1 - بلدتي القاهرة
2 - أمي
3 - أساتذتي
4 - بركة العجز
5 - سبيل الصحافة
6 - في طريق الحياة
7 - من ذكريات عابر سبيل
8 - حي ولا كالأحياء
9 - الابتسام
10 - لعب الطاولة
11 - الأدب وتحصيله
12 - هل كانت أسعد لحظة
13 - ظمأ النفس إلى المعرفة
14 - الإيحاء والسرقة الأدبية
15 - قرائي الذين يحبونني
16 - اللغة والقوالب الموروثة
17 - الكتابة وحالات النفس
18 - خواطر في مرقص
19 - الرجل والمرأة
1 - بلدتي القاهرة
2 - أمي
3 - أساتذتي
4 - بركة العجز
5 - سبيل الصحافة
6 - في طريق الحياة
7 - من ذكريات عابر سبيل
8 - حي ولا كالأحياء
9 - الابتسام
10 - لعب الطاولة
11 - الأدب وتحصيله
12 - هل كانت أسعد لحظة
13 - ظمأ النفس إلى المعرفة
14 - الإيحاء والسرقة الأدبية
15 - قرائي الذين يحبونني
16 - اللغة والقوالب الموروثة
17 - الكتابة وحالات النفس
18 - خواطر في مرقص
19 - الرجل والمرأة
سبيل الحياة
سبيل الحياة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
الفصل الأول
بلدتي القاهرة
كان ينبغي أن تكون بلدة «كوم مازن» - مركز تلا، على ما أظن، من أعمال المنوفية - مسقط رأسي. فإن فيها أهلي وعشيرتي.. ولكن المقادير بخلاف ذلك. فلا رأسي سقط في كوم مازن، ولا كتب لي قط أن أزورها أو ألم بها.
وشاءت إرادة الله - لحكمة ولا شك - أن أكون قاهريا، مولدا، ونشأة، وإقامة، وأنا أطوف ما أطوف ثم آوي إلى القاهرة، ولا يخطر لي أن أرى هذه البلدة - الطيبة على ما سمعت - التي نزل فيها أجدادي ونسبوها إليهم وكنت أظن لفظ «كوم» محرفا عن «قوم»، ولكن الدكتور زكي مبارك - وهو أدرى - يقول إن الصواب «الكوم» بالكاف، وأنه لا تحريف هناك، لأن أهل القرى التي تقع على النيل، كانوا يؤثرون الأرض المرتفعة حتى لا يغمرها الماء في موسم الفيضان..
والقاهرة التي عرفتها - أو قل الرقعة التي عرفتها منها - في صدر حياتي، شيء مختلف جدا عن هذه القاهرة الحديثة التي أشابتني.. والرقعة التي أعنيها هي التي لا تزال معروفة بأسمائها وإن كانت معالمها القديمة قد عفى عليها الزمن، وهي تشمل أحياء الجمالية، والأزهر، والسكة الجديدة، وغيرها مما يتفرع عليها.
وكانت طرقها ضيقة، وأرضها غير مرصوفة، ودورها واسعة ذات أفنية رحيبة، وفي بعضها شجر ذو ثمر وزهر ونافورة جميلة، ومصلى. وفي إحدى هذه الدور الجميلة - وكانت لزوج عمتي لا لنا - ولدت.. ولكن أبي كان قليل الاستقرار، فكان لا ينفك ينتقل بنا من دار إلى دار، حتى لأحس أني أكلف ذاكرتي شططا حين أحاول أن أتذكر صور هذه البيوت كلها.. ولكن شيئا واحدا أتذكره بوضوح وهو فناء كل بيت، أو «الحوش». أما المسكن نفسه - حيث يأكل الناس، وينامون - فإن أمره يعييني. وأحسب أن هذا غير مستغرب، فإن «الحوش» هو ملعب الطفل ومرتعه، وفيه يقضي معظم نهاره فصورته خليقة أن تثبت ولا تبرح ذهنه.
وكان بعض الطرق مسقوفا، مثل شارع «القرنية»، ليحجب الشمس، والبعض درب ضيق فوقه بناء: فهو أشبه بالسرداب، مثل الذي كان، ولعله مازال بين «بيت المال» وساحة مسجد الحسين، رضي الله عنه، وفيه تكثر الوطاويط.. وكانت «الحارات» في الأغلب ضيقة جدا، والبيوت فيها متقاربة، فالطريق لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبا إلى جنب.
وللبيوت «مشربيات» جميلة دقيقة الصنع، من خشب، تبرز من المنازل المتقابلة وتكاد تتلاصق، وفيها توضع القلل ليتبرد الماء. ومازلت أذكر كيف كنت أمد يدي إلى مشربية الجار، فأشرب من قلله إذا وجدت قللنا فارغة، أو ماءها غير بارد، أو لمجرد العبث والشيطنة!..
وكان الترام قد ظهر في قلب المدينة، ولكني لم أره إلا بعد أن اجتزت مرحلة التعليم الابتدائي، ودخلت المدرسة التوفيقية الثانوية - أقول لم أره قبل ذلك، ويحسن أن أضيف أني لم أركبه إلا بعد ذلك بسنوات، لا لأنهم خوفوني منه - وقد حاولوا تخويفي فعلا - بل لأننا كنا افتقرنا بعد موت أبي، واستطاع قريب لي أن يحصل لي على «أبونيه» مجاني «لعربات سوارس»، وهي مركبات طويلة ضيقة تتسع لعشرة ركاب أو خمسة عشر، ويجرها بغلان أو ثلاثة بغال، وتستطيع أن تسبقها وأنت راجل!
وكانت الحمير والبغال، و«عربات الكارو»، التي لا تزال لها بقية لا يستهان بها، هي وسائل النقل والتنقل. فأما البغال فكان يركبها «الذوات» والموسرون من طلاب العلم في الأزهر.
وأما الحمير فيتخذها «أولاد البلد» وبعض أهل الوجاهة. وكانوا يعنون بتدريبها ويحرصون على أن يبدو الحمار في حفل من الزينة، فالسرج بديع الفرش واللجام محلى بالفضة. فإذا كان يوم الأحد، وهو يوم الزيارة الأسبوعية لمسجد السيدة نفيسة، أو يوم الخميس وهو يوم زيارة «المحمدي» بالعباسية، لبس أصحاب الحمير أفخر ما عندهم من الثياب الحريرية، وامتطرا هذه الحمير المضمرة المحلاة، وخرجوا في موكب باهر يتسابقون، ويعرضون مزايا دوابهم. ونقف نحن الصغار على جانبي الطريق نتفرج، ونعجب، ونتمنى على الله أن يرزقنا حميرا كهذه.
وكانت الحارات الواسعة - نسبيا - ملعبنا نحن الصغار. وكنا نعرف ونزاول من الألعاب أربعة ضروب. فأما الصغار جدا فيلعبون «البلي» - وهي كرات صغيرة في حجم الفولة إلا أنها مستديرة - وأما الأوساط فيلعبون «النطة» وهي القفز من فوق أحدهم وهو منحن، وأما الكبار فيلعبون الكرة أو يتسابقون وكانت الكرة هي «كرة الشراب» أما الكرة «الأمبوبة» أي المنفوخة، فما كانت لنا قدرة على اقتنائها، لأن «مصروف» الواحد منا كان لا يزيد على خمسة ملاليم، وكانت كافية للب، والحمص، والفول السوداني. ولم نكن قد سمعنا في ذلك الزمان بالشكولاتة!
والمهرة من الصغار كانوا يتبارون في الرماية، وسلاحهم «الرايقة» وهي حجر دقيق جدا ومستدير، كنا نجمعه من التلال المحيطة بحي الأزهر، فيقف الفريقان أحدهما في أول الحارة. والآخر في آخرها، وبينهما أكثر من ثلاثين مترا، لأن الإصابة بهذه «الرايقة» - كالإصابة بحد السيف - تقطع وتدمي!
وكان لكل حي «فتواته»، وكل جماعة من الفتوات تهاجم كل جماعة أخرى، أو تثأر لنفسها، وكنا نحن الصغار نستطيع أن نعرف سلفا أنباء الغارات المنوية، فنحذر فتوات حينا، ونخرج لنتفرج. أو نتفرج من النوافذ، على العصى وهي تهوي على الرؤوس، ونشترك في المعركة «بالرايقة» من النوافذ، والجريء منا ينزل إلى الشارع ويخوض القتال، على ألا يصيب إلا خصوم حيه.
على أن حياة الصغار لم تكن كلها لهوا، فقد كنا نصلي الفجر في مسجد الحسين، ونقيم الصلاة في مواقيتها في البيت، ونحضر الأذكار، ونحفظ الأوردة ونذكر مع الذاكرين، وفي الصيف - في الإجازة المدرسية - يرسلنا أهلنا إلى «الكتاب» في الأزهر لنحفظ القرآن الكريم.
وكانت على بعضنا واجبات عجيبة ، فكنت أنا - مثلا - مكلفا أن أعلف لجدي حماره، وكان - جدي لا الحمار - ضعيف النظر، فكنا نجئ له بالحمار مسرجا ملجما فيركبه ويتوكل على الله، ويخرج من جيب القفطان «التغييرة» أو الملزمة ويدنيها من وجهه ويقرأ، حتى يبلغ به الحمار باب «المزينين» وهو أحد أبواب الأزهر فيقف، فيعرف جدي أنه وصل، فيترجل، ويترك الحمار لمن يعني به، ويلقي درسه أو دروسه ثم يعود كما جاء!
فحدث ذات يوم أني أهملت إطعام الحمار، فجاع، فلما ركبه جدي لم يذهب به إلى الأزهر، بل كر به راجعا إلى الاسطبل، فلما ترجل جدي لم يجد ما ألف، ولم يدر أين هو؟ فما دخل الاسطبل قط!
وقد ضربت في ذلك اليوم علقة - لا من جدي، فقد كان أحنى علي من أن يضربني - بل من أخي الأكبر رحمه الله!
هذه هي القاهرة كما عرفتها في حداثتي، وهي صورة مجملة، وموجزة ناقصة للحياة فيها. أما القاهرة الحديثة فلا حاجة بي إلى وصفها لأن كل قارئ يراها ويعرفها.
الفصل الثاني
أمي
لا أعرف الأمهات كيف يكن، ولكني أعرف أمي كيف كانت، وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول: أنها كانت «رجلا» وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن، وإن سرهن ما فيه من معنى الاكبار ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلى شيء من هذا؛ فقد اضطرت أن تمحق أنوثتها في سن يبدأ فيها النساء - أو معظمهن - يعرفن معنى الأنوثة الكاملة؛ فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها؛ وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها وأنساها أنها امرأة كالنساء، وكان أبي - رحمه الله - مزواجا، وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين، ومن فرط حبه لهن كرهتهن أنا؛ وكان يذهب كل بضعة أعوام إلى الآستانة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي غيرها، فيسرحها بإحسان ويردها ويجيء بغيرها، وهكذا.
وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر - أعني أنه أنفقه باليمين وبالشمال حتى أتى عليه - فلولا لطف الله لتسولنا، أو على الأقل لما أمكن أن نتعلم، ولكان المازني الآن - على الأرجح - نجارا غير حاذق، أو شيئا من هذا القبيل، ولكن أمي كانت حازمة مدبرة، فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب.
ولست أذم أبي أو أنتقصه، وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه، ولا تني تذكره بالخير؛ ولم تنقطع قط عن زيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنة عاشتها بعده؛ وكنت ربما مازحتها فأقول لها: «وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟»
فتبتسم وتزجرني بلطف، ثقة منها بأني أهزل ولا أتكلم جادا؛ فأتعمد الإثقال عليها وأقول: «صحيح والله! - ماذا كان يعجبك فيه؟»
فتقطب وتقول: «عيب يا ولد!» وتنظر إلى سبحتها بين أصابعها.
فأقول: «ولكنه كان مزواجا».
فتقول: «يا بني هذا قضاء الله وقدره؛ وما كنت أكره له هذا إلا خوفا عليه».
فأقول معبثا: «أو غيرة منهن؟»
فتقول: «يا قليل الحياء - اذهب عنى اذهب».
فأبقى ولا أذهب؛ وأقول: «لقد رأيت آخر زوجاته تلك؛ وأشهد أنها كانت جميلة وأبي كان معذورا».
فيضيق صدرها وتقول: «ألا تنوي أن تستحي؟»
فأسألها: «من أي شيء؟»
فتقول: «إنه أبوك..».
فأقول لأهيجها: «سلمنا يا ستي..».
فتصيح بي: «سلمت! يا قليل الحياء.؟»
وتتناول الحذاء لتضربني به ولكني أكون قد ذهبت أعدو؛ فتقذفني به وتعلن إلي أنها لا تريد أن ترى وجهي بعد اليوم.
ولكني لا ألبث أن أسترضيها واستغفرها وأقبل يديها ورأسها. فما كنت أطيق أن أدعها عاتبة أو ساخطة أو متألمة، ولو وسعني أن أجعل حياتها نعيما خالدا وسرورا دائما وجذلا لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعا إلا بعض ما يجب لها فتعفو عني وتدعو لي وتدنيني منها وتمسح لي رأسي كأني مازلت طفلا.
ولما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية جاء أخي وابن عمتي مهنئين، وأشارا عليها بأن تكتفي من تعليمي بهذا القدر، لما كنا فيه من العسر، فأبت، فألحا فأنكرت ذلك منهما وزجرتهما عن اللجاجة فيه، فلم ينهزما. وأنذرها أخي - وكان غير شقيق - أنه قابض يده عن كل معونة. وكانت معونته متقطعة لا خير فيها ولا اعتماد عليها لضآلتها وقلة الانتظام فيها، فلم تعبأ بذلك وأصرت على المضي في تعليمي إلى نهايته المقدروة.
وكانت أمي - على صغر سنها - زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعا يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل. وقد كان موت أبي؛ وأنا في التاسعة من عمري. وكنت - ومازلت مع الأسف - أكبر ابنيها، فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة. وتنتهي إلى «مسئولياتي» وإلى التبعات التي يحملها «رجل» مثلي. وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة. ولا شطط أو إسراف، ولا تقصير أو تفريط، ولا إشعار بأن لحريتي حدودا ضيقة غير معقولة أو محتملة وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية، أذكر وأنا في المدرسة الثانوية أني عوقبت مرة بالحضور إلى المدرسة في منتصف الساعة السابعة صباحا (السادسة والنصف) وكان هذا عقابا جائزا في ذلك الوقت وكان البيت في حي السيدة زينب والمدرسة في شبرا، وبينهما «أبعد مما بين بصرى والحرم» فأخبرتها وخرجت من البيت قبيل الفجر وأنا أخشى أن أكون قد تأخرت، فقلقت وذهبت بها الظنون كل مذهب، ولكنها لم تقل شيئا. فلما كان الضحى ركبت إلى المدرسة وسألت البواب فأخبرها أن تلميذا جاء في الفجر وأيقظه ليدخل فرده فظل يتمشى حتى طلع النهار، فعادت مطمئنة ولم تخبرني بما فعلت إلا بعد عدة أعوام لمناسبة عرضت.
وكنت وأنا صغير أدخن. خفية، وكانت على غير علم مني تراقبني. فإذا نمت تأخذ ما يكون معي من السجاير، فإذا أقبل الصباح لم أجد شيئا وظللنا على هذا المنوال أياما - أشتري السجاير كلما ساعفتني الموارد، وهي محدودة جدا وهي تسرقها بالليل ولو أخفيتها في بئر، ثم خفت أن تسألني فلا أستطيع أن أكذب وخجلت أن أعترف بهذه الحماقة الصبيانية وحالت رقة الحالة دون الاحتمال، فأقلعت. حتى كبرت .
ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ووصف لي الطبيب دواء لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه. وكثيرا ما كنت أقول لها: «يا أمي كفي عن هذا!»، فتقول: «يا بني إنه قلب الأم» فأقول: «ولكنه عمل لا نفع منه» فتقول: «نعم، ولكن ليطمئن قلبي».
ولما أتممت التعليم الثانوي، حرت إلى أي مدرسة عالية أذهب. فسألتني أيها أوثر، فقلت: الطب، قالت: «فاذهب إلى مدرسته وقدم أوراقك» ففعلت ولكن ناظرها المستر كيتنج رمى بأوراقي إلى الشارع لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريح فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي، وكان الناظر مقبلا فرآني فقال هذا لا يصلح. فاطردوه.
وعدت إليها فأخبرتها الخبر. فلم تجزع كجزعي وهونت علي الأمر وقالت: «لم يبق إلا «الحقوق» فاذهب بأوراقك إليها» ففعلت وضمنت القبول ولكن الوزارة زادت «المصروفات المدرسية» من خمسة عشر جنيها إلى ثلاثين. فاسترجعت أوراقي فما كان لي قبل بهذه الثلاثين كل عام. وشاء الله أن تفتح مدرسة المعلمين العليا فدخلتها.
واستقلت من وزارة المعارف بعد أن اشتغلت بالتدريس فيها خمسة أعوام، وكانت الحرب الكبرى قد استعرت. فجئتها يوما بقراطيس فيما مرتبي نقودا فضية فألقيتها في حجرها وقلت: «هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة».
قالت: «يعني؟» قلت: «إني استقلت» قالت: «على بركة الله».
ولكني أرقت ليلتي. فقد كانت الدنيا قائمة قاعدة. والأحوال مضطربة. وكانت الحكومة قد أعلنت «الموراتوريام» - أي تأجيل الدفع الجبري - فجاءت تسألني عن سر هذا الأرق فأفضيت إليها بما يساروني من المخاوف وندمي على الاستقالة وجزعي من هذا الغمار الجديد الذي أقدمت على خوضه فقالت: «لا تقدر البلاء قبل نزوله. قم فنم وتوكل على الله لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيديك إذا احتاج الأمر، وثق أنك لن تخيب، فإني داعية لك راضية عنك». فوالله لقد صرت بعدها إنسانا ثانيا.
وكانت - عليها رحمة الله - تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ويشيع فيها الغبطة والرضى، ويفيض على البيت الايناس والبهجة. وكانت ذاكرتها قوية، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد، فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون. وكانت لقوة ذاكرتها سجلا عاما للأهل والصواحب، فمن نسي شيئا فما عليه إلا أن يلجأ إليها. وكانت صديقاتها يستودعنها حسابهن، وكثيرا ما كان يحدث أن تجئ الواحدة منهن فتقول لها: «إن فلانة الدلالة تزعم أن علي لها مبلغ كذا، فما هي الحقيقة؟» فتخبرها الحقيقة فتقوم عنها ويكون هذا هو القول الفصل.
وكانت قوية الشكيمة فلا رأي إلا رأيها في الأسرة كلها، وإن كانت صغرى أخواتها، وكثيرا ما كانت نفسي تحدثني أن أنازعها السيادة، ولكنني كنت لا أكاد أهم بذلك حتى أرتد، وكان يكفي أن ترمي إلي نظرة وتقول: «استح يا ولد»فيتحلل العزم وأهوي على راحتها باللثمات.
وكانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغني عن الكلمة، فكنا نتفاهم بالعيون والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء، فمن ذلك أنها لما حضرتها الوفاة قالت: «أعطني ثلاثين قرشا» ولم تكن بحاجة إلى ذلك.
وكنت قد أعددت عدتي لذلك اليوم، فأدركت أنها تريد أن تطمئن على أن معي ما يكفي لنفقات المأتم، وكانت جريدة السياسة معطلة والأزمة مستحكمة فأخرجت ما معي وقلت لها: خذي ما تشاءين، فأخذت جنيها دسته تحت الوسادة فظل حيث وضعته حتى ماتت.
وكانت قد أصيبت فجأة، وفي منتصف الليل، بذبحة وكانت من شدة التمزيق الذي تحسه في صدرها تخبط بيديها في الهواء كالذي ألقي به في الماء وهو لا يعرف السباحة، وظلت تقاوم الداء تسعة أيام بقوة إرادة الحياة. ولم أر منها ما يدل على التضعضع والانهزام إلا قبيل الوفاة بدقائق. وكنت أناولها الدواء، فأشاحت بوجهها عنه، فألححت، فقالت: إرضاء لك فقط». وشربته، ثم نامت فوضعت يدي على فمها فلم أشعر بنفس.
وقد ظل أخي زمنا لا يغفر لي أن خدعته وكذبت عليه.
تلك هي أمي، أو تلك هي بعض خطوط الصورة. وإني لجليد في العادة، ولكن موتها هدني. فقد كانت لي أما وأبا، وأخا وصديقا.
الفصل الثالث
أساتذتي
أكبر أساتذتي. وأولاهم بالتقديم، وأحقهم باستيجاب التعظيم، اثنان. وقد علمني غيرهما أشياء كثيرة بعضها نافع، وبعضها لا أعلم - ولعلي مخطئ - أني انتفعت منه، من مثل القراءة والكتابة والحساب والتاريخ والرطانة بلسان أجنبي. إلى آخر هذا وقد نسيت أكثره لأني لم أحتج إليه بعد أداء الامتحان فيه أما دروس هذين الأستاذين الجليلين فإنها مما لا ينسى.
ولابد من تمهيد للتعريف بهما فإنهما أسمى مقاما وأجل شأنا وأعمق أثرا في حياتي من أن أضن عليهما بكلمة تقديم وجيزة.
كان أبي في سعة من الرزق، وكان محاميا ومكتبه في بيته، على عادة أهل ذلك الزمان وكنت أخرج إلى الطريق ومعي أخي الأصغر لنلعب، فننفق ما معنا ونحتاج إلى سواه، فأدخل على أبي في مكتبه وهو مكب على الورق فأقف ساكنا ساكتا حتى يرفع رأسه، فأغتنم الفرصة وأقول «أبويا! أبويا. هات قرش» - وكان «بابا» لفظا لا نعرفه ولا سمعنا عنه فيدخل أصبعين في جيبه ويخرج ما يقعان عليه، وقد يكون قرشا، أو نصف فرنك، أو «واحدة بخمسة».
ثم مات عليه الرحمة، وأنا مازلت طفلا في السنة الأولى الابتدائية وخلف مالا ليس بكثير ولكنه فوق الكفاية، ومضى عام أو نحوه، ونحن لا نشعر بأن شيئا تغير من حياتنا سوى أن أبي خلت رقعته، وجاء يوم دعتني فيه أمي إليها وكانت على الرقة المفرطة في قلبها تستطيع أن تكون صارمة الجد حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر. وقالت لي وهي تغالب التمزيق الذي في قلبها وصدرها التمزيق الذي قضت به نحبها بعد ثلاثين سنة وزيادة لم تخلع فيها السواد إلا قبل وفاتها بشهور - قالت: «يا إبراهيم! لا كرة بعد اليوم».
وكنت مغرى بلعبها في الحارة مع لداتي، من أبناء الجيران، وكنت أنا الذي يشتري الكرات للعبنا وكنت أوثر الملونة المخططة لا لألوانها بل لأنها أغلى. فدهشت وسألتها عن السبب، وقد كبر في وهمي أني لعلي أسأت الأدب أو أتيت ما يعاب، ولكنها قالت: «أخنى علينا الدهر يا إبراهيم وان الدهر يا ابني لمظلوم، ولكن لا داعي لكثرة الكلام فما في ذلك فائدة، والذي أريد أن تعرفه هو أننا افتقرنا». •••
فكان أول ما خطر لي هو أن أسألها: (هل معنى هذا أننا سنجوع؟) فطمأنتني وقالت: (لا أظن! إن عندي أشياء لا حاجة بي إليها - مصوغات، وأثاثات وما إلى ذلك - وسأبيع منها ونقتات، والله المسئول أن يسترنا، وأن يلهمنا حسن التدبير).
واختفى شبح الجوع الرهيب، فتنفست الصعداء ووسعني أن أرتد طفلا فأسألها: (كيف ألعب إذن؟)
قالت: يا ابني إن الكرة ليست أكثر من مشجع على النط والجري والحركة على العموم، فنط، واجر وتحرك بغير كرة».
وهو كلام معقول، ولكنه لم يعجبني وكيف أكف فجأة عن اللعب بالكرة وأنا الذي كان يزود بها أترابه؟ ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت علي شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلا فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال). •••
في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثبا - وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه - عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني!
