الكتاب الأكثر بيعا داخل كندا
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الهوامش
الكتاب الأكثر بيعا داخل كندا
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الهوامش
الصبي في وجه القمر
الصبي في وجه القمر
رحلة استكشاف أب لحياة
ابنه المعاق
تأليف
إين براون
ترجمة
مجاهد أبو الفضل
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
الكتاب الأكثر بيعا داخل كندا
حائز على جائزة تشارلز تايلور للأعمال الأدبية غير القصصية.
حائز على جائزة مؤسسة بريتيتش كولومبيا القومية للأعمال الكندية غير القصصية.
حاصل على لقب «أفضل كتاب» حسب تصنيف صحيفة «ذا جلوب آند ميل».
حاصل على لقب «أفضل كتاب» حسب تصنيف صحيفة «ذا كوست».
حاصل على لقب «الكتاب المفضل» حسب تصنيف صحيفة «آي ويكلي».
من أفضل ما قيل عن الكتاب
سيجعلك الكتاب تبكي، وتتألم، وتفكر، وتتعلم، وتتساءل، وتشكر القدر حتى على أصغر النعم.
صحيفة «ذا لندن فري برس»
يحكي إين براون الصراعات اليومية التي يمر بها ابنه ووكر بوضوح شديد وروح دعابة فريدة وتفاصيل مسهبة ... وسرده لتلك الرحلة محير جدا ويترك في النفس أثرا عميقا.
إشادة هيئة تحكيم جائزة تشارلز تايلور للأعمال الأدبية غير القصصية بالكتاب
يجمع براون في هذا الكتاب بين دراما عائلية بما تنطوي عليه من حميمية، وتأمل في مسألة الإعاقة، فيما يتعلق بما يفهمه المجتمع عنها وما لا يفهمه.
صحيفة «أوتاوا سيتيزن»
براون ... يصوغ أكثر موضوعاته أصالة حتى الآن: رجل لم تصقله تجارب عميقة، لا يخلو من العيوب، أنهكه التعب، في رحلة استكشاف لابنه الصامت الذي لا يمكنه سبر أغواره، أو على الأقل رحلة البحث عن طريقة يفخر به من خلالها ... فمن دون صورة الصبي المتجسدة على وجه القمر، لا شك أن والده لم يكن ليكتب أبدا هذا الكتاب الرائع.
صحيفة «ذا جلوب آند ميل»
عذرك الوحيد لعدم قراءة هذا الكتاب هو أن تكون مصابا بخوف مرضي يمنعك من قراءة الأعمال البارعة. وإذا لم أستطع إقناعك بقراءته، فلا يسعني إلا أن آمل أن يجبرك شخص ما على قراءته.
صحيفة «آي ويكلي» (تورونتو)
في ظل الفيض الحالي لمدونات الآباء التي تعبر عن اعتدادهم الشديد بالنفس، ومذكرات الأمهات التي فيها مبالغة شديدة، من الرائع أن تقرأ قصة عن الأبوة بها شيء غير معتاد على المحك.
مجلة «ذا والرس»
أهدي هذا الكتاب إلى
ووكر هنري شنيلر براون
وأصدقائه الكثيرين.
شكر وتقدير
ألفت هذا الكتاب بمساعدة مجموعة كبيرة ومختلفة من الأشخاص الذين لا أستطيع أن أذكرهم جميعا هنا، فإضافة إلى من تحدثوا معي بشأن هذا الكتاب؛ كي أشرح لهم تعقيدات وتبعات حالة ووكر، أشعر بالامتنان على نحو خاص للمساعدة القيمة التي قدمها لي الدكتور الراحل نورمان ساوندرز طبيب الأطفال المعالج لووكر، وسالي تشامرز مساعدته الأساسية، والطبيبان اللذان خلفاه في رعاية ابني: الدكتورة نيسا باير والدكتور جوزيف تيلتش. كما أتوجه بالشكر لدايان دوسيت وتينا كاساباكس وكتيبة الأطفال والكبار الذين صادقوا ووكر وساعدوه في مؤسسة ستيوارت هومز في تورونتو، وكذلك لميندا لاتوسكي وليزا بينروبي وبول ماكورماك ومنظمة ديليسل يوث سيرفيسز، وآلانا جروسمن ومعلميها في مدرسة بيفرلي العامة للأطفال المعاقين عقليا في تورونتو. كما أشكر الدكتور جيوفاني نيري، مدير معهد الطب الوراثي في جامعة القلب المقدس الكاثوليكية في روما، والدكتور إدموند كيلي من مستشفى جبل سيناء، وجوديث جون من مستشفى الأطفال المرضى في تورونتو. وأتقدم أيضا بامتناني الدائم للتشجيع المستمر والنصائح السديدة التي قدمها لي دكتور بروس بارنز. وأنا مدين لجان لوي مان، من فرع مؤسسة لآرش بكندا، بالوجبة الفرنسية اللذيذة التي قدمها إلي.
استغرق تأليف هذا الكتاب وقتا طويلا؛ لأننا أخذنا وقتا طويلا في معايشة أحداثه، وكان كرم زملائي في صحيفة «ذا جلوب آند ميل» كبيرا، وهذا أقل ما يقال. وقد منحني رئيس التحرير إدوارد جرينسبون ونائبته سيلفيا ستيد وقتا لتأليف الكتاب بعيدا عن مسئولياتي المعتادة في الصحيفة. وقد قام كارل ويلسون بتحرير نسخة أولية من بعض أجزاء الكتاب، وتم نشرها على حلقات في الصحيفة. كانت كاثرين برادبيري - التي تحرر كتاباتي منذ فترة طويلة وهي أيضا صديقة لي - هي من أقنعني بالكتابة عن ووكر من البداية، وهي التي حولت ما كتبته إلى كتاب؛ فعينها الدقيقة وتقييمها التحريري اليقظ هما أفضل مناصرين لووكر منذ ذلك الوقت. وما بدأته كاثرين، أنهته آن كولينز محررة كتاباتي في دار نشر راندم هاوس كندا، بالمساعدة البارعة من أليسون لاتا، المراجعة التي لا مثيل لها. ومهارة آن في مساعدتي على إيجاد الخط الأساسي للكتاب والحفاظ عليه لم يفقها سوى صبرها، وهو صبر كبير يستحق عمل تحليل وراثي له.
وأنا في قمة هدوئي، واجب علي شكر بعض الأصدقاء الأعزاء، الذين لم يرافقونا في اللحظات الحرجة التي مر بها ووكر فقط، ولكن الأهم أنهم أصبحوا أصدقاءه وجعلوه جزءا من حياتهم، وأصبحت طيبتهم هي تعريفي للفضل. فأمام أولجا دي فيرا - مربية هايلي ثم ووكر - أجدني بكل صراحة عاجزا عن الكلام. وصديقي وزميلي كولين ماكينزي وزوجته لوري هاجينز كانا سببا في إيجادنا في النهاية لمكان دائم لرعاية ووكر. وأخي تيموثي براون وشريكته فرانك رو، كانا في واقع الأمر صديقين لووكر منذ لحظة ولادته، دون أي تردد أو شك، وكانا يستضيفاننا في الإجازات ويطبخان لنا الوجبات، ويوفران لي مكانا للتأليف، ويحبان بحق ولدنا. وكان الأزواج: آلان كلينج وتيكا كروسبي، وجون باربر وكاثرين برادبيري أعز أصدقاء ووكر؛ فقد استضافونا في إجازات في الأكواخ الصيفية، وأخذوه في عطلات نهاية الأسبوع، وكانوا ملجأه وملجأنا المفضل، ولم ينتظروا منا كلمة شكر. وأبناؤهم: ديزي كلينج، وكيلي وماري باربر كانوا جميعا على خلق رفيع، وعاملوا ووكر (دوما) كأخ أصغر لهم. لا تظنوا أني لم ألحظ ذلك.
في النهاية، واجب علي أن أفعل المستحيل وأحاول أن أصف امتناني لابنتي هايلي، ولزوجتي جوانا - أخت ووكر وأمه - رفيقتي الدائمتين، وأعز الناصحات لي، وأعذب سلوى لي في الليالي الظلماء التي مررت بها مع ووكر، ورفيقتي ووكر المفضلتين، وهذا لسبب وجيه؛ إذ لم يعرف حبهما لووكر أي تردد، ولم يكن لحبهما بداية ولا نهاية.
تورونتو، كندا
23 أبريل 2009
أي جنون حل بك؟
وأي شيطان انقض على حياتك بعقاب
أثقل مما يمكن لبشر فان أن يتحمله؟
كلا! لا أستطيع حتى
أن أنظر إليك، أيها المحطم المسكين.
ولسوف أتحدث، أسأل، أتأمل ...
إن استطعت. كلا!
أنت تجعلني أرتعد.
سوفوكليس، «أوديب ملكا»
أحب البلهاء، أحب صراحتهم. لكن للأمانة، دائما ما يكون المرء أبله من وجهة نظر شخص ما.
رينيه جوسيني
الفصل الأول
طوال السنوات الثماني الأولى من حياة ووكر، لم تختلف ليلة عن سابقتها. الروتين نفسه المتمثل في تفاصيل صغيرة، متصلة في ترتيب دقيق، كل منها بسيط، وكل منها مصيري.
يجعل هذا الروتين السنوات الثماني تبدو طويلة، وبلا نهاية تقريبا، حتى حاولت أن أفكر فيها فيما بعد، عندما وجدتها قد تبخرت إلى لا شيء؛ لأن شيئا لم يتغير.
استيقظت الليلة في الظلام على صوت ضوضاء آلية منتظمة، ثمة مشكلة في سخان المياه. «خخخخ» ثم توقف. «خخخخ»، «خخخخ».
لكن ليست هناك مشكلة في سخان المياه، إنه ولدي ووكر، ينخر وهو يلكم رأسه بقبضة يده مرة بعد الأخرى.
إنه يفعل هذا من قبل بلوغه العامين من عمره؛ فقد ولد بطفرة وراثية شديدة الندرة تسمى «متلازمة القلب والوجه والجلد»، وهو اسم فني لخليط من الأعراض. وهو يعاني من تأخر عام ولا يستطيع الكلام؛ لذا لا أعرف البتة المشكلة التي يعاني منها، ولا أحد يعرف. هناك فقط ما يزيد بقليل عن المائة شخص في العالم الذين يعانون من هذه المتلازمة. يظهر هذا الاضطراب ظهورا عشوائيا، وهو خلل بلا سبب أو أصل محدد، ويطلق عليه الأطباء متلازمة يتيمة؛ لأنه يبدو غير معلوم المصدر أو السبب.
أعد النخرات وأنا أتحسس طريقي إلى حجرته: واحدة كل ثانية. لكي أجعله يتوقف عن ضرب نفسه، علي أن أغريه بالعودة إلى النوم؛ ما يعني اصطحابه إلى الطابق السفلي وإعداد زجاجة التغذية له، ثم حمله والعودة به إلى السرير.
يبدو هذا أمرا يسيرا، أليس كذلك؟ لكن مع ووكر، كل شيء معقد؛ فبسبب هذه المتلازمة لا يستطيع ووكر تناول طعام صلب عن طريق الفم، أو بلع شيء بسهولة. ولأنه لا يمكنه الأكل؛ فإنه يتناول نوعا من الألبان الصناعية أثناء الليل من خلال نظام تغذية. ويسير هذا اللبن في أنبوب ممتد بين كيس غذاء ومضخة مثبتة على حامل معدني، وعبر فتحة في رداء نوم ووكر ومنها إلى صمام دائم معقد الشكل مثبت في بطنه، يعرف أحيانا بأنبوب التغذية عن طريق البطن أو «ميكي». ولكي أحمله من السرير وأنزل به إلى المطبخ لإعداد زجاجة التغذية التي ستهدئ من روعه ليعود بعدها إلى النوم، علي أن أفصل أنبوب التغذية من ميكي. ولكي أقوم بهذا، علي أولا أن أغلق المضخة (في الظلام حتى لا يستيقظ تماما) ثم أغلق أنبوب التغذية، وإذا لم أغلق الأنبوب، فسينسكب اللبن الصناعي اللزج على السرير أو الأرضية (السجادة في غرفة ووكر لونها أزرق فاتح: هناك بقع تشبه صحراء جوبي تحت أقدامي، نتجت عن مرات سابقة انسكب فيها اللبن الصناعي ولم ألتفت إليه). ولكي أغلق الأنبوب، أضغط بإبهامي على أسطوانة بلاستيكية حمراء صغيرة أسفل منزلق (هذا هو الجزء المفضل لدي من الروتين؛ شيء واحد، على الأقل، سهل يمكنني التحكم فيه)، ثم أفتح سوستة رداء نومه المكون من قطعة واحدة (ووكر صغير الحجم، وينمو نموا شديد البطء، حتى إنني لا أشتري أردية نوم جديدة له ذات مقاس أكبر إلا كل عام ونصف)، وأصل إلى الداخل لأفصل الأنبوب من ميكي، وأسحب الأنبوب من الفتحة الموجودة في رداء نومه وأعلقه على الحامل المعدني الذي يحمل المضخة وكيس الغذاء، ثم أعيد غلق ميكي وأغلق سوستة الرداء. بعد ذلك، أحمل ووكر الذي يبلغ وزنه حوالي عشرين كيلوجراما من أعماق سرير الأطفال الذي ينام فيه؛ فهو ما زال ينام في سرير أطفال. هذه هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نبقيه في السرير ليلا، فبمقدوره أن يحدث كثيرا من المشكلات إذا كان بمفرده. ***
ليست هذه قائمة من الشكاوى، وليست هناك جدوى للشكوى، وكما قالت لي ذات مرة أم طفل آخر يعاني من المتلازمة نفسها: «أنت تقوم بما يجب عليك القيام به.» على أي حال، هذا يمثل الجزء السهل من الموضوع، ويتمثل الجزء الصعب في محاولة الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها ووكر في ذهني كلما حملته. فما قيمة حياة مثل حياته؛ حياة تعاش في الظل، وغالبا في ألم؟ وما قيمة حياته عند من حوله؟ قالت لي إحدى الطبيبات منذ فترة قصيرة: «ننفق مليون دولار لإنقاذهم، ولكن بعد خروجهم من المستشفى نتجاهلهم!» كنا نجلس في مكتبها وكانت تبكي، وحين سألتها عن السبب قالت: «لأني أرى ذلك يحدث باستمرار.»
