضحك عن الكيفية التي سأتدبر بها لعب دور على خشبة المسرح بإبقاء الجانب غير المشوه من وجهي موجها إلى الجمهور أن أسير إلى الخلف عبر خشبة المسرح عند الضرورة، لكن لم تكن هذه المناورات الجذرية ضرورية.
في ذلك الوقت، كانت الإذاعة الوطنية تذيع مسلسلات درامية بانتظام؛ فكان هناك برنامج يتميز بالجهد الواضح المبذول فيه يذاع في أمسيات الآحاد؛ وهناك المسلسلات المقتبسة عن أعمال أدبية. مسرحيات شكسبير وإبسن. كان صوتي طيعا طبيعيا، ومع قليل من التدريب تحسن. حصلت على وظيفة في الإذاعة الوطنية، أدوار صغيرة في البداية، لكن مع مجيء التليفزيون وتراجع نسب الاستماع إلى الإذاعة، كنت أخرج على الهواء كل أسبوع تقريبا، وأصبح اسمي معروفا لجمهور مخلص وإن لم يكن ضخما. وصلتنا خطابات تعترض على اللغة السيئة أو على ذكر زنا المحارم (فقد أخرجنا بعض المسرحيات اليونانية كذلك). لكن إجمالا، لم ينهمر علي من التوبيخ بالقدر الذي تخوفت أمي منه، حين كانت تجلس على كرسيها إلى جوار الراديو، في إخلاص وقلق مساء كل أحد.
ثم جاء دور التليفزيون، وقد انتهى عهد التمثيل - بالنسبة إلي بالتأكيد. لكن صوتي حفظ لي مكانا جيدا، واستطعت أن أحصل على وظيفة مذيع، في وينيبيج أولا، وفي تورنتو مرة أخرى ثانية. وعملت مذيعا لآخر عشرين عاما من حياتي المهنية في برنامج موسيقي يبث مختارات موسيقية، يذاع أيام الأسبوع بعد الظهيرة. لم أكن أنا من يختار الموسيقى - كما كان الناس يعتقدون في أغلب الأحيان - فمشاعري التقديرية للموسيقى محدودة. لكنني صنعت من نفسي شخصية إذاعية محبوبة، وغريبة الأطوار قليلا وراسخة. تلقى البرنامج العديد من الخطابات. وردت علينا الخطابات من دور المسنين ودور المكفوفين، ومن أشخاص يقودون سياراتهم لمسافات طويلة أو يقومون بأعمال رتيبة، ومن ربات بيوت يمكثن في المنزل وحدهن في منتصف النهار مع العجن والكي، ومن مزارعين في جرارات يحرثون أو يجرفون فدادين ممتدة، من جميع أرجاء البلد.
تدفق الثناء علي حين تقاعدت أخيرا، كتب الناس لي يقولون إنهم في شدة الحزن، وإنهم يشعرون كما لو أنهم فقدوا صديقا حميما أو فردا من العائلة. ما كانوا يقصدونه هو أني كنت أملأ وقتا محددا من يومهم على مدار خمسة أيام في الأسبوع. كنت أملأ وقتهم بشيء يعتمد عليه ومحبب إلى أنفسهم، لم يضطروا إلى قضاء وقتهم بلا هدف؛ ولهذا هم يشعرون بامتنان محرج لهم. وللمفاجأة، كنت أشاركهم هذه المشاعر الجياشة. كان علي أن أنتبه إلى صوتي لئلا يرتجف بينما أقرأ بعضا من خطاباتهم على الهواء.
ومع ذلك، تلاشت ذكرى البرنامج وذكراي سريعا، أبرمت تعاقدات جديدة، انقطعت تماما؛ إذ رفضت أن أترأس مزادات الحفلات الخيرية أو أن ألقي خطبا مفعمة بالحنين. ماتت أمي بعد أن عاشت عمرا مديدا، لكني لم أبع المنزل، أجرته فقط؛ ثم جهزته كي أبيعه، وأخطرت المستأجرين. نويت الإقامة فيه خلال الوقت الذي كان يستغرقه تجهيزه؛ خاصة الحديقة.
ناپیژندل شوی مخ