وكان هذا أول أستاذ لي - أعني الفقر - وإنه لأستاذ السواد الأعظم والجمهور الأكبر من الخلق ولكنه كان يلقي علي دروسه كما تهوي العصى على أم الرأس! •••
فقدت الثقة بالناس، وانطويت لهم على سوء الظن، والتحرز، وإذا كان أخ أكبر - غير شقيق - يستطيع وهو آمن، أن يجني على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب، وصار همي بعد ذلك أن أتوخي الستر، ورضت نفسي على الاحتشام، وجنحت إلى العزلة. شيئا فشيئا، وتوخيت الأدب حتى لا يسيئه معي أحد. وأبيت أن أرفع الكلفة مع الإخوان لتظل العلاقة قائمة على المودة والاحترام. وجعلت للساني لجاما من نار، حتى لا يجري بكلمة يجرؤ غيري علي بمثلها. وأوجز فأقول؛ إن الفقر المباغت أورثني عقدة نفسية ما زلت أعالجها إلى اليوم، فأقول لنفسي فيما أقول إن هذا الفقر حماني تطري المدللين، وأكسبني جلدا، وأفادني قوة نفس، وجرأة في الكفاح، وصبرا عليه. وإني لفخور بما قدرت عليه من الوقوف على قدمي بلا معين سوى الله، وأمي بعده، ولكن الضعف يعروني أحيانا فأتساءل: ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللا متطريا آخر؟؟ أكانت تخرب أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ. •••
يدور بنفسي هذا المعنى إذا تخلل بي الإعياء، ثم أتذكر أني لما كبرت، وتخرجت، وصرت معلما يتقاضى في الشهر اثنى عشر جنيها مصريا ذهبا لا ورقا تصوروا هذه الثروة الضخمة في سنة 1909! - وطبعت الجزء الأول من ديوان شعري - تالله ما كان أحمقني! - أخذت أول نسخة منه أخرجتها المطبعة وزرت أخي الأكبر الذي جنى علينا ما جنى، وكنت - على نقمتي عليه - أحبه وأحترمه ولا أجرؤ أن أناديه باسمه، فإذا احتجت إلى النداء قلت: «أخويا! أخويا!» ذلك كان أدبنا قديما - فأخذها مني وفتحها، وقرأ الإهداء، وهو أبيات ليست فيه ولا له، وإذا الدموع تتساقط على خديه ولحيته. فجزعت، وكنت وأنا أقدم له هذه الهدية. وعليها كلمة بخطي، أشعر بشماتة مضمرة أو بأني أدركت ثأري كأنما أقول له، هذا أخوك الصغير الذي أفقرته، وكدت تلصق بطنه بالتراب قد استطاع أن يغالب الفقر وأن يصبح شيئا له حساب وقدر، وأن يكون شاعرا، وأما أنت فماذا؟ ضيعت مالنا، وكسبت مالا غيره. ولكنك مع هذا لست بشيء: من يعرفك من يذكرك؟».
ولكني خجلت حين رأيت دموعه. والدم لا يكون ماء، فنهضت إليه وقبلته بين عينيه، ولثمت لحيته، وانصرفت بلا كلام. لقد غفرت له دموعه فما رأيته يبكي قبل ذلك قط، ولو كان لي دمع يراق لبكيت في ذلك اليوم. •••
أي نعم أستاذي الأول الفقر - هو الذي آتاني القوة والمقدرة على الكفاح وعلمني التسامح والترفق، والعطف، وإيثار الحسنى وعودني ضبط النفس وتوخي الاتزان، وجنبني العنف والقسوة والفظاظة، وحبب إلي الفقراء، وفتح عيني على القيم الحقيقية للناس والأشياء والحوادث، ودربني على نشدان الخبر من وراء المظهر، وجنبني أن أحترم المال لذاته، وحماني أن أغمط الفضل والحق، والحمد لله! •••
أما الأستاذ الثاني - بورك فيه - فهو الضعف، وأقول بإيجاز - فقد أطلت - إنه علمني أن الإنسان ليس حمارا أو بغلا أو فيلا، وإن المعول ليس على قوة بدنه ومتانة أسره، فتلك قد تكون مزية الحيوان، ولكنها ليست مزية الإنسان، وإنما قيمة الإنسان بعقله وفضله، وسعة حيلته، وحسن تأتيه وسداده وتدبيره، وقدرته على الابتكار، وعلى أن يستطيع أن يقول في غير زهو - إنه لم يعش عبثا، وإنه نهض بعبء الحياة، وأدى فرائضها. على قدر ما تيسر له والحمد لله مرة أخرى.
وإني الآن لأعرض على عيني ما كان في حياتي، فأقول إني لو كنت خيرت، لكان الأرجح أن أضل وأسيء الاختيار، وإن حياتي كانت كما ينبغي أن تكون ولهذا تراني راضيا شاكرا لله فضله ومنته.
الفصل الرابع
بركة العجز
أرجو أن لا يظن القراء أني أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إني أخيب صحفي على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاما من اشتغالي بالصحافة عجز خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلي ولا أثقل على نفسي من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمور، ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل - وكان يسمى وزير الحقانية - فلما قابلت «الوزير» وحادثته فيما جئت له، تبينت أني خلطت، وأن هذا وزير «الداخلية» وحسبي هذا في بيان جهلي حتى بدور الوزارات!
ولكني على جهلي وخيبتي فزت مرة بثناء طيب من المغفور له سعد زغلول. رأيت سعد باشا أول مرة وأنا طالب في مدرسة المعلمين، وهو وزير أو «ناظر» للمعارف، وقد زار المدرسة، ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزي (دنلوب) وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه - واقفين في أدب - وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا في معنى «الحرية» ومأخذها. وأحسب أن هذا كان أول درس لي في «الحقوق» و«الواجبات»..
وقد رأيت بعد ذلك - وأنا معلم - وزراء للمعارف كان المستشار (دنلوب) يزور المدارس فينحيهم، ويؤخرهم، ويتقدمهم غير عابئ بهم، حتى لقد كبر في وهمي مرة أن أحد هؤلاء الوزراء» «سكرتير» أو موظف صغير فلم أحفل به! ولم يسوئه سوء أدبي!
ودارت الأيام وقامت الثورة، ونفي سعد زغلول، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتني جريدة «الأخبار» التي كان يصدرها المرحوم أمين الرافعي بك إلى الإسكندرية، لأكتب لها وصف استقبال سعد.. وعدت في القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتي من محطة مصر إلى ميدان الفلكي، لأني ل أجد لا سيارة ولا مركبة خيل، ولا رجلا يجملها عني، لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد..
ومضى الليل، وطلع النهار فحدثت معجزة.!
ذلك أني كنت قبل ذلك بعام قد نزل بي مصاب رجني رجة شديدة، وأتلف أعصابي، فآثرت أن أتخذ مسكنا لي بين المقابر، وكان موقعه موحشا، والقبور حوله تقبض الصدر، وكانت لي قريبة كلما زارتني تقول لي: «يا ابني ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة! ولكنني كنت أجد في هذه الوحشة أنسا، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس، وبلغ من تلف أعصابي أني كنت إذا تناولت الصابون لغسل يدي مثلا، أشعر أن فيه «شعرا» فخفت على نفسي وطلبت الراحة والسكون، وأي سكون أتم من سكون الموت؟ وطبيعي أني كنت أعرف «التربية» - بضم التاء - وفي صبيحة اليوم التالي لعودة سعد، خرجت من بيتي في نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتي كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التربية» المرحوم الشيخ عبد الخالق الطحاوي يخرج في سيارته مسرعا، فلما رآني تمهل وأخبرني أن سعد باشا آت لزيارة مقابر الشهداء وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة وان هذا الخبر سر لا ينبغي أن يذاع، وهذه رغبة سعد.
وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات في الأولى سعد وواصف غالي باشا، وفي الثانية أمين بك يوسف والمرحوم سينوت بك حنا، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع سعد مقبرة المرحوم مصطفى باشا فهمي صهره ثم مقبرة الشهداء المسلمين. وفيها ألقى سعد خطبة وجيزة كتبتها على ركبتي، فما كان ثم مقعد أو حائط، ثم انطلق الجمع إلى مقبرة الشهداء الأقباط في شارع الملكة نازلي، وهناك خطب سعد أيضا مترحما على الشهداء، حاضا على الجهاد بالمال والنفس في سبيل الوطن، وهناك أيضا. سلم علي سعد، وشكرني ولم يزد، وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضا، ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم أمين بك الرافعي اعتذر من التأخر فضحك رحمه الله وقال: «لقد أبلغني سعد باشا أنك رافقته في زيارته لمقابر الشهداء، وهو يستغرب جدا أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثني عليك ويقول أنك أبرع صحفي، وإن ما كان منك يشبه السحر!».
وضحك أمين بك وقال: «طبعا لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!».
وهكذا فزت بثناء لا أستحقه، ولا فضل لي فيما استدعاه وإنما الفضل لمجاورتي يومئذ لأهل القبور!
وأذكر أن سعد قال لي فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له في الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أني أنا الذي حذف العبارة التي ظهر في مكانها بياض، وذلك لأن «فلانا» - ولا داعي لذكر اسمه الآن - أخبرني أنك أنبته عنك في مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن، أما الرقيب فقد أخبرني أن رئيس الوزراء - وكان عدلي باشا - أمره أن لا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك، قبل نشرها.
فقال سعد رحمه الله. لقد أحسنت إذ أنبأتني بهذا، لأنه يكون مستغربا أن يحذف موظف صغير من كلام سعد.
ودعينا إلى الغداء عند سعد باشا - أمين بك الرافعي والعبد لله - جزاء لي على براعتي في «سكني القبور»! فأدهشني وأنا جالس إلى المائدة أن يعود سعد باشا إلى سؤالي عما حذف الرقيب من كلامه! وخفت أن يكون قد شك في صدق ما رويته له فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن «فلانا» - وكان حاضرا - طلب مني حذف ما حذف، لأنك - أي سعد - كلفته أن يراجع خطبك.
فالتفت سعد إلى «فلان» هذا، وقال له فيما قال «مجنون مثلك يكون رقيبا على عاقل!»
فشعرت بندم وأسف وخجل، لأني عرضت «فلانا» هذا لغضب سعد أمام نحو عشرين على مائدته! ولكن ماذا كان يسعني غير ذلك؟ لقد حذفت من كلام سعد نحو سطرين بأمر «فلان» هذا الذي ادعى أن سعدا وكله وأنابه عنه ي مراجعة خطبه، وكان لابد أن أذكر الحقيقة، لأن سعدا كان يهم بأن يؤاخذ الوزارة - وكانت تسمى يومئذ «وزارة الثقافة» - بهذا الحذف، ويتخذ من ذلك سببا لمجافاتها، وله الحق، ولكنها كانت غير ملومة، وإنما كان الملوم عضوا من أعضاء الوفد.
بعد ذلك أم أقابل سعدا إلا مرة أخرى يطول الكلام فيها، لأني خالفته في سياسته وإن كانت الغاية واحدة، ولم تمنعني مخالفته قط من إجلال صفاته وعرفان قدره والاعتراف بفضله.
وأحسب أن مما جعلني أخيب الخياب أني عملت في أول عهدي بالصحافة في جرائد أصحابها من ذوي المنازل الملحوظة وممن لهم مشاركة كبيرة في الحركة الوطنية والمساعي القومية.
فقد كان كل ذي رأي ومقام في هذا البلد يومئذ، يزور «الأخبار» مثلا فلا نحتاج أن نسعى إليهم لنقف على الحقائق، ونطلع على الأسرار حتى لقد كنا نمسي بعضهم مازحين «مدير مكتب إفشاء أسرار مجلس الوزراء»، وكانوا يحتشدون في غرفنا وفيهم الوفدي والدستوري والمستقل، ويتناقشون ويتجادلون ويذيعون المطوي، بالتفصيل الوافي الشافي، فنحيط بكل شيء وما تكلفنا جهدا ولا نهضنا عن مكاتبنا واعتدت أن يسعى الناس إلينا ولا نسعى إليهم، فنفرت - أو زدت نفورا - من السعي والبحث والتقصي.
وأضرب مثلا آخر لما يصح أن أسميه «بركة العجز»، ذلك أني كنت أتولى تحرير جريدة لا داعي لذكر اسمها، فتلقى صاحبها رسالة بالبريد بغير إمضاء يسرد فيها كاتبها قصة تعد من الفضائح بتفصيل يوقع في الروع أنها صحيحة، فأبيت نشرها معتذرا بأن الواجب هو أن نتحرى «تحري الرجل الرشيد» قبل النشر، فقال صاحب الجريدة أنه لو كان هو المحرر المسئول لنشر الرسالة فإنه مقتنع بصحتها، فقدمت له استقالتي ليكون حرا في تصرفه فأباها ووكلني إلى رأيي.
وكان اليوم التالي يوم عطلة، فركبت سيارتي وانطلقت بها إلى طنطا وفي نيتي السفر إلى الإسكندرية، واسترحت قليلا في مقهى وإذا بمحام من أصدقائي يقبل علي ويدعوني إلى الغداء معه فاعتذرت، فألح، وكان يعرف صاحب الجريدة ويحبه فقصصت عليه ما جرى بيننا، وقلت إني آسف لسوء التفاهم ولكنه لا يسعني إلا ما فعلت، فهون الأمر علي؛ ومضى بي إلى مكتبه، وفتح خزانة وأخرج منها ملف قضية دفع به إلي وقال «هنا تجد الموضوع كله» وكان هذا صحيحا، فقد كان في الملف كل ما يثبت صحة الرسالة التي أبيت نشرها..
ولا أحتاج أن أقول أني كنت أرقص من الفرح بهذا التوفيق العجيب الذي يسر لي أن أقوم بحملة شعواء أدت إلى خروج الرجل من مصبه!
وهكذا ترى أن العجز له بركة فاللهم أدمها علينا!
الفصل الخامس
سبيل الصحافة
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن المكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني: «كيف ترى الخبر الفلاني؟»
قلت: «عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم».
قال: «أنا جئت به».
قلت: «أهنئك. فمن أعطاكه؟»
قال: «قد والله سرقته!»
فضحكت وقلت: «اللص الشريف!»
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: «بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعت، وما أظن إلا أنه مغيظ محنق».
فقلت: «إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب».
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت: إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانيننا إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارط القديمة كان يذهب مذهبا آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارما. والنتيجة واحدة، فإن السارق الذي يستطيع أن يستر فعله لا يصيبه شيء. وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل.
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئا، لم يسرق خبزا ليأكل، ولا مالا لينفق على نفسه وعياله، أو يوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئا في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططا غير مقبول، وأمرا لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو - كما تعلم - سني متدين، غير أن كونه سنيا ومتدينا لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفا أو بيضة لكان جزاؤه ما بينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت «معدة ثعلبها لا حس، وتارة أرنبها ضاغب» كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع له ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحب عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، أو سارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء لكان للمحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرىء سارق المذكرة. وقد نرى القاضى أن الفاقة «ظرف مخفف» - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده «ظرفا مبرئا».
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعلمه، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له؛ بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه ويتقي أن يكون عند مثله، وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم أنه ما أرغاه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطق العقل.
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة، ولست أعرف صحفيا واحدا أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته بها أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي «حنبليا» في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف إلى خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذ كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم، ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى الغرائز والفطر الساذجة فتصقلها وتهذبها وتنظمها وتجريها في مجار معينة فيصلح أمر الجماعة ويستقيم حالها. مثال ذلك أن الرجل كان يخطف المرأة التي كانت تروقه أو يسبيها، ثم يحتازها مادام راغبا فيها ويحارب دونها، وهوالآن يتزوجها، ولا يحتاج إلى الخطف أو الحرب دونها، وإن كان ربما احتاج أن يعانى متاعب المناقشة من الخاطبيها، أو الراغبين فيها غيره. ومثاله أيضا أن الأثرة والأنانية قد اتخذا مظهر الوطنية أو القومية، ولم تذهب الأثرة ولم يبرأ منها الفرد، ولكن المدنية استطاعت أن تنتفع بروحها في الفرد وتسخرها لخير الجماعة.
كذلك تفعل الصحافة، حين تستغل فضول الإنسان فتتولى جمع ما يعنيه وتنشره على الناس.وقد خرج الأمر عن أصله، حتى لصار يبدو كأنه منقطع الصلة به. ومن الذي يجرؤ أن يقول: إن الصحافة لا هم لها إلا إرضاء فضول الإنسان بعد أن أصبحت تسمى «السلطة الرابعة»؟ ومن ذا الذي يذمها من أجل أنها تصل إلى أخبارها بما يسع رجالها من حيل، ويدخل في طوقهم من وسائل وإن كان بينها السرقة، بل شراء الذمم بكل ما تشتري به من طيب وذميم، أي بالخداع، والملق، والمدح، والصداقة، وتبادل المنافع، لا بالمال وحده كما قد يتوهم البعض، فإن الرشوة الصريحة وسيلة يندر الالتجاء إليها ...
وهكذا جعلت الصحافة من السرقة عملا محمودا، ومن مرتكبها لصا شريفا! ولا عجب فإن خدمة الأمة تكلف أبناءها تعاطي ما يعده العرف رذائل وآثاما، وتحمد منهم ذلك، وتجزيهم عليه أحسن الجزاء.
الفصل السادس
في طريق الحياة
كانت عادتي - إلى بضع سنوات - ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب، وكنت لا أكاد أستقر في «الترام» حتى أفتح الكتاب وأقبل عليه وأنصرف عن الدنيا التي حولي حين أخرج للرياضة. كنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، وقلما كنت أقرأ مؤلفا حديثا، أو كتابا أو ديوانا لست على يقين جازم من جودته، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيده المرء من الكتب، وكنت أشعر - من أجل ذلك - كأني مغرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خراب لا عمار فيه.
وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة ولا أضع يدي على صور لها محسوسة، وكان فهمي للحياة وإحساسي بوقعها عن طريق النظر في جوانب نفسي، وذلك لأني اعتدت أن أرد عيني عن النظر إلى ما هو أمامي وأن أديرها في سريرتي، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي وتحضره لذهني وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم.
وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول ولا السرور واللذة وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها، فكان قلبي أبدا يخفق بالوهم على جناح الخيال ولا يزال يفتنه سحر العواطف والخواطر المدونة، وكنت أزهى بذلك وأخادع نفسي فيه وأقول: وما حاجتي إلى التجريب الشخصي لتتحرك في هذه العواطف؟
وهبني جربت وجربت فهل أطمع أن أجرب كل شيء؟
ومادام أن بي حاجة إلى الكتب لتسد لي النقص في تجاربي فمالي لا أجعل هذه الكتب معولي كله ومعتمدي في التجريب؟
إن الغرض من التجريب العاطفة والمعرفة، وليس أقدر من الكتب على إثارة تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكا للنفس وتجعلها - أي النفس - أتم استعدادا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فبحسبي «ظاهر» التجريب الذي تهيئه لي القراءة، وسواء على كل حال أن تؤثر في المرء الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريق آخر كالرموز اللفظية التي تمثل صفات هذه الحقيقة وتصور وقعها.
كذلك كنت، فما أغرب ما حدث! لست أحمل الآن الكتب معي حيث ما أكون ولا أنا أغالي بقيمتها أو أستغني بها عن حقيقة التجريب الشخصي، فقد ظلت الحياة تصدمني وترجني وتدفع في وجهي وصدري حتى ردتني إليها وفتحت عيني على مظاهرها، ثم أفقت من دهشتي وأجلت بصري في نفسي وفي الدنيا ثم ذهبت أتساءل: كيف حدث هذا؟ لقد كانت قدمي ثابتة وأنا أقطع طريقي في الحياة، ولم يكن يخالجني شك في دقة علمي بالطريق وكفاية إحاطتي بطبيعته فمن أين جاءت هذه الزحاليق؟ ماذا جرى حتى رحت أتدحرج وتتلقفني الصخور؟؟
وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية وأن أبسط تحت عيني المصور الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب وإذا المصور تتداخل دروبه ومسالكه وتختلط حتى لا سبيل إلى التمييز بينها. وإذا «ظاهر» التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين ومازلت في مبلغ علمي بالدنيا وفهمي للحياة وإدراكي لحقائقها، طفلا يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاما.
وأنا الآن أعلم نفسي من جديد، وأعالج تنشئة ابني معي. كلانا طفل يتخبط ويجرب، وكل ما بيني وبينه من الفرق أن ورائي تجربة مرة لا تنفك تزجرني عن الكرة إلى مثل ما أوقع فيها، وأن ذهنه جديد لم يزحمه شيء وأن نفسه صافية لا يشوبها رنق ولا كدر؟ ووالله ما أدري وأنا أسير معه في الحياة - ويده في يدي - أينا الذي يسير بصاحبه أو أينا الذي يأخذ بيد رفيقه.
وكثيرا ما يخيل لي إذ أراه مقبلا علي في الطريق وفي يسراه حقيبته التي يحمل فيها كتبه وكراساته، كأنه يعالج أن يحل مسألة حسابية أو يتذكر حقيقة جغرافية فأصافحه وأقول له: «فيم كنت تفكر؟»
فيقول: «لا شيء» فأقول له: «ليت هذا يكون صحيحا. وماذا أبصرت في الطريق؟»
فيكرر كلمة «لا شيء» فأدعوه أن يرجع معي ويرافقني مسافة، وأحمل عنه الحقيبة تخفيفا عنه وإنصافا له، وأروح ألفته إلى أن الناس لا يحسنون السير في الطريق. وأبين له بعبارة يسهل عليه فهمها أن أكثر من نرى في الطريق من عابريه تبدو عليهم مظاهر القلق والعجلة. حتى الذين لا يدعوهم شيء إلى العجلة ولا موجب لاضطرابهم أو قلقهم، كأنما يعديهم سواهم بذلك، وهناك آخرون يجتلي المرء في وجوههم ضربا من الكسل المرذول والفتور الثقيل لا يدلان على سكون النفس ولا ينمان عن استقرار واطمئنان. فهذان طرفان متناقضان تؤدي إليهما حالة نفسية واحدة. كلا الفريقين مضطرب، ولكن واحدا يجعله اضطرابه كالذي يساق في حياته بالسياط، والآخر يفتره الاضطراب ويرخي أعصابه.
وهذا الرجل الذي يتهادى ويختال في مشيته ويدق الأرض بعصاه ولا يفتأ يرفع يسراه إلى ربطة رقبته ليثبت «الدبوس» في الظاهر وليلفتنا إلى بريق الزجاج الذي يريد أن يوهمنا أنه ماسة كريمة، والذي يتظاهر بعدم الاكتراث لأحد، لا يزال مع ذلك ينظر إلى الناس خلسة - تأمله.. ألست تحس أن تحت قناع السكون وقلة المبالاة حمى قلق تشي بها اختلاجات جفونه وشفتيه وجانبي منخريه؟ أتعلم ماذا هو؟ إنه سمسار. وهو لا يتمشى وإنما هو يتحفز! يتحفز للوثوب على فريسة.
ولست أعرف ظاهرة للمدينة الحاضرة أبرز من هذا القلق أو إذا شئت فقل من افتقار عناصرها المكونة لها، إلى السكون، فالناس يذهبون إلى المسارح ويخرجون منها، ويدخلون المدارس وينصرفون عنها. ويزاولون أعمالهم ثم يكفون - وكأنهم جميعا معجلون، وتراهم يؤثرون الركوب ويفضلون أن يخطفوا بسياراتهم، لأن الركوب أسرع من المشي، ولأن الوقت ضيق. فلماذا هو ضيق؟ يجب أن نعده واسعا غير ضيق. وأن نشعر أنفسنا هذه السعة وأن نقنع عقولنا بانتفاء الضيق لتستقر أعصابنا وتهدأ وليتيسر لنا بعد ذلك أن نجود عملنا وأن نخرجه ناضجا. إن فكرة ضيق الوقت وهم ليس إلا، وهي تؤثر في أعصابنا وتفسدها، وما على الإنسان إلا أن ينحي عن نفسه خاطر الزمن وإلا أن ينسى هذا الوقت وثق أن عمله حينئذ يكون أسره وأجود، لأن رأسه في هذه الحالة يكون خاليا من التفكير في وجوب العجلة فلا يعود يزعجه شيء، فيطرد الفكر ويستقيم وتتسق الخواطر.
ويتفق أحيانا أن نرى في الطريق رجلا يستوقف آخر لا لأنه يريد أن يفضي إليه بشيء ولا لأنه أوحشه - فلعله كان معه أمس أو قبل ساعات - بل لغير سبب ظاهر، ويقول أحدهما وهو يهز يد صاحبه: «كيف الحال؟» وكأنه يرجو أن يكون قد حدث شيء. فيقول الآخر: «الحمد لله» أو «لا بأس» أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهو يشعر بأن للفراغ الذي في رأسه مشبها لما في رأس سائله. وتعلو ذلك فترة صمت وجيزة تتلاقى في خلالها العيون متكلفة الابتسام وتتضاغط في أثنائها الأكف إذا كانت لم تفترق، ثم يرسل أحدهما نفسا طويلا وينظر إلى يمينه، ويذهب صاحبه ينظر إلى الناحية الأخرى وتكون الكفان قد ارتدتا إلى الجانبين، والرأسان مشغولين بالبحث عن كلام يصلح أن يقال وإذا بأحدهما يقول فجأة، وكأنه ذكر شيئا: «أستأذن» فيقول الآخر: «تفضل» ويفترقان ليكررا هذه السخافة كلما التقيا. وقد اتفق لي أنا مثل ذلك. ولكن سوء حظي كان يطيل الوقفة حتى كان يخيل لي أن الأمر قد صار يتطلب أن يدعى «البوليس» ليفصلنا. وقد علمتني التجربة أن خير وسيلة للفكاك من هذا الأسر في وسط الطريق العام أن تلقي إلى آسرك بنكتة، ولا تجعل بالك إلى قيمة النكتة ولا تعن نفسك ببراعتها أو موافقتها فإنه يكفي أن تقول شيئا وأن تضحك ليضحك صاحبك فتخلص يدك وتستطيع بعد ذلك أن تفر.