أحيانا تشبه مشاهدة ووكر النظر إلى القمر؛ فأنت ترى وجه رجل في القمر، ولكنك تدرك أنه لا يوجد أي شخص بالفعل هناك. ولكن إذا كان ووكر لا قيمة له، فلم يحمل هذا القدر من الأهمية بالنسبة إلي؟ وما الذي يحاول أن يريني إياه؟ إن كل ما أريد معرفته حقا ما يدور في رأسه الغريب الشكل، وقلبه المتعالي، ولكن كل مرة أتساءل فيها عن هذا، يقنعني على نحو ما أن أنشغل بنفسي. ***
لكن، ثمة إشكال آخر؛ فقبل أن أنزل إلى الطابق السفلي مع ووكر من أجل تحضير زجاجة التغذية، أجد أن حفاضه ممتلئ عن آخره. إنه غير مدرب على استعمال الحمام، ودون حفاض جديد لن يخلد إلى النوم ويتوقف عن ضرب رأسه وأذنيه بقوة؛ وهكذا نتحول من روتين أنبوب التغذية إلى روتين تغيير الحفاض.
أذهب إلى منضدة التغيير البالية، وأتساءل في كل مرة أفعل فيها ذلك: كيف سيتم ذلك عندما يبلغ عشرين عاما وأكون أنا في الستين؟ السر أن تشبك ذراعيه حتى تمنعه من ضرب نفسه بعنف، ولكن كيف تغير الحفاض الممتلئ لولد يزن عشرين كيلوجراما، بينما تشل حركة يديه حتى لا يلكم رأسه بعنف أو (الأسوأ) ينزل يديه ليحك بها مؤخرته الصغيرة التي تشبه البرقوق، والتي تحررت فجأة من حفاضها، وبهذه الطريقة تنشر البراز في كل مكان؟ وبينما في الوقت نفسه تشل حركة قدميه، بسبب ما ذكرته سابقا، لا يمكنك أن تغفل ولو لثانية. ضع في اعتبارك أن كل ذلك يحدث في الظلام أيضا!
لكن لدي روتيني في هذا الشأن؛ أمسك يده اليسرى بيدي اليسرى، وأضع يده اليمنى تحت إبطي الأيسر كي أوقفها عن الحركة - قمت بهذا مرارا وتكرارا، فهو مثل المشي - وأبعد كعبيه عن منطقة الخطر باستخدام مرفقي الأيمن لأمنع ركبتيه من الانثناء، وأؤدي المهمة الكريهة الفعلية بأكملها بيدي اليمنى. لم تعد زوجتي جوانا تستطيع القيام بذلك بمفردها، وهي أحيانا تناديني لأساعدها، ولا أكون لطيفا أبدا حينما تفعل.
وعملية تغيير الحفاض نفسها مهمة يتعين القيام بها بدقة بالغة كما يفعل خبير الذخائر في فيلم لجيمس بوند يسعى إلى إبطال مفعول قنبلة ذرية: فتح حفاض جديد للطفل وإلباسه، الملمس المميز لأشرطة الفيلكرو الخشنة على ورق الحفاض الناعم، الشك في أن الحفاض لن يصمد أبدا، والراحة الغامرة لإعادة تثبيته في النهاية ... تم إنجاز المهمة بنجاح! كل شيء على ما يرام مرة أخرى! ثم يأتي بعد ذلك إعادة إدخال رجليه في رداء النوم.
الآن نحن جاهزان للتوجه إلى الطابق السفلي لإعداد زجاجة التغذية.
نهبط ثلاث مجموعات من الدرج لأسفل، ونحن ننظر من نوافذ منبسط الدرج أثناء نزولنا. يتحرك ووكر؛ لذا أصف الليل له بصوت خفيض. لم يطلع القمر هذه الليلة والجو رطب مقارنة بالمعتاد في شهر نوفمبر.
في المطبخ، أقوم بطقوس إعداد زجاجة التغذية: الزجاجة البلاستيكية الخفيفة الوزن جدا (ثالث زجاجة نجربها قبل أن نجد بغيتنا، وهي كبيرة ومناسبة لمهاراته الحركية الضعيفة، إلا أنها خفيفة بالقدر الكافي كي يحملها)، والعبوة الاقتصادية الحجم للبن الصناعي إنفاميل (التي لا يساعد حجمها على حملها؛ لأن وزنها كبير)، والمعايرة الدقيقة التي تتم بيد واحدة لملاعق صغيرة من مسحوق بابلوم المصنوع من الحبوب ودقيق الشوفان (السوائل الخفيفة قد تتسرب إلى رئتيه؛ وقد استغرق الأمر شهورا حتى نصل لهذه النسب التي يسهل ضبطها، والتي توفر لنا القوام الذي يسهل التحكم فيه. رأسي مليء بمثل هذه الأرقام: الجرعات وأوقات إعداد الطعام، ومعدل التبرز/الهرش/الصراخ/النوم). ذلك الشعور الليلي بالضيق لوجود طبقة رقيقة من مسحوق بابلوم في كل مكان: هل يمكن أن ننعم بحياة منظمة مرة أخرى؟ والشعور الثاني، بالخزي، لتفكيري في مثل هذه الأفكار في المقام الأول. ثم يأتي البحث، في مصفاة الأطباق الممتلئة دائما ذات اللونين الأبيض والأزرق (دائما ما نغسل أشياءنا، مثل: أنبوب المص المدرج، أو السرنجة، أو زجاجة الطعام، أو كوب معايرة الأدوية)، عن حلمة الزجاجة (ولكن الحلمة المناسبة هي التي قمت أنا بتوسيع فتحتها على شكل حرف إكس حتى تسمح بمرور السوائل الأكثر سمكا)، والغطاء البلاستيكي للحلمة. ثم أضع الغطاء على الحلمة، وأشعر بالارتياح حين أسمع صوت طقطقة غطاء الحلمة وهو يدخل مكانه، وفرن الميكروويف الذي لم يعد يعمل كما ينبغي.
نصعد مجموعات الدرج الثلاث لأعلى. ما زال يحاول لكم رأسه بعنف. لماذا يفعل ذلك؟ لأنه يريد أن يتكلم ولكنه لا يستطيع، ولأنه - هذه آخر نظرية توصلت إليها - لا يستطيع فعل ما يرى الآخرين يفعلونه. أنا متأكد من أنه يدرك كيف أنه يختلف عنهم.
أحمله في مشقة شديدة إلى سريره في حجرة أخته الأكبر منه هايلي في الدور الثالث حيث أنام، حتى أكون بالقرب منه. في هذه الأثناء تكون هايلي في الدور الأسفل منا مع أمها في حجرة نومنا حتى يتمكنا من أخذ قسط من النوم. هكذا نتناوب، فبسبب هذا الولد تحولت حياتنا مثل البدو في نومهم. ولم تتمكن جوانا ولا أنا من نوم ليلتين متواليتين منذ ثماني سنوات، وكلانا يعمل بالنهار. وبعد الأسابيع الستة الأولى، لم أعد ألاحظ شعوري بالتعب: أصبحت أيامنا وليالينا أكثر مرونة وتشابها.
أضعه على السرير، أوه! اللعنة! نسيت المضخة! أضع حوله عددا من الوسائد حتى لا يهرب أو يقع من على السرير، بينما أنطلق عائدا إلى الحجرة الأخرى. أتذكر 4 سنتيمترات مكعبة (أم تراها 6؟) من هيدرات الكلورال، الموصوف للنوم وتقليل إيذائه لنفسه (ذات مرة أخذت منه جرعة: نفس تأثير جرعة مزدوجة من شراب المارتيني، ولقد طردت المدرسة وليام إس بوروز وهو طفل؛ لأنه استخدمه.) أعيد تشغيل المضخة وأعيد تشغيل الأنين المتكرر المعتدل المألوف؛ نبضه الليلي.
في النهاية، أنام بجانبه وأسحبه قريبا مني. يبدأ في ضرب رأسه مرة أخرى، ولأننا لا نعرف طريقة مقبولة لتقييده آليا، أقيد بيدي اليمنى الكبيرة يده اليمنى الصغيرة؛ فيجعله هذا يرفع يده اليسرى إلى أذنه الأخرى. أخبرني معلمه في أحد الأيام: «هو عبقري في إيجاد طرق لإيذاء نفسه.» أمسك يده اليسرى بيدي اليسرى، التي أمررها من خلف رأسه. يبدأ في ركل نفسه في المساحة بين الرجلين بكعبه الأيمن، على نحو قوي يجعلني أجفل، فأضع رجلي الكبيرة فوق رجله الصغيرة، وأضع يدي اليمنى (الممسكة بيده اليمنى) على فخذه اليسرى لجعله يسكن، إلا أنه أقوى مما يبدو؛ فأطرافه التي تشبه أطراف الطيور تعطيه قوة كبيرة لدرجة أنه يمكن أن يحطم أذنيه إذا لم يوقفه أحد.
بالطبع هناك احتمال لعدم جدوى كل هذا؛ فمن وقت لآخر ينعكس تأثير شراب هيدرات الكلورال ويحوله إلى شخص ثمل ضاحك. وليس غريبا أن نقوم بالروتين كله مرة أخرى بعد ساعة. وعندما يصاب بالبرد (والذي يحدث ثماني أو عشر مرات في العام)، يوقظه السعال كل عشرين دقيقة. وأحيانا يصرخ لساعات دون سبب، وتأتي ليال لا ينفع فيها عمل شيء، وليال يكون فيها مستيقظا على هذا الحال، يضحك ويلعب ويزحف علي. لا أبالي بهذه الليالي، مهما أصابني من تعب: فبصره ضعيف، ولكن في الظلام كلانا سواء، وأعرف أن هذا يسعده. وبالليل هناك فترات يكون فيها طفلا طبيعيا لا يختلف عن أي طفل عادي آخر، وهذا يجعلني أكاد أبكي وأنا أقول لك ذلك.
الليلة ليلة سعيدة: أستطيع أن أشعر به وهو يدخل في النوم بعد عشر دقائق. يتوقف عن النخر، ويلعب في رفق بزجاجة التغذية، ويدير ظهره ويدفع بمؤخرته الصغيرة النحيلة باتجاه وركي، كعلامة اطمئنان، ثم يغط في النوم.
ألحق به سريعا. بسبب كل هذا الكابوس الليلي - سنوات من القلق الشديد والمرض والحرمان المزمن من النوم والفوضى الشديدة التي جلبها إلى حياتنا؛ مما هدد زواجنا ومواردنا المالية وسلامتنا العقلية - أتوق إلى لحظة إخلاده إلى النوم أمامي بجسده الواهن. لفترة قصيرة، أتمنى أن أكون أبا لولد صغير طبيعي، وأحيانا أرى أنه هدية لي مغلفة؛ كي توضح لي كم هي نادرة وثمينة. ووكر، أستاذي، ولدي حبيبي، حبيب قلبي، البائس والمريض! ***
في السنوات الأولى، بعد تشخيص حالة ووكر للمرة الأولى بأنها متلازمة القلب والوجه والجلد وقت أن كان عمره سبعة أشهر، والعدد المقدر من البشر الذين يصابون بهذه المتلازمة يتغير في كل مرة نزور فيها الطبيب. وما زال المجال الطبي - على الأقل العدد القليل من الأطباء الذين درسوا تلك المتلازمة، أو الذين يعرفون ماهيتها - يتعلم المزيد عن هذه المتلازمة مثلنا. ولا يدل الاسم على أي شيء إلا على خليط من أبرز أعراض المتلازمة: القلب؛ النفخات القلبية الدائمة والتشوهات وتضخم القلب. والوجه؛ تشوه الوجه وهو من أبرز الأعراض، فهناك بروز بالجبهة وتباعد بين العينين. والجلد؛ مشكلات جلدية كثيرة. في المرة الأولى التي وصف اختصاصي علم الوراثة المتلازمة لي، قال: إن هناك ثمانية أطفال آخرين في العالم يعانون منها. ثمانية! هذا مستحيل! لقد انتقلنا بالتأكيد إلى مجرة مجهولة.
لكن خلال عام، بعدما بدأ الأطباء مراجعة المصادر الطبية بحثا عن معلومات تخص هذه المتلازمة، أبلغوني بأنه توجد 20 حالة؛ إذ ظهرت حالات جديدة في إيطاليا، ثم زادت إلى 40 حالة. (جعلتني سرعة زيادة الأرقام أسخر من الأطباء؛ فهم أطباء متخصصون، وبالتأكيد من المفترض أن يعرفوا أكثر مما نعرف.) وظهرت أكثر من 100 حالة لهذه المتلازمة منذ اكتشافها لأول مرة في ثلاثة أشخاص والإعلان عنها بصورة علنية في عام 1979، وهناك بعض التقديرات توصلها إلى 300 حالة. ويعد كل شيء حول المتلازمة لغزا وغير معروف، وقبل عام 1986 لم يكن لها اسم محدد. تراوحت الأعراض بشدة من حيث حدتها ونوعها، (ويرى بعض الباحثين أنه ربما يوجد هناك آلاف من المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولكن لديهم أعراض أقل حدة مما يجعل المتلازمة لا يمكن ملاحظتها.) يضرب بعض الأطفال المصابين بهذه المتلازمة أنفسهم، ولكن الأكثرية لا يفعلون ذلك، يستطيع البعض التحدث أو الإشارة، وقليل منهم فقط متأخرون عقليا، ودرجة التأخر تراوحت من البسيطة إلى الشديدة، وتراوحت العيوب بالقلب من الخطيرة إلى غير الخطيرة على الإطلاق. (يعاني ووكر من نفخات قلبية بسيطة.) وكان جلدهم يعاني غالبا من حساسية اللمس، لدرجة الألم الشديد. ومثل كثير من الأطفال المصابين بتلك المتلازمة، كان ووكر لا يستطيع مضغ الطعام أو بلعه بسهولة، ولا يستطيع التحدث، وكان بصره وسمعه ضعيفين (عصباه البصريان ضيقان، أحدهما أضيق من الآخر، وقنوات الأذن الضعيفة معرضة للعدوى بصفة مستمرة)، وكان نحيلا وضعيف الجسم؛ أي كان لديه «نقص في توتر عضلاته»، إذا استخدمت المصطلحات الطبية.
مثل كل الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد تقريبا، لم يكن عنده أي حواجب، وكان لديه شعر مجعد متناثر، وجبهة بارزة، وعينان متباعدتان الواحدة عن الأخرى، وأذنان منخفضتا الموضع، وشخصية متنوعة جذابة غالبا. يزداد ظهور أعراض تلك المتلازمة، وتصبح أكثر «شذوذا» كلما كبر في السن. افترضت أن ولدي الصغير مثال متوسط للحالة، وظهر أني كنت مخطئا؛ فقد اتضح أن لا وجود للحالة المتوسطة في هذه المتلازمة.