على أن هذه العادة مغتفرة إذا لم تكن متخذة سلما إلى غرض خفي، فقد وجدت البعض يستوقفني ويمطرني وابلا من الأسئلة يشغلني بالإجابة عنها، ولاحظت في كل مرة أنه كان في أثناء تجشمي تعب الإجابة، يلقي بالنظرة تلو النظرة إلى نافذة أمامه ويحني رأسه ويستر هذا الإحناء بحركات شتى، فلما أيقنت أنه يتخذ من وجودي مسوغا لوقوفه قبالة النافذة صرت أتعمد كلما لقيته هناك أن أحاوره وأداوره حتى أواجه أنا النافذة وأتركه هو بظهره إليها، وبذلك استأثرت بالنظر دونه.
وعلى ذكر العيون والنظر أقول إني بينت لإبني أن في وسع الإنسان أن يعرف حظ من يلقاهم في الطريق، من حسن التربية والتهذيب، وذلك من طريقة نظرهم إليك أو اجتنابهم النظر. فالرجل المهذب تراه هادئ النظرة ساكنها، وهو ليس شاردها ولكن في عينه ما ينم على شخصيته وما يكفي للدلالة على قدرته على الانصراف إلى التفكير في النفس، من غير أن يمنعه ذلك من أن يلاحظ كل ما يجري أمامه. وهو لا يحدج الناس بنظره ولا يتكلف أن يتهرب من مواجهتهم. إنما يحملق في الوجوه المتنطع أو المغرور، ولا يهرب من النظر سوى الحيي أو الخبيث. ومن الناس من إذا لقيته تغيرت نظرته عما كانت قبل بضع ثوان، ولعل هذا راجع إلى فرط الشعور بالذات أو إلى توهم المرء أن نظرته السابقة تشي بما في نفسه وهو يؤثر أن يكتمه.. ومنهم من يرد على نظرتك متحديا، وهذا أيضا ينبئ بالشعور بالذات.
ومن الناس من يأبى أن يسير إلا في منتصف الطريق غير متق أن يصادم أكتاف المارة فهذا رجل لا يتحرج أن يأكل ما أمامك. ومنهم من يمشي متحككا بالبيوت مؤثرا المواضع السهلة اللينة أو الخالية، فهذا ممن يعالجون أن يسيروا في حياتهم على هذا النحو مجتنبين فرائضها المتعبة. وآخرون لا يزالون يتلوون في الطريق وقد يقف أحدهم في وجهك وهو موليك ظهره فترتد حتى لا تصطدم به فيلقيك ارتدادك المباغت على صدر من يكون سائرا خلفك فيضطرب نظام الشارع كله. فهذا على الأرجح رجل لا يبالي أن يصنع مثل ذلك في ميدان السياسة أو الاجتماع.
وثم أناس يحلو للواحد منهم إذا رأى اثنين يتحادثان في الطريق ن أن يتلكأ ويقصر خطوه ليسترق السمع فهذا امرؤ ألفت عينه ثقوب الأبواب ولا يستغرب منه أن يتنزى إلى كل سوء. وهناك الصاخب الذي يتكلم في الطريق وكأنه يخطب حشدا عظيما، فهذا الأناني المقتحم، وأخيرا هناك الذين يكلمون أنفسهم وهم لا يشعرون، ولهم مع الكلام تلويح وتشوير. وقد حدث لي أن كنت سائرا فإذا برجل يقول في وجهي: «يا حفيظ! يا مغيث!»
فبهت ولكنه مضى عني كأن لم يرني.
بحسبي أن أفتح لابني عينيه لينظر، فإذا كان في رأسه خير فأخلق به أن ينفذ إلى الأعماق.
الفصل السابع
من ذكريات عابر سبيل
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدري أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟ ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت نفسي على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوبا عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوما أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أني كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين، فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا، فرأت زوجتي معطفا من الفرو ثمينا جدا فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكني نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية. فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضربا من الصرع أو التشنج أو لا أدري ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الإحصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلى أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جدا، فأنا من ذلك الحين أضطرب جدا جدا إذا وقعت عيني على الفرو ... فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال: «أوه.. لا شيء.. لا داعي للقلق.. ولكن يجب ألا يرى الفرو أبدا..» والحق أقول إنه كان طبيبا بارعا جدا، فغن مرضي العصبي لم يعاودني بعدها أبدا.. والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو..
وأما النوم كيفما اتفق فهذا أشهد انه صحيح.. وأذكر بسرور أن قطارا سافرت فيه مرة كان غاصا بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله ولابد من النوم ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكني كنت كالبلحة في قفة عجوة. فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة.
وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، وكل هذا لا يخلو من خطر، فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الظرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة.
ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتابا في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملا، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب - أو بعضه على الأصح - فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفا على صديق لي. فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب، وإن كنت عارفا بدائي ودوائه.
ومضى يوم ثان وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضا إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي، فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب فقالوا «حتى يراك الطبيب» فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدرى من أطباء الدنيا جميعا. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص.. عل عرف أني ممغوص إلا مني.. إذن انتهينا.. أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف.. وأنا أيضا أنبئه أني شفيت وانه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة.. وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتما أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتوا كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات..
فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان - فإني في بلد غير بلدي - ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: «ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيسا في وحدتي ومسليا لي في غربتي».
وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي أشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه. «كفتة الدجاج» - تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيدا، ثم يضاف هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماما، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانيا وتقلى في سمن ساخن جدا حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. تنبيه - هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربعة عشرة قطعة «ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. لا بأس.. فليس هذا كلاما عن الطبخ. ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيرا ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعا، وأن الخيال أفسح رحابا وأوسع آفاقا؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت أكلا بالفعل أم متوهما أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئا بما يفضيه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفضيه إليها ويزينها به.
ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكا نشويه ونأكل منه يومنا هذا، فاخترنا شر ما يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاما وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك، فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفد صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئا ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحا: لعل السمك يحب الموسيقى.. من يدري. أليس له حاسة فنية؟» فسرنا أنا وجدنا شيئا نتسلى به في هذه الجلسة المملة. وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) كنت أنا أيضا أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة، فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوات أحب إلى أي أنواع السمك. ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة - والعراقيون يسمون كل مسكن على النهر قصرا أو سراي ولو كان كوخا - وكان بيت صديقنا هذا ضخما فخما وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء - وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة - فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرما بالصيد ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطا مسجلا لأحد المغنيين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء - أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثا فنفرت الأسماك جميعها نفورا ظاهرا. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية - فتخدم السمك والناس - إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منع وقتا معينا. فإذا كان المراد مثلا صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفا باسم صنف آخر.
والحجاز وانجلترا هما - فيما أعرف - البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق فأما في الحجاز فذلك خوفا من قطع يد السارق فقد سقطت مني عصا في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني في التليفون وأنا في الشمسية - قرب مكة - فرجوت منهم أن يردوا العصا إلى جدة مخافة أن ترتكب إثما آخر فيأخذوني بذنبها وأما في انجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه - أي مع الصديق - إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوما في لندن لا أتكلم فيه إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت - هو وزوجته وأنا - وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر - فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء - فدنوت منه وحييته التحية المصرية - أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته وسألته - بالعربية طبعا - عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفا شديدا فنطقتها «وستمنصته»، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها، فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعا على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعالى معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جدا وأنا شيء ضئيل جدا أو كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فلا يث
قل أرضا ولا يسد فضاء
وقال إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال على العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟! فسألته عن «وستمنصته» فجعل يهز رأسه ويستعيدني وأنا أهز له رأسي أيضا كأني غير فاهم وألح في السؤال عن «وستمنصته» فأحس أن في الكلمة شيئا يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال: «قل هذا مرة أخرى» ولكني تغابيت وجعلت أتلفت ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف.
وليت هذا كل ما حدث إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى خيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما عال فخفت أن يفطن إلى أن في الأمر مزاحا فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فاستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة، فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي، وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك فأخرجت نقودا ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء تظاهرا بالجهل باللغة الإنجليزية . وهكذا كسبت الرهان.
وأعود إلى فلسطين فأقول أن في عكة مسجدا كبيرا وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أتحدث عنه ولكني أقول إني وجدت مكتوبا على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا: «ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا
جزر أعناق العباد كما يجب»
وأظن أن هذا البيت يستحق التدوين ...
وفي بغداد دعانا شيخ عربي إلى أكلة على الطريقة البدوية، فاستحسنا ذلك جدا، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدودا.. وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها وقالوا إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزا مخلوطا بالزبيب واللوز والفستق وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام ... كالدجاج والخضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقا وملاعق وسكاكين وأشواكا. فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواحد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة؛ وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هينا سهلا، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف. فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه وما يرمي في الحقيقة إلا جمرا مضطرما، وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها ولا أدري ماذا أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك فى الحجاز: «ملح ... ملح..» فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد يده إلي وقال «خذ قبضة» «فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر، فصاح بي: «بيدك المحروقة»، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال: «اطو عليها أصابعك» ففعلت فقال: «ابق هكذا» فظللت قابضا على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: «استرحت الآن.. زال الألم..» ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أثرا للحرق! فما قول الأطباء في هذا وليكن رأيهم ما يكون فإني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح..
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني عليها لا أزال أطرف ثم لا أجد بدا من تحويل عيني إلى ناحية أخرى.
وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك. فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها. «هيك» ولم تزد ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفا على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جدا في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئا فشيئا وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه. ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأن مسمر في مكاني لا أستطيع حراكا؟ ولو وسعني أن أتحرك لوثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجدا ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانتا ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأصأل، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود، فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة. فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئا.. وماذا أقول؟
الفصل الثامن
حي ولا كالأحياء
كان أبواه صالحين، إلا أنهما جاهلان. وغير منكور أنهما كانا يعدان من الذين يقرأون ويكتبون، ويحسبان عن الإحصاء من المتعلمين، ولكن من الممكن أن نقول - ومن الممكن أن يصدق القارئ أنهما ارتدا إلى الأمية أو ما هو في حكم الأمية ومنزلتها فأما الأم فقد صار كل ما احتفظت به هو الأرقام - قراءة وكتابة - وأما الأب فكل ما بقي له هو القدرة على قراءة القرآن الكريم «ودلائل الخيرات» و«الأوراد» وما يجري مجراها مما حفظ قديما. ولعله كان يقرأ بذاكرته دون عينيه، فقد كانت ترده الرسالة من البلدة فيرسل يده تتحسس ثيابه ويقول إنه لا يجد «النظارة» ويرجو ابنه أن يتلو عليه الرسالة لأن نظره ضعيف. ومع ذلك كان يرى الشخص من مسافة ميل فيقول هذا فلان!
وقد حرصا - على جهلهما - على أن يربيا ابنهما أحسن تربية، فلم يضنا على تعليمه بمال، وإن كانت مواردهما شحيحة غير ثرة، ومازالا به حتى تخرج في الجامعة وكان ذكيا حاد الفؤاد، ولكنهما أرهقاه وكلفاه شططا، ونحن نظلمهما حين نسوي بينهما في ذلك، فقد كان الأب مشغولا بصلاته ونسكه، وكان ضعيفا فزمامه في يد امرأته، وكانت امرأته قوية أو قل طاغية، طغت بزوجها فألزمته البيت وجعلته قعيده، كلما فرغ مما يخرج له - ولم يكن ذا عمل لأن له أرضا يأتيه إيجارها في مواسمه، فهو لا يحتاج إلى السعي والتصرف وعلى أنه لو كلن احتاج لما قدر على كثير، فقد كان قليل الحيلة، وفيه غباء، وفيه مع الغباء حقد يمنعه أن تسلس علاقته بالناس، أو تطيب معاشرته لهم، فنفر وجنح إلى العزلة، وحمل الناس التبعة، وأعان ذلك زوجته عليه، فانقاد لها وقبع معظم الوقت في البيت.
ولو اقتصر الأمر على هذا لهان، ولكنها طغت بابنها أيضا، وعاملته شرا من معاملة فتاة يخشى عليها شر الاختلاط، وكانت تجلس أمامه وهو يدرس، وتحدق فيه فيثقل تحديقها على نفسه، ويضطرب، ولا يستطيع أن يفهم شيئا مما يقرأ، ويبدو عليه القلق فتنهره، فيكتم حتى زفرة الضيق لخوفه منها، أو رهبته لها، لشدة وطأتها عليه، فقد ورث عن أبيه الضعف، وزاد ضعفه أن رأى أباه مستخزيا لها، وأعانها عليه أيضا أنه نشأ في بيئة يوقر فيها الصغير الكبير، ويتقي الولد أن يرفع عينه إلى وجه أبيه أو أمه من شدة الاحترام، فكان لا ينهض عن مكتبه وكتبه وكراساته إلا بإذن، منها لا من أبيه، فما له حساب كحسابها، وإن كان له احترامه.
واتفق أن أحب الفتى فتاة من قريباته، ولكن طبقتها - إذا اعتبرنا المال والجاه - فوق طبقته في المجتمع، وقد أيأسته الفتاة من هذا الحب، وتلطفت معه وترفقت به، فأقصر عن التودد إليها وطوى نفسه على حقد ورث عن أبيه الاستعداد له، ولم يفض إلى أحد بهذا السر مخافة أن يرقى الخبر إلى أمه فتسود عيشه وتنغص حياته، وفي البث راحة ولكنه حرمها.
وانتهى من التعليم، وآن أن يجد عملا؛ ولكنه فتى لم يألف مخالطة الناس ومعاشرتهم والاجتراء عليهم، لأنه قضى معظم حياته - في غير المدارس تحت عين أمه، وذلك ضرب من الحياة لا تعرفه حتى البنات في هذا الزمان، ومن هنا عظم حياؤه الطبيعي، وكان يرى أباه نافرا من الناس معتزلا لهم، ساخطا عليهم، فقلده - وراثة أو اكتسابا - وكان قد نقم من قريبته فإنها أقنطته من حبه لها واعتقد أنها تراه دونها ولا تعده أهلا لها، أضطغن عليها وعلى أهلها، وكان أهلها بفضل جاههم هم الذين يستطيعون أن يبلغوه مناه من الوظيفة في زمن لا يرجو فيه الإنسان أن يبلغ شيئا بحقه، وقد يبلغ فيه كل مرام بفضل الوسطاء؛ فلم يظفر إلا بوظيفة هينة الشأن ضئيلة الأجر، لم تكن تستحق أن يقضي في سبيلها كل ما قضاه من العمر في التعليم، فزاد سخطه على الناس وامتلأ صدره إيمانا بالظلم في الحياة، وكان له من عجز أبيه عن التصرف والسعي نصيب؛ وكانت نشأته من شانها أن تزيده قلة حيلة فقنع بالوظيفة الهينة، أو تلقى الأمر فيها بالتسليم؛ وإن كان قلبه مملوءا مرارة وقيحا.
ومات أبوه، فلم يشعر بالراحة والفرج، لأن أمه هي المرهوبة، وأحب جارة له في مثل سن أمه أو أكبر، لأنها كانت تعطف عليه وتدعوه إليها فيقضي عندها ساعة أو بعضها ينعم بالحديث والمودة والعطف، ويتسلى، ثم يعود إلى محبسه، فيحس الفرق، فيشتهي أن يكون مع هذه الجارة نهاره وليله، فلم يكن حبه لها حبا بالمعنى الصحيح، وإنما كان مظهرا لضيق صدره بما يجن، وللتعلق بقشه وهو غريق، فما كانت المرأة الجميلة، وأقصى ما يمكن أن يقال فيها إن على وجهها مسحة من ملاحة، وتحت الثياب التغضن والترهل، اللذان لا تجدي فيهما المساحيق والأدهان، ومن أين تجيء بمساحيق وأدهان كافية لكل هذا البدن؟ فقد كانت بدينة ، واضطر أن يطوي صدره مرة أخرى على سره، خوفا من أمه، وإشفاقا مما عسى أن تنزله به من العذاب.
ولحقت الأم بزوجها، ولكن موتها لم ينجه ولا أعفاه مما هو فيه، فقد ألف هذا الضرب من الحياة أكثر من ثلاثين سنة، واعتاد الكبت الخانق لكل شعور حتى إنه ما كان يجرؤ أن يعرب عما يدور في نفسه ولا لإخوانه إذا صح إنه استطاع أن يتخذ له إخوانا. وما قصر في نشدان الأصدقاء، ولكن أنداده كانوا يرون طول صمته وانطواءه على نفسه، وكثرة قعوده في بيته. ويعرفون خوفه من أمه، فزهدوا في صداقته لأنه لا بشيء فيها يسرهم.
ومع خلو البيت، بعد وفاة والديه، إلا من خادم هرم لا يحسب أحد له حسبانا، كان فتانا لا يستطيع أن يتحرر حتى في البيت مما ألزمته أمه في حياتها. وكان إذا ضاق صدره وعجز عن الاحتمال، وأراد أن يشعر أنه إنسان له في نفسه حق، يوصد على نفسه بابي غرفته وينضو ثيابه كلها حتى يعود كما كان آدم في الجنة، ويقف أمام المرآة وينظر إلى صورته في صقالها ثم يرقص ويفرقع بأصابعه، ويدندن - أي يغني دون أن يرفع الصوت بالغناء - حتى إذا تعب انطرح على أريكة أو سرير، وقد ينام هو عار، ولا يتغطى إلا إذا شعر بالبرد.
ولم يطل صبره على الوظيفة، ولا صبر رؤسائه عليه، فقد كان ظاهر الاستخفاف بها وبهم، وكانوا يرون منه ما يعدونه بلادة شعور، وقلة توقير، فاغتنموا فرصة خطأ وقع فيه وإن كان غير جسيم، فنقلوه إلى بلد قصي، فلم يذهب إليه، ففصل.
ولم يشق عليه الفصل فقد بقيت له أرض أبيه، وفيها الكفاية لعيش، وإن كانت لا تسمح بالرغد، ومازالت جارته ترحب به وتحتفي بمقدمه، ولعلها راغبة فيه، وما انفك هو يختلف إليها ويكون عندها كأنه في بيته - يطلب الطعام إذا جاع، ويستلقي على أريكة إذا تعب، ويأمرها أن تصنع له قهوة أو شايا، ولو قدر لنام عندها أيضا، ولكنها هي تخشى على سمعتها، وإن كانت لا تخشى على نفسها منه، فما يخرج معها عن الحشمة، ولا يجاوز المزاح المقبول باللسان، ولكنه لم يكلمها في زواج فكأنه متردد، أو لعله يستحي أن يقول بما في نفسه، لو عسى أن يكون مشفقا من كلام الناس ولغطهم بمثل هذا الزواج، وربما كانت العلة أخفى من ذلك - أي راجعة إلى ما أورثه وأغراه به طول الكبت من العادات التي لا تجعل علاقة الزواج أطيب وأمتع علاقة لمثله، ومن يدري؟ قد يكون في قلبه خوف من أن يصير معها إلى مثل ما صار إليه أبوه مع أمه، فهو يؤثر طول الزمان على دوام العبودية. والله أعلم بالحقيقة على كل حال.
وإن صاحبنا لحي يرزق، ولكنه لا يعد في الأحياء بأي معنى صحيح إلا حين تقوم الدولة بإحصاء النفوس، وصحيح أنه يأكل ويشرب وينام ويدخل ويخرج، ويذهب إلى السينما أحيانا، ويطرب للسماع إذا أتيح له عفوا، ولكنه لا يحيا، فإنه لا يعمل لا بجسمه ولا بعقله وقد ركدت عواطفه وإحساساته، أو جرت في بحار خفية فما يتبدى منها شيء إلا حين يكون في خلوة تامة مع نفسه، وفي أمان من عيون الرقباء وآذانهم.
وتسأله ماذا يرجو؟ وإلى أي شيء يتطلع؟ فيحدق في وجهك كأنه غير فاهم، ويسألك «أرجو؟ تقول أرجو؟» ويهز رأسه وقد ينهض عن المجلس الذي أنت فيه - لا غاضبا فإنه لا يغضب - أو على الأصح لا يراه أحد يغضب - بل لأنه يعني بالجواب، ولعله يقضي الليل مسهدا يتساءل عما يرجو، ثم يمل التساؤل، فينهض ويضيء أنوار البيت كلها، ويغلق عليه غرفة، ويخلع ما عليه ويقف أمام المرآة يرقص ويدندن!
ماذا يرجو؟ أما أن هذا لسؤال!
الفصل التاسع
الابتسام
منذ بضع سنين - عشرين أو نحو ذلك - أصبت بالنورستانيا، فاحتجت إلى الأطباء وكان علاجهم جرعا أو حقنا والراحة التامة والكف عما يتوهمونه يضنيني من القراءة والكتابة، فأما الحقن أو الجرع فكان أمرها هينا، وأما الراحة فكان معناها انقطاع الرزق لأنه لا رزق بلا عمل، وأما الكف عن القراءة والكتابة فقد كان هذا خليقا أن يورثني الجنون لا أن يشفيني لأنه يجعلني أبدا في خلوة بنفسي ويفسح الوقت والمجال للتفكير فيما كنت أعاني من الأوهام، وهذا ما كنت أهرب منه وما كان ينبغي اتقاؤه، لأن المرض يستفحل به ولا يخف على ما جريت، وكانت النورستانيا في أول الأمر خفيفة محتملة، ولكنها تفاقمت على أثر سقوطي في ظلمة الليل في قبر خرب تعلقت بى فيه العظام النخرة فخرجت منه حين خرجت بوجه ميت وأعصاب مخبول.
وصرت بعدها أتوهم الموت في كل شيء حتى لكنت أدعو أهلي أن يحفوا بي ويمسكوني لأنه كان يكبر في وهمي في تلك اللحظات المشئومة أن شيئا مرعبا سيحدث لي ويجري علي، وأن قوة مخفية ستخطفني وكان شر ما أخشاه وأتقيه أن أصاب بالحمى لا لأنها طريق الموت فإن كل شيء طريقه بل لأنها تكون أحيانا مصحوبة بالهذيان، وقد يفشي المرء وهو يهذي بعض ما كان يحرص على كتمانه. وليس من الضروري أن يكون ما يكتمه سوءا وشرا فقد يحب المرء كتمان الخير أيضا.
وأخيرا وفقني الله إلى طبيب فيه شذوذ غير قليل، وكان يشكوني لإخواني لأني أتكلم بلا مناسبة تدعو إلى الكلام، ويشكوني إذا سألني عن شيء من التاريخ أو الأدب لأني لا أجيبه بما يحب، فحرت معه وآثرت الصمت، وقلت فليحسبني في عداد الصم البكم.
وكان يحقنني بما لا أعلم فدخلت عليه يوما وكشفت له عن ذراعي فأومأ إلي فجلست وجلس هو قبالتي وجعل يحدجني بنظره وطال هذا منه فلم أرتح إليه وخامرني الشك في أمره وحدثتني نفسي بالهرب فقد قام في ذهني أن الرجل تعتريه نوبات من الجنون، وإذا به يقول لي وهو معبس: «تبسم».
فقلت في نفسي «لقد صح ظني وليته ما صح. والمثل يقول جاءك الموت يا تارك الصلاة، فهل كان من الضروري أن أقع في قبضة هذا «المجنون» وقلت له بصوت يسمعه «ايه».
فقال: وهو يزداد عبوسا «تبسم».
فخطر لي أن أحاوره وأداوره حتى يفتح الله علي بجلية أنجو بها وقلت له «اتبسم ».
فهز رأسه أن نعم..
فقلت أطاوله وسألته: «هل تعني أنك تريد مني أن أتبسم».
فنطق وقال: هذا ما أعني.. تفضل.
فسألته: «ولكن كيف أبتسم وأنا لا أشعر بما يدعو إلى ذلك».
قال: «تبسم والسلام.. حاول.. ألا تعرف كيف تبتسم».
قلت: «أعرف كيف يكون الابتسام ولكني لا أستطيعه إلا بدافع من النفس. نعم يسعني أن أفتح فمي وأوسع حنكي ولكن عيني.. كيف أقسرها على الالتماع الذي لا يكون الابتسام ابتساما إلا به».
قال: «حاول أن تبتسم ولا تحاول أن تتفلسف».
ففعلت ما وسعني وقلت له: «هل هذا يكفي» ولم يبق عندي أي شك في جنونه.
فقال: «حاول مرة أخرى».
فحاولت - لا مرة أخرى بل مرات، وماذا أصنع غير أن أجاريه؟
فقال: «إنك لست مريضا ولكنك نسيت الابتسام.. فقدت القدرة عليه.. هذا هو خطبك.. وأنا من الآن فصاعدا لن أصف لك أي دواء لأنه لن ينفعك مثل الابتسام فاستعد القدرة عليه، وإذا عجزت عنه فما عليك إلا أن تنظر في المرآة وتتكلف الابتسام فسيضحكك المنظر لا محالة وتظل بعد ذلك تضحك حتى يوجعك رأسك وبطنك».
فقلت له: «أشكرك» قال: «لا تحسب أني أمزح حين أقول أنظر إلى المرآة لتضحك، فلست أقصد إلى النكتة وإنما أنا أعني ما أقول. وأنا أيضا إذا أعياني الابتسام أفعل ذلك. إن ابتسامة أو ضحكة واحدة تستطيع أن تغير الحالة النفسية للإنسان كما لا يستطيع أي شيء آخر.. جرب وانظر.. قابل كل شيء بابتسامة ولو مستكرهة فإنك لا تلبث أن ترى العجب.. والآن تفضل فإن المرضى غيرك كثيرون».
خرجت من عند الطبيب في ذلك اليوم أبتسم متعجبا، وقد بدا لي أن ما سمعته منه لا يخلو من صواب. وأحسست وأنا عائد إلى بيتي أني أشتهي السمك. تعجبت فما أعرفني اشتهيت طعاما بعينه قط، وعهدي بنفسي أني آكل ما أجد وأحمد الله. فقلت خيرا وملت إلى حيث يباع السمك فأعجبتني سمكة كبيرة راقني منظرها، وإن كنت لا أدري كيف مخبرها، فإني أجهل الناس بأمور الطعام، وحملتها إلى البيت وأنا فرح بها وقلت لهم اصنعوا لنا منها شيئا فإني جوعان فبادروا إليها وأقبلوا عليها يصنعون منها ما لا أدري وهم مستبشرون بما رأوا من هذه الرغبة التي أظهرتها والتي لم يألفوها مني، ثم قالوا تفضل فتفضلت وجلست إلى المائدة معهم وهممت بأن أتناول من السمك المشتهى، وإذا بي أشعر أن الحمى مقبلة، وعراني فزعي المعهود منها فرددت يدي عن الطعام ونهضت إلى السرير وقلت هاتوا شربة، فجستني أمي ونظرت إلى وجهي الممتقع ونظرتي التي ارتسم فيها الفزع والأسف والألم وقالت: «يا بني ما هذا الحال ... لست أدري بك شيئا» قلت: «إنها الحمى آتية لا ريب فيها هذه المرة؛ وإني لأجد صهدها من بعيد كأني أتقلب على اللهب» فهزت رأسها آسفة وجلست على كرسي جانبي وتركتني لخواطري وأوهامي، ومضت دقائق وأنا أفكر في هذا الحال فبدا لي أن من سخر الأقدار أن أشتهي طعاما لأحرمه، وتذكرت نصيحة الطبيب وخطر لي أن هذه القدرة على السخر تستحق الإعجاب، وأن في وسع الإنسان أن يكبر الناحية الفنية في تصاريف الأقدار وإن كان يألم ويتوجع بل في وسع الإنسان أن يجرد من نفسه شخصا ثانيا ينظر نظرة فنية إلى المقادير غير الشخص الذي يتوجع لوقعها، وسألت نفسي: أليس هذا الذي حدث لي شبيها بالفصول التي يعابث بها الإخوان بعضهم بعضا ليضحك العابث مما يقع في صاحبه.. ثم يضحك الذي كان غرضا لهذا العبث حين يعرف حقيقة التدبير.. ولم لا أنظر هذه النظرة إلى سخرية الأقدار.. لم أتهمها بالقسوة.. ولا أقول أنها تلاعبنا وتعابثنا ولكنا لا نفهم مرادها فنحسب مزاحها جدا ونروح نتألم.. وخيل إلي أن من غير المعقول أن تعني الأقدار بأن تحرمني من قطعة من السمك أشتهيها. وما قيمة سمكة آكلها أو لا آكلها عند الأقدار حتى تصدني عنها.. ولم لا أقابل هذا المزح بالروح التي تناسبه.. وإذا كنت لا أستطيع أن أتبسم مسرورا فإن من الواجب أن أتبسم مكلفا محافظة على أصول المزاح.
وابتسمت - أعني أني رسمت ابتسامة على فمي وتركتها هناك تشبثا بها وإصرارا عليها. ورأت أمي ذلك فعدتها بشرى وقالت: «أحسن» قلت وقد شعرت بالخجل «نعم» قالت «ألا تأكل الآن» قلت «ليس الآن» قالت «قم بنا إلى مدينة الفسطاط فإن الجو الآن جميل» فوافقت وقمنا جميعا - النساء كبارهن والصغار، والخدام والأطفال وأنا. والطريق إلى الفسطاط خال فأرسلنا أنفسنا على السجية وجعل كل من شاء يجري أو يضحك كما يشاء فأنعشني الهواء وأضحكتني بعض المناظر، فلما بلغنا الفسطاط كنت أحس أني أتضور، وكانت أمي قد قدرت ذلك فأرسلت من يسبقنا بالطعام فأكلنا هنيئا.
صرت بعد ذلك كلما عاودني مثل هذا الحال لا أستسلم له بل أبتسم كما أمر الطبيب. ولا أرقد على السرير كما كنت أصنع، بل أتناول العصا وأذهب أمشي بسرعة حتى يذهب عني البأس ويخرج مع العرق المتصبب فاستطعت بعد قليل أن أستغني عن طب الأطباء وجرعهم وحقنهم.
وجرت فائدة الابتسام وفضله في التداوي فصارت قاعدتي أن أبتسم لكل شيء لأرى ما يكون، فما لبثت حياتي كلها أن تغيرت فقد كنت حاد الطبع سريع الغضب، فصرت أراني إذا ابتسمت لما يغضبني يزول عني الغضب وأشعر بسكينة غريبة، وأحس أني أستطيع أن أفكر بهدوء وأن أضع نفسي في مكان الذي أغضبني وأنظر إلى ما فعل من ناحيته هو فأعذره، وإذا أصابني ما أكره وابتسمت له أرى وقعه يخف وأمره يهون جدا ولا أجد ما كنت أجد قديما من مرارة السخط أو لذع الألم فكأن الابتسام مهلة تمنحها النفس وتمنعها أن تنساق أو تندفع أو تتسرع فيما تستجيب به لوقع الحوادث.
فمثلا - أحس أني أوشك أن أتنهد أسفا على شيء فاتني أو حرمته، فأبادر إلى الابتسام وأراني أحدث نفسي بأن الأسف على شيء فات لا معنى له لأنه فات وانتهى أمره ولن يرده نفس طويل يرتفع له الصدر كالموجة العالية، وإذا كنت حرمت شيئا فما حرمت كل شيء وليس الذي حرمته بالشيء الذي تستحيل الحياة بدونه وليست الحكمة في المغالاة إنما الحكمة أن يدرك المرء القيمة الحقيقية لكل شيء فلا يعدو بشيء مكانه ولا يجاوز به قيمته. وتنتهي هذه النجوى بأن تذهب الرغبة في التنهد وكل ما ينطوي عليه من الأسف والشعور بالخيبة أو الحرمان أو غير ذلك.
ويسؤوني فعل صديق أو قوله فتحدثني نفسي أول ما تحدثني بأن أكر عليه بمثل ما قال أو فعل، ولكني أبتسم أولا فيتغير مجرى خواطري واتجاه إحساسي وأراني أقول لنفسي «من الذي قال إن هذا الصديق أساء بالفعل أو القول ...
وبماذا أساء.. وكيف يعقل أن أنتظر من الناس ألا يقولوا أو يفعلوا إلا ما يرضيني أنا.. ومن أكون حتى ألزمهم ذلك.. وعلى أن احتمالات العفو كاحتمالات العمد فيما يصدر عن الناس ويسوء بعضهم من بعض، فلماذا أجزم بأن الصديق تعمد الإساءة ولا أقول إنها كانت منه عفوا.. ثم أين هي الإساءة على كل حال.. إنه غروري أنا لا إساءته هو».
ويعتريني الأرق لخاطر ملح أو حاجة لم تقض فأبتسم وأقول مناجيا نفسي «لقد صار أمر حياتك رهنا بشيء يسير على ما أرى، فما أهون هذه الحياة إذن وما أضأل قيمتها.. إذا كانت الحاجة لم تقض فهي لم تقض ولن ينفع في قضائها هذا التحسر الذي يورثني الأرق. ومن يدري.. ألا يمكن أن يكون هذا خيرا ألا يتفق أن تكون الخيرة في الواقع.. وأوجه الأمر الذي يشغلني من هذه الناحية الجديدة التي لم أكن أنظر إليها فيأخذني النوم وأنا أفكر.
وقد وجدت للابتسام مزايا أخرى وفضلا في الإطلاع على ما لم أكن أطمع أن أطلع عليه وألم به، فقد اتفق مرة أن كنت مدعوا إلى عقد زواج والعادة أن توزع على المدعوين بعد كتابة العقد علب من الحلوى وليس بالنادر أن يكون منظر الزوج في هذا الموقف مغيرا بالضحك: وكان العريس في هذه المرة ممن لا يعنون في العادة بحسن الهندام وأناقة الملبس، وكثيرا ما رأيته يترك لحيته أربعة أيام أو خمسة وهو لا يحلقها، فإذا فعل بدا لي كأنه إنسان جديد وكان في تلك الليلة - أو على الأصح ذلك المساء - يلبس ثياب السهرة - لا أدري لماذا - وكان دائم التأفف، وكان لا يكف عن تحريك رقبته فعل من يشعر بالضيق والكرب من ضغط الياقة المنشاة المكوية، فأغراني منظره في غير مألوفه من الثياب بالابتسام فجعلت أنظر إليه وكان واقفا وراء صف من الجلوس فلمحت واحدا منهم كانت معه علبتان من العلب المهداة يضع واحدة منهما على كرسي خال إلى جانبه وينهض فيمشي إلي ويقول وهو يبتسم - متكلفا ولا شك - فما كانت هذه ابتسامة مهما بلغ من تسامح المرء في التعبير - «أ ... أ.. أظن أنك تدرك أن هذا مزاح».
فنظرت إليه مستغربا فما فهمت من كلامه شيئا، ولم أقل لأني عودت نفسي أن أنتظر حتى يفرغ محدثي من الكلام، إذا كنت قد وجدت مرارا أن محدثك يهم بأن يقول لك شيئا يظن أنك تعرفه أو تدركه فإذا تكلمت تبين من كلامك أنك غير عارف شيئا فيعدل بالحديث عن مجراه وتخسر أنت ما كدت تسمع منه. ورآني الرجل أنظر إليه ولم أقل شيئا فمضى في كلامه وقال «هذه العلب ... لقد أردت أن أداعب صديقا لي وأخفي عنه علبته لأضحك منه.. بالطبع كنت معتزما أن أردها.. مزاح بين أصدقاء ليس إلا ...» وضحك ومضى عني وهو يتلفت إلي ويحرك رأسه مبتسما فلم يسعنى أنا أيضا إلا أن أبتسم لهذا الاعتراف وإلا أن أحمد الابتسامة التي حالت دون السطو والسرقة.
وفي مرة أخرى قصدت إلى قهوة يجلس فيها إخوان لي، وكنت أريد أن آخذ واحدا منهم، وكان إخواني هؤلاء مولعين بعلب الورق وأنا لا أعرف من لعب الورق شيئا، وقد حاول بعض إخواني أن يعلموني فأخفقوا ولم يفلحوا فظللت على جهلي بهذا اللعب. ودخلت على أخواني وكانوا حول المائدة الخضراء يلعبون على عادتهم، وكان معهم رجل لا أعرفه أو لا أذكر أني رأيته، فإن ذاكرتي خوانة فسلمت ودعوت صاحبي الذي جئت له أن يخرج معي فاستمهلني قليلا فجلست على كرسي أقرأ في صحيفة ثم مللت فوقفت أنظر إليهم وإلى ما في أيديهم من الورق وإن كنت غير فاهم شيئا، ولكن تداول الورق وما يحدث من الربح والخسارة وما يرتسم على الوجوه من المعاني المختلفة المتعاقبة لا يخلو من تسلية حتى لمن كان جاهلا مثلي، فطال وقوفي وكانت هناك مرآة أمامي وراء الرجل الذي قلت إني لا أعرفه فجعلت أنظر إليها تارة وإليهم تارة وأنا واقف لا أعمل شيئا، وانتهى دور من الأدوار فنهض الرجل الغريب وقال «دقيقة واحدة» وأشار إلي وقال «هل تسمح لي بكلمة».
فدرت حول المائدة إلى حيث هو وأنا لا ادري ماذا يريد مني فمشى بي إلى المرآة وجعل يخرج أصواتا غريبة على سبيل التمهيد للكلام وأنا صابر منتظر لا أقول شيئا على عادتي التي يندر أن أخالفها في حديث لا أعرف اتجاهه ولا مراميه ولا الغرض منه، ولكنه لم يسعني إلا أن أبتسم له كما كان يبتسم لي وإلا كان جمودي جفوة لا داعي لها، فظللنا لحظة هكذا - هو يقول «هه هه» وأنا أقابل قهقهته المضطربة المتقطعة بالابتسام فما ثم ما يدعو إلى القهقهة من ناحيتي وأخيرا استطاع أن يقول لي أن اللعب كله لعب، ولم أكن أظن أنه غير ذلك، ولكنه كان يعني أنه لعب للتسلية وتضييع الوقت وملء الفراغ الذي لا يدري على ما يظهر بأي شيء غير ذلك يشغله وأن الغرض ليس الربح وإن كان كل رابح سيرد إلى إخوانه ما أخذ منهم، فإذا كنت قد رأيت منه ما حملته على محمل آخر كالغش مثلا فهذا تأوليه ولو كانوا يلعبون جادين لكان إخفاؤه الورق وإبداله خفية غشا لا شك فيه، وكنت أنا قد لمحت يده تنزل تحت المائدة بورق ولكني لم أعر الأمر التفاتا لجهلي بالأمر كله فجاء هو يعترف لي أنه كان يغش زملاءه ويزعم أن هذا كان مزاحا والفضل في اعترافه للابتسامة التي لم يكن معنيا بها.
والحوادث التي من هذا القبيل كثيرة وهي جميعا تبدأ باللجلجة والتلعثم وتنتهي بالاعتراف وسردها جميعا لأن الابتسام يكون مقرونا بوقوع العين في العين وطول التحديق والنظرة القوية الطويلة تسبب الارتباك والاضطراب للمرء، وكون المرء غير مقصود بها هو يكسبها القوة ويطليها لأن المرء يخجل في العادة أن يحدق في وجوه الناس ولكنه يتفق أن يكون ناظرا إلى شيء وراءهم وان يكونوا هم في طريق النظرة فتقع بكل قوتها في عيونهم والناظر إليهم غير شاعر بذلك أو دار بما يصنع أو متنبه للأمر ويطول ذلك على الذي تقع في عينه النظرة فيرتبك ويضطرب ويجد الناظر يبتسم فيدور في نفسه أن شيئا فيه هو الذي يبعثه على الابتسام وأن الناظر لابد أن يكون قد وقف على أمر أو فطن إلى شيء أو أدرك حاله فأغراه ذلك بالابتسام ويقوم في ذهنه أن الابتسام ابتسام سخر وعلم في آن معا وإلا فلماذا يطول ويظل مرتسما على الشفتين، والمعهود أن الإنسان إذا رأى غيره ينظر إليه نظرة من يلاحظ عليه شيئا قدر أن يكون ما لاحظه هو العيب أو الخطأ الذي يعرفه هو من نفسه ويشعر به ولو كان تافها أو خفيفا فأنا مثلا إذا وجدت واحدا ينظر إلى الأرض قريبا مني لم أشك في انه يتأمل ساقي المكسورة العرجاء، وإذا كانت نظرته إلى فوق توهمت مثلا أن عينه على الزرار الناقص من القميص أو الربطة التي قلما تستقيم حول رقبتي أو تكون غير مائلة إلى اليمين أو اليسار هكذا.
والابتسام يكون من العين لا على الشفتين وحدهما، ولمعته في العين هي التي تفيد المنظور إليه معنى الضحك منه أو السخرية به، وميض السرور يحمل على الظن بأن المبتسم وجد ما يبعث على الضحك من النقائص أو الحالات التي لم تكن له في حساب، ولولا هذه اللمعة في العين لصارت النظرة مع طولها قوية جافية وعنيفة صارمة، ولكان الأرجح أن يكون أثرها غير إشعار المرء بنقص فيه أو عيب أو مأخذ، ولكان من المحتمل أن تؤدي إلى تنويم المنظور إليه إذا كان ممن يسهل التأثير فيهم على هذا النحو، وإذا لم تؤد النظرة إلى التنويم في هذه الحالة فقد تفضي جفوتها وعنفها إلى الفزع والرعب. حدث مرة أني كنت جالسا أفكر، وكنت ذاهلا عما حولي وكنت أنظر أمامي لا إلى شيء والحملاق يكون في مثل هذه الحالات ثابتا، وكانت أمامي فتاة من أقربائي ولم أكن أشعر بها أو أراها ولكن عيني كانت على ما يظهر في عينها، فتنبهت على صوتها وهي تلوح بيديها وتدعوني أن أكف عن النظر لأنها تشعر بالخوف، فدهشت أولا ثم أدركت ما حدث ولا احتاج أن أقول إني حولت عيني فقد تحولت من تلقاء نفسها وبغير جهد مني لأن الأمر كله كان عفوا لا عمد فيه. ومعروف أن قوة النفس كلها تتدفق من العين، ومن هنا كانت العين هي أداة التنويم المغناطيسي، ولن تجد منوما أعمش أو ضعيف البصر أو فاتر الحدقة، لأن ضعف العين يحول دون نفاذ القوة منها والعين مفتاح النفس، فيها تقرأ أكثر المعاني أو الخواطر أو الخوالج أو الإحساسات التي تدور في الرأس أو النفس، ومن العين تتلقى النفس أكثر ما تتلقاه من وقع الحياة، فتأثير العين في العين يكون كأنه تأثير في النفس مباشرة بلا واسطة. فلا تستغربوا أن يكون الابتسام في وجه إنسان مع طول النظر إليه ولو عن قصد مؤديا إلى ارتباكه واضطرابه ومغريا له بأن يتقدم إليك ويبدأك بالكلام فإن هذا أشبه بأن يكون وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس ليخلص من حالة تثقل عليه ولا يكاد يطيق الصبر عليها والثبات لها وليكسر من حدة النظر بتحويلها، ولا عجب إذا انتهى الأمر به إلى شيء من الاعتراف.
وكما يتفق أن أضايق الناس بنظراتي وابتساماتي وانا غير مدرك لذلك يتفق أيضا أن يضايقني الناس بمثل ذلك، ولكن وسيلتي إلى الدفاع عن نفسي والتخلص من ثقل هذه النظرة والابتسامة ليست الاعتراف، بل وسيلتي أن أقابل المثل بالمثل. فإذا كان ينظر إلي ويحدق في عمدت إلى وجهه فأوسعته تحديقا وحملقة حتى يخجل ويرد عينه ويقعد كسائر خلق الله، وإذا كان يبتسم لي ابتسمت لد وزدت وبالغت وذهبت أوسع له شفتي حتى أبلغ بطرفيهما شحمتي الأذنين فيستغرب وينكر هذا المنظر القبيح الذي أقابله به ويتجهم ويزوي ما بين عينيه، فاضطجع في مقعدي وأقول لنفسي هذا أحسن، وأرضى عن نفسي. والمثل يقول إنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأنا أعمل بهذا المثل فالذي يبتسم لي أبتسم له والذي يحملق في وجهي أو عيني أحملق في وجهه أضعاف ما يفعل فمن كان لا يريد أن ينتهي به الأمر إلى الاعتراف للناس بما فيه فعليه بتقليدي فسيحمد النتيجة ويرضى عن العاقبة.
الفصل العاشر
لعب الطاولة
ليس لي شغف بالألعاب، فإن حياتي كلها لعب: فما حاجتي إلى لعبة معينة على الخصوص. ولكن لي إخوانا ألقاهم في حيث ألفوا أن يكونوا - أي في القهوات - وليس من العدل أن أكرههم على أن يلقوني في حيث أحب أنا وأوثر ولأن ينتقل واحد إلى جمع أيسر من أن ينتقل جمع إلى واحد. ولست أعرف عملا لرواد القهوات إلا أن ينظروا إلى المارة وهم مقبلون ومدبرون فإذا اتفق أن كانت الصفوف الأمامية مزدحمة ولا محل لطالب الجلوس إلا في الداخل، فماذا يمكن أن يكون علمه إلا قراءة الصحف - إذا كان وحده - أو تدخين «الشيشة» - أو كما تسمى أيضا «الأرجيلة» و«النرجيلة» - ولعب الطاولة أو الشطرنج أو «الدومينو» فأما الشطرنج فيحتاج إلى عقل يكده اللاعب، وهو لم يجيء إلى القهوة ليتعب بل ليتسلى. وأما «الدومينو» فآفتها الحساب، فلم يبق إلى الطاولة يفتحها الصديقان ويقبلان عليها ليخرجا به امن الصمت الثقيل، وليختصرا الوقت الذي يريانه أطول من أن يحتمل وإن كانت شكواهما - كغيرهما - أن العمر في هذه الدنيا قصير، أو ليتقيا الحديث في أمر نافع أو جدي.
ولم أجد إلى الآن لاعبا للطاولة أستريح إلى منازلته وأفيد متعة من ملاعبته، فهذا واحد لا يحلو له أن يروي قصة حياته إلا وهو يلعب! وتكون قد حمست وكبر أملك في الفوز، فتضطر أن تضطجع وتصغي، أي أن تدع حماستك تفتر ودمك يبرد. وليته مع ذلك يقص حكايته ويفرغ منها فإن البلاء أنه يقطع الحديث ويقول لك: «دوري يا سيدي. شيش بيس.. خذ» ويلقي إليك حجرا «مضروبا» أو يضعه لك في كفك تأكيدا لاغتباطه بسوء حظك فتتمنى لو وسعك أن تقذف بالحجر.. فلا أنت سمعت القصة، ولا أنت مضيت في اللعب بالروح التي كانت مستولية عليك. وليس هذا لعبا وإنما هو.. هو.. لا أدري ماذا أسميه، أو كيف أصفه، فقل أنت فيه ما تشاء!
وثان لا يلاعبك إلا برهان، وهذا ضرب من القمار لا أطيقه، وقد حاول كثيرون من إخواني أن يعلموني لعب الورق فأخفقوا - أو أخفقت أنا على الأصح - وماذا عندي مما يمكن أن أقامر به غير حياتي؟ وأقول لصاحبي (هذا قمار فالعب بغير رهان) فيقول: (قمار؟ استغفر الله. هذه تسلية. زيادة تصلح بها روح اللعب، فيصبح أحمى وأمتع فأصر وأقول (كلا. إذا أردت اللعب فليكن بغير رهان) فلا ينهزم ويقول (قرش واحد!) فأقول: (ولا مليم) فيهز رأسه آسفا ويقبل.
ونشرع في اللعب ويتفق أن يؤاتيه الحظ فيضيق علي الخناق ويعظم أمله في النصر فيميل على الطاولة ويقول «ما رأيك؟ هذا الدور لي أم لك؟» فأدير عيني في مواضع الحجارة فلا أرى داعيا لليأس فأقول «إني أرجو أن يكون الدور لي» فيقول «حسن.. تراهن؟» فأقول محتجا «رجعنا؟ لا يا سيدي» فيقول «إذا كنت واثقا من الفوز، فماذا يمنعك أن تراهن؟» فأقول «لست واثقا.. ثم إن الأمر عندي مرجعه إلى كراهتي للقمار، لا للخوف من الخسارة «فيتنهد آسفا على الفرصة التي أضعتها عليه ببلادتي وجمودي.
وثالث لا يترك الأمر للحظ كما هو الواجب في لعبة كهذه بل «يقرص كما يقولون - أي يسوي» «الزهر» واحدا فوق الآخر ثم يلقيهما برفق وتؤدة لتجيء الأعداد أو الأرقام التي يطلبها وهذا شيء لا يليق لأن مؤداه أن ملاعبك قد وثق من الفوز بالغة ما بلغت قدرتك ومهارتك وبراعتك في اللعب ولا أدري أية متعة يستفيدها المرء من «القرص» إلا إذا كانت المتعة هي التنغيص عليك.