كما لم تتغير هذه الأعراض؛ فاليوم وهو في سن الثالثة عشرة - يصيبني الرعب حتى وأنا أكتب هذه الكلمات - يتراوح عمره من الناحية العقلية والجسمية ما بين سنة وثلاث سنوات تقريبا. من الناحية الجسدية، هو أفضل من كثير من الأطفال المصابين بتلك المتلازمة (لا تصيبه نوبات مرضية على نحو متكرر، وليست عنده قرحة في الأمعاء)؛ أما من الناحية المعرفية، فهو أقل من نظرائه. يمكن أن يعيش إلى فترة منتصف العمر. هل هذا حظ سعيد أم سيئ؟
ما عدا تفاصيل وراثية قليلة مكتشفة حديثا، كان هذا - ولا يزال - مبلغ علم الطب بشأن متلازمة القلب والوجه والجلد؛ فهي لم تدرس على نطاق واسع مثل التوحد، ويعرف معظم آباء الأطفال المصابين بتلك المتلازمة عن هذا المرض أكثر مما يعرفه الأطباء الذين يعالجون أطفالهم. وليس مجتمع المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد كبيرا ولا قويا سياسيا مثل مجتمع متلازمة داون، التي يعاني منها أكثر من 350 ألف شخص في أمريكا الشمالية، وهي التي تصيب طفلا واحدا من بين كل 800 مولود. أما متلازمة القلب والوجه والجلد فلا تظهر غالبا في أكثر من حالة بين كل 300 ألف مولود، بل ربما حالة واحدة في المليون. ووصف مكتب أبحاث الأمراض النادرة التابع للمعاهد القومية للصحة الأمريكية متلازمة القلب والوجه والجلد بأنها «نادرة للغاية»؛ مما يضعها على أقصى طرف الخط الإحصائي، جنبا إلى جنب مع حالات الاضطراب الوراثي مثل متلازمة شدياق-هيجاشي، وهي عبارة عن اضطراب نزفي يسببه خلل في الصفائح الدموية واختلالات في كرات الدم البيضاء. ولم تكن هناك سوى 200 حالة معروفة من حالات متلازمة شدياق-هيجاشي، وهذا - جزئيا - يرجع إلى أن الذين يولدون بها نادرا ما يبقون على قيد الحياة.
تعد تربية ووكر مثل طرح علامة استفهام؛ فكثيرا ما كنت أريد أن أخبر أحد الأشخاص بالقصة، وكيف كانت المغامرة التي خضتها في هذا الشأن وماذا كانت تفاصيلها، وما لاحظته حين لم أكن أتحرك في الظلام. ولكن من يستطيع أن يتفهم مثل هذه الحالة الإنسانية الشاذة، هذا الجانب الغريب والنادر من الوجود الذي وجدنا أنفسنا فجأة فيه؟ وقد مر أحد عشر عاما قبل أن أقابل شخصا كهذا.
الفصل الثاني
في وقت مبكر علمت أن ابني يمكن أن يحسن من مزاجي العام عندما أستجيب لاحتياجاته العاطفية غير المعتادة، فعلى مدار أيام كثيرة وحتى الآن، النظام كالآتي:
أصل إلى البيت متعبا من العمل (ربما لأني كنت مستيقظا معه الليلة الماضية)، بل ومحبطا؛ فلم تفشل إحدى السفن الخاصة بعملي في الوصول فقط، ولكن اتضح أيضا أنها لم تبحر على الإطلاق! وبينما ضوء النهار يتلاشى، يلعب ووكر مع أولجا، وهي مربيته منذ ولادته، واسم عائلتها دي فيرا، ولكننا نناديها دائما بأولجا، وإذا لم تكن قد عادت معه من المشي خارج المنزل الذي يستغرق ثلاث ساعات (هو يحب الخروج) وحممته، أستطيع أن أقوم أنا بذلك. اعتدت القيام بذلك يوما بعد الآخر، حين كان معنا طوال الوقت، فتحميمه يعيد الروح إلى نفسي.
أحممه، آخذه من أولجا في الدور السفلي (يتبعها بانتظام من المطبخ إلى حجرة غسيل الملابس في القبو، ثم إلى المطبخ، وهو يقوم من حين لآخر بجولات ذاتية التوجيه لحجرة المعيشة وحجرة الطعام والبيانو والردهة الأمامية وسلالم منزلنا الضيق في المدينة؛ ولمدة طويلة، حتى بلوغه سن السادسة، كانت السلالم مكان تسكعه المفضل)، وبحماسة أحرره من ملابسه (أفك الأزرار والسحاب وأحل المشكلة الهندسية الخاصة باستخراج ذراعيه المتيبستين من كمي ملابسه، وجعله يقف على قدميه، ومنعه من السقوط على الأرض بينما أنحني لخلع حذائه، متمنيا لو أننا كنا قد اشترينا حذاء بلاصقة فيلكرو بدلا من الحذاء الذي برباط)، ثم أفك الحفاض وأنحيه جانبا وأنظف ووكر إذا استدعى الأمر. والآن بعد أن انتهيت من ذلك، أرفعه وأضعه في حوض الاستحمام وأراقبه مثل مراقبة حركة السفن حتى لا يغطس في الماء، بينما أخلع ملابسي في لحظة وأقفز معه في حوض الاستحمام.
ثم نتمدد في حوض الاستحمام حيث تلامس نعومة ظهره العاري صدري. يكون هادئا مثل بركة المياه، وحلمات صدره دقيقة في حجم رأس المسمار بالضبط، وهي تثير توتري ولكني لا أدري السبب (يمكنني تخيل السبب). عظام كتفيه وعظام ظهره ناعمة ولينة ومرنة بطريقة غير عادية كما لو أنها مغطاة بنوع من التنجيد السحري، وجلد ذراعيه وفخذيه يشعرك بأنه مصطنع أيضا، وهو باهت وخشن للغاية، ولا ينساب بطريقة طبيعية، وكأن الخلايا مهتاجة تفرط في البناء، وهذا أحد أكثر النتائج المباشرة للمشكلات الوراثية التي أوصلته إلى هذه الحالة.
يتغير جسمه ببطء شديد لدرجة أنني غالبا ما أنسى قدر تغيره، وكلما كبر نلاحظ تشوهات جسمه بصورة أكبر؛ حذرونا من هذا عندما كان رضيعا. لديه الآن كرش صغيرة، وهو أمر لم يكن كذلك من قبل؛ فحين كان في سن أصغر، كان نحيفا جدا مثل الحبل، بينما يوجد الآن حول وسطه مقدار ضئيل من اللحم حوالي ربع بوصة، مثل اللفة في فردة الجورب، وجلده الآن أنعم حقا عما كان عليه وهو رضيع، كما لو كان الزمن يسير بالعكس.
في البداية، حين كان طفلا صغيرا، كان الاستحمام يضايقه، ولكن إذا ضبطت درجة حرارة الماء إلى الدرجة المناسبة، وجلست بهدوء إلى جواره لفترة طويلة على نحو كاف، ثم استبدلت بالماء البارد الماء الساخن ببطء، فإنه يهدأ ويستمتع بالاستحمام، حتى تغسل شعره أو تعطي جسمه الخارجي صدمة جديدة: يكره المصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد المثيرات الجديدة؛ إذ يبدو أن أعصابهم شديدة الحساسية باستمرار. ومع مرور الوقت بدأ يعتاد ماء الاستحمام، وبدا أنه يحرر أطرافه غير المترابطة على نحو قوي، ويخفف من العبء الذي تفرضه عليها الجاذبية. والمفارقة هنا أن الماء كان أحد أعدائه الأصليين؛ فقد كان هناك سائل أمنيوسي زائد عن الحد في الرحم، وقد استنشق بعضه قبل الولادة، وكذلك كان هناك سائل زائد عن الحد في المخ، يملأ تجاويف مخيخه الكبيرة الحجم.
يضحك كثيرا وهو في حوض الاستحمام، بالطبع أميل إلى الاعتقاد بأنه يضحك لأنه معي، ولكن هذا سخف؛ فهو سيضحك تقريبا مع أي شخص آخر. ***
يوم آخر. نستيقظ صباحا قبل وقت الإفطار، في حين أن الجميع نائمون. بدأنا ندعه يستيقظ حين يريد ذلك لنوحي إليه أنه هو الذي يختار ما يقوم به. أذهب برفقة ووكر إلى المطبخ، وأقوم بمتابعة قائمة المهام اليومية للعناية بجسمه: أذنيه (أذناه تشبه القنبيط من ضربه لنفسه؛ وهذا يعرضها للعدوى المستمرة)، وأنفه (لا تسأل)، وحالته العامة. يلعب بكيس بلاستيكي مليء بعروات علب المشروبات الغازية التي تحتفظ بها أولجا. لا أدري لماذا تحتفظ بها، لكن يوجد المئات منها محفوظة وملفوفة ومخفية في أماكن مختلفة حول المنزل؛ بانتظار استخدامها في كارثة غريبة تستعد لها أولجا بشكل مستمر.
هل تكون الكارثة غيابها النهائي؟ أنقذت أولجا حياتنا؛ فقد كانت ترعى والدة رأسمالي بارز في فترة حياتها الأخيرة قبل أن نحصل عليها من خلال مافيا المربيات الفلبينيات. كانت هايلي حينها تبلغ من العمر عاما واحدا، وكانت أولجا قد عملت حول العالم في وظيفة مقدمة رعاية للآخرين وخادمة بعد أن أجبرت على ترك كلية التمريض في مانيلا لكي تعول أسرتها. وبعد ولادة ووكر بعد ذلك بعامين وبداية المشاكل من اليوم الأول، بدأت أولجا ترعاه. كان نسخة منها ولكنه كان أقصر؛ فهي مكتنزة، ولديها إرادة قوية، ويصعب تشتيت انتباهها. بدأت تغسل ملابسه، وتنظف حجرته، وتنظم أدويته وطعامه، وتغير له ملابسه، وتأخذه للمشي لساعات دون توقف، وتغني له قبل النوم؛ وإذا لم تكن تفعل ذلك، فقد كانت تساعدنا في القيام بذلك. وكانت تغسل الملابس كما لو أنها تمارس طقوسا دينية بكل دقة، على الأقل مرتين يوميا. فقط بالليل وفي الصباح وفي عطلات نهاية الأسبوع عندما تذهب إلى بيتها، كنا نشعر بعدم الأمان في البيت، فنصبح بمفردنا مرة أخرى من دون أولجا. ولا يزعج أولجا شيء سواء أكان صراخا أم مرضا أم قذارة أم كارثة. وقد كانت تدون كل ما يتعلق بووكر: عدد مرات التبرز وطبيعته، ومدة المشي، وحالته المزاجية، والأدوية والجرعات التي يحصل عليها أربع مرات في اليوم، والنوبات المرضية، والحالات الغريبة، وأماكن وجودنا المختلفة، كل ذلك في دفتر سلك تحتفظ به على الميكروويف:
19 نوفمبر صباحا
ووكر براون
30 : 10 كلورال
00 : 11 بيبتامول/كلاريتين/ريسبيريدون
براز = نعم = متوسط الكمية = منتظم القوام
الاستحمام = نعم
إذا لم تكن ترعى ووكر، كانت تدلك ظهر هايلي وقدميها. تطلق عليها هايلي «أولجز»، وهي ليست لديها مؤهلات خاصة لرعاية ولد حالته معقدة مثل ووكر، غير صبر لا ينتهي وخيال وروح دعابة غريبة، وقدرة رهيبة على تحمل المسئولية وحب للهاتف المحمول، وقلب كبير لا يميز بين حاجات شخص وآخر. وفي المرات النادرة التي يغلب فيها ووكر النعاس، كانت تقرأ كل الصحف الموجودة في المنزل على منضدة المطبخ. كانت في مثل سني بالضبط. كل شهرين، كانت تقوم هي و40 من الصديقات الفلبينيات برحلة سياحية شاملة بالحافلة، ويتوجهن إلى أورلاندو أو لاس فيجاس أو شيكاجو أو نيويورك أو أتلانتيك سيتي ويعدن بعد خمسة أيام. وبعد ذلك قد يعتبر أي شيء - حتى ووكر - بالنسبة إليها عطلة.
الكيس المليء بعروات علب المشروبات الغازية والذي يضربه ووكر بعنف ؛ مصنوع من لب معدني: فهو يسحبه ثم يمسك به ثم يسحقه، واضعا إياه باستمرار بين يديه اللتين تشبهان شريحة لحم مأخوذة من خاصرة بقرة مثل سلسلة خاصة بإنسان آلي؛ شيء يهدئه، كما لو أنه شيء من فيلم الخيال العلمي «بليد رانر». لا أدري لماذا يقوم بهذا، وماذا يمثل هذا الفعل له! علي أن أكون راضيا بدلا من ذلك بالحقيقة الوحيدة لدي، وهي أنه يحب أن يلمس الكيس كثيرا. ويعد هذا أحد الأشياء الغريبة لوجود طفل لديك مثل ووكر: فهو لديه حياته الخاصة، وعالمه المجهول على الدوام، فهذا يعطي له مظهرا مهما خاصا بالبالغين، حتى إن كان لا يزال ولدا صغيرا، فهو لديه أشياء يقوم بها وأشياء يضغط عليها.