وأعوذ بالله من لاعب لا يزال يحوجك إلى النهوض عن كرسيك لتبحث عن «الزهر» الذي قذف به لا تدري أين وتمضي دقائق في البحث والتحديق وأنت منحن - تحت الكراسي وبين أرجل الناس الذين لا تعرفهم. وكثيرا ما يتفق أن يكون «الزهر» الضائع في طية البنطلون. وليس بالنادر ألا تجده لا انت ولا صاحبك فتصفق ليجيئك عامل القهوة «بزهر» جديد. وقد يكون العامل سمجا أو قليل العقل فيروح يبحث أولا، وتنقضي دقائق أخرى وأنت تتبعه بعينك. ثم يجيء «الزهر» الجديد فيتناوله صاحبك - لأن هذا دوره - ويقلبه في كفيه ويقول «لا. هذا كبير.» أو لا هذا صغير «فيضيق صدرك وتقول» يا أخي العب. كله زهر وتستأنفان اللعب فتزهق روحك لأن صاحبك ممن يأبون إلا أن يقدروا كل احتمال، ويحسبوا كل حساب، ويحتاطوا لكل أمر، كأنما صار مصير العالم رهنا بهذه اللعبة، فينفد صبرك وتقول له «يا أخي العب» فيقول «حلمك يا سيدي.. بقى إن سحبنا هذا «القشاط»؟ من يدري؟ ربما ضربنا وعطلنا. طيب.. وإذا خرجنا فماذا يكون؟ والله هذا أحسن. أقول لك.. ننتظر ولا نخرج.. نسد عليه هنا.. لا والله.. الخروج أحسن.. لكن يمكن يساعده الحظ فماذا يكون العمل؟» وهكذا إلى غير نهاية.
وشر من هذا الذي يعقب على كل لعبة منك بالاستحسان أو الاستهجان ولا ينفك يقول لك «كان أولى أن تصنع كيت وكيت» فتقول «ومالك أنت؟ أنا المسئول عن لعبي وأنا الذي يخسر لا أنت» فيقول «لا يا سيدي، المسألة هي أن اللعب مع غير الحاذق لا لذة فيه».
وقد لا يكتفي بالتعليق والتعقيب، بل يحاول أن يلعب لك لعبك، ويردك عما تريد، أو ما تهم به، من تنقيل الحجارة على الوجه الذي يبدو لك، وينقلها هو لك على هواه وأولى بمثل هذا أن يلاعب نفسه، ولكن لذته هي أن يفرض عليك إرادته، مدعيا أن هذا هو ما يقضي به الفن، وأن الغيرة على الفن لا تسمح له بالتساهل، ويتركك تخلط وتغلط وتخالف الأصول.
وآه لو وقعت مع واحد من المبتدئين لا يزال يعد - ويشير أيضا - بإصبعه في كل لعبة. وآه وآه وآه - ثلاث آهات طويلة يمتد بها النفس إلى الليلة التالية من المغالط الذي يدعي أن الرقم خمسة وأربعة، على حين رأيته بعينيك ثلاثة وستة. ويزعم أنه جاء بالحجر من هنا وهو قد جاء به من آخر الدنيا، وتراه «أكل» أربعة، فتنظر إليه عاتبا فيبتسم، ولا يتلعثم، ويرفع بين إصبعيه حجرا ويقول لك «والله ما أكلت إلا واحدا فقط» فلا تستطيع أن تقول له إنه كاذب ويعييك أن تدرك الباعث على هذه السرقة في لعبة يراد بها التسلية وتزجية الوقت ليس إلا.
وأحيانا يحلو لصاحبك أن يمازحك. ولكن أي مزاح فيتلف لك أعصابك ويطير عقلك. لأنه يزيغ بصرك بكثرة عبثه «الظريف» ويا ويلك ممن يغضبه أن يرى نفسه مشفيا على الهزيمة فيعيث بيديه في الحجارة ويفسد نظامها وترتيبها، ويغلق الطاولة في وجهك، ثم يلويك ظهره أو جنبه، ويضع رجلا على رجل - أعني ساقا على ساق - وهو لا يبرطم بما لا يسرك أن تسمع، وقد ينهض ويتركك بلا كلام أو سلام.
ومن بلاء الطاولة أنها تجمع عليك الناس، ويندر أن يكونوا ممن تعرف، فتراهم قد التفوا بكما - والبعض جالس والبعض واقف ينظرون ولا يسكتون ليهون احتمالهم، بل يستجيدون أو لعبك يستضعفونه، بصوت مسموع، وقد يراهنون عليكما كأنما أنتما جوادان في ميدان السباق.
فتسمع أحدهم يقول «أنا أحط على هذا (ويشير إليك فما يعرف اسمك) ريالا. تجي يا ألفريد؟».
فتسمع ألفريد يقول «يكفي نصف ريال ...».
فيلتفت الأول إلى غيره ويقول «تجي يا جاك؟»
فيمط جاك بوزه ويقول: «لا ما يستاهل».
فتعلم أنك لا تساوي مليما في رأي جاك، وأنك من الجياد التي لا تستحق المخاطرة عليها بمال ولو قل.
ومن المستحيل أن يستطيع أحد أن يصف لعب الطاولة، وكيف كسب دورا أو خسره «ولكن بعضهم يتكلف ذلك ويحاوله ويقول لك كلاما لا يمكن أن تفهم منه شيئا، أو تعرف له مدلولا. وأمثال هذا ليس من سوى الإلحاح في المقاطعة، واللجاجة في إسكاتهم يما أقول أنا. يبدأ الواحد منهم وصفه الذي لا يصف شيئا فأشعر - سلفا - أن رأسي تحطم فأقول «اسمع.. حدث أمس شيء غريب».
فيقول «وبعد ذلك ضربته وهربت وسددت عليه..».
فأقاطعه وأقول «كنت راكبا الترام رقم 70 (وليس ثم ترام بهذا الرقم، ولكن هذا لا يهم لأن المراد هو أن أتكلم بأي كلام والسلام) فجاءت فتاة صغيرة لا شك أنها من تلميذات المدارس فقد كانت تحمل حقيبة..».
وأسكت لآخذ نفس، فيغتنم الفرصة ويقول «ثم يا سيدي بدأت الأكل.. أكلت.. أكلت..» فأعود إلى المقاطعة وأقول «وكان الترام مزدحما فوقفت لها لتجلس في مكاني.. الأدب واجب أليس كذلك».
فيقول «وظللت آكل حتى..».
فأسرع فأقول «فشكرتني برقة، الحقيقة إنها فتاة مؤدبة. هنا حدث شيء عجيب فقد وقف الترام في محطة اختيارية من غير أن يطلب أحد من الركاب ولا من الواقفين على الرصيف».
ويشعر هو أن لا فائدة في محاولة التغلب علي فيضطجع وينظر إلي شزرا، ويخرج سيجارة ويشعلها، ويروح يدخن غير ملتفت إلي، أو عابئ بي، ولكني لا أدعه يهملني مخافة أن يستأنف الوصف الذي قطعته عليه، فأقول «سامع؟ حدث شيء أغرب. سار الترام بسرعة ومررنا بمحطات كثيرة لم نقف عليها لا بل وقعنا فيها كلها، وأخيرا وصلنا إلى الموسكي.. أعني المغربلين.. بعد ربع ساعة من قيامنا.. أليس هذا جميلا؟ ما قولك؟ ألا تقول شيئا؟
فيقول «شيء بديع جدا».
فأقول «أشكرك.. ليلتك سعيدة».
فيقول وهو معبس «سعيدة».
وأنهض منصرفا وقد نجوت من الوصف.
كلا. لن ألاعب أحدا الطاولة. وإذا شاء إخواني أن ألقاهم فليكن في مكان لا طاولة فيه..
الفصل الحادي عشر
الأدب وتحصيله
عرفنا القراءة والإطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية؛ وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول إن مواردي كانت محدودة جدا؛ وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم. وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشا في اليوم.
وكان فريق منا يعني بأن يحضر دروس الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ سيد المرصفي، وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي - على خلاف ما كنت أريد - أن أدخل مدرسة المعلمين العليا، فكان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعرا ناضجا ذا مذهب في الأدب يدعو إليه، وكنت أنا مبتدئا، فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة ومن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي. وكانوا ينقدوننا في هذه المدرسة بضعة جنيهات في الشهر: ثلاثة في السنة الأولى، وأربعة في الثانية والثالثة، فكنت أقسم هذه الجنيهات قسمة عادلة، فأدفع للبيت نصفها وأستأثر بالنصف، وأذهب إلى مكتبة فأنتقي منها «مؤونة الشهر». وكنت أعود إلى البيت بهذا الحمل فتسألني أمي، «أنفقت فلوسك كلها! وتظل طول الشهر تقول لي: هاتي! هاتي أي تدبير هذا؟»
فأقول: «يا أمي.. لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولي مؤونتي من المتنبي والشريف الرضي والأغاني وهازليت وتاكري وديكنز وماكولي؛ ولا غنى بك عن سمنك وبصلك ولا بي عن هؤلاء؟»
فتبتسم وتقولي: «طيب..» وتدعو لي بالتوفيق.
وكنت أشتري ديوان الشعر ورقا، أعني بغير غلاف أو تجليد، ليتسنى لي حين أخرج من البيت أن أحمل معي ملزمة أو ملزمتين، أقرأ فيهما وأنا جالس في مقهى، أو إذ أتمشى على شاطئ النيل. وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب؛ وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نتفرق لا تدور إلا على ما نقرأ؛ وكان أحدنا يلقى صاحبه في الطريق اتفاقا فيقول له: «لقد عثرت على كتاب نفيس بغلاف فتعال نقرأه» لا يدعوه إلى طعام، أو شراب، أو سينما، أو لهو، بل إلى قراءة كتاب وكان كل من يقع على كتاب قيم يخف به إلى صاحبه فينبئه به ويلخصه له ويحضه على اقتنائه. وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين يحثوننا على التحصيل وييسرون لنا أسبابه، ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب «الرسمي» كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي؛ وغيرهما أيضا من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة.
وتزوجت وفي صباح ليلة الجلوة ودخلت مكتبتي ورددت الباب وأدرت عيني في رفوف الكتب، فراقني منها ديوان «شيللي» فتناولته وانحططت على كرسي وشرعت أقرأ ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني - في الحمام - وفي غرفة الاستقبال وفي «المنظرة - حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة لأني (عريس) جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح وكانت أمي في (الكرار) أو المخزن تعد مالا أدري لهذا الصباح السعيد فأنبأوها أني اختفيت كأنما انشقت الأرض فابتلعتني، وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟
فضحكت أمي وقالت: ليس في كل مكان - اذهبوا إلى المكتبة فإنه لا شك فيها.
فقالت حماتي وضربت على صدرها بكفها: في المكتبة؟ يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟
فقالت أمي بجزع، اسمعي.. كل ساعة من ساعات الليل والنهار وقت كتب.. افهمي هذا وأريحي نفسك، فإن كل محاولة لصرفه عن الكتب عبث.
فقالت حماتي: «لو كنت أعرف هذا ... مسكينة يا بنتي ... وقعت وكان ما كان».
فقالت أمي: «هل تكون مسكينة إذا وطدت نفسها على هذه المعرفة؟ ويحسن أن تكبحي لسانك، وأن تدعي الأمر لبنتك فإنه من شأنها».
فلم تكبح لسانها بل قالت: «لو كانت ضرة.. لكان أهون!»
فقالت أمي: (إنك حمقاء.. وليس في الأمر ما يحوج إلى هذا الهراء ... اذهبي إليه وناديه ...».
فارتدت إلي، وفتحت الباب علي، وكنت ذاهلا، فلما شعرت بالباب يفتح أزعجني ذلك، فأشرت إلى الداخل أن يرجع من غير أن أنظر إليه وكنت مقطبا وكان لساني يخرج أصواتا كهذه: «شش! شش».
فخرجت المسكينة وأغلقت الباب، وذهبت تقول لأمي والدموع تنحدر من عينيها إني طردتها وصحت بها: (هشش!) كما يصاح بالدجاج؟
وقد عرفت هذا كله فيما بعد فطردتها، لأني خفت أن تخرب لي البيت؛ ثم إني تزوجت بنتها، ولم أتزوجها هي، فما مقامها عندي ولها بيت طويل عريض وزوج كريم؟ وكان رأي بنتها فيها مثل رأيي، فلم يسؤها مني ما فعلت. وأراحنا الله من دوشتها ولكن زوجتي كانت تقول إلى آخر أيام حياتها رحمها الله: «ليس لي ضرة سوى هذه الكتب» - كانت تقولها مازحة، فقد راضت نفسها على احتمال هذا الجنون مني، واستطاعت أن تدرك أنه ليس لها ولا لسواها حيلة، وأن في الوسع صرفي عن أي شيء إلا عن الكتب والدرس. وياما أذكى المرأة!! تكون لها حاجة تريد مني قضاءها، وتخشى رفضي وعنادي، فتكتمها ولا تكاشفني بها، وتنتظر حتى تراني غارقا في كتاب، وذاهلا به عن الدنيا، وآية الذهول أن تدخل مرات فلا أشعر بها. فتقبل علي وتلاطفني وهي عارفة بما سيكون مني فأعبس، كما كانت تتوقع، فتقول كلمة واحدة.. لن أعطلك..».
فأقول متململا متأففا: «لا حول ولا قوة إلا بالله! قوليها يا ستي ولا تعطليني» فتطيل عامدة لتضجرني: كلمة واحدة بس.. لماذا تغضب هكذا؟ ألا يتسع صدرك لكلمة ليس إلا؟»
فأكاد أجن وأقول: «يا ستي قوليها، وأريحيني!»
فتقول: «المسألة الفلانية..».
وأنهض وأمضي بها إلى الباب وأنا أقول: اصنعي ما تشائين. كل ما بدا لك اصنعيه، ولكن لا تعطليني.. أنا محتاج لعقلي كله الآن.. ألا تفهمين؟ هذه نسخة مخطوطة، منسوخة.. من ديوان ابن الرومي.. نسخها حمار كلها غلط وتحريف وتصحيف.. ليس فيها بيت واحد له معنى. فكيف يمكن أن.أصلح غلطة واحدة إذا كنت تطيرين لي عقلي بالفساتين والخياطة والركامة..؟؟»
فتبتسم، فقد بلغت سؤلها، وتعدني أن تحرس هذا الباب فلا تترك أحدا يدخل منه أو يقربه.
ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه «الساسي» - اشتريته ورقا على عادتي، فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى، فأصلحها أو أتمم القصيدة - أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب، وكلما فرغت من جزء جلدته، وقد أصبح ضعف ما كان وهذا هو الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه، فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش، فلما بعت مكتبتي في سنة 1917 أو 1918 - لا أذكر - ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت علي بيعه، فما أستطيع أن أصنع الآن ما صنعته قديما، ولكن العناء الذي تكبدته نفعني، فقد أحوجني إلى مراجعات لا آخر لها، وأطلعني على ما كنت خليقا أن أخطئه فيفوتني العلم به.
وأنا مع ذلك أقل الثلاثة - العقاد وشكري - إطلاعا وصبرا على التحصيل. وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما.
الفصل الثاني عشر
هل كانت أسعد لحظة «ذكرى لا يخلو السرور بها من عرق من الأسى والأسف..!»
من الصعب أن يقول المرء إن هذا اليوم، أو هذا الحادث، كان أسعد يوم أو حادث في حياته، لأن الشعور بالرضى، والسكينة، والاغتباط - وذلك غاية ما يحق للمرء أن يطمع فيه - ليس رهنا بما يتفق أن يقع للإنسان، ليس إلا، بل كذلك بنوع تلقينا له، وبحالة العقل، والنفس، والإرادة، فالمسألة في الحقيقة نفيسة. وما من شيء بمجرده يعد خيرا أو شرا في ذاته، وإنما يكون كذلك بأن يدخل في نسيج حياتنا العقلية، وبأن يأخذ لون مزاجنا ونزعتنا، وبأن تطبعه الإرادة بطابعها.
وكثيرا ما تكون ذكرى الشيء أبعث منه على الرضى أو السخط، لأنك حين تلقى ما تلقى، تشغل به، ولكنك بعد ذلك تكون في فسحة من أمرك، فتستطيع أن تحضر إلى نفسك، ما كان على مهل، وأن توحي إليها أيضا، أو تعمق هذا الشعور، إذ ذاك. مثال ذلك أن يشتد بك الظمأ، والوجد بالماء، حتى إذا وجدت الماء كرعت منه كرعة روية، ولا هم لك إلا إطفاء الحرقة، ثم تتذكر بعد ذلك بقليل أو كثير كيف جف لسانك، وعصب ريقك، وكيف كانت لهفتك على قطرات، وكيف كان الشراب البارد في فمك، وكيف تشهدت، ورضيت، وحمدت الله!
وأنا ذاكر في هذه الكلمة حادثا لا يزال مائلا حاضرا، بعد أن مضى أكثر من أربعين عاما، وكنت يومئذ طفلا في العاشرة أو الحادية عشرة، وكانت عادتنا أن نقضي إجازة المدرسة - في الصيف - في بيت جدي لأمي في حي الإمام الليث بن سعد، وعلى مقربة من «عين الصيرة».. وكان جارنا له بنا صلة قرابة، وكان أنيقا رقيق الحاشية، وفي سعة من الرزق، وكانت امرأته كريمة، وكان لها «فنوغراف» من الطراز القديم - وكان جديدا يومئذ - فكنت أذهب إلى بيتها، وأجلس أمام البوق كما يجلس في الصورة «الكلب» يسمع صوت سيدة! فأسمع غناء عبد الحامولي، وعثمان، والشيخ يوسف المنيلاوي وغيرهم.
ودعانى جارنا هذا يوما إليه، وقال إنه سيأخذنى معه إلى رحلة قصيرة إلى بلدته، وأمرنى أن أستأذن أمى، فأذنت، ولفت لى «جلابية» فى ورقة.
وأوجز فأقول إننا ذهبنا إلى البلدة - وهي في مركز طنطا - وتغدينا عند العمدة، وألح الرجل أن نقضي الليلة عنده، وأصر الشيخ الشاب الذي صاحبته أن يعود إلى طنطا، فعدنا بعد العشاء بقليل، والعمدة والخفراء معنا وحولنا، وكان الشيخ يمتطي جوادا، وأنا على ظهر حمار هزيل. واعترضنا قناة ضيقة، فتخطاها قريبنا بسهولة، وما كاد يفعل حتى أصابه طلقان، فأردياه على المكان.
وأوجز مرة أخرى فأقول إن التحقيق لم يسفر عن شيء سوى أن الفاعل مجهول! ولكن قريبنا القتيل كان ابن شيخ جليل من المتصوفة، فتناولت الصحف الموضوع - جريدة الظاهر تهاجم، وجريدة المؤيد تدافع. وعاد البوليس يجد في البحث، والعمدة معه، فضبطت بندقيتان مطمورتان في مكان الحادثة، ووجد اسم أحد الأعيان محفورا عليهما، فاستؤنف التحقيق، وقدم هذا العين واثنان من رجاله إلى المحاكمة.
وذهبنا جميعا إلى طنطا - الشيخ الصوفي الجليل وآله ومريدوه، وأنا معهم ونزلنا في بيت (الليثية) وهو قريب من المسجد الأحمدي، وهو بيت كان له شأن غريب في ذلك الزمان. فقد أوقفه صاحبه (الليثية) أي المتصوفة من أتباع الشيخ الليثي - نسبة إلى الإمام الليث بن سعد - فإذا احتفل بمولد السيد أحمد البدوي، فتح البيت على مصراعيه لليثية ولكل طارق.. يتلون القرآن، ويقيمون الأذكار، ويقرأون الأوراد - وقد حفظت من ذلك كثيرا - ويأكلون وينامون، والخير كثير، ولا يعلم أحد من أين يجيء، والبركة في المحبين والمريدين.
وذهبنا إلى المحكمة، وتخلف الشيخ الكبير في مقهى قريب من البيت، وكانت الدائرة برئاسة قاسم أمين بك، وكان يتولى الدفاع إبراهيم الهلباوي بك، وكان وكيل المدعي بالحق المدني أحمد عبد اللطيف بك، وكانت هذه أول مرة أرى فيها هؤلاء الثلاثة الفحول.
وصدر الحكم بالأشغال الشاقة على العين ورجليه، وبألف جنيه. ونهض قاسم بك وزميلاه، وإذا بأحد الرجلين يضرب عمامة العين ويصيح: (كده خربت بيتنا؟) فابتسم قاسم بك!
وقفزت من النافذة؛ فقد كان الزحام شديدا، وذهبت أعدو إلى الشيخ لأبلغه وأهنئه، ويظهر أنه كان يتوقع ما كان، فقد أعد طشوتا أذاب فيها السكر مع الماورد، وجاء صاحب المقهى بالأكواب من كل صنف وحجم، وتوليت أنا أن أسقي الناس هذا السكر، وكنت أصيح بكل عابر وأدعوه أن يشرب. وكلما فرغ طشت جئت بغيره!
ومازلت أذكر فرحتي يومئذ. ولو أن أحدا سألني وأنا واقف على رصيف المقهى أملأ الأكواب وأقدمها إلى الناس، ولا أكاد أستقر على قدمي، عن سبب فرحي، لكان الأرجح أن أعيا بالجواب. ولكني أعلم الآن أنها كانت فرحة امتزج فيها الحزن على القتيل، بالاغتباط بإمضاء حكم العدل في الجناة، وباشتفاء النفس بفضل القضاء بعد طول اليأس قبل الاهتداء إلى القتلة.
فهي ذكرى - كما ترى - لا يخلو السرور بها من عرق من الأسى والأسف، ولعل كل شعوري بالسعادة كذلك - مزيج من عناصر شتى بعضها أقوى من بعض!
والله، وغيري، أعلم.
الفصل الثالث عشر
ظمأ النفس إلى المعرفة
من ديوان المازني
أحس كأن الدهر عمري وأنني
أخو مغرق الأرضين بالفيضان
أقلب طرفي في السماء كطرفه
وأرصد ما رعاه قبل زماني
كلانا على بعد المسافة بيننا
تلاقى على ألحاظه القمران
وأقرأ في صحف السماوات أسطرا
منهن دنا خفاقة اللمعان
تخذت فضاء الله مثوى لخاطري
ليشرد في الدنيا بغير عنان
يمر به مر البروق وينثني
وقد جهدته حدة الطيران
أعالج سرا لا يماط حجابه
ومأرب قلبي ذلكم وجناني
وسعت لغات الريح والبحر خبرة
وكل شهاب لامع الخفقان
ولكنه ما خير علمي وكلها
ضموم على السر المغيب حاني
سئمت شرود الفكر في غامض الفضا
وهيض جناحاه من النهضان
وعادت إلى النفس مهدودة، القوى
تئن من الإسفاف والشولان
تحن إلى ظل من الرخووارف
وطول جمام رافه وليان
ومن لي بأن لا ترفع العين لحظها
ولا تجتلي في الناس أي هوان
غرضت بملك واسع لا يحده
سوى أفق دان وليس بدان
أروني قيدا يعرق الجسم مسه
ويضوي كأضلاع على حوان
الفصل الرابع عشر
الإيحاء والسرقة الأدبية
أبدأ بسؤالي عن الإيحاء ما هو؟..
وسأحاول تبسيط الجواب واجتناب العبارات العلمية التي لا تساغ. فلا يؤاخذني العلماء الأجلاء فإني لست منهم وكلامي ليس موجها إليهم فإن بهم غنى عنه. وأقول بإيجاز السؤال إن كل حركة مبعثها الإرادة وإن الإرادة تؤدي إلى بذل الإنسان لجهود يشعر بها ويدرك مداها، والغاية منها، أو لا يشعر ولا يدرك، فإذا كان الباعث على هذا المجهود مصدره النفس، كانت الإرادة شخصية، أما إذا كان المجهود مبعثه إرادة شخص آخر، أو بعبارة أخرى إذا جعل الإنسان نفسه طوع إرادة غيره وهن عقله أو عواطفه ففي هذه الحالة يقال أن أعماله موحى بها إليه أو أنه يعمل أو يفكر أو يحس بتأثير الإيحاء من الغير.
وأوضح مظهر للإيحاء هو التنويم المغناطيسي. وبعض الناس طبيعته «هستيرية» فيسهل تنويمه، أي التأثير في أعصابه وإخضاعها لإرادة الموحي أو المنوم. ولا أدري هل جرب أحد من القراء التنويم أو لم يجربه، ولكني أذكر بعض ما اتفق لي في هذا الباب بمحض المصادفة، فإني لا أشغل نفسي بهذا.
كان عندي خادم، وكان بيتي يومئذ في الصحراء، فحدث يوما أن كنت نازلا لأخرج وكان شيء يشغلني - لا أذكر الآن ماذا كان - فوقفت على رأس السلم وأنا شارد الذهن ويدي على الدرابزين وعيني تحدق في لا شيء - وأقول على الهامش إن لفظ الدرابزين صحيح وليس عاميا - ويظهر أن حملاق العين كان ثابتا والنظرة قوية أو حادة. وكان الخادم واقفا على باب غرفته، ولكني لم أكن أرى سوى شبحه من فرط ذهولي واستغراق خواطري، وإذا بي أرى هذا الشبح يتمايل، ويهم بالسقوط فتنبهت وأسرعت فانحدرت إليه لإدراكه وسألته: مالك؟ مريض؟.. فلما استطاع أن يتكلم قال إني كنت أنظر إليه فدار رأسه وغامت الدنيا في عينه.
ولم أكن أنظر إليه ولكن عيني على ما يظهر كانت واقعة في عينه، وكانت النظرة ثابتة حادة. فمضيت وأنا أفكر في هذا، وتذكرت حوادث كثيرة من هذا القبيل جرت لي. منها أن زوجتي دخلت علي مرة وأنا مضطجع أفكر فوقفت أمامي لحظة وأنا من ذهولي لا أراها. ثم خرجت مضطربة فزعة تقول إني «أزغر» لها. ومنها أن تلاميذ لي - أيام كنت مدرسا - كانوا إذا بادلتهم النظر لا يطرفون ولا يستطيعون أن يحولوا عيونهم عني. ومنها أن فتاة من أقربائي صاحت بي مرة «لا تنظر إلي هكذا فإني خائفة». وما كنت أراها وأنا قاعد ولا كان نظري إليها فيما أعرف أو أشعر.
وأوجز فأقول أنه خطر لي أن هذا الخادم يسهل تنويمه وإن كنت لا أعرف عن التنويم إلا ما قرأت عنه في الكتب. وقد كان.. نام الخادم فقلت له: «لا تقم من النوم إلا بعد صلاة الجمعة» وتركته وخرجت، وتوخيت أن أرجع بعد الصلاة مباشرة، فإذا به يفرك عينيه ويقوم متثائبا وينهض في فتور. وسألت عنه فقيل لي إنه كان نائما فتركوه.
فقلت أجرب تجربة أخرى. فأمرته وهو نائم أن يذهب في ساعة معينة بعد ثلاثة أيام إلى مكتبي في الجريدة التي كنت أعمل فيها ويفتح الدرج الثالث من اليمين ويجيئني بكل ما فيه من الورق ولما كان مفتاح المكتب في جيبي فإن عليه أن يأخذه من جيبي قبل الذهاب. وفي اليوم الثالث وقبيل الساعة المعينة أخذ المفتاح واختفى ثم عاد وألقى إلي بالورق. وكان غبيا فلما أبديت له الاستغراب وألححت عليه بالأسئلة اعترف لي بكل ما فعل ولم يستطع أن يعلل إقدامه على ذلك وراح يبكي ويسألني الصفح فأغضيت فما له ذنب. وكنت قد قرأت أن مجرد التلميح يكفي في الإيحاء إلى النائم، وأنه ليس من الضروري أن يتخذ الإيحاء صيغة الأمر الصريح، وأنه يكفي أن تظهر أمرارات السرور فإذا بالنائم يشرق وجهه، أو تبدى الحزن فإذا هو يبكي أو تنقبض أسارير وجهه . فقلت أجرب هذا ما دامت الفرصة قد أتيحت لي. فنومته مرة وناولته كوب ماء - كما قرأت في الكتاب تماما - وقلت له اشرب هذا النبيذ فبدت عليه دلائل السكر وغن كان لم يشرب إلا ماء قراحا.
ثم خفت على نفسي أن تغرني هذه السطوة ويغريني سلطاني على هذا المسكين بما لا يحسن فاستغنيت عنه وكففت عن هذه التجارب التي تغري بالاسترسال فيها. واجتنبت أن «أزغر» لأحد!!
وقد شهدت بعد ذلك تجارب خاصة أجراها أمامي منومون مشهورون بعضها من الدجل الصريح الذي يجوز على الجماهير الساذجة، ولكن بعضها من المعقول الذي يسهل تعليله، فأما ما هو من الدجل فمثل الإنباء بالمستقبل والعلم بالغيب، وأما ما هو من الحقائق فمن أمثلته أن تكتب كلمة فيأمر الموحي وسيطه أن يقرأ ما في الورقة وهو غير ناظر إليها. وتفسير ذلك أن الموحي يطلع على ما في الورقة ويوحي ما فيها إلى الوسيط النائم فينطق بما أوحي إليه وأن كان لا يرى شيئا.
وقد ذكرت هذا كله على سبيل التمثيل للإيحاء في أوضح الصور وأجلى الحالات والآن ما هو تعليل الإيحاء.. وكيف يحدث؟ ما الذي يجعل إنسانا يتأثر بإرادة إنسان آخر فيحاكي فعله وقوله ويحس مثل عواطفه وتدور في نفسه نظائر لخوالجه؟ وهذا بحث غيري من علماء النفس أو سواهم أقدر عليه، وأنا «لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء» كما يقول الشاعر. ولكني مع ذلك لا أخشى الخطأ لأني في هذا الشرح ناقل لا أكثر ولا أقل. والعلماء يقولون إن الإيحاء هو نقل ذرات الحركة التي تحصل في ذهن إلى ذهن آخر. وشبيه بذلك أن يكون هناك سلكان متقاربان مشدودان فإذا أحدثت في أحدهما هزة انتقلت الهزات إلى السلك المجاور. ولاشك أن الهزات في السلك الذي كان ساكنا تكون أضعف منها في السلك الآخر الذي صدرت عنه الهزات ولكن المهم الذي يعنينا هو أن الاختلاجات الحاصلة في سلك تسري إلى السلك الآخر. ونظير هذا أيضا أن يكون قضيب من الحديد محميا. وآخر إلى جانبه ولكنه بارد لم تمسسه النار فإذا كانا متجاورين لم تلبث الحرارة التي في القضيب المحمي أن تنتقل إلى القضيب البارد. وانتقال الحرارة هنا معناه انتقال حركة الذرات. فالذي يحدث هو أن حركة الذرات في جسم تنتقل إلى جسم آخر فتصبح حركتها فيه مشابهة لحركتها في الجسم الذي انتقلت منه. ولما كانت الآراء والخواطر والإحساسات والعواطف والخوالج على العموم عبارة عن حركات لذرات الذهن فإن انتقال هذه الحركات إلى رأس آخر يؤدي حتما إلى انتقال الآراء أو الخوالج التي تكونها هذه الحركات.
وأنا آسف لاضطراري إلى التقيد - ولو إلى حد ما بما يشبه لغة العلماء - فليس أثقل منها وإن كنا نجلهم ونعرف لهم قدرهم ولا نغمطهم حقهم أو نبخسهم فضلهم علينا. وسأحاول أن أجعل لغتي أبعد ما تكون عن لغتهم وأقرب شيء إلى الكلام العادي. فأقول إننا معشر المخلوقات ليس لنا إلا وسيلة واحدة للإعراب والإفصاح عما يدور في نفوسنا من الآراء أو الإحساسات أو الخوالج وتلك الوسيلة هي الحركة. وأعني بالحركة كل شيء. فاختلاج الجفن حركة، وكذلك تحرك الشفة، وتقبض الوجه عند الغضب أو الحزن، واتساع الشدقين عند الضحك والإطراق، والسهوم، والتنهد، ونظرة العين، كل هذه وما إليها حركات. وهي مظهر ما يدور في نفوسنا. وقد ألفنا هذه الحركات واعتدنا أن نستدل بها على ما في النفس، فإذا رأينا رجلا تجهم وجهه، وانزوى ما بين عينيه. وتقبضت كفه، وارتفعت ذراعه أدركنا أنه مغيظ وأنه يهم أو يحدث نفسه بضرب إنسان آخر. وإذا رأينا إنسانا يرتج من الضحك علمنا أنه مسرور وإذا رأينا آخر مطرقا يتنهد فمهنا أنه محزون، أو أنه يفكر في أمر يثقل على نفسه ولا يسره.
وإذا رأينا واحدا يتثاءب أدركنا أن به كسلا. وهذه كلها حركات طبيعية أي أنها تقترن دائما ببواعثها بحكم التكوين الإنساني وهناك حركات أخرى رمزية تواضع عليها الناس وألفوا أن يقرنوها بمعاني معينة. مثال ذلك هز الرأس من فوق إلى تحت، معناه الموافقة، وهزها من اليمين إلى الشمال، يكون معناه الرفض أو الأسف أو التعجب حسب الأحوال. الإشارة بالأصبع معناها «تعال» واللغة من الحركات الرمزية المتواضع عليها للدلالة على المراد. وكل حركة ذرية في الرأس تؤدي إلى حركة عضلية ولو ضئيلة. وهذه الحركات العضلية يتلقاها الغير بواسطة الحواس - بالعين أو السمع أو اللمس - فأنا مثلا حينما أرى رجلا يضحك أرسل هذه الصورة التي رأتها عيني إلى رأسي لتترجم هنا، ومعنى ترجمتها أن تنشط بعض المراكز التي في رأسي لتحويل هذه الصورة التي تلقتها عيني إلى فكرة فتحدث عندي في رأسي، نفس الحركة الذرية التي حصلت في رأس الضاحك، ولكن قوتها أو ضعفها يرجع الأمر فيهما إلى أحوال كثيرة لا داعي للخوض فيها وهكذا تنتقل حالة إنسان على إنسان آخر أو هكذا يحصل الإيحاء.
ولكي يتيسر أن تنتقل الحركة من ذهن إلى آخر وتتكرر فيه بشيء من القوة ينبغي ألا يكون هذا الذهن الآخر مشغولا بما يمنع التأثر. ولنعد إلى مثال السلكين فنقول إن اهتزازات أحدهما لا تنتقل إلى السلك الثاني إذا كان السلك الثاني أقوى أو كان يهتز بعنف، فلا يستطيع أن يتلقى اهتزاز سواه ويتقبله. ونطبق هذا على الإنسان فنقول إن الذهن الضعيف، أو الذي يعاني ضعفا طارئا يكون أشد استعدادا للتأثر بذهن غيره من الذهن القوي.
ولذلك لا يمكن أن تجد وسيطا لمنوم من أصحاب الإرادة القوية، أو الشخصية المستقلة، لأن قوة الإرادة أو شدة النزعة إلى الاستقلال، والاحتفاظ به! تمنع أن يتيسر التسلط عليه من الغير. وقوة الشخصية أو الإرادة، ونشاط الحركة العقلية وقوتها تؤدي إلى المقاومة. على أن الكثرة تغلب الشجاعة، كما يقول المثل، فقد يكون المرء قويا ناضج العقل، مثقفه جدا، ويكون ماضي الإرادة شديد الشكيمة ولكن الضعف المجتمع يغلبه، وكم من مرة عجز الأقوياء عن مقاومة الجماهير. وهي أضعف منهم وأقل فهما!! بل كم من مرة اضطر صاحب الإرادة القوية والذهن الخصيب النشيط أن يخضع للجماهير المؤلفة من الضعفاء المهازيل الذين لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه أمام ذلك القوي الذي يهزمونه بجمعهم، أي بالضعف المضموم إلى الضعف، ولهذا كانت روح الجمهور أقوى من روح الفرد، إلا إذا وسع الفرد أن يحولها بغير المقاومة الصريحة ولن يستطيع تحويل جمهور مصمم على شيء، إلا إذا أبدى له المسايرة، وحمله على الاطمئنان أولا. والاطمئنان معناه ترك التفكير في المقاومة، وعدم التحفز لها، ثم بعد أن يغريها بالاطمئنان، يشرع في تحويلها عن وجهتها، شيئا فشيئا، ومن حيث لا تشعر إلى الوجهة التي يريدها هو. وأبدع مثال لذلك خطبة أنطونيو على جثة قيصر في رواية شكسبير، وكان قيصر قد قتل - قتله لفيف من المتآمرين على رأسهم بروتوس، وصار الشعب معهم، فجاء أنطونيو، والتمس من بروتوس أن يأذن له في تأبين قيصر، فأذن وكان الشعب مع القتلة المتآمرين، لأنهم استطاعوا أن يوسوسوا إليه ويخدعوه، فوقف أنطونيو في هذا الحشد المتنمر، وشرع يطمئنهم، ويقول إنه جاء ليدفن قيصر لا ليرثيه، وإن الخير الذي يصنعه الإنسان يدفن معه، وإن الشر هو الذي يحيا بعده، ومدح بروتوس القاتل، وأثنى عليه، ثم تدرج من ذلك إلى التلميح بحسنات قيصر، وكان كلما ذكر طرفا مما أحسن به قيصر إلى الشعب خاصة، يعرج على بروتوس القاتل ويقول إنه رجل شريف، يعني أنه لا يسعه إلا أن يصدقه، وإن كانت الحقائق تشهد بأنه كاذب. وهكذا راح يوحي إلى الشعب الاطمئنان إليه، أولا، ثم الشك في صدق قتله قيصر، حتى وسعه أخيرا أن يصارح الحشد الذي يستمع إليه بلعنة القتلة والتحريض عليهم، فانقلبت الجماهير وثارت على القتلة، بعد أن كانت تؤيدهم وتنصرهم على جماعة قيصر.
ولو أن أنطونيو صدم هذه الجماهير من أول الأمر برأيه السيئ في بروتوس وإخوانه لما أجدت عليه فصاحته وذلاقة لسانه، ولكان المحقق أن يلحقوه بقيصر، أي أن يقتلوه. وهذه من براعات شكسبير وآياته الخالدة الناطقة بدقة فطنته إلى نفيسة الجماهير ووسائل الإيحاء إليها.
وليس من الضروري أن يكون المرء ضعيفا، ليتأثر بغيره، ويتقبل الإيحاء فإن المعول في الحقيقة على الحالة النفسية التي يكون فيها الإنسان، والتي تساعد على تقبل الإيحاء، أي على التأثر بالغير. وفي كل إنسان جانب ضعف وكل نفس تعتريها حالات من الفتور، أو الكسل، أو التهافت أو غير ذلك. وما أكثر الأقوياء الذين يؤثر فيهم من هم دونهم قوة وذكاء إذا عرف هؤلاء الوسيلة التي يملكون بها أذن الرجل القوي، ويستولون بها على هواه، أي إذا فطنوا إلى موضع الضعف في نفسه، وعرفوا كيف يستغلونه والمثل العامي يقول «الدوى على الأودان أمر من السحر» وليس بالنادر أن ترى ضعيفا هزيلا يهتدي إلى موطن الضعف من الرجل القوي، ويتمكن بذلك من أذنه، ثم يروح ينفث فيها ما يشاء ويلح به حتى يبلغ هواه. وما هي الشهرة؟ أهي أكثر من إيحاء الاسم إلى الناس أي أن تظل تدق الطبل وتقرعه بهذا الاسم حتى يتقرر في الأذهان ويثبت ويبرز ويصبح ماثلا أبدا أمام الناس؟ ويندر أن يعرف الناس نوع الفضل الذي استحق الشهرة - والكلام هنا على السواد لا على الخاصة وكل ما يعرفونه أن هذا الاسم يصافح أسماعهم كل صباح وكل مساء فصاحبه لابد أن يكون عظيما، حتى تلهج به الألسنة على هذا النحو. والإنسان يعتريه الفتور على الرغم من قوته، والكسل وإن كان نشاطه موفورا في العادة، فيكون في هذه الحالات - حالات الفتور أو الكسل - قابلا للتأثر الشديد بغيره، والانقياد له. على أن الإيحاء يكون خفيا، كما يكون ظاهرا، وفي كل شيء، جل أو دق. وفي وسع المرء أن يقول، بلا تحرز، إن كل إنسان يتأثر على الدوام، وبغير انقطاع بغيره من الناس، سواء أكان يشعر بذلك أم كان لا يفطن إليه. بل هو يتأثر بالأشياء تأثره بالناس، وليس الإيحاء الذي يفطن إليه المرء بأهم من الإيحاء الذي يحصل من غير أن يشعر به الإنسان بل هو إذا شعر بالإيحاء، جدير أن يحاول المقاومة. والإيحاء هو قوام الحياة في الواقع، فما يستطيع الإنسان أن يعيش غير متأثر بما حوله، ومن حوله. من الأشياء والناس، ولو كان أنبغ النوابغ وأعظم العظماء وما هو تأثير ما يسمى البيئة، أي الوسط الذي يعيش فيه الإنسان؟ هو إيحاء هذه البيئة .. وما هو التعليم والتربية.. هما إيحاء المعلم والمربي. وكل إنسان يصاغ له عقله في صغره، وتطبع نفسه إلى حد كبير على هوى المعلم والمربي، في المدرسة وفي البيت. وما هي القدوة الحسنة أو السيئة؟؟ هي إيحاء سيرة معينة أو سلوك. فالمرء في الحقيقة ليس إلا ثمرة الإيحاء. الظاهر والخفي، ومن حيث يشعر ولا يشعر. والذي يستطيع أن يزعم بحق أنه لم يتأثر في حياته بشيء أو إنسان في سلوكه، وفي طريقة تلقيه للحياة، وتأثره بوقعها، وفي تفكيره وفي عواطفه، وتكوينها وتغذيتها - هذا لم يخلقه الله، لأن الله سبحانه جعل الإيحاء من قواعد الحياة وسننها التي لا تتعطل ولا تبطل في حال من الأحوال.
وما هو الروح العام في أيه أمة؟ وما هي الخصائص القومية في الشعوب؟ إن الحياة قائمة على التغير والتحول، لأن الركود والثبات على حالة واحدة لا سبيل إليه في الحياة «إذ كانت الحياة معناها الحركة. والحركة انتقال وتحول، حتى الموت نفسه ليس إلا مظهرا من مظاهر التغير والتحول، وهو يؤدي إلى تغير آخر لا ينتهي، فالروح العام في الأمة لا يكون في كل العصور على حالة واحدة والخصائص القومية تتغير جيلا بعد جيل إلى حد كبير. وأقول إلى حد كبير لأن لكل بلد طبيعته وأثر هذه الطبيعة في النفوس ولماذا يتغير الروح القومي وتختلف الخصائص العامة؟؟ لأن رجالا يظهرون فيوحون إلى الأمة الروح الجديد ويوجهون النفوس الوجهة التي يبغونها، فإذا كان هؤلاء القادة أهل فضيلة وبطولة صار الشعب أمة من الأبطال، وإذا كانوا رجال سوء وعيارين فساقا فسدت الأخلاق، وإذا كانوا أهل إخلاص وأصحاب مثل عليا، رفعوا الشعب معهم ذلك أن الرجل العظيم - وفي الناس العظيم في الخير كما أن فيهم العظيم في الشر - يجعل الأمم التي يظهر فيها صورة منه ويوحي إليها آراءه وعواطفه ونزعاته وأساليب تفكيره، فإذا كانت الأمة طينتها قوية تلقت الإيحاء بقوة، وإذا كانت ضعيفة تلقته بفتور، ويعجبني قول بعضهم إن الفرق بين الأمم كالفرق بين آلة قوتها ألف حصان وآلة أخرى قوتها حصان واحد. فأما الأمة التي تشبه الآلة التي قوتها ألف حصان فإن العظيم يستطيع أن يصنع بها المعجزات، ولكن ماذا يصنع بأمة كالآلة التي قوتها حصان واحد؟؟
والآن ننتقل إلى الأدب فأقول لاحظوا أن الأديب يدرس بشغف، وأن موضوع درسه يستغرقه، والأثر الذي يخلفه درسه لا يمكن إلا أن يكون عميقا، وإن كان هو لا يحس ذلك ولا يفطن إليه، أو لا يجعل باله إليه. وعقل الإنسان لا يكف عن العمل في ليل أو نهار، ولا تنقطع حركته، في يقظة أو منام، وليس ما يبدو أو ما نحسه من عمله، هو كل عمله، فإن عمله الخفي أكثر، ولعله أعظم من عمله الظاهر الواضح، وهذا الذي يحصله الأديب يختلط في رأسه بما فيه، ويتزاوج معه، ويتولد من هذا التزاوج والاختلاط ما يبدو جديدا، ولكنه في الحقيقة مولد، ولو أمكن أن نتتبع الحركة العقلية التي أثمرت ذلك لعرفنا نسب المعاني والآراء والإحساسات والخوالج المختلفة، ولظهرت لنا الشجرة كلها بأصولها وفروعها وأوراقها وثمارها ولحائها أيضا. ولكن الحركة خفية ومعقدة، فلا سبيل إلى هذا العلم بنسب الخواطر والإحساسات وما إليها، أريد أن أقول إن من الخطأ أن يتوهم أحد أن ما ينشأ في النفس من الخواطر والخوالج وما يحصل من الصور مبتكر، أو أنه شيء خلقته النفس خلقا وابتدعته من عندها وحدها، وبلا معونة من غيرها وإنما هو مولد فيها، ونسبه لو أمكن أن يعرف ينتمي إلى ما تلقته النفس من الخارج: ويحدث كثيرا أن يخطر للمرء شيء فجأة بلا مناسبة ظاهرة ومن غير أن يشعر أن ذهنه يجري في هذا المجرى أو يتجه إلى هذه الناحية، وتراه يعبر عن ذلك بقوله أنه ألهم شيئا، ولكنه لم يلهم وإنما كان الخاطر المفاجئ الذي لا تبدو له صلة بشيء معروف، وليد حركة طويلة، لا يحسها هو وإن كان عدم الإحساس لا يمنع وجودها. ويحدث في بعض الأحيان أن يطفو على السطح خاطر أو صورة أو خالجة أو نحو ذلك وتكون مما قرأ الإنسان أو سمع ولكنه لا يدري. لأن الذاكرة لا تحتفظ في الحقيقة إلا بالأقل، أما الأكثر فتلقي به فيما وراء الوعي. والقاؤه فيما وراء الوعي ليس معناه ضياعه، فإنه يطفو لأسباب تخفى علينا ولا سلطان لنا نحن عليها. وقد نعرف أنه هو الذي كان غائبا عنا، وهذا هو التذكر، وقد يخفى علينا ذلك ويختلط الأمر فنحسب أن هذا الذي طفا نتيجة جهدنا العقلي، فيقال سرق لكن السرقة غير مقصودة وإنما جاءت عفوا بلا عمد.
على أنه يحدث أحيانا أن يستبد المعنى أو الفكر بالخاطر، وتستولي عليه وتتسلط كما تتسلط إرادة رجل على آخر وتتحكم فيه، فلا يعود يملك أن يخرج عنها، أو يهرب منها، وقد يدرك أن فكرة غيره أسرته واستبدت به، أو لا يدرك، فأن المهم هو هذا الأسر، فيحصل ما يسمى السطو، وترى الشاعر أو الكاتب أخذ المعنى الذي هو لغيره وأدخله في كلامه. وهذا السطو لا ينفي أن الذي أخذ قادر على ابتداع معنى كالمعنى الذي أخذه، وإنما معناه أن المعنى استبد به فلم يستطع أن يتحول عنه أو يتخلص من أسره نفيه. ومؤدى هذا الكلام أن السرقة الأدبية إذا لم تكن من معابثة الذاكرة فهي من نتيجة الإيحاء، سواء أكان الإيحاء خفيفا أو قويا، وظاهرا أو خفيا ولا يستغرب أحد أن يكون في عالم الأدب إيحاء من القوة بحيث يشبه التنويم المغناطيسي، فما أعرف ما يمنع ذلك. ولست أحب أن أكون قاضيا يحكم، وإنما أنا مفسر، فهذا تفسيري أو تعليلي للسرقة الأدبية وأحب أن يكون مفهوما أن هذا التفسير لا يدخل فيه عمل الذين يتعمدون السطو على آثار غيرهم ليغشوا الناس ويزعموا أنفسهم أدباء، فإن هذا عبث صبيان، إنما أتكلم عمن لا يعجزهم أن يبتكروا ما هو أرفع مما أخذوا أو اقتبسوا أو علق بأذهانهم. أو على الأقل مثله.
الفصل الخامس عشر
قرائي الذين يحبونني
لكل كاتب قراؤه. وما من كاتب يعدم قارئا من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست أعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني أعرف أن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي أطلبه والمعرفة التي أشتهيها. وما أكثر ما قلت لنفسي إن الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. - أوه جدا - فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعا من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء أن الجاحظ مثلا كان يلقى في الطريق واحدا يتقدم إليه ويقول له: «اسمح لي.. هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟»
فيهز رأسه أن «نعم» وهو واجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة.
فيقول الرجل: «لقد صدقوا.. أعني أن اسمه في محله.. على كل حال.. ثابر يا بني!.. فإني أتنبأ لك بمستقبل باهر..».
ويربت على كتفه ويمضي عنه مبتسما، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظا بمكانه على يمينه؛ مرهف الأذن مقيما سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة - حسنة التبرع الكريم بالتشجيع.