هل السبب هو العروات الحادة التي توجد تحت نعومة الكيس البلاستيكي، مما يعطيه شعورين متساويين ومتضادين في الوقت نفسه؟ قد يكون الكيس البلاستيكي المليء بعروات علب المياه الغازية نسخة ووكر من مفهوم القدرة السلبية، التي هي المعادل الموضوعي لفكرة كيتس عن المفاهيم المتساوية والمتعارضة التي توجد في العقل في الوقت نفسه دون حدوث انهيار عصبي، ودون تفضيل واحد على الآخر. ربما هي فكرة تحولت إلى شيء مادي. أو لعلي ما زلت أجتهد في الوصول إلى الحقيقة. إنه لا يدع لي فرصة الاختيار، بل يفرض علي هذا الطريق، فنبتكر - هو وأنا - عالمنا معا في كل لحظة أكون معه. «كيف حالك يا ووكي؟ ماذا تفعل؟ آه، أنت تضرب كيس عروات علب المياه الغازية بعنف وتحاول أن تجد موسيقى في مكان ما، هل هذا ما تريد؟»
هناك طرق أسوأ لقضاء الوقت. ***
كل شيء يتعلق به يضغط علي، إن لم يكن يرعبني، وأحيانا يكون له كلا التأثيرين. اليوم، وهو مستيقظ في حجرته، وقبل أن ننزل إلى الدور السفلي ببطء درجة واحدة في كل مرة، ممسكين بالدرابزين - هو دائما ما ينزل بقدمه اليسرى أولا - حدث شجار الوسائد، واستمر هذا لمدة عشرين دقيقة، أطول مما أعرفه عن قدرته على التحمل. للمرة الأولى منذ عشر سنوات، أكتشف أنه يحب أن يضرب بالوسادة. كيف فاتني هذا؟ مفاجأة ومتعة، وملل قليل حين يطول علي الأمر، ولكن سعادة «كلية» لأنه سعيد. قبل أن يبدأ سريان مفعول هيدرات الكلورال في جسمه، بينما لا يزال يقف بجوار سريره يحاول أن يتبرز (عمل روتيني صباحي، بمجرد القيام من الفراش)، ويبدو هذا على وجهه الذي لا يبدي أي شعور (وبالفعل منظره واضح)، بدا قلقا ومتضايقا، يفرك بأصابع يده موضع أنبوب التغذية كما لو كان منجما مفتوحا. إنه لا يجرح الجلد ولكنه يحكه فقط؛ وهو ما يعد أمرا طفيفا بمعايير معاقبة الذات لدى ووكر. كان جلده أبيض وقد بلي من الحك، وأظن أن الأمر مؤلم بالرغم من أنه لا يبدو عليه الشعور بألم كبير، وهو مما يعد عرضا آخر من أعراض المتلازمة التي يعاني منها. في كل الأحوال، أحب نزول السلالم معه؛ إذ يبدو الأمر وكأن تقدما يتحقق. أكره حجرته وهذا السرير البالي في الدور الثالث، وأكره السجادة ذات اللون الأزرق السماوي التي تغطي أرضية الغرفة من الجدار إلى الجدار، وملصقات بابار (التي لا تتغير، مثله تماما)، وحمالة الأحزمة الخشبية الرخيصة التي دائما ما تقع على الأرض (لم يكن لديه حزام يناسبه قط يكون صغيرا بما يكفي ليناسب خصره النحيل الذي يعلو ساقيه الطويلتين)، والخزانات المتعددة الأدراج (غير المتناسقة، والتي بعضها مصنوع من الخيزران والبعض الآخر من إنتاج شركة إيكيا) المكدسة بملابس لا نستطيع أن نحمل أنفسنا على التخلص منها، والسرير المغطى البالغ ثمنه 10 آلاف دولار أمريكي الذي يستند على أحد الجدران مثل المذبح، المغطى بشبكة تمنعه من الهرب، وحامل أكياس التغذية المتعدد الأجزاء المصنوع من الصلب المقاوم للصدأ الذي ثمنه 1200 دولار أمريكي، الموجود في ركن الحجرة مثل العم بيرتي المهمل (والذي لا نستطيع التخلص منه، حيث من الممكن أن نستخدمه في حالة الطوارئ، أو نحتاجه مرة أخرى: يا إلهي! ماذا لو احتجناه مرة أخرى؟) والكرسي الهزاز الذي أعطتني إياه أمي وأنا طفل، والذي انكسر الآن، وهو أحد الأشياء القليلة التي تربطها بابني. وبالطبع كلارنس المهرج، رأس المهرج البلاستيكي الرهيب الذي يتفكك إلى قطع: عينين، وأنف، وفم، بينما يتحدث كلارنس إليك، ويسمح لك بإعادة ترتيب وجهه، مع اختيار شكله؛ الشكل الحزين، أو السعيد، أو التكعيبي، أو الإرهابي. هل هذا يعبر عن شيء، أن لعبة يمكن إعادة ترتيب وجهها وتشويهه تكون لعبة مفضلة لولدي المشوه؟ أم هل ما يستهويه أنه يستطيع تشغيل الصوت الإلكتروني وإيقافه، على عكس صوته؟ أخبرني أنت! أكره حجرته؛ لأنها مثل متحف عفاه الزمن، مكان نادرا ما يتطور، مثل ولدي.
جسده جسد لاعب ملاكمة كبير السن: مربع، يشبه فعلا العلبة التي نشتري فيها القميص، عندما تكون في وضع قائم. وعلب ذراعيه - الأنابيب المصنوعة من مادة صلبة تمنعه من ثني مرفقيه؛ حتى لا يحدث جروحا رهيبة بالمنطقة العلوية في جمجمته طوال اليوم - تمنعه من تقوية عضلات أعلى الذراع، ولكن لديه مجموعة عضلات قوية في ساعديه. فكه السفلي ثقيل، وخداه ممتلئان، وليس لديه ذقن يذكر، وشعره مجعد، لكن ليس لديه حاجبان، حيث لا يوجد شعر تماما، وهو يشبه في ذلك رائد الفضاء. وأنفه عريض وهو من سمات هذه المتلازمة (من بين العديد من السمات الأخرى). وشفاهه غليظة، خاصة الشفة السفلى، والتي وصفها الأطباء بأنها «متسعة»، عندما كان لا يزال صغيرا. أسنانه مربعة، اصفرت من اللبن الصناعي الذي يتناوله، ولكن لم يصبها التسوس، ويداه مثل القفازات، كبيرة مقارنة بحجمه، والخوذة التي يلبسها معظم الوقت وأصبح لونها الآن أزرق مائلا إلى الأرجواني، مصنوعة من مادة رغوية منزلقة لامعة؛ تمتص الضربات التي كان يوجهها لرأسه، ولها رباط بلون قوس قزح، إشارة إلى الشمولية. (هل ووكر غريب بالنسبة إلى العالم الخارجي مثل شخص متحول جنسيا؟ أحيانا ما أسأل نفسي هذا السؤال.) ويمكنه إصابة نفسه والآخرين بالتلويح بذراعيه، والنطح برأسه؛ وهو يضرب حتى جيني، كلبة الترير الخاصة بجيراننا، دون قصد. لا تنزعج الكلبة من ذلك، وأنا أيضا ألتمس لووكر العذر في ذلك دائما.
الآن توجد حجرتان وثلاثة أرباع حجرة في المنزل مخصصة لمتعلقاته. كان مجال نفوذه قد زاد بالتدريج، ولكن ما زالت إمبراطوريته على حجمها إلى اليوم، بعد ثلاث سنوات من ترك المكان إلى دار الرعاية، في سن الحادية عشرة. يقضي ووكر هناك أسبوعا ونصفا ثم ثلاثة أيام في البيت، ولكننا ما زلنا نحتفظ بنسختنا من عالم ووكر كما هي، ويرجع هذا إلى أننا بالطبع لا يمكن أن ندعه أبدا يتركنا، حتى إن أراد. هناك حجرة كاملة في الدور الثالث، بجوار حجرة نومه، مخصصة لحفظ لعبه التي لم يلعب بها قط، والملابس التي لم يلبسها قط؛ التاريخ الأثري لاعتقادنا غير المجدي أن هذه اللعبة أو تلك سوف تخرجه من عالمه المنغلق، إلى عالمنا الأكثر انفتاحا، ونادرا ما جعلته تلك الألعاب يفعل هذا.
هناك أدراج تمتلئ بالملابس التي قدمها غرباء لووكر كهدايا، وهي ملابس تحتاج إلى كثير من الإصلاحات أو تركيب الأزرار، ملابس مصنوعة من أقمشة لا تناسب جلده شديد الحساسية، وهي هدايا تنم عن نوايا نبيلة حيرت عشرات الناس وهم يفكرون ويتساءلون ما الذي يمكنهم أن يشتروه لابننا الغريب ذي القدرات المحدودة. وهناك أيضا قلعة الديناصورات التي تكلفت مائة دولار وتشغله لمدة خمس دقائق في الشهر، إذا كان مستيقظا هنا وكان في مرمى وجودها. وهناك أيضا مستر وندرفل، وهي الدمية التي عندما تضغط على بطنها تقول كل الأشياء الصحيحة: «حبيبي، لم لا تأخذ جهاز التحكم عن بعد؟ وما دمت معك، فلا أبالي بما نشاهد.» وهذا يلفت انتباهه لمدة خمس عشرة ثانية، على الرغم من أن زوجتي كانت تضحك بسبب ذلك كثيرا.
من ناحية أخرى، يلفت انتباهه «جملون»؛ منزل قديم مصنوع من كعك الزنجبيل ملصق على طبق ورقي - كان قد تحجر ولم يعد صالحا للأكل منذ وقت طويل - كلما يراه. وهكذا الحال مع كيس زينة الكريسماس البلاستيكي، وهو ابتكار آخر من ابتكارات أولجا، والذي يمكنه أن يلفه حول يده مئات المرات في اليوم الواحد. لوحات وألغاز وكرات وألعاب نارية وألعاب تشبه الأجراس وصلصال، ولوحات نشاط ولعبة عفريت العلبة وألعاب تربوية تكفي لتغيير مستقبل أفريقيا، ودمى وحيوانات لعبة محشوة، وملابس؛ تقبع كلها بلا فائدة مثل الشعور بالذنب في مجموعة من سلال الغسيل البيضاء.
توجد في القبو، في مكان الساونا القديمة الذي نستخدمه كمخزن (من لديه وقت للحصول على حمام ساونا؟) أشياء غريبة أكثر، الأدوات المخيفة حقا التي أعارتنا إياها أقسام الخدمات الاجتماعية بالجهات الحكومية المختلفة التي يستعملها المعالجون حين يزورون المنزل. حين كان ووكر طفلا صغيرا جدا، كان هناك احتمال كبير أنه كلما دخلت منزلنا، أجد امرأة في الثلاثينيات أو الأربعينيات من عمرها ترتدي معطفا مصنوعا من قماش الدنيم، تجلس على أرضية غرفة معيشتي، تربت على ووكر، وتنشط خدوده، وتعالج يديه، وفي صبر تكرر نفس الصوت أو نفس الإيماءة مرات ومرات. وفي كل مرة أدخل وأرى مثل هذه المرأة أشعر ببعض الحزن؛ لأن هذا يذكرني بأن لدي ابنا في حاجة إلى مساعدتها، وأشعر بموجة من الأمل والعرفان بالجميل؛ لأن هذه الجلسة قد تحقق انفراجة كبيرة تعيده إلى الحياة الطبيعية، وما زلت أشعر بكلا الشعورين حين أراه ومعه معلم جديد مفعم بالنشاط، وغير يائس.
على سبيل المثال، حتى يومنا هذا في مكان الساونا، توجد مجموعة من الدلاء الصغيرة الصفراء البلاستيكية، ارتفاع كل منها ثلاث بوصات، وفي كل منها أداة مختلفة في أسفلها، وفي إحداها على سبيل المثال عجلة ينيانج، وهي دوامة لونها أبيض في أسود بمقبض يلفها. أعرف عجلة ينيانج؛ فالأطفال الصغار يستجيبون استجابة جيدة للتناقض، لأنماط الأبيض والأسود. وحول حافة هذه العجلة بشكل تبادلي مسامير معدنية تحدث صوتا كلما تحركت عجلة ينيانج. دنج دنج دنج دنج! شيء غامض نيبالي، أو تبتي. هل من المفترض أن تفيد هذه الأداة ولدي الصغير؟ على أي حال، توجد الأداة في الداخل في قاع الدلو الصفراء، وهناك فتحتان في قاع الدلو أيضا، ربما للمسك بالأصابع، وربما لإسالة المياه، أو ربما للأمرين معا. لم أتمكن من فهم كيف أستخدم هذه الأداة تماما، ولم ألحظ قط أنها تستحوذ على انتباه ووكر لأكثر من ثانيتين، ولا حتى لمدة ثانيتين، ولكننا نحتفظ بها على أي حال؛ ربما لأن هذه (كما هو مكتوب) ستكون الدلو السحرية، الأداة الغريبة الشكل التي ستغير كل شيء. وهناك ملصق ورقي على الجزء الخارجي للدلو الصغيرة الصفراء يقول:
مواد لتنمية المهارات الحركية الدقيقة
حرك وأدر وتعلم
وحدة دق الأجراس كل ساعة رقم 10
وأسفل ذلك، كتابة مختومة بختم مطاطي حبري:
برنامج مترو
لذوي الاحتياجات الخاصة [رؤية]
لا أعلم أي جوانبها أكثر كآبة: التصميم الأخرق غير الملائم، أم فتحتي الأصابع/التسريب غير المفهومتين، أم العلامات البيروقراطية (رقم 10، واحدة من الكثير منها)، أم علامة دق الأجراس كل ساعة (ألم يكن من الملائم أكثر أن تدق الأجراس كل ربع ساعة؟) أم حتى القسم الأكثر بيروقراطية (رؤية) داخل القسم الأكبر (برنامج مترو لذوي الاحتياجات الخاصة)، إضافة إلى استدعائه للبرامج الإقليمية والقومية الكبيرة والشاملة المذكورة سابقا، وكل واحد منها مقسم إلى نظم أصغر حتى نصل في النهاية، على الأقل، إلى هذا الركن من النظام الصغير القبيح الهمجي غير الملائم الأخرق البلاستيكي الأصفر ذي الفتحتين المخصص لولدي غير القابل للعلاج؟ أم الأمل المؤثر، وفي نفس الوقت اليأس المطلق، الذي يعكسه هذا الملصق، مفهوم الإنسان البدائي للطبيعة الإنسانية (مثير/استجابة، جيد/سيئ، مفتوح/مغلق)؟ أم هل الأمر يرجع إلى وجود أربعة دلاء نشاط بلاستيكية صفراء أخرى في الدور السفلي، مثل هذه الدلو ولكن مع وجود اختلافات؟ طائرة ذات مروحة متحركة، ومهرج يرتدي بابيونا دوارا، وطاقة من الزهور على سيقان متمايلة، وأكليشيهات كبيرة؛ لأن الأطفال يستجيبون على نحو جيد للأكليشيهات، على الأقل الأطفال العاديون، ولكن ليس ووكر. يصعب تشغيل كل تلك الدلاء، ويذكرنا هذا بكيف أن فهمنا لتطوير مهارات الأطفال غامض وضبابي وقاصر في الحقيقة، ولا نعلم إلا القليل عن الأمر. ولكنها قابلة للتكديس: الدلاء يمكن وضع بعضها فوق بعض لأنها تسمح بذلك. أنا أدرك أهمية القابلية للتكديس، وكم هي مهمة في منزل مليء بالأشياء غير المستعملة وخيبة الأمل.
في كل مرة أنظر فيها إلى دلاء النشاط الصفراء (وقد وضعتها في مكان الساونا لكيلا أضطر إلى النظر إليها)، أرى تاريخ حياة ووكر بتفاصيلها الدقيقة، وهي ليست سوى بضعة أشياء غريبة الشكل عليها ملصقات موضوعة بعناية، أقرضتنا إياها المجالس التربوية وجهات الرعاية الخاصة ومجموعات العناية الخاصة؛ أقرضتنا إياها! ويتوقعون منا أن نغسلها ونردها إليهم بعد حل مشكلتنا! كما لو أن المشكلة ستحل في يوم من الأيام، كما لو أنه حين يحل هذا اليوم سنتمكن من أن نجدها مرة أخرى في ظل أكوام الألعاب التي نعيش وسطها، وسنعرف من أي الوكالات العديدة أتت منها، وأين هذه الوكالة الآن، فنغسلها ونضعها في السيارة - ربما يأتي معنا ووكر - ونذهب نعيدها إليهم! حلم جميل. أتمنى أن يحدث هذا، يا إلهي، أتمنى أكثر من أي شخص أن يحدث هذا!
بدلا من ذلك، توجد الدلاء الصفراء في مكان الساونا غير المستخدم، وهي تشعرني بالذنب حتى هذا اليوم؛ لأنها تمثل مهمة أخرى ليس لدي وقت لإنجازها. كان هناك نظام مخطط له بوضوح مصمم لتدريس المهارات لووكر؛ حدة البصر! المهارات الحركية الأساسية! الربط بين الصوت وحركة اليد! القدرة على وضع الإصبع في فتحة صعبة جدا! لماذا لم أستطع العمل وفق هذا النظام؟ بالتأكيد فعل ذلك آباء آخرون؛ ولهذا السبب صمم النظام بالطريقة التي وضع بها، وهذا ما جعلني أقتنع بطريقة تصميم هذا النظام على أي حال.
لا يهم أن النظام لم يعلم الولد أي شيء.
من أغرب الأدوات التي استعرناها وأخفيناها عندنا؛ الصندوق مثلث الشكل ذي اللون الأحمر في الأبيض، ولهذا الشيء الغريب شريط لاصق مكتوب عليه أيضا:
ألعاب للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة
منشور بلاستيكي
رقم 5 مفهرس
الأضلاع الثلاثة الطويلة للصندوق مثلث الشكل حمراء اللون، وأطرافها بيضاء. أربعة من الجوانب الخمسة مصممة لإثارة الطفل بطريقة مختلفة.
توجد مرآة في أحد الجوانب، وهذه المرآة مخدوشة للغاية لدرجة أنها تشبه رقعة من الرصيف، ولكنها في النهاية مرآة.
في جانب آخر يوجد زران على جانبي الضوء، ويوجد الضوء في منتصف دائرة منخفضة.
هناك انخفاض آخر في جانب ثالث، وفيه نمط وجه مبتسم يقع في أضواء حمراء صغيرة، ويوجد أسفل الوجه بكرة خشبية لا تتدحرج، ولكنها تطقطق عند دفعها.
وأخيرا، في أسفل هذا الشيء الغريب يوجد خيط كان يضيء أنوار الوجه، ومن خبرتي لم تعمل الأضواء قط، ولكن هذا نظري. وتشير النظرية إلى أنه إذا سحب الطفل الخيط، تضيء الأنوار في الوجه، وهذا ما يشجع الطفل على أن يحرك يده نحو البكرة أسفل الوجه، وستحدث البكرة صوت ضوضاء ضعيفا. وتمثل المعادلة التالية الهدف من الأداة والجانب النظري لعملها:
خيط + أضواء = التعرف على الوجه من خلال الارتباط بالصوت/الضوضاء.
بناء على ذلك، تهدف هذه اللعبة إلى تعليم ووكر أن يربط الوجوه بالأصوات، وأن يضع في ذهنه مفهوم أن الوجه والصوت قد يرتبطان. على الأقل هذا أفضل تخمين عندي، حاولت أن أتصل بالمصنع لكي أعرف ماذا يمكن لهذه الأداة أن تعلم ابني، الذي يبتسم أحيانا لي حين أضع وجهي بجانب وجهه وأقول اسمه، ولكن لا يوجد اسم المصنع على اللعبة، قد يكون هذا مشتتا للغاية.
ما زلت أتذكر اليوم، حين كان ووكر طفلا صغيرا، حين اقترحت زوجتي فكرة أن نضع سلة ألعاب في كل دور من أدوار المنزل، وكان رأيي أنها فكرة عبقرية؛ وظننت أننا حللنا المشكلة، ولكن بعد مرور كل هذه السنوات ما زالت هناك كما هي، مكدسة وكاملة، تماما مثلنا في الغالب.
الفصل الثالث
ما أزعج دكتور نورمان ساوندرز، طبيب الأطفال الخاص بووكر، أن المستشفى لم يستدعه مباشرة بعد أن وضعت جوانا طفلا، يعاني بشكل واضح من مشكلات، ولد قبل موعده بخمسة أسابيع. بالتأكيد كان هناك شيء على غير العادة في ذلك اليوم. كان 23 من شهر يونيو عام 1996، يوم أحد، وكنت في العمل أقدم برنامجا إذاعيا عاما أسبوعيا يستغرق ثلاث ساعات، واتصلت بي جوانا بعد الساعة الثانية من البرنامج؛ كانت على وشك الولادة، وارتفع صوتها على غير عادته الهادئة. أخذها أخي بالسيارة إلى مستشفى متخصص في صحة النساء. انتهيت من عملي وقابلتهما هناك. كانت طبيبتها في إجازة، وأشرف على عملية الولادة أحد زملاء طبيبتها وهو رجل طويل ولطيف اسمه ليك. لم تكن حالة ووكر بسبب خطأ من هذا الطبيب بالطبع، ولكني لن أسامحه أبدا على أي حال.
كان هناك أمر آخر على غير العادة في ذلك اليوم، إضافة إلى غياب الطبيبة المعتادة لزوجتي، ألا وهو الطريقة التي نزل بها على يد الطبيب المولد في اللحظة التي تلت خروجه من رحم أمه؛ إذ بدت عليه نظرة يأس، كما لو أن هناك خطأ ما. أصيب جلده بالصفرة، ولم تنفتح رئتاه جيدا، ووضعه الأطباء المساعدون بسرعة على منضدة، حيث وضعوا قناع الأكسجين على فمه وأنفه الصغيرين لعدة دقائق، وما زلت أسأل لسنوات عدة بعد ذلك إن كان هذا الأكسجين الاضطراري قد أسهم في حالات التأخر التي يعاني منها؛ كما يمكن أن يفعل دائما. سمعت أحد الأطباء المساعدين - وكان طويل القامة - يهمس إلى زملائه بعد لحظات قليلة: «يا للعجب! أنا سعيد أنه بدأ التنفس من نفسه.» تلك كانت بداية الذعر، القليل والمطرد، القلق الذي ميز حياة ووكر منذ ذلك اليوم ... هزيمة حياته. كانت العلامات بادية هناك منذ البداية. كانت هناك كتلة غريبة من شعره المجعد المهوش، متجمعة في شريط أعلى رأسه المستطيل، وكان هذا منظرا غير مألوف. ومنذ فترة قريبة كنت أركب دراجتي ووجدت نفسي أمر بالمستشفى الذي ولد به فكدت أبصق عليه؛ فأنا أكره هذا المكان، حتى الطوب المطلي باللون الأصفر المصنوع منه. ولكن بعد تدبر الأمر، أدركنا أنه ولد قبل موعده الطبيعي؛ فقد كان خاملا بطبيعة الحال. (لم يكتشف أحد إصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد في تلك المرحلة.) رفض ووكر ثدي أمه في فترات الغذاء المتعاقبة، ولم تنزل إحدى خصيتيه، ولم يستطع سوى فتح عين واحدة، ومع ذلك عندما أجرى له الدكتور ساوندرز أول فحص طبي بعد يومين، وجد أن وزنه قد زاد بمقدار 300 جرام.
لكن حتى في هذه الزيارة الأولى - أعرف هذا الآن من فحص سجلات ووكر الطبية - بدأ دكتور ساوندرز في تدوين تفاصيل غريبة في سجل ابني: الحنك في مكان مرتفع بصورة غير طبيعية، هناك نقص في توتر العضلات، وشقوق جفنية صغيرة - أو فتحتا العين - وأذنان مستديرتان ومنخفضتان، وثنية في جلد جسر الأنف. كانت هايلي طفلة طبيعية ومتألقة، ولم يكن ساوندرز متحمسا جدا لأخيها.
بعد يومين، فقد ووكر معظم ما زاده من وزن، وكانت جوانا قلقة جدا، ولم تكن تفكر إلا في كيف تجعله يأكل. لم يكن قادرا فيما يبدو على الرضاعة، وكان يحتاج إلى ساعة من الزمن لكي يتناول كمية صغيرة من اللبن، وعندما يتناولها يتقيؤها، وكأن جسده لا يريد أن يستمر في الحياة. وفي صباح إحدى الزيارات إلى الدكتور ساوندرز في مكتبه، قال بحدة: «نريد لهذا الولد بالتأكيد أن يعيش، أليس كذلك؟» واستنتجت أنه كان سؤالا بلاغيا.
تضمن سؤال ساوندرز سؤالا آخر لم يقله: «لا يمكن لهذا الولد أن يعيش دون بذل مجهود غير عادي، هل تقبلون أن تبذلوا هذا المجهود غير العادي وأن تتكيفوا مع العواقب؟» ولو سأل هذا السؤال صراحة، لا أتخيل أن إجابتي كانت ستكون غير نعم. فلا يمكن لكل النظريات الأخلاقية في العالم أن تغير من ضغوط اللحظة: الطفل الذي يصرخ على منضدة الفحص، وبطنه المنتفخة، وقلق الطبيب الواضح، ووالده يقف في هذا المشهد لا يفعل شيئا سوى سماع نداء الطفل وحاجته.
في وقت لاحق، وأنا بمفردي ليلا، بعد أن جاهدت لساعات لجعله ينام، فقط كي أجد نفسي بعد نومه لا أستطيع النوم؛ كنت أفكر في بعض الأحيان فيما تكلفني حياته والبدائل المتاحة. هل كان يسألني الطبيب عما إذا كنت أريد أن تنتهي حياة ووكر، كما تنهيها الطبيعة بنفسها؟ جلست على السلالم الخلفية لبيتنا الصغير الذي يوجد في قلب المدينة في الساعة الرابعة صباحا، أدخن وأفكر في أمور لا مجال للتفكير فيها، أفكار إجرامية، أو على الأقل همجية: ماذا سيحدث إذا لم نبذل قصارى جهدنا؟ ماذا سيحدث إذا مرض ولم نبذل جهودا كبيرة في السعي في علاجه؟ لا أفكر في القتل ولكن كل ما أفكر فيه هي أمور طبيعية، ولكن حتى إذا فكرت في تلك الخطط الخطيرة، أعلم أنني لا أستطيع أن أنفذها أبدا. أنا لا أتفاخر بهذا؛ فترددي لا يتعلق بالأمور الأخلاقية، ولكن الأمر يتعلق أكثر بدافع داخلي، غريزي وطبيعي، والخوف من طريقة معينة للفشل، والخوف من القصاص إذا تجاهلت نداء جسده وحاجته. على أي حال فقد شعرت حينها بأني ثور في نيره، كان بإمكاني أن أشعر بالسنوات المأساوية الثقيلة وهي تحل أمامي، مثلما هو الحال مع الطقس السيئ؛ وكانت هناك ليال كنت أرحب بها. في النهاية، هو مصير أجبرت عليه وقدر لا فكاك منه. كانت تظهر أثناء هذا التفكير نقطة ضوء صغيرة، وهي الشعور بالراحة للاستسلام للمقدر، وخلاف ذلك، كانت تلك أسوأ ليالي حياتي، وليس في وسعي تفسير لماذا لم أغيرها. ***
قبل أن يولد ووكر، وبعد ميلاد طفلتنا الأولى هايلي، تحاورت مع زوجتي بالطريقة العصرية المعتادة بشأن إن كان يمكننا أن ننجب طفلا آخر. أحببت هايلي، وكانت أفضل حدث بالنسبة إلي في حياتي على الإطلاق، ولكن لم أكن متأكدا هل كان بإمكاننا أن يكون لنا طفلا ثانيا. أردت أن يكون لهايلي حلفاء في معاركها المستقبلية معنا، حتى إني أحببت فكرة أن يكون لنا أسرة أكبر، ولكنني وجوانا نعمل كاتبين، ولم يكن لدينا مال كثير، وكنت أريد أن أطمئن نفسي بأنني لن أتخلى عن طموحاتي. قال لي صديق: «قل لزوجتك إنك لا تريد أن تصبح أبا ملازما البيت تقوم على رعاية الأسرة.» وهذا ما فعلته، فردت جوانا: «أعرف ذلك.» وكانت شفافيتي هي ما كان يقلقني أكثر، حساسيتي المفرطة: كنت أبله من وجهة النظر هذه. وبالطبع كان القرار نفسه صعبا علي؛ أن نأتي بطفل إلى هذا العالم، وهي خطوة مهمة في الحياة يمكن أن تنتهي بالفشل أو أسوأ من ذلك؛ الحسرة. عندما كنت شابا عازبا، لطالما شاهدت أزواجا يتشاجرون في الشارع، أو يتناولون العشاء معا في المطاعم دون أن يتحدثوا لمدة نصف ساعة في كل مرة. لماذا يحدث ذلك؟ فكرت في نفسي. وفيما بعد، بعدما تزوجت، رأيت أزواجا يضايقهم أطفالهم، وتساءلت: لماذا يفعلون ذلك؟ وقد كان يملؤني الرعب عندما أرى زوجين لديهما طفل معاق، ليس بسبب منظر الطفل ولكن التفكير في هذا العبء الذي يقع على عاتقهما. ولم أكن أتصور ما هو أسوأ من ذلك.
انتهى النقاش بشأن الطفل الثاني كما ينتهي النقاش في الغالب: ندع الطبيعة تأخذ مجراها، وسرعان ما أنجبنا أخا لهايلي، وكانت تبلغ من العمر ثلاث سنوات حين ولد ووكر. جزء مني لم يندهش على الإطلاق لإعاقة ووكر: إنه عقابي، وقدري أن أتعلم منه. ومن الليلة الأولى التي أخذته فيها في حضني على السرير لأطعمه، شعرت بالرابطة بيننا، التي تجمعنا معا، والتي أنا مدين له بها.
بعد ميلاد ووكر، ظننت أن الحوار بشأن إنجاب أطفال آخرين قد يختفي، ولكنه على العكس من ذلك قد زاد. في ذلك الوقت، كانت تجتاح جوانا حاجة جديدة إلى طفل ثالث، كانت تريد أن تتبع ووكر بحالة سوية، وأن تخرج هايلي من حالة الوحدة التي تتربى فيها مع أخ معاق إعاقة شديدة، والذي لن يمثل أبدا صحبة لها كما يفعل الأخ أو الأخت الطبيعيان. لكن الأمر غير معقول، وكنت أنا من رفض الأمر، والذنب الذي شعرت به بعد ذلك كان محتوما مثل الطقس. ***
زار ووكر الطبيب ثلاث مرات أخرى في شهره الأول، وكان يتقيأ كثيرا، ولم يذق طعم النوم. كانت أمه كالشبح، وكان الدكتور ساوندرز يسجل تفاصيل تشريحية في كل زيارة: أصابع الإبهام بيضاوية مثل المجرفة، وضيق متوسط للجفون (عيون مائلة إلى أسفل وصغيرة بعض الشيء)، وفرط تباعد العينين (هناك مسافة كبيرة بين العينين). وكان يستخدم دائما مصطلحات علمية في سجل الولد؛ وذلك حتى يتواصل بدقة أكبر مع الأطباء الآخرين، وهي كلمات علمية تمثل معيارا مهنيا للدقة. ولكن ووكر براون كان ولدا تصعب الدقة معه. من ناحية أخرى أصبحت كلتا خصيتيه حينها واضحتين، مما يمثل تقدما محدودا.