وإذا كانت الرسائل التي ترد إلى دليلا على شيء فإني أكون أحب الناس - أعني الكتاب - إلى ثلاث طبقات: - المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة.. لا بأس من يدري؟.. ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلى البريد، كما قلت. وهذا نموذج منها: «... وبعد فإني لم أسمع باسمك من قبل، ولكن مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتابا أتسلى به، غير أني لم أستطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض. فلما خف قليلا مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد لك أنه سرني جدا. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها - ومعها جملة ثمنها - استعدادا للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله.
وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك».
وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم أنه إذا صح وسلم كان خليقا ألا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟.. هذه هي المسألة - كما يقول هملت - وليس ذنبي أن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف أن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل «الحانوتي» الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسرورا على أهل بيتي وأقول لزوجتي: «خذي يا امرأة.. (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وأنفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر».
فتعجب وتسألني: «ماذا جرى؟ هل ربحت ورقة يانصيب؟»
فأقول منكرا عليها هذا الخاطر: «وهل مثلي يعني بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!»
فتقول ضاحكة: «ولكن ألا تخبرني؟.. إنني أكاد أموت شوقا إلى المعرفة».
فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته: «خذي واقرئي، واشكري الله، وقبلي يدك بطنا وظهرا، فلن نجوع أن نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة.. رفعوها ورقوها ووسعوها.. أليس هذا باعثا قويا على الاطمئنان والثقة بالله؟» •••
وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصا واحدا - على ما يظهر لي الآن - هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتابا يذكر لي فيه انه سمع باسمي وشهرتي، فعرف أني كاتب عظيم جدا، فهو يكتب إلي مستنجدا فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوسا رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى..؟ وهو يرتك الأمر بين يدي واثقا من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده.
هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: «والله نجحت يا مازني!.. بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب.. ما شاء الله!. أحسب أن اللص، حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما: «هل أنت متأكد أن معك كل ما تحتاج إليه؟»
فيقول: «أيوه.. أيوه».
فتقول: «احذر أن تكون نسيت الطفاشة!.. العدة كلها معك؟..».
فيقول: «قلت لك.. أيوه.. ألا تسمعين؟»
فتقول: «والمازني؟.. هل أخذته معك؟..».
فيقول: «أوه.. طول الليل وأنا أقرأ كتابه.. وهل أستطيع أن اعمل دون أن أقرأه؟.. أتظنينني مغفلا؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟»
فتقول: «لا.. إنما أردت أن أطمئن.. وأسمع.. امش بحساب.. والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط.. حاذر!»
فيقول: «اطمئني.. كل شيء على ما يرام.. ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي».
ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه. •••
ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعوا إلى مأدبة عشاء فاتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعونني: (الأستاذ) والبعض يؤثر أن يرفعني درجة فيقول: (يا بك) ولكنه لم يدعني باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات.
ثم التفتت إلي العجوز وقالت: «إني سعيدة».
فقلت باختصار: «أهنئك».
فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نضير الحسن وصوتها كالتغريد. «صحيح.. سعيدة جدا.. كل كتبك قرأناها».
فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: «صحيح؟»
فقالت باضطراب رابني: «كلها كلنا».
فقلت مرددا قولها: «كلكم؟.. كلها..؟ شيء جميل؟»
فقالت: «ابني على الخصوص.. إعجابه بك لا حد له».
فأردت أن أستوثق وسألتها: «هل هو مريض؟»
قالت: «أعوذ بالله.. إن صحته جيدة جدا».
فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها: «ألم يصبه مرض قط؟»
قالت: «أبدا.. أبدا.. قوي جدا.. كسيد نصير».
قلت: «عجيب هذا..».
فقالت: «كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة..».
فسألتها: «أهي حسنة التجليد؟»
قالت: «لا.. كما اشتريناها.. كل بناتي وأحفادي يقرأونها ويحملونها معهم حيثما يكونون».
قلت: «شيء جميل».
قالت: «أوه. لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك».
الفصل السادس عشر
اللغة والقوالب الموروثة
كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة «ومما زاد الطين بلة ...» وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؟ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة «زاد الطين بلة» ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام «كليشيها» أو قالبا مصبوبا نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا «الكليشية» الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء.
وقد نبتت هذه العبارات الموروثة في زمان كان زمانها - أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جدا ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما.
وسألت نفسي: «وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب الموروثة؟» وهززت كتفي ومططت بوزي - فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي - وأنا أفكر في هذا السؤال - أن الضرر لا يجيء من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمنا ما - تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم؛ فإذا رأيت أناسا من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها - أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرنا بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديدا يدل على أنهم تأثروا بعصرهم - إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء الناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئا بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسبا.
وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ. وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وان الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والإحساسات إلى آخر ذلك - إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثارا من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر.
وقد يكون العصر الماضي جميلا ولعل كل ما فيه كان حميدا ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟.. وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟
ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالا لا يخلو من غرابة «أتراني أشبه أبي؟» وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي! ما هذه السخافة؟ وكيف أستطيع ألا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق، وإنما أعني هل أنا أحور شيئا فشيئا حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها: «أين صورة الوالد المحترم؟» فقالت: «إيه؟.. الوالد المحترم؟.. أي والد؟»
فقلت وأنا أضحك: «وهل لي غير والد واحد؟ إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعا» فقالت: «لا تمزح هذا المزح ... عيب ... وإنك لتعرف أني أسألك عمن تعني - والدك أم والدي؟» فقلت: «كلا. لا حاجة لي بأبيك.. ولا بأبي أيضا في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت» فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت: «تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي.. فهل ترينني مثله؟: هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية؛ وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضوء خافت، تظنيني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره ، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟»
فقالت: «لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة ... كثيرة ولكنك مختلف.. حتى النظرة مختلفة.. نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت..» فصحت بها: «احترسي!. ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل في..» فقالت: «لا.. ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة.. فيها شيء آخر.. الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وإن كان لا يعرفكما، أنه لابد أن يكون أخا أكبر، أو أبا أو جدا، على التحقيق ... ولكن هناك اختلافا لا أدري كيف أصفه» قلت: «لا تتعبي نفسك ... يكفي أني مختلف ... ولو كان حيا لاستطعت أن أتبين في أي شيء من الحقائق المطوية نختلف، ولكنه تسرع.. عل كل حال أحمد الله.. لقد كنت أخاف.. كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماما بلا فرق» فسألتني: «ولماذا تخاف هذا؟» قلت: «لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة.. نسخة معادة.. طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور.. أي زيادة لا داعي لها ولا مزية ... ولكان وجودي تكلفا لا مسوغ له، وإسرافا غير جائز، وعناء باطلا لا جدوى منه.. وسبحان ربي عن ذلك وكنت أخاف شيئا آخر. أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة، وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء.. أتعرفين أن عندنا في مصر «مقاولين» أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها.. ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر.. ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت؛ أو كتبته من جديد، ولكن ما فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين شيئا».
الفصل السابع عشر
الكتابة وحالات النفس
كتب إلي بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا أكتب حديثا للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وإني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟
فأما أني أمزق شيئا مما أكتب - حديثا كان أو مقالا أو قصة - فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاما أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه: «عا» ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله فإني ادري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، ولحياة زخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس، ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيرا ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها توشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل،لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملا، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه علي؛ فلا يبقى لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائما، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي.
وقد استعملت لفظ «التمخض» وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحا به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب. والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر.
ويخطر لي أحيانا أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فإني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولا على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق علي أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها - كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول.
وقد جربت أن أكتب ولا أنشر، فكتبت رواية «طويلة» ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت علي، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والإضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئا جديدا فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوما أن أخرجها وأتصفحها ، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية.. فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولا تصلح أن تكون قصصا قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألا أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم.
وأذكر أن بعضهم سألني مرة «أي كتبك أحب إليك؟» فلما قلت: «ولا واحد» استغرب جوابي وأنكره، وذكرني بأني قلت مرة إن هذه المفاضلة عسيرة لأن الكتب كالأبناء، والوالد لا تخفى عليه مزايا أبنائه وعيوبهم ولا يجهل أن هذا ذكي وذاك غبي مثلا، ولكنه مع ذلك يحبهم جميعا على السواء وإن كان يعرف فضل بعضهم على بعض. وهذا صحيح، على الجملة، وفي الأغلب والأعم، ولكني رجل دأبي أن أراجع نفسي، ولا تنفك حالاتي النفسية تتغير فنظرتي إلى الشيء وإحساسي به يختلفان من يوم إلى يوم. وثم أمر آخر هو ما يتمثل لي من صور الكمال وما يبدو لي في عملي من وجوه النقص والقصور، وليس لي حيلة إلا أن أقيس ما أخرجت إلى ما كنت أحب أن يكون، وإلا أن أحدث نفسي أنه كان في مقدوري أن أصنع خيرا مما صنعت، ولو كنت أعتقد أن هذا هو غاية ما يبلغه الجهد ويصل إليه الإمكان لرضيت وقنعت واغتررت، ولكني أحس أني أقدر على خير مما أفعل؛ وقد يكون هذا إحساسا كاذبا، كالجوع الكاذب، وقد يكون خدعة من خدع الغرور، فإن يكن كذلك فإنه ولاشك بلاء، ولكنه الواقع على كل حال. وما أكثر ما أسمع من يثني على كتاب لي، فأتركه يثني فإن الثناء حبيب إلى النفوس، وأتعجب له فيما بيني وبين نفسي وأسألها: ماذا أعجبه يا ترى؟ أما لو أن رجلا نقد نفسه..؟ وأزداد غرورا، وأشعر أني فوق هذا المادح.. ولكني أتواضع وأقول له وأنا مطرق - ووجهي فيما أعتقد وأرجو مضطرم من فرط الحياء - «أستغفر الله! أستغفر الله ! يا شيخ قل كلاما غير هذا!» الخ الخ.
فإذا كنت لا أكتب إلا قبيل أوان النشر بأوجز فترة لأني بليد ولأن نفسي تتعاقب عليها حالات مختلفة فأسخط على ما كنت أرضى عنه وأذم ما حمدت؛ وأستضئل ما أكبرت، ولا حيلة لي في ذلك. وماذا أصنع إذا كنت أحس أني مسوق إلى جس نفسي وقياس قدرتها إلى ما ينبغي مما ترتسم صوره في نفسي وتتمثل لي في خواطري؟
الفصل الثامن عشر
خواطر في مرقص
بعد سنوات طوال ذهبت إلى معهد من معاهد الصبى، وبي - وأنا الكهل المجرب - مثل حياء الغرير وخجلة الحدث واتخذت لي مكانا قبل المرآة وقريبا من فرقة الموسيقى وعلى مستدار المرقص، وكنت أول الداخلين وأسبقهم في تلك الليلة. وكأنما نكر مني الخدم لمتي الموخوطة وقامتي القميئة العرجاء ونظرة الحيرة والقلق، فجعلوا يصوبون عيونهم ويصعدونها في، وضايقني أحدهم بكثرة لحظانه رجلي أو بما توهمته من ذلك وكبر علي أن أرى هذا الزنجي يتغفلني ويدور من ورائي ليتسنى له أن يتأمل - وهو آمن - حذائي واختلافهما، فمددت له ساقي في كبر وغطرسة، ودعوته إلي بإشارة ملؤها العجرفة وأمرته أن يسقيني شيئا،فمضى عني وهو يبتسم فزاد ذلك في حنقي وأقسمت لأهجونه.
نعم وقد بررت بقسمي وقلت فيه أو في نفسي هذه الأبيات:
النجاء النجاء يابن ...
من سيوف الهجاء ذات المضاء
لا لعمري وأين تهرب مني
ومناياي طي هذا الهواء؟
أنا كالموت مدرك كل حى
أتحداه بالأذى والهجاء
أنا كالشمس مدرك ليلك الأس
ود بالنور واللظى الكواء
أتوخاك حيث كنت من الأر
ض ولو غبت في حبال الهباء
لو تخذت الرياح خيلا لما أفل
ت فارضخ لرغبتي وقضائي
ولئن طرت في السماء فإني
بالغ منك مأربي في السماء
ويمينا لأجعلنك أحدوثة
كل الركبان والإملاء
ناشرا كل سوأة لك تطويها
دؤوبا، وفعلة شنعاء
ومعيدا من حفرة القبر أشلا
ءك أنتن بهن من أشلاء
فإذا كنت ما زعمت من الإنس
ان أطرقت شدة استحياء
سيقول اللعين قزم يلاقيك
بساق عرجاء ذات التواء
إن أكن قزمة فإن قوافي
طوال جدا بغير انتهاء
كل ذي عاهة ولا شك جبار
فحاذر من رجلي العرجاء
كان تيمور أعرج الساق فافطن
لمعاني العاهات والأدواء
وتأمل مثال ما نحن فيه
قصة سقتها عن القدماء
زعموا أن معشرا ركبوا الماء
وحثوا سفينهم بالغناء
ورآهم قزم فنادى مهيبا
أن دعوني أكن من الشركاء
أنا قزم كما ترون فلا تخشوا
زحامي مجالس العظماء
فرضوا وانبرى إليه سفيه
حسب الفضل كله في الرياء
ذو لسانين، بل بوجهين ملاق
ووجه يعيب بالإيماء
يتلقاك خاشعا باسم الثغر
ويلقي حبائل الحقراء
وإذا ما سمعته قلت سبحانك
ربي ذا أوحد الفضلاء
وإذا ما بلوته لم تصدق
أنه ينتمي إلى حواء
ورآه القصير يضحك منه
حاسبا أنه من الأغبياء
وإذا بالسفين جاش بها التيار
والقزم آخذ في النماء
وأحس الرفاق بالضيق حتى
عالجوا غمرة الردى والفشاء
وأخونا القصير يكبر أضعا
فا ولكن عن صحة وامتلاء
وانثنى سائل يقول من العملاق
أنا من كربه في بلاء
قال كنت القصير قدما فأما الآ
ن فالضخم هائل الانحناء
ذا مثالي لو كنت تفهم يا غر
ولكن حرمت فضل الذكاء
ذا مثال العظيم يظهر في النا
س ويمضي بأوفر الأنصباء
يحرم الناس ما ينالون لولاه
فهم من وجوده في عناء
ألخ.. ألخ ...
واسترحت بعد أن أعملت فيه هذه السيوف الضاربة في الهواء، ولم أعد أبالي هذا الزنجي المسكين بعد أن عرفته «مقامي» ورميت إليه بهذا «البلاغ النهائي» واستطعت أن أدير عيني فيما حولي وأن أرى، وكان الناس قد بدأوا يفلون، ورجال الموسيقى يصلحون آلاتهم، وقد كنت ومازلت أمرأ بلذ له أن يراقب إصلاح هذه الآلات وإعدادها للعزف وتهيئتها لإخراج الأصوات المنشودة، ولذلك عندي وفي ملتي عملية سيكولوجية، وللنفوس كما لهذه الآلات أوتار تحتاج إلى المعالجة والإصلاح والإعداد ولكم عجبت لمن يحسب أن في وسع الكاتب أو الشاعر أن يكتب أو ينظم في أي موضوع وفي أية ساعة من ساعات الليل أو النهار وفي كل حالة من حالات النفس، وقد يتخذ بعضهم ذلك دليلا على القدرة وما هو بدليل إلا على أن النفس ضيقة محدودة الجوانب كالبيانو والميكانيكي الذي يحمله المتسولون والذي لا يحتاج إلى ضارب أو لاعب ولا يتطلب منك إلا أن تدير مفتاحه فيخرج لك أنغاما معينة لا يعدوها أبدا، على خلاف البيانو العادي أو الكمنجا التي تستطيع أن تنطقها بما تشاء وتوقع على أوتارها ما تحب والتي يسعها أن تؤدي لك كل ما تستطيع ابتكاره من التوافيق والتواليف الموسيقية.
ولم يدهشني، وأنا أنظر إلى المرآة في تلك الليلة وأتأمل الشيب الذي انطلق في رأسي، وأفكر فيما أسلفت عليه القول أن أحس بالهرم وأشعر كأني شيخ هرم محطم الأعصاب مهدود الكيان، ألست صحفيا؟ ألا تتقاضاني هذه الحرفة التي أدركتني كل يوم. وأن لا أستريح يوما. أليس معنى هذا أني في كل يوم حين أريد الكتابة، أقسر أعصابي على أنتكون في حالة لم تتهيأ لها من تلقاء نفسها تهيؤا طبيعيا؟؟ وإذا كان المرء لا يفتأ كل يوم يثني أعصابه ويكرهها على حالات مختلفة ويصبها فيها.. أفيكون عجيبا بعد ذلك أن يشفى الجهاز العصبي على التحطم من توالي هذا الإجهاد والإرهاق؟ وهذا شر ما في الصحافة وأقسى ما نرجو منها، ولقد صدق من قال - ولعلي أنا القائل ذلك «فما أدري على التحقيق «إنها مهنة يجب أن يكون أمل المرء ومطمحه من ورائها أن يعجل بالخروج منها وتطليقها».
وابتسمت إذ عرفت من بين الموسيقيين واحدا لم تغيره هذه السنين التي غيرتني ولم تشب في رأسه شعرة ولم تتركه إلا غضا بضا كما كان. وكدت أومن بالخلود في الدنيا وأنا أنظر إليه وأعجب له وأقول: أتراه ذوى وذبل ثم عاد فربا واهتز كالشجرة، وعاد أخضر بعد أن كان أصفر؟؟ أسبع سنين لا شيء حتى تدع إنسانا كما كان ولا تخلف أثرا في وجهه أو هيئته أو مظهر قوته؟ وفكرت في طبيعة الزمن وسره المحجب وفي قول تنيسون في زهرة: لو استطعت أن أعرف ماذا أنت من أصلك إلى فرعك لعرفت ما الله وما الإنسان، أو شيئا بهذا المعنى، وهذا صحيح فإن في أدق ما في الكون كما في أجله وأضخمه جماع السر، فالقطرة من الماء اختزال للمحيط، وفي الذرة من الرمل معنى الصحراء ومن فهم «لحظة من الحياة» فأخلق به أن ينفتح له معجم الحقائق كلها ولكن ما هي اللحظة؟ إن الزمن استمرار غير منقطع وليس هو بسلسلة من اللحظات المنفصلة منظومة كالعقد، وإنما هو لحظة واحدة وحركة واحدة لا ابتداء لها ولا نهاية يستطاع تصورها والحياة تغير مستمر وليس بصحيح أن شيئا فيها - لا التاريخ ولا غيره - يعيد نفسه.
وبدا لي وأنا غارق في هذه الخواطر كأن صاحبنا الموسيقي يقول لي على سبيل الاعتراض - ولكن حياتي أنا ليست سوى إعادة مكررة. وكل يوم عندي ككل يوم. فأنا أقوم عند الظهر وأحلق وأفطر - أو أتغذى إذا شئت - وأراجع بعض الأصوات أو الأدوار ثم في المساء أركب الترام إلى قريب من هنا وأقضي الليل إلى الفجر في هذا العزف، فهل من شك في أن ركوبي الترام ما بين منزلي وهذا المرقص تكرار وإعادة؟؟ إن العوامل كلها واحدة فكيف تكون النتيجة مختلفة؟
قلت دفعا لهذا الاعتراض - كلا يا سيدي ليست العوامل واحدة فإنها جميعا مختلفة متباينة، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ولكني رغبة مني في إقناعك أغفل من حسابي كل ما هو عرضي وأفرض جدلا وإكراما لخاطرك أن المعجزة تقع كل يوم وأن كل شيء في الترام يبقى كما هو يوما بعد يوم، فلا يتغير مقعدك فيه ولا ينقص أو يزيد أحد من راكبيه، ولكنه يبقى بعد ذلك أن عمرك زاد يوما بمضي يوم، وإذا أسقطنا هذا أيضا ولم نر قيمة فإنه يبقى أن حادثة السبت مقترنة بالسبت لا بالأحد لأنها سابقة له وهو لاحق بها، وفي وسعك أن تركب هذا الترام مائة مرة أو مائتي مرة ولكنك لا تستطيع أن تركبه مرتين للمرة الأولى أو مرتين للمرة الثانية أو للثالثة وفي قدرتك أن تقلد عملا صدر عنك ولكنك لا تقدر أن تعيده أو تكرره، لأن «الآن» حقيقة فذة ينطوي فيها كل الماضي الذي لا يعيش إلا في الحاضر، وليت ثم لا ماض ولا مستقبل إلا تخيلا، ولا شيء حقيقي أو شبيه بالحقيقي غير الحاضر. والماضي لا يتمثل للذهن إلا بالذكرى أو الأثر، والمستقبل لا يستطاع تمثله إلا فكرة.
وخفت إذا أن استرسلت في هذه الخواطر أن يتغير عنواني وينتقل إلى «العباسية» فجعلت بالي إلى الموسيقى وإلى صاحبنا الذي يرمقني بعين ويرمق النوتة التي يعزف منها بالأخرى من غير أن يؤدي ذلك إلى تفكك في شخصيته، وأدرت عيني في جمهور الراقصين المتخاطرين فأثار المسمع والمنظر ذكريات وألمح إلى نبوءات وأنشأ رغبات وأوجد مخاوف، ولم يسعني إلا أن أعجب للحاضر - وأنا أعني به اتصال الشخصية أو ما يسمونه ال«ايجو» بما يحيط بها في هنيهة من الزمن - أقول لم يسعني إلا أن أعجب للحاضر وكيف أنه لا يشغل إلا حيزا ضئيلا جدا من وعينا، وللعقل الإنساني وكيف أنه لا يستطيع أن يفطن للحادثة أو يدركها حق الإدراك إلا بعد أن تمضي ولو بثانية واحدة أو بعض الثانية، أي بعد أن يكون العقل قد لحق بها وكون لها صورة معينة. ذلك أن الحادثة عبارة عن حركة أو تدفق ونحن لا ندرك الحادثة ولكن صورتها والجانب الأكبر من حياتنا العقلية عبارة عن تذكر للماضي - أي ما كان - وتوقع دقيق أو غير دقيق للمستقبل أي ما سيكون. ويمكن تقريب ذلك بمثال - صديقان - محمد وعلي - يلتقيان فتقوم عينا كل منهما بتبليغ هذه الحادثة ويتولى العقل تسجيلها ولا يستغرق ذلك شيئا يذكر من الزمن، ولكن المهم والذي يعنينا هو أن هذه الحادثة لا تدرك إلا بعد تمامها ووقوعها. أي أن كلا من محمد وعلي لا يشعر بلحظة اللقاء إلا بعد أن تمر وتلحق بالماضي. وشرح ذلك أن محمدا يرى بعينيه صورة من صاحبه على فيما نسميه الحاضر، ولكنه بعين عقله يرى أيضا صورة مؤلفة من ذكريات اجتماعاته السابقة بعلي. ومقدار التوافق بين الصورتين هو الذي يجعل محمدا يعرف أن هذا هو علي وكذلك مبلغ سروره بلقائه أو كراهيته له مرجعه إلى ذكر ما كان علي قد قال أو فعل فيما مضى، وإلى ما ينتظره - استنادا إلى الماضي - أن يفعل أو يقول في المستقبل.
وقس على هذا غيره، فالذي يدخل غرفة مثلا دخلها قبل ذلك تسعا وتسعين مرة يدخل في الحقيقة ما يصح أن نصفه بأنه مائة «رواية» لهذه الغرفة، والذي يدخلها لأول مرة لا يعرف أي شيء هي إلا بفضل تجربته السابقة لغيرها من الغرف. ذلك أن الإدراك مستحيل بغير الذاكرة وربما كانت الحياة نفسها مستحيلة بغير الذاكرة الواعية «التي تكون وراء الوعي» إذ كانت الغريزة ليست إلا نوعا من الذكرى. والعقل يعيش في الماضي لأنه يعجز عن إدراك الحاضر ولا يستطيع أن يدرس إلا ما وقع أي تم أو بعبارة أدق لا يدرك إلا صورة يستريح إلى التسليم بأنها مطابقة للحقيقة، ومعنى ذلك أننا نعيش ونحيا بين الصور التي نرسمها لتيار الحياة، وليست صورة المستقبل في أذهاننا إلا مرقعة من صورة الماضي.
ولما وصلت إلى هذا الحد وجدتني أسأل نفسي: إذا صح ذلك أفلا يكون التفكير الإنساني كله خرافة؟ وإذا كانت درجة التطابق بين هذه الخرافة وبين الحقيقة ليست مما يمكن تعيينه أفلا يمكن تعيينه أفلا يكون الشك مطلقا؟!
وهربت من الجواب بنظرة إلى المرقص، وكرعة روية من الشراب قلت بعدها لنفسي: إن فلسفة هؤلاء الراقصين أمتع من هذه الفلسفة التي لا آمن أن تؤدي بي إلى الشك في وجودي إذ كيف أستطيع أن أثق بحواسي وبما تنهيه لي إذا أطردت هذه الأقيسة وجرى بي هذا المنطق إلى غايته؟ وما لي إلا أن أستنيم إلى مثل فلسفة هذه الخلائق المغتبطة؟ وبأي شيء تفضل فلسفتي فلسفاتهم؟ وإلى أي مدى أبعد تبلغ بي؟ اسمح لي إذن بقدح آخر أيها الزنجي المحترم وصفحك عن هجائي الذي لم يضرك ولم تشعر به.
الفصل التاسع عشر
الرجل والمرأة
1
أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن - كما ينبغي أن يفهمهن - فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا: «ما قولك؟» قلت: «خير إن شاء الله! نعم يا ستي!» قالت: «هل يشغلك شيء غدا؟» قلت: «إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع، على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله قالت: «اسمع. نريد..».
فقاطعتها: «نريد؟ هكذا؟ بلفظ الجمع؟»
قالت: «لا تقاطع من فضلك. اسمع.. نعم أختي وبنت عمي وأنا».
قلت: «أهلا وسهلا تفضلي..».
قالت: «الجو في هذه الأيام بديع.. تهيئ لنا زورقا حسنا نظيفا مريحيا، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغدى فيه أو في إحدى «المقاتات» التي نمر بها في طريقنا».
قلت: «اقتراح جميل، ولكن.. أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن يتمي يا فتيات!»
فقالت: «تستطيع أن تدعو فلانا وفلانا».
فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق، فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رأيتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: «هيه.. نهارك أسود يا أبا خليل» ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسرا فقالت: «خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه» فسألتها وأنا أتناول يدها: «أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟»
قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: «ما لها؟ ألا تعجبك؟»
قلت: «تعجبني تعجبني. ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق».
ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد - ولم يكن بها سوء والله - متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جدا، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير أن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جدا محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضي عن ذلك فليس ذنبي أنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة. وناولت أحد إخواني مجدافا وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا. وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشا منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها.
وأخيرا قال الذي بيده الدفة: «خذ أنت الدفة وأعطني المجداف».
فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: «لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء..» وقد حرن ما يصنعن لاتقاء هذا المطر. وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئا.
وأخيرا بلغنا مكانا دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فأخرج حبلا طويلا شده على الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وإن كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو «اللبان» كما يسميه النواتية. فنصحنا لهن ألا يفعلن وحذرناهن وأنذرناهن فأبين إلا أن يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدروهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضا، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن تتناولان الحبل معا، وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئا، فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعا فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيرا وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن الأولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئا فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئا، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيدا وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: «لا تقفن».
فقالت ويدها على أذنها. «إيه» فقلت لصاحبي: «صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورن، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للأسطول فإنهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتيها فيستأنفن جر «اللبان» ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليه فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضا تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبدا لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ما طلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فأطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر.
ولما جاء وقت الطعام تخيرنا رقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل فنشرنا لهن مناديلهن فإن مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما على ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.
وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لاتعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. ولكن المرأة هكذا أبدا. تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فإنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام - وأن أعذر - إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح، وأحسب أن الرجال جميعا مثلي جهلة مساكين. ولاشك أن المرأة يحيرها كذلك ملا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام.
2
يندر أن تجد امرأة تستطيع أن تصادق رجلا من غير أن تخلط الصداقة بالحب أو ما هو منه بسبيل - أعني حين يكونان في سن - وعلى حال - تسمح بإمكان هذا الخلط أو توقعه. وعسى أن أكون قد تجنيت على المرأة فما أعرف أن الرجل أقدر منها على إبقاء هذا التحول إلا قليلا.. ومن يدري.. لعل نظام الحياة الذي أقامه الإنسان وكظه بالمواقع والحواجز بين الرجل والمرأة قد زحزح هذه العلاقة عن مكانها الطبيعي وجعل لها عندنا صفة خاصة ومقاما بمجرده لا تتصل فيها بغيرها من العلاقات الإنسانية العاجية - كأن تلك غير عادية - وأقام للصداقة حدودا وللحب حدودا لا تتداخل ولا تتقارب فاضطرب تفكيرنا جدا من جراء هذا الشطط في التعمل والإغراق في التكلف. فنحن نتخير الألفاظ التي نصف بها العلاقات بين الناس وفق ما يوحيه إلينا النظام الذي ألفنا أن تقوم عليه حياة جماعتنا الخاصة فنجعل هذه العلاقات على ضربين - ضرب عادي - كالذي يكون مثلا بين الرجل والرجل أو الرجل وأمه أو أخته أو بنته الخ وضرب آخر جنسي كالذي يكون مثلا بين الرجل وزوجته أو غيرها من النساء - في الأغلب والأعم - ولست أرى هذه العلاقة الجنسية إلا عادية جدا بل لعلها هي وحدها العادية وسواها هو الذي نجم منها ونشأ عنها وتفرع عليها ولا أرى أي موجب لأن نجعل لها كل هذا الشأن الخاص الذي يميزها ويفردها ويبرزها ويدير الخواطر عليها إدارة لا تستحقها ولا نحمد أثرها لأنها تفقد المرء القدرة على الاحتفاظ بالقيم الحقيقية لضروب العلاقات وتمسخ تفكيره وتحول دون استجلاء الحقائق على وجهها وصورتها الصحيحة.
على أن هذا استطراد أغراني به أن الكلام يفتح بعضه بعضا والذي أردت أن أقوله لما تناولت القلم هو أن لي صديقة متزنة تعجبني منها قدرتها على إبقاء هذا الخلط كائنا ما كانت علته وهي تزورنا ونزورها كلما سنحت لنا ولها الأحوال ونأنس بحديثها فإنها محدثة بارعة ولولا أن الأمر لا يعدو بيننا هذا الحد لصح فيها قول ابن الرومي. «وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز» ولكن البيت الثاني يصدق وذلك حيث يقول: «إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز» غير أنا لا نتفق أبدا على رأي ولا تلتقي نظرتانا إلى شيء «في ملتقى منه واحد» وتلك هي المزية فما ثم أي خير في صداقة بين اثنين متماثلين متطابقين حتى ليعد أحدهما نسخة من صاحبه. وبمضي الوقت في الجدل فإذا نحن قد سلخنا نصف نهار أو هزيعا أو اثنين من ليل ويخشى الذي يرانا ولا يعرفنا أن تقع الجفوة وتحل النبوة وتحدث القطيعة ولكن الواقع أن هذا الجدال الحامي لا يزيد الحال بيننا إلا وثاقة. وأنا لا أزال أقول لها أن المرأة مخلوق غير الرجل وأنه ليس بصحيح أنها خلقت من ضلع في جنبه الأيسر - أي قريب من القلب - وانه لو كتب علي أن تكوني زوجتي لكنت أشقى الناس بك وكنت أنت أشقى الناس بي وليس ذلك لنقص في جمالك - وهو ما تعتزين وتعتز به كل امرأة - بل لأن الحياة معك تكون كالسير بين الوعور والحفر فتقول لي إنك كاذب أو أنت تغالط نفسك فليس أحب إليك من هذا الجدل الذي لا ينتهي إلى اتفاق ولذلك تأنس بمجلسي كما لا تأنس بمجلس سواي وأني لأستطيع أن أحلف إنك تستأنف حوارنا وجدلنا فيما بينك وبين نفسك وتود لو عدت إلي أو عدت أنا إليك لتفضي إلي بما خطر لك أن حجتك تعلو به على حجتي.
وصفحة وجهها كتاب مفتوح فما نظرت إليها إلا عرفت ما يجول في رأسها الصغير - فإنه صغير وإن كان عقلها كبيرا - قلت لها مرة وقد زارتنا في يوم صيفي وساعة لا يطيب فيها للإنسان إلا أن يكون في ثلاجة أو برميل ماء بارد «هذه الزيارة ليست لله» فضحكت وقالت كن ملاكا واصحبني إلى دكان ... فإني أريد أن أشتري بضعة أشياء قلت: «قولي كن مجنونا.. إن الذي يصحب امرأة حين تريد أن تشتري أشياءها لا يكون إلا مسلوب الرشد قليل العقل.. جنس لطيف.. والله ما أعرف اسمك من جلد المرأة ... تذهب إلى الدكان فيخف الرجل المسكين إليها ويحتفي بها ويقدم لها الكرسي ويتلطف ويسألها هل تسمح له أن يطلب لها ليمونا باردا أو قهوة ... ويفرك الأبله يديه ويسألها في أدب جم وبابتسامة عريضة تصل فمه بأذنيه بماذا تأمر.. فتأمر حضرتها بأن يعرض عليها كل ما عنده فوق الرفوف فيحمل الرجل ويضع.. لا تضحكي.. إنما أعني أنه يحمل إليها ما تشير إليه أو تصفه ويضعه أمامها وينشره على عينها فتجسه وتقلبه وتمط بوزها وتشير إلى غيره وتخرج مرآتها من المحفظة وتنظر إلى صورتها فيها برهة ثم تعود إلى التقليب وهكذا والرجل يتصبب عرقا وبعد ساعة أو اثنتين والمسكين صابر، تبتسم وتقول لا مؤاخذة.. إنما كنت أريد أن أتفرج فقط.. تتفرج.. فقط وتخرج تخطر وتدعه ينفلق ويطق ويلعن الوجه الذي أصبح عليه في يومه وهي مسرورة لا تباليه ولا تدرك ما كلفته ولا ترحمه ولا تشعر أنها خليقة أن تخجل.. لا يا ستي.. خذي زوجتي إذا شئت فإنها امرأة مثلك واعفيني بالله من شرف السير في ركابك العالي فإني لا أريد أن أصاب بالفالج وإذا كنت لا ترحمينني فارحمي أولادي فإنهم مازالوا زغب الحواصل..».
فتضحك ولا ترى في خطبتي الطويلة هذه إلا أنها مثال لأسلوب الرجل في التفكير.
وكانتا - هي وزوجتي - معي مرة خرجنا لنشتري ملاءات مما يفرش على السرير فشرطت عليهما أن تدعاني أتولى أنا أمر الشراء وأن تبقيا في السيارة وإلا فأن مستعف فقبلتا على مضض وبعد جدال طويل ولم يقنعهما الكلام ولكنهما رأتاني وضعت رأسي على كفي وأصررت وأضربت عن ذكر العواقب فرضيتا - على مضض كما قلت - وذهبت بهما إلى محل.. وتركتهما في السيارة ولو وجدت سبيلا لإيصادها عليهما لفعلت ولكن اليوم كان حارا وقد خفت أن أتهم بخنقهما. وقصدت إلى حيث توجد هذه الملاءات فانتقيت منها أمتنها وأجودها وأكبرها - وأغلاها أيضا - وأديت الثمن ولم أغب عنهما إلا دقائق فما كان منهما إلا أنهما صرختا في وجهي.. صرختا لأني رجعت بهذه السرعة.. إذن لابد أن تكون الملاءات أسخف ما يمكن أن تكون نسجا وثمنها قد رمي في التراب.. ولكن يا ستي أنت.. وأنت أيضا يا ستي.. جساها شداها.. انظرا متانة نسجها.. تأملا طولها وعرضها.. لا فائدة.. لابد أنه كان هناك ما هو خير من هذه الملاءات وإذا لم يكن ما هو خير فالمحلات الأخرى كثيرة فماذا كان داعي هذه العجلة وإلقاء الفلوس في التراب فلما ضجرت ويئست من إقناعهما بأن المعول في هذا الأمر ليس على ما يضيع من الوقت في الانتقاء قلت لهما أن حل المشكل بسيط.. دعوا لي هذه الملاءات وخصوا بها سريري. أم أنت يا زوجتي الفاضلة فاشتري لنفسك ولولديك ملاءات أخرى متى رزقني الله بثمنها وعوضي على الله.
أترى الوقت لا قيمة له عند المرأة.. تقول الصديقة الفاضلة إن هذا كلام فارغ وأن المرأة تعرف قيمة الوقت كما يعرفها الرجل فأقول ولكني أرى المرأة تقضي ساعة وساعات في زينتها ومن الممكن أن تتزين في دقائق فترد علي بأن من الرجال من يضيع وقتا طويلا في لبس ثيابه. فأقول إن هؤلاء كالنساء فارغون أو أنهم لا يدركون قيمة الوقت إدراكا صحيحا. وليس كل الرجال كذلك ولكن كل النساء كذلك وينقصني أن أعرف المرأة التي تستطيع أن تثب من سريرها وتتجهز للخروج في دقائق معدودات كما يفعل معظم الرجال ولست أنحي على المرأة من أجل ذلك فإنها معنية بجمالها - ولو كانت أقبح من قرد - والرجل معني بعمله وسعيه في الحياة فليست الزينة مطلبه لأنه ليس ثم ما يبغيه بها ولكنها مطلب المرأة لأنها عندها أداة لتأكيد جمالها وإبرازه ولفت النظر إليه ولإرضاء إحساسها هي بما تتوهمه من جمالها. وأقول ما تتوهمه لأنه ليس كل امرأة جميلة ولكنه ما من واحدة تشك في أنها كذلك مهما بلغ من دمامتها في نظر الرجال ولا رد لصديقتي على هذا وأمثاله إلا أننا معشر الرجال مغرورون مستبدون وأننا نرى الرأي في المرأة فنظن أنه كل الصواب ونحاول أن نفرضه عليها.
فأقول إن هذا ذنبكن.. لماذا لا تبين لنا ماذا أنتن وكيف تفكرون ومن أية ناحية تنظرن إلى الأمور إذا كنتن تعتقدن أننا مخطئون فيما نرى فيكن؟ افعلن ذلك وأرحن واسترحن. فتقول إنما قصرنا في ذلك لأنكم معشر الرجال استعبدتم النساء وألزمتموهن حالة لا يقبلنها وقد شرعنا نتحرر من ربقتكم فانتظروا. فأقول أنا مع المنتظرين وخيرا إن شاء الله.
3
سأحاول أن أصف للقارئ يوما سعيدا قضيته ي الهواء الطلق مع الصديقة التي حدثته عنها وزوجتي الفاضلة وإحدى القريبات العزيزات وكلبها. وقد ذكرت الكلب في الآخر وأن كان حقه التقديم لأني أخشى إذا أن أنصفته أن أظلم أنا وكان الاتفاق أن تمر بنا القريبة العزيزة فنحملها إلى الصديقة التي تعهدت لنا من قبل أن تكون قد تهيأت للخروج ووقفت رشيقة أنيقة تطل من الشرفة فلا تكاد ترانا مقبلين حتى تهبط إلينا ولو بمظلة فلا تحوجنا إلى الصعود وإضاعة الوقت.
وبكرت في النوم في تلك الليلة وتركت لزوجتي الفاضلة إعداد القليل الذي عسى أن نحتاج إليه في نهارنا وكان المتفق عليه أن يتحرك الركب من منزلنا العامر في الساعة السابعة صباحا ولكن الزوجة بارك الله فيها تحسب لكل احتمال حسابه فقد تتعطل السيارة مثلا وتأبى أن (تسير) فيحتاج إصلاحها ساعة أو بعض ساعة وقد يورثني هذا نوبة عصبية تتطلب إفاقتي منها ساعة أخرى وهكذا فما لهذه الاحتمالات آخر كما ترى ومن أجل ذلك أيقظتني في الساعة الرابعة - أي الثالثة بحساب التوقيت في الشتاء - فقمت مذعورا وفي ظني أن الشمس قد ارتفعت وفركت عيني وأنا أتمتم بما حضرني من ألفاظ الاعتذار فابتسمت وقالت: «لا يزال في الوقت متسع» فمددت يدي إلى الساعة ونظرت فيها وصرخت. ألست معذورا يا ناس ... فنهرتني عن الصياح وقالت: «لا تصح هكذا لئلا تقلق الجيران» فهززت رأسي يائسا وقلت: «صحيح.. لا يجوز إقلاق الجيران.. الشهادة لله يا امرأة أنت أرفق الناس بالجيران وأحرص خلق الله على راحتهم.. ليتني كنت جارا لك» ولم تبق لي حيلة لأن النوم لا يواتيني بعد أن أستيقظ. ولكن ماذا بالله أصنع في ثلاث ساعات طويلات. واستبشرت خيرا بهذه البداية الحسنة والفاتحة السعيدة. ورحت أتباطأ وأتلكأ حتى مضى ربع قرن فيما أحس وإذا بالساعة لا تزال منتصف الخامسة ... نهايته من يدري بما كانت السيارة قد خرجت فلنخرج إليها ولنر ماذا أصابها. وذهبت إلى مكانها وبي خجل أن أزعجها في مثل هذه الساعة وأدرتها فدارت واستجابت لي كالجواد الأصيل وأعترف أنها خيبت أملي وغن كانت قد أفرحتني وخطر لي خاطر فصرفت خادم «الجراج» الذي كان قد أقبل عليها يمسحها وأسكت المحرك ودخلت في السيارة وقلت لنفسي اضطجع هنا وأحاول أن أنام إذا استطعت والبقاء هنا على كل حال خير من البيت وضجيجه.
ولكن الزوجة فاضلة ورقيقة القلب أيضا وقد أقلقها غيابي فجعلت تبعث إلي بالخادمة الصغيرة كل ربع ساعة لتطمئن على صحتي وصحة السيارة وكنت أقول للخادمة الصغيرة كلما جاءت أن بالسيارة خللا هينا وقد بعثنا في طلب رجل يصلحه. وكان إقلاق الخادمة لي أهون على كل حال مما قدرت أن يكون حظي في البيت. وأزفت الساعة أخيرا بعد أن كادت روحي تزهق فمضيت بالسيارة إلى رصيف البيت وما كدت غاصا بالحقائب، والسلال، والكراسي الصغيرة التي تطوى وما إلى ذلك من أدوات فما يستطيع السائر أن يجتزه ألا بدبابة. وأقبلت الزوجة والقريبة ومعها كلبها فقلت (انظرا ... هذا جار فقدناه فكن عساه يكون يا ترى) فقالت الزوجة - غفر الله لها - جار أي جار ... هذه أشياؤنا.. قلت أشياؤنا.. شيء جميل.. وماذا بقي في البيت.. ألا ترين أن الأصوب أن نأتي بالقليل الباقي ونضع الجملة في لوري يتبعنا.. قالت: كلام فارغ. في السيارة متسع وزيادة. فملت إلى السيارة وقلت لها (قواك الله وزادك صبرا اوسعة فإن بك اليوم حاجة إلى السعة لقد كنت أحسبك مجعولة للركوب بس. فإذا بك تصلحين أيضا أن تكوني (مخزن فراشة) للأفراح والليالي الملاح.
ولا أطيل ولا أقول كيف اجتمع الناس ووقفوا ينظرون ونسوا ما كانوا خارجين إليه من عمل أو غيره فإني أنا أيضا أحب أن أنسى ذلك الصباح الجميل ومضينا إلى الصديقة - بارك الله فيها أيضا - ووقفنا على رصيف بيتها وصعدنا بعيوننا إلى الشرفة فألفيناها عاطلة - أعني فارغة - فنفخنا في البوق مرة وأخرى وثالثة - عبثا كما لا أحتاج أن أقول - فاقترحت زوجتي أن أصعد إليها وأستعجلها فهززت رأسي غير موافق وقلت «تذكري يا امرأة أنه الدور الرابع وإن الدرجات أكثر من ستين واعتبري أني جار وترفقي بي وارحميني» قالت: «كلام فارغ.. مالك.. إنك كالحصان» قلت: «إذا جئتك بشهادة من طبيب بأن قلبي مسكين ضعيف وأن هذه السلالم تؤذيه وقد تودي به فهل تقتنعين..».
قالت «كلا..! ولا بألف شهادة». قلت «عن الجيران يحزنون جدا إذ أصابني مكروه فهل يرضيك أن ينزعج الجيران المساكين ويحزنوا ويلطموا ويندبوا وتقوم في بيوتهم القيامة» قالت: (لا فائدة. إذا لم تصعد أنت فمن يصعد؟ عيب يا شيخ) قلت «أصحيح.. إذن فلنصعد جميعا فالظلم الشامل ضرب من العدل» وقد أغراني بهذا الاقتراح أني أيقنت أننا سنصعد جميعا على كل حال. وقوبل الاقتراح بالموافقة وتوكلت على الله ورحت أصعد خلفهما - أو خلفهن إذا حسبنا الكلبة - فألفينا الصديقة العزيزة جالسة إلى مرآتها وشعرها يقطر ماء وفي يدها مشط تسرحه به وهي تبتسم لنا أو لصورتها لا أدري.
ووقفت في مدخل الباب أنظر إلى هؤلاء النسوة وهن يثرثرن ويلغطن - جميعا في وقت واحد حتى ليشق عليم أن تعرف أيهن التي تتكلم وأيهن التي تصغي ولم أسمع كلمة واحدة من كلمات العتاب على إخلاف الموعد، وكدت أطق حين سمعت الصديقة تقول أن النوم كان حلو جدا وتتساءل لماذا يكون النوم حلوا حين يكون على الإنسان أن يبكر في القيام، ولم تقتصر الزوجة في إسماعي عفوا لا عمدا بالطبع - ما يجعل انفلاقي أسرع وأتم فقد جعلت تشكو من أنها استيقظت قبل الفجر بساعة أو اثنتين وحياة صديقتها - بلهجة توقع في روع السامع أني أنا المسئول عن هذا التبكير.
وفكرت برهة وأنا واقف كالتمثال - وليتني كنت تمثالا.. إذن لما سمعت ولا انفلقت - فبدا لي أن خير ما يمكن أن أصنع هو أن أذهب إلى المطبخ لعلي أجد فيه ما يؤكل فما كنت ذقت شيئا في نهاري الأبيض. وكانت أدوات المطبخ من الطراز الحديث - كهرباء وغاز وما إلى ذلك فتذكرت «لوريل وهاردي» وكيف أن أحدهما - لوريل إذا لم تخني الذاكرة - ترك الغاز مفتوحا وذهب ليجيء بعود كبريت فلما عاد وأشعله حدث انفجار عظيم قذف به إلى غرفة مجاورة. وقلت لنفسي قد يكون هذا مبالغة ولكن الذي أعرفه أني في حياتي ما لمست كهرباء أو نقطة غاز خوفا من سوء العاقبة فيحسن أن أكتفي بقطعة من الجبن الطري وبيضة أو اثنتين كما باضتهما الدجاجة أو كسرة من الخبز ولو ناشفة فإن هذا أسلم ولكني لم أستطع العثور على شيء - حتى ولا كسرة من الخبز - في هذا المطبخ فتعجبت للصديقة ومطبخها أهو منظر يا ترى ليس إلا، وهل تعيش على الهواء، وبينما أنا أبحث ولا أجد نادتني الصديقة فذهبت إليها فقالت لي بابتسامة حلوة «مادمت لا تصنع شيئا فهل تصنع معروفا وتبشر لي هذه الصابونة لأرقد بها شعري» وهممت بالخروج لأفعل ما أمرت به فقالت الزوجة «وبعد أن تفرغ من هذا أرجو أن تنزل وتجيئني بقطرات من البنزين لأن بياض حذائي اتسخ ولابد من تنظيفه فما أستطيع أن أخرج به هكذا» وأرادت القريبة ألا تكون متخلفة فأدركتني قبل أن أخرج وقالت «ما دمت ستنزل على كل حال - تأمل - فاذهب إلى أقرب صيدلية وهات لي حق «كريم» فإني لم أجد وقتا لذلك في البيت والكريم الذي هنا لا أحبه.. أنت تعرف الصنف الذي أستعمله.. هيه».
وعدت بعد ساعة. وما داعي للعجلة إن النهار كله أمامي على ما أرى فألفيتهن جالسات إلى مائدة حافلة بألوان مغرية فوقفت أتعجب من أين جاء هذا كله. وجلست معهن في صمت وبعد أن تناولت قدرا يسرا من الطعام حمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه وفركت كفي وقلت لهن ألا ترين أن الأوفق أن نبقى ونقضي النهار هنا بدلا من قضائه في الحر الذي بدأ يلفح؟ فصحن بي صيحة واحدة وقلن إن الجو بديع وأنهن قد رتبن كل شيء. سيقضين أولا بعض الحاجات البسيطة.. البسيطة جدا. وأمامهن بعد ذلك بقية النهار الطويل للفسحة والنزهة والسرور.
فخطر لي وأنا أرشف القهوة أني سأكون تعيسا معهن - وحدثت نفسي أن الهرب هذا أوانه. فاستأذنتهن في بضع دقائق وعدت بالسيارة إلى البيت ونمت.
وهكذا قضيت يوما سعيدا في الهواء الطلق فقد تركت الشباك مفتوحا له وللحر.. والذباب أيضا.. أي نعم!
ناپیژندل شوی مخ