قال ساوندرز لجوانا: «ما زال من المبكر جدا أن نشعر بالقلق.»
لديه موهبة في طمأنة الأمهات، وهذا هو أحد أسباب كونه واحدا من أفضل أطباء الأطفال في المدينة. كان قد بلغ لتوه الخمسين من عمره، وكان حسن المظهر وأنيقا (فقد كان يصر على ارتداء رابطة عنق)، ولديه مهارة الحوار السلس . معظم الأمهات اللائي أعرفهن معجبات به، وكن يتجملن عند الذهاب إلى مكتبه حين يحتاج أطفالهن إلى جرعة منشطة من لقاح معين.
ما لا يعرفه مرضاه أن لطبيبهم المحبب اهتماما منذ فترة طويلة بالحالات المرضية النادرة وعواقبها الإنسانية. تعمل زوجته، لين، معلمة لذوي الاحتياجات الخاصة. لم يكن طب الأطفال مجالا مجزيا مثل معظم التخصصات الأخرى، ولكنه يعطيك الأمل؛ فمعظم الأطفال الذين شفوا على يديه عالجهم بإجراء سريع ومؤكد، وفي المرات التي لم يستطع فيها أن يصل لعلاج لمرضاه، كان يرى شيئا بطوليا في هؤلاء الأطفال وفي حياتهم. (قبل أن يموت بوقت قصير من سرطان القولون في ربيع عام 2007 وهو في سن الستين، دعا لإطلاق مبادرة ساوندرز نورمان للعناية المعقدة في مستشفى الأطفال المرضى بتورونتو.) كان ساوندرز مهووسا بصورة شخصية بتاريخ البحرية البريطانية في القرن الثامن عشر وأبطالها، فأصبح ساوندرز بحارا ومستكشفا في مياه بلا شطآن في علاجه للأطفال ذوي الحالات الصعبة.
لكن اهتمامه الشديد بووكر أصاب جوانا بالجنون، فكانت تعود إلى البيت من موعدها مع الطبيب وتجاهد عند دخولها من الباب وهي تحمل حقيبة الطفل وأداة جديدة لمحاولة إطعامه وتجر عربة الأطفال، ثم تعطيه إلى أولجا وتقول: «أنا متضايقة جدا من نورم؛ في الغالب هو يعرف ماذا يفعل، أما مع ووكر فهو يكتفي بالنظر إليه.»
كل ما كان يفعله ساوندرز أنه كان يحاول فهم إن كان اعتلال مظهر الولد - دع عنك ارتخاء عضلاته وعدم قدرته على النمو بصورة طبيعية - أحد علامات متلازمة ما، وإذا كان الأمر كذلك، فأي متلازمة هذه؟ هناك آلاف المتلازمات الطبية، وعلى الأقل ستة آلاف مرض نادر. ويشير ضيق الجفون في حد ذاته (الجزء الزائد من المساحة بين عيني ووكر) إلى الكثير منها؛ على سبيل المثال: متلازمة فان دن إندي-جوبتا، أو متلازمة أودو، أو متلازمة كارنيفال. في ذلك الوقت، كانت شبكة الإنترنت ما زالت أداة جديدة، وأخذ علماء الوراثة يملئونها بقوائم المتلازمات يوميا، الأمر الذي جعل بدوره تشخيص أية متلازمة أسهل وأعقد في الوقت نفسه عما كان عليه الحال في الماضي، فأصبح الأمر كما لو أنك تحاول أن تجد نباتا معينا في حديقة مليئة بالأزهار الغريبة، كل زهرة أغرب من الأخرى.
مر على ووكر ستة عشر أسبوعا من عمره، مرورا بطيئا ولكنه منتظم. وبينما بدأ أول خريف من حياته يتوارى ليدخل الشتاء، بدأ ساوندرز يحدد تشخيصا ما؛ لا على أنه توجد مشكلة ما فيه، ولكن هناك شيء ليس صحيحا. أصبح الطفل أكثر انتباها، على الأقل بدأت عيناه في تتبع الأشياء، بالرغم من أن رأسه ما زال بطيء الحركة بعض الشيء، وبدأ يبتسم، ورأى الطبيب أنها مؤشرات جيدة.
لكن في الليل وهو بمنزله، أخذ ساوندرز يتصفح المراجع الطبية حول الأمراض النادرة، ولم يعجبه ما وجد. على وجه التحديد، وجد ورقة بحثية بها صور لأطفال يبدون تقريبا مثل ووكر براون بالضبط؛ إذ وصفت هذه الحالة الشاذة حديثا ومن الصادم أنها نادرة، وهي اعتلال وراثي عشوائي يؤدي إلى مجموعة واسعة النطاق من الأعراض المرتبطة معا التي تعرف مجتمعة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. كان لا يزال أمام الجهود العالمية لتحديد تسلسل الجينوم البشري سنوات في المستقبل، وكان لا يزال علم الوراثة الإكلينيكي، السابق عليه، لعبة في الغالب تقوم على الرصد والحدس. تتداخل أعراض تلك المتلازمة مع أعراض المتلازمات الأخرى، والخطأ في التشخيص كان واردا جدا؛ فتشبه متلازمة القلب والوجه والجلد متلازمة شبرينتزين - كاد ساوندرز أن يشخص حالة ووكر على أنها هذه المتلازمة - ولكن الأخيرة تختلف في أن للأطفال المصابين بها حاجبين. وتعد متلازمة نونان شائعة أكثر من متلازمة القلب والوجه والجلد، وتشترك معها في سمات كثيرة، ولكنها تؤدي في العادة إلى تأخر أقل في الجوانب المتعلقة بالنمو. وفيما يخص متلازمة ديتو كوستلو، يظهر الاختلاف في أن الأطفال المصابين بها لديهم أعراض «أقل حدة» (أيا كان ما يعنيه هذا) وهم عرضة أكثر للإصابة ببعض أنواع السرطان مقارنة بالمصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد. ورأى كثير من علماء الوراثة أن متلازمتي القلب والوجه والجلد وكوستلو شكلان مختلفان فقط من متلازمة نونان، في حين أصر آخرون أنهما متلازمتان منفصلتان. وظللت أنا وزوجتي نأمل أن يعطينا أحد معلومات محددة ومفيدة عن حالة ولدنا، ولكن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه علماء الوراثة أنهم لا يعلمون سوى القليل. ***
بحلول أواخر خريف عام 1996، وبناء على رؤية نورمان ساوندرز، ظهر على ووكر تقريبا كل علامات متلازمة القلب والوجه والجلد، وكانت العواقب المحتملة مخيفة: كصعوبات في التعلم، وفقدان للسمع، وضعف في القدرات العقلية واللغوية. ولاحظ أحد الباحثين بذكاء أن «مهارات التواصل الاجتماعي قد تتجاوز المهارات العقلية»، وينشأ لدى 10 في المائة من الحالات اضطرابات نفسية في فترة المراهقة.
في شهر نوفمبر من ذلك العام، أحال ساوندرز حالة ووكر إلى قسم الوراثة في مستشفى الأطفال المرضى، وفي البيت تحول الوضع من قلق طبيعي على طفل مبتسر إلى حالة ترقب مستمر على مدار الساعة. هناك مشكلة في ولدنا.
يتذكر أي والد طفل مصاب بمتلازمة اليوم الذي طلب منه فيه أن يذهب إلى قسم الوراثة؛ فهذه هي الدائرة الجهنمية الثانية للتشخيص. وما كان مشكلة صحية إلى حد ما يمكن علاجها، أصبح فجأة مشكلة علمية محفورة في الصخرة الوراثية. وما زلت أتذكر كيف انتهى اليوم، وكيف مر الوقت، الذي كان يمر ببطء شديد. حدثت حادثة قبل هذا على بعد أميال في الطريق السريع المزدوج؛ واضطررنا إلى العودة. كانت الصدمة مشابهة لفقدان خاتم الزواج في البحر: عرفت أنه ضاع، ولا يمكن استعادته. هذا ليس شيئا يمكننا إصلاحه، فهو قديم جدا ومتعلق بالمراحل الأولى من النمو. في يوم كان ووكر جزءا من الحياة، وفي اليوم التالي أصبح خطأ في التطور. كرهت الفكرة، ولكني أتفهم القدر الآن، وما قاله اليونانيون عنه. وفجأة بدا وكأن كل شيء قد توقف، وشعرت بأني قد كبرت عقدا من الزمن.
المبنى الذي به عيادة الوراثة في مستشفى الأطفال المرضى يشبه سفينة فضاء مستقبلية؛ فهو مبني من صلب مقاوم للصدأ، ونظيف، ولا توجد به شقوق أو عيوب. وفي العادة كانت العيادات وأقسام الطوارئ والمعاهد والبرامج التي زرناها بصحبة ووكر مصحات عقلية صغيرة؛ تجد فيها فوضى في كل مكان وأطفالا يصرخون بأصوات متعددة في نفس الوقت، وأمهات ينفجرن غضبا. ويحمل اختصاصيو الرعاية الاجتماعية ألواح الورق، ويحاول الأطباء، وليس الطبيبات، تجنب الدخول في مشاجرات، وتسمع صفير الآلات؛ ذات مرة عددت عشرة أصوات مختلفة للصفير.
على الجانب الآخر، كانت عيادة الوراثة تشبه مصنع الحيوانات المنوية في فيلم وودي ألين «كل ما تريد معرفته عن الجنس (ولم تتجرأ على السؤال عنه)»: فهي نظيفة ومنظمة ومهندمة، وكل شيء في مكانه، ويعم الهدوء المكان! ولا عجب، فلا يوجد أحد في المكان، تشعر كما لو أنك في قسم يسوده اليقين، قسم قد تحصل فيه على إجابات قليلة. (لم أعرف إلا القليل، وحتى يومنا هذا وبالرغم من الاختبارات الوراثية المتكررة، لم نصل إلى تشخيص مؤكد عن حالة متلازمة القلب والوجه والجلد لووكر، بالرغم من أن أطباءه متأكدون من أن هذه هي حالته.)
أحالنا ساوندرز إلى قسم الوراثة في شهر نوفمبر، وسار الطلب في دورة عمل النظام الطبي، وبحلول شهر فبراير تحدد لنا موعد مع اختصاصي الوراثة الدكتور رون ديفيدسون، وكان ابنه اختصاصي وراثة أيضا. كان رجلا طويلا ذا صوت واثق، وأكد تخمين ساوندرز: ووكر مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وكان ووكر يبلغ من العمر حينها ثمانية أشهر، وكان هذا يمثل تشخيصا مبكرا لمتلازمة القلب والوجه والجلد حتى اليوم.
قالت جوانا بلهجة مؤثرة، بينما كنا نجلس في مكتب دكتور ديفيدسون: «الآن بعد أن عرفنا المشكلة، سنعرف كيف نحلها.» كانت مؤمنة بالطب، وكانت تريد أن تصبح طبيبة، والتحقت بتمهيدي طب لمدة عام، قبل أن تطيح الفيزياء والكيمياء العضوية بتلك الطموحات.
كان الطبيب مبتهجا، وكتب في خطاب تأكيد بعد مقابلة ووكر: «تتحقق معالم نموه بمعدل يدخل ضمن النطاق الطبيعي.» (كانت هناك دائما خطابات تأكيد بعد زيارات الأطباء، لدينا مجموعات كبيرة منها.) كان يرى هذا الطبيب أن «من أكثر مظاهر متلازمة القلب والوجه والجلد التي تثير القلق احتمالية حدوث مشكلات في التعلم.» ولكن حتى في هذا الشأن ما زال هناك أمل، ومع ازدياد عدد الحالات المسجلة، كانت حالات عديدة منها ذات سجل تعلم طبيعي جدا ومعدل ذكاء طبيعي.
المتلازمة لا تنتقل بالوراثة؛ ففرص إنجاب طفل آخر بنفس المتلازمة ضئيلة جدا، بالرغم من أن احتمال إصابة أبناء ووكر بتلك المتلازمة تبلغ 50 في المائة. «بالرغم من ذلك، وفي حينها، سنعرف الكثير عن حالته والطفرة التي أدت إليها، وستكون هناك بلا شك مجموعة متنوعة من الخيارات المتاحة له ولزوجته.» زوجة ووكر! يجب أن أعترف، لم أتصور ذلك قط.
الفصل الرابع
كان رأسه وهو رضيع كبيرا جدا وعلى شكل زيتونة، أما باقي جسمه فكان خفيفا مثل رغيف الخبز؛ فقد كان بإمكاني أن أحمله بيد واحدة، وأطلقت عليه بوجل أو بيجل أو السيد بي أو لاجالاجا (لأنه كان يحدث هذا الصوت)، أو باه! (فقد كان يحب أصوات حرف البي). ومع تقدمه في العمر، نشأت بيننا لغة خاصة بطقطقة اللسان نتحدث بها أنا وهو فقط، وكل ما كان يبدو أننا نقوله: «أهلا، إنه أنا، أطقطق إليك، ولك فقط؛ لأني أنا وأنت فقط نتحدث بلغة الطقطقة.» ويرد (أو أرد أنا) على ذلك، على ما أظن: «نعم، مرحبا، أراك هناك، وأنا أرد لك الطقطقة، وأحب أن نتحدث بلغتنا الخاصة، وفي الواقع أجد الأمر ممتعا.» وهذا أمر ممتع لكل منا.
كنت أصفق بيدي له وكان هو يرد علي بالتصفيق؛ وكان يحب على نحو خاص أن أجعله يصفق بيده أسرع مما يستطيع بنفسه. كان من المستحيل التقاط صورة منضبطة له، إلا بالمصادفة، وحينها كان يشبه فرانك سيناترا الابن وهو في قمة نشاطه. وبدت رائحته كأنه شيء مخبوز في فرن دافئ، وحتى هذا اليوم تشع من رأسه الرائحة اللذيذة لحلوى زاجنت. لم يزحف قط، ولكنه بدأ يمشي عند سن الثانية والنصف.
كان البيت كابوسا منظما، فلا يمكنك أن تستمر في الحياة وأنت أب لطفل معاق إن لم تكن منظما، وكانت زوجتي منظمة. كانت هناك سلال الغسيل التي بها الألعاب في كل دور من أدوار بيتنا، وكانت لوحات النشاط البلاستيكية معلقة على ظهر الكراسي في المطبخ وفي حجرة المعيشة ، وكانت صينيات الحقن وأنابيب التغذية موجودة في الأدوار العلوية والدور السفلي، وكانت هناك مجموعة من الحفاضات في خزانة بجوار الباب الأمامي، وكانت هناك أعداد كبيرة من زجاجات الأدوية والمراهم في الخزانات وفوق أسطح المناضد.
كان يحب لمس الأشياء؛ لذا كانت الشرائح الثلاث السفلية لكل ستارة نافذة في المنزل مدمرة، ويبدو أن وعيه الأكثر تطورا كان يوجد في يديه، فيما يستطيع أن يمسكه بها؛ كمفتاح الإضاءة العبقري، وبكرة ورق الحمام المبهرة، وأي شيء يصدر صوتا أو ضوءا؛ لذا كان يعرف الأشياء التي يمكنه لمسها فقط.
أفضل ما في الأمر هو طريقة انفجاره في الضحك وانخراطه في حالة من البهجة لسبب ما غامض، وهو ما كان يعجب من يرونه. (لأول وهلة كنت أشك أنه كان يدعك عضوه الذكري بين فخذيه، وهو ما يعد مصدرا تقليديا للمتعة عند كل الأولاد.) ومع تقدمه في العمر، أصبح أكثر مكرا؛ إذ كان يحب إلقاء الأشياء الموجودة على الطاولات والأسطح المستوية، ولا سيما تلك المؤمنة جيدا. كان يسعى وراء كئوس الخمر التي يبدو أنها كانت تبهر عينيه؛ لذا أطلقنا عليه الرجل الرزين. كان يشتت انتباهك لشيء ما، ثم يلقي بالمحتويات الموجودة على سطح ما ثم يتمايل برأسه طربا، في لحظة يكون فيها أذكى من أي إنسان آخر. هل هذا مشروعه السري، ليوضح لنا أنه أحيانا ذكي بما يكفي بحيث يمكنه أن يخدعنا؟ لم يكن يدهشني هذا. كانت رغباته غير واضحة، ولا يمكنه الإفصاح عنها، ولكن لا يعني هذا أنه ليس لديه رغبات.
أصبح متجولا عظيما ومحظوظا، وفيما يلي سرد لإحدى الأمسيات:
يبلغ من العمر خمس سنوات. (وفي أفضل حالات جسمه من القوة والامتلاء، يبدو أنه يبلغ من العمر ثلاث سنوات.) أتركه في رواق مطوق في أسفل سلالم منزل أنيق خاص بصديق لي بينما نتناول العشاء، أعلم أنه لا يمكنه صعود السلالم ولا يمكنه فتح الباب.
بعد عشر دقائق، أسمع صوت رنين، صوتا جميلا، صوت انكسار الهواء، ولكنه صوت غير عادي بحيث يجعلك تنهض لترى ما يحدث. إنه ووكر ، فعل ما لا نتصوره وصعد السلالم وفتح الباب، والآن يكسر كئوس الخمر السبع الأخيرة الموضوعة على طاولة القهوة النوجوشية بفرح وعن عمد، ولا أثر لخدش عليه، وأصبحنا نطلق على هذه الأمسية ليلة الزجاج المكسور (في إشارة إلى العمليات التي نفذها النازيون ضد مصالح وبيوت اليهود في ألمانيا والنمسا بين التاسع والعاشر من نوفمبر عام 1938).
لم تكن هذه مزحة مضحكة على وجه الخصوص، ولكنك إذا قضيت مدة طويلة مع طفل معاق، طفل من غير المفترض أن يعيش ومع ذلك فقد غير بقاؤه حياتك تغييرا جذريا - خصوصا إذا كان هذا الطفل هو طفلك - تشعر أنك بإمكانك كسر القواعد المتبعة، فالولد يعيد تنظيم العالم. إن مشكلة تعاسة شخص معين بشأن وظيفته أو عدم قدرته على إيجاد امرأة توليه ما يراه قدرا كافيا من الاهتمام؛ تتلاشى أمام مشكلة كيف نمنع ووكر من تحطيم رأسه. تقل أهمية رأي الآخرين أكثر فأكثر كلما سرت أكثر في الشارع ومعك ولد يلفت منظره الأخرق الانتباه، يحملق ويبتسم بالطريقة نفسها؛ وهكذا تتحدد حياة المرء فجأة بالضروريات الأخرى.
على سبيل المثال أستخدم كلمة «متأخر» بالرغم من أنها لا تستخدم أبدا لوصف الشخص المعاق؛ فهي لا تعد وصفا كافيا عند إطلاقها على إنسان، ولكنها تثير المشاعر إذا وصفت بها تصميما لا حياة فيه، وخاصة جانبا مستعصيا من جوانب السلوك البيروقراطي. أحيانا أستخدمها في حفلة ما وأستشعر من الشخص الذي أتحدث إليه بأنه يرتد إلى الخلف، بالرغم من صعوبة إدراك هذا، لمجرد الظهور المفاجئ لما يفترض أنها كلمة لا تصلح للاستخدام في هذا السياق، أراه يلاحظ الاستخدام ولكنه يقرر ألا يرد؛ لأنه يعلم أن لي ابنا معاقا: عليه أن يعتقد أنه إذا استخدمها شخص ما، فإنه يستطيع هو أن يستخدمها أيضا. إنها تحتاج لأن تكون لها استخدامات جديدة.
كان يحب النساء، وكلما كانت المرأة أجمل، كان أفضل. وحتى وهو طفل صغير كان يرفع يديه ليحمل - لم يتمكن من الجلوس بمفرده حتى بلغ عاما تقريبا - أو فيما بعد، كان يلقي بنفسه في حجر المرأة وفي الحال يحملق في حافة الثوب عند العنق، ثم كان يتحسس جسمها. ظننت أن هذا أمر عرضي، ولكن صديقات جوانا لاحظن أن هذا كان عن قصد. كان يحب كل ما يلمع، ويقربه بأصابعه إلى عينيه القلقتين. وأطلق عليه أصدقاؤنا «الصائغ».
أتحدث هنا عن أصدقائنا المقربين، أما الآخرون - وعلى الأقل في السنوات القليلة الأولى - فلم أذكر لهم الصعوبات التي يعاني منها ووكر على الإطلاق. لم أكن أخجل منه، ولكن لم أرد الإشفاق ولم أرد له أن يشعر أنه في حاجة إليه أيضا.
ظل في عقلي، ليس فقط كشيء سلبي، أو كمصدر للقلق، ولكن كطلسم عقلي. وبالطبع ينطبق هذا على ابنتي، ولكني كنت دائما ألحق بهايلي، في حين أن ووكر كان يتحرك ببطء ويمكن ملاحظته من وقفته، وتظهر هالته؛ حقيقة وجوده، في كل مكان بصورة غير متوقعة: في كلمات أغنية لنيل يونج في صالة الألعاب الرياضية: «البعض مكتوب لهم السعادة/والبعض مكتوب لهم المجد/والبعض مكتوب عليهم الوحدة/من يمكنه أن يخبرك بما هو مكتوب لك؟» وبين ثنايا مقال لنورمان ميلر كنت أقرؤه أثناء واحدة من نوبات الأرق التي تصيبني، وكان يظهر في حوارات الآخرين. في إحدى المرات في حفلة كوكتيل - في الصيف الذي بلغ فيه ووكر ثلاث سنوات - سمعت رجلا أعرفه معرفة جيدة يحاول منذ وقت طويل أن يشرح لصديق آخر كيف يتواصل الناس مع ابني. وقال: «من الصعب وصف ذلك - وكان يحمل مشروبا في يده - والده لديه لغة الغمغمة الخاصة به، ويبدو أن هذا يفي بالغرض كأي لغة أخرى.» لا أدري إن كان يستحسن ذلك أم لا، ولكنها كانت المرة الأولى التي أسمع فيها أن ما أقوم به مع ووكر يمكن وصفه كلغة.
غالبا ما كنت أتساءل إذا ما كان التقدم الذي يحرزه ووكر نتاج خيالنا، وأن الروابط التي نرى أنه يقوم بها هي محض اختراعنا. هل كان يقول فعلا: «هيه هيه» حين تكون هايلي قريبة منه، أم كان يتنفس فقط؟ وحين أودعه عند الخروج وأنحني لأقبله، هل كان يقول فعلا: «باي»، أم كان يتنفس فقط؟ وسمعتها جوانا كذلك؛ إذ قالت: «قال فعلا باي!» ثم قالت: «سأبكي!» مما يدل مرة أخرى على الإفراط الشعوري اللحظي الذي كان يميز حياتنا. كان يجعل الناس يشعرون بالأشياء، ولكن هل كان يشعر هو بأي شيء؟ هل فعلا يوجد تكوين الولد الطبيعي الذي كنت أراه تحت مظهره المتبلد، تحت بركة عقله الراكدة تماما؟ أم هذا هو ما أتمناه وحسب؟ تولدت لدي قناعة كبيرة بأن محاولتنا لتصور كائن كامل من أجزاء جسمه غير مكتملة النمو هو عمل من أعمال الإيمان المفرط، والذي لا يختلف عن أي عمل من أعمال شخص متطرف في حماسه؛ لا يختلف مثلا عن أم الداعية الذي يقدم برامج تليفزيونية في هيوستن والتي قابلتها في إحدى المرات، والتي أخبرتني بعبارات مؤكدة أن الجنة حق، وأنها ستذهب إليها، وأن الرب قد زين لها مكانها فيها، كما فعل لكل عباده المؤمنين، وذلك وفق رغباتها الشخصية. قالت ذلك وكأن الأمر واقع، وكأنها تصف جنتها المفضلة: «ستكون جنتي مليئة بالماء؛ لأني أحب الماء.» توقع ساذج، ولكنها كيف تختلف عن جوانا وعني؟ من لا يريد أن يؤمن بوجود الجنة؟ ولكن هذا لا يعني أنها موجودة.
غير أن هذه الأسئلة المستمرة، المتعلقة بووكر - هل يقصد ما يفعل أم لا؟ - كانت أيضا نموذجا، إطارا نصور به العالم البشري، طريقة للعيش.
في الصيف الذي بلغ فيه ووكر اثنتي عشرة سنة، قمنا بإجازتنا الطويلة الأولى دونه. كان ذلك نفس الصيف الذي تعلم فيه أن يرد بنجاح في معظم المرات على طلب ضرب الكف بالكف عاليا. وبينما كان ووكر في مدينة تورونتو في معسكر لذوي الإعاقات العقلية، ذهبت أنا وجوانا وهايلي لقضاء أسبوع في منزل أخي تيم في بلدة روكبورت، في منطقة كيب آن، شمال بوسطن. كنا نقضي أنا وتيم فصول الصيف في البلدة عندما كنا صبيين، مع والدينا وأخواتنا، وتعلمنا هناك السباحة والإبحار وأن نأكل الكركند بطريقة صحيحة، وأن نشعر بالسعادة لوجودنا بجوار البحر. أصبحنا مستقلين في حياتنا هناك، وكذلك صديقين .
كان المنزل يطل على المحيط، وهو عبارة عن مبنى مربع رائع يطل على المحيط الأطلنطي عند جزيرة تاتشر، وهي منطقة ضحلة خطيرة جدا لدرجة أنها تحوي ليس فقط منارة واحدة لكن منارتين. هذا المنزل أحد الأماكن المفضلة لدي والذي يذكرني دائما بووكر: كان معنا في أول فصل صيف نقضيه في هذا المنزل، قبل أن يتملكه تيم، أول فصل صيف نستأجره أنا وهو معا. ولد ووكر في شهر يونيو، قبل موعد ولادته الطبيعي بخمسة أسابيع، ولكننا سافرنا بالسيارة إلى بوسطن في شهر أغسطس على أي حال، وكان عمر ووكر حوالي ستة أسابيع - وذلك قبل أن نعرف أن هناك مشكلة به - حين كان يبدو لنا فقط أنه طفل صعب في إطعامه، وكنا نرى حينئذ أن بإمكاننا التعامل مع أي شيء بصورة عادية. ولمدة أسبوعين كانت زوجتي تجلس على كرسي في مطبخ المنزل المستأجر بجوار البحر، تحاول أن تدخل بعض السوائل في فم ابننا الصغير الغريب، بينما تحملق في المنارتين المتطابقتين في الشكل.
كان للكرسي وسائد خضراء وأذرع من الخيزران. نظرت إلي الطفل كثيرا في أول فصل صيف من حياته ورسمت له لوحة بالألوان المائية، وصنعت زوجتي فيما بعد إطارا لها وعلقتها على حائط حجرة نومنا، بالقرب من السرير إلى جانبي. ولمدة طويلة كانت أول شيء أراه حين أستيقظ في الصباح، وقصدت زوجتي بذلك أن تكون مجاملة لي، ولكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أتساءل إن كان قصدها هو التنبيه: لا تنس الولد!
الآن هو في الثانية عشرة من عمره؛ وقد عدنا إلى جوار البحر، لأول مرة من دونه، ولم يعد الكرسي موجودا أيضا. في اليوم الأول استيقظت في الصباح قبل الجميع وهبطت عبر الصخور الجرانيتية إلى المحيط للاستحمام عاريا. كان المحيط هائجا وكان من الصعب النزول إلى الماء والخروج منه مرة أخرى. وبعد ذلك سلكت طريقي عائدا إلى الدش الموجود خارج المنزل ونظفت جسمي من الأملاح، ولبست ملابسي، وأعددت قهوة، وقرأت الصحيفة، ونظرت إلى البحر. كنت بمفردي، وشعرت كأنني في الجنة، ولم أفكر حتى في الساعات التي قضيتها في تلك الغرفة مع الولد، في السنوات الاثنتي عشرة الماضية. أشعر بالسعادة؛ لأنه ما زال هناك مكان، ملاذ من نوع ما، حيث لا يمكن أن أشعر بقلقي عليه، حيث يمكن أن أنساه على الأقل مؤقتا. لكني أفتقده دائما حين يحدث هذا، ودائما ما يكون هناك، كما أنه الآن في ذاكرتي عندما تذكرته وهو رضيع في المطبخ المجاور للبحر. يا لها من رفاهية، رفاهية عدم القلق! رفاهية ألا يكون ووكر في عقلك أو يلح على تفكيرك! من دونه، ولفترة قصيرة أتمكن من فعل كل شيء كما كنت أفعله من قبل، بخطوات محددة، بالطريقة التي تتبعها حين لا يكون لديك طفل معاق.
لكن حتى هناك وجدني ووكر. في ذلك الصباح
1
بعدما عدت من السباحة في البحر، وأخذت أتجول في المنزل، بدأت أتصفح كتيبا عن الأعمال المعروضة بمعرض لوحات إدوارد هوبر. عاش هوبر بالقرب من هنا بمدينة جلوستر، وقد استوحى بعض لوحاته المشهورة من الخلفية المحلية الأصيلة والرزينة هنا. وفي عام 1947، سألت السيدة فرانك بي ديفيدسون هوبر عن رأيه في الفن التجريدي، ولم يكن الفنان التمثيلي العظيم متأثرا؛ فقال للسيدة ديفيدسون: «هناك مدرسة للرسم الزيتي تسمى التجريدية أو غير الواقعية، وهي مستمدة بدرجة كبيرة من أعمال بول سيزان الذي حاول إنشاء «رسم مجرد»؛ أي فن يستخدم الشكل واللون والتصميم بشكل منفصل عن تجارب الإنسان في الحياة وارتباطه بالطبيعة. في رأيي مثل هذا الهدف يصعب أن يحققه بشر. وسواء أردنا ذلك أم لا، فنحن جميعا مرتبطون بالأرض، بتجاربنا بالحياة وتفاعلات العقل والقلب والعين، ومشاعرنا لا تتكون البتة من الشكل واللون والتصميم؛ وبهذا فإننا نترك جانبا كبيرا من الحياة أظن أنه من المهم التعبير عنه بالرسم، والذي لا يمكن التعبير عنه في الأدب.»
أول مرة أقرأ فيها هذه الفقرة في ذلك الصباح - كان هذا قبل وقت الإفطار - اعتقدت أن هذا هو خطئي تماما مع ووكر؛ أحاول أن أرى فيه أشياء ليست فيه، أحداثا «مستقلة عن الحياة وارتباطي بالطبيعة»، فنحن تجريديون فيما يتعلق بووكر، نصر على أن هناك لوحة زيتية، فكرة مترابطة - ولو كانت في شكل راديكالي - لا يستطيع أحد آخر رؤيتها. أخذت أعيد قراءة الفقرة، وكلما قرأتها، بدأت أقتنع أكثر بأنه لا يوجد سوى فرق ضئيل بين ما كان يحاول أن يرسمه هوبر على القماش أو الورق، وما كنا نحاول أن نفعله مع تبلد ووكر: كنا نصف ما شاهدنا ثم نحاول تحديد ماذا يعني وكيف جعلنا نشعر، وهل كان حقيقيا أم لا.
يمكن أن تمر ساعة هكذا، بسبب مجرد التفكير فيه. ***
في البيت، وفي جولاته في المنطقة المجاورة لنا مع أولجا، كان لووكر دائرة كبيرة من المعارف. يقترب مني أشخاص حتى الآن ويقولون لي: «أنت والد ووكر!» يشعرني هذا بذكائه. كان أنيقا في ملابسه أيضا؛ إذ كانت أولجا تشتري له أحدث الملابس من محلات جاب في مناسبات أعياد ميلاده، ومن حين لآخر كنت أذهب خلسة لأشتري له شيئا ما بنفسي. ولا أستطيع وصف سعادتي حين اشتريت له أول قميص يناسب الأولاد الكبار؛ إذ بدا أنيقا ورائعا، واشتريت له سترة تزلج برتقالية، واشتريت له أول بنطال جينز، وأول بنطال كاكي اللون، وأول حذاء رياضي، وأول قبعة رياضية، وسترة طيار ذات ياقة فرو، وكنت أشتري له «تي شيرت» من أي مكان أسافر إليه. اشتريت له فانلة داخلية أصغر من يدي، ونظارة شمسية لم تعجبه، وقبعة وقفازات (ملقاة كلها جانبا رغم أنها جديدة)، وجوارب وأحزمة هندية مطرزة بالخرز؛ كل رموز مرحلة الصبا العادية، كل ما نرغب أن يكون لديه، وليس ما يرغب فيه هو. في يوم من الأيام سآخذه مع والدي وأخي لأشتري له أول رابطة عنق. أعلم أن هذا لا جدوى منه؛ لأن الصدرية التي يرتديها لالتقاط لعابه ستغطيها، ولكن لعل هذا يكون الطقس الذكوري الوحيد الذي يمكن أن نمنحه إياه.
مكتوب في دفتر كنت أدون فيه ملاحظاتي:
27 ديسمبر عام 1997
علي أن أولي اهتماما أكبر بغذاء ووكر. كان لديه موعد مع الطبيب قبل أن نسافر للاحتفال بالكريسماس هنا في ولاية بنسلفانيا، وأصابت طبيب الأطفال الدهشة من كونه لا يزال عاجزا عن المشي، أو لا يمشي، أو يزحف، أو يسعى لالتقاط الأشياء ويضعها في فمه، أو يحاول إطعام نفسه وابتلاع أي شيء مكون من أجزاء، أو تكديس المكعبات. وتملكه رعب أكبر حين وجد أن ووكر يزن فقط 20 رطلا؛ مما يعني نصف ما ينبغي أن يكون عليه في هذه السن - سن العام والنصف - أو ثلثيه في أفضل الأحوال. الشيء المرعب الجديد هو أن عدم قدرته على زيادة الوزن ستؤثر في نموه العقلي، حتى ولو كان وزنه مناسبا؛ لذا استغرقت وقتا طويلا بعض الشيء أحاول معرفة كيف أصنع كاسترد بالبيض، التي رأت ممرضة أنها ستزيد من وزنه، ولكن أصابته نزلة برد شديدة، وضعف في قدرته على البلع؛ مما يعني أنه كثيرا ما يتقيأ بعد تناول الوجبة. أستطيع أن أرى أنبوب التغذية يلوح في مستقبلنا أنا وهو، وبالرغم من ذلك أخشى عليه في المقام الأول من الوحدة. ومؤخرا، بدأت أرى أنه يدرك ذلك أيضا؛ بمعنى أنه يدرك فجأة أنه ليس مثل أي شخص آخر، ولو عن غير وعي.
يبدو أني على وشك البكاء، لذا سأذهب.
عندما بلغ ووكر عامه الثالث، بلغ سجله الطبي عشر صفحات.
ظهرت عليه مجموعة من الاعتلالات مبكرا، كاعتلال في الصدر، والتهاب رئوي، وإمساك، وآلام مستمرة بالأذنين، وتقشير بالجلد، ولم يكن ينام. كنا نراه طفلا لطيفا، وإن كان يبكي كثيرا.
على الأقل، المكان المتاح لك أن تطرح أسئلة فيه عن حالته هو مكتب الطبيب، وكانت العودة إلى البيت بعد ذلك تشبه الدخول في ردهة طويلة لمكان لن تضيء أنواره أبدا. قالت زوجتي إنها كانت تشعر «كما لو أن ستارة عازلة للصوت قد أسدلت أمامنا.» بالتأكيد أي أزمة مع أي طفل تسدل هذه الستارة؛ فيقل اهتمامك، ويكون هدفك أمامك مباشرة. وتختلف حالة ووكر في أن الستارة مسدلة دائما. قبل ووكر كان المستقبل مثل سلسلة من التحديات الواضحة، يمكن التغلب على كل منها، تفضي في النهاية إلى مجد (ربما ناقص). وبعد ولادة ووكر أصبح المستقبل جامدا وحزينا ويحمل كثيرا من الالتزامات حتى نفارق الحياة؛ وهو ما يثير النظرة المتشائمة لما يمكن أن يحدث له حينئذ.
في وقت مبكر - وهذا الأمر شائع أيضا في الأسر التي لديها أطفال مصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد - اتفقنا أنه لا ينبغي أن تكون هايلي مسئولة عن ووكر بوصفها بالغة. لكنها تقبلت حالته وكانت تتعامل معه بكل هدوء ودون ضيق. وفي أحد الأيام سألتها: لماذا ترين أن ووكر لم يستطع المشي أو التحدث في سن الثانية؟ فقالت: «استطعت المشي عندما كان عمري سنة واحدة؛ لأني ولدت بعينين مفتوحتين، ولكن ووكر ولد بعين واحدة مفتوحة فقط.» كان عمرها حينئذ أربع سنوات.
كان تشخيص حالة ووكر بأنها متلازمة القلب والوجه والجلد جيدا في ذلك الوقت، ولكن توصيف الحالة لم يحسن من صحة ووكر. أصبحت ملحوظات الدكتور ساوندرز متكررة؛ وكانت الكلمات «محتقن» و«يسعل» و«التهاب الأذن» و«توقف النمو» تظهر في كل مرة يدون فيها ملاحظاته. وفي الشهر الثامن عشر لم يكن ووكر يتحدث، ولا يفهم أي كلمات، ولا يستطيع المشي، ولم تصدر عنه أي إيماءات فيما عدا رفع ذراعيه؛ بمعنى «لأعلى»، وابتسامة من آن لآخر. كتب ساوندرز «تأخر في النمو» بخط كبير في سجله. ولم يكن هناك وقت في اليوم يكفي لأن ننتظر ووكر حتى يأخذ أجزاء الطعام الصغيرة التي يمكنه بلعها؛ ولذلك طلب ساوندرز تركيب أنبوب تغذية. فحتى يشتد عوده، لن يتمكن من تناول الطعام، ولأنه لا يستطيع الأكل؛ لذا لن يشتد عوده. وقد سهل أنبوب التغذية إعطاء ووكر القائمة الطويلة من الأدوية التي احتاجها لعلاج حالة الارتجاع التي أصابته وعدوى الأذن والأرق وتوتر أعصابه وأنواع الطفح الجلدي التي كانت تصيبه: بنفسج بلوري وهيدروكورتيزون وأموكسيسيلين وأزيثروميسين وكلاريثروميسين وإيريثروميسين (والتي تعد الأكثر شمولية فيما يخص قوة المضاد الحيوي) وسيسيبرايد وكيفليكس وبيتنوفيت وفلامازين ولاكتولوز وكوليس وهيدرات الكلورال. تبدو هذه الأسماء مثل أسماء سفراء لمؤتمر بين المجرات من الكائنات الغريبة. ساءت حالة الإمساك المزمن التي يعاني منها (كانت عضلاته ضعيفة للغاية لدرجة أنها لا تستطيع تحريك الفضلات عبرها بصورة طبيعية) بتعاطيه هيدرات الكلورال المطلوب لحالته أيضا، وقد كان مطلوبا للتعامل مع هذه الحالة تناول ثلاثة عقاقير لا عقار واحد، وهي: اللاكتولوز بوصفه مادة سكرية مسهلة، ووكوليس بوصفه مادة مثل الديناميت، والأقماع الشرجية التي تقوم بعملية الإخراج النهائي. وقد كانت تلك العقاقير تستغرق خمس دقائق حتى يبدأ مفعولها.
لا يوجد شيء متعلق به كان طبيعيا؛ فمثله مثل معظم الأطفال، أصابه طفح جلدي بسبب الحفاض، لكن لأن هذا ووكر - ابني غير الطبيعي - كانت المشكلة كبيرة جدا؛ الأمر الذي استدعى بقاءه يوما في المستشفى. وكان هناك شمع كثير جدا في أذنيه لدرجة أنه يمكننا به عمل متحف من الشمع. ولمدة عشرة أشهر، ظهرت عنده بثور مؤلمة في قدميه أعاقت مشيه الذي كان يعاني من مشاكل بالفعل، وكانت تمتد إلى ثلاث بوصات، ولونها أصفر، وتظهر سواء كان يرتدي جوارب أم لا، وسواء كان يرتدي أحذية أم لا، ولكنها اختفت سريعا كما ظهرت سريعا، ولم يفسر لنا الأطباء السبب.
كان تشخيص حالة ابني على أنها متلازمة القلب والوجه والجلد يعني مزيدا من المواعيد مع الأطباء والاختصاصيين: اختصاصي الأذن، وطبيب العيون، واختصاصي الأمراض الجلدية، واختصاصي الارتجاع المعدي، وطبيب الأعصاب، وطبيب القدم، والمعالج الوظيفي والمعالج السلوكي، وطبيب الأسنان، واختصاصي الوراثة، وطبيب القلب، وعيادات التغذية والنوم، وحتى عيادة علاج سيلان اللعاب. وقد توصلوا إلى النتيجة التالية (وأنا جاد جدا فيما أقول): «السيدة براون، ابنك يسيل لعابه.» واحتاج طبيب الأسنان إلى إعطاء ووكر مخدرا كاملا لتنظيف أسنانه. ويعد علاج الفم والأسنان مهما إذا كان سيتعلم الكلام، ولكن بعد عامين لم يتكلم، ثم تحولنا إلى لغة الإشارة، لكنه لم يستطع القيام بالتواصل بالعين الضروري لتعلم الإشارات، وكانت مهاراته الحركية الدقيقة في مستوى لا يساعد على تعلم تلك اللغة على أي حال. وفي ذلك الوقت بدأ يلكم رأسه بقوة، ولم يشجع هذا المعالجين على استكمال العلاج، ولم يتمكن طبيب العيون من الحصول على قراءة دقيقة لحالة عيون ووكر، ولم يستطع ووكر التعبير عن حالته، وكذلك الحال نفسه بالنسبة إلى السمع، هذا بالإضافة إلى الإحدى عشرة زيارة إلى مكتب الدكتور ساوندرز في عام 1998 بمفرده، وزيارات إلى قسم الطوارئ، وكان ووكر يقوم بزيارة طبية كل أسبوع. كان هذا يحدث إذا كان يتمتع بصحة معقولة إلى حد ما.
قال لنا الخبراء إننا من الأفضل أن نركز على تنمية قدراته الحركية الأساسية؛ فهو إذا تعلم المشي، على الأقل، فيمكنه تنويع بيئته وتحفيز نفسه، وسيكون أقل اعتمادا بكثير على الآخرين لبقية حياته. وكانت العبارة بالتحديد: «لبقية حياته.» ولكي نعلمه ذلك، اتجهنا إلى علاج فنزويلي خالص ومكلف لثلاث مرات في الأسبوع لمدة عامين، وتضمنت طريقة «ميديك» تعليقه بالمقلوب وسحب رجليه في أوضاع غير طبيعية. يعيش المتخصص الوحيد في هذه الطريقة في المدينة، إيثر فينك، على بعد 45 دقيقة بالسيارة منا، في منطقة مجاورة شمال تورونتو تسكنها طائفة يهودية تسمى الحسيديم، والتي بها عدد كبير من الأطفال المعاقين. إنه عالم آخر، وأصبحت فجأة جزءا منه.
كره ووكر الجلسات، وبدأ بالصراخ لحظة أن سحبناه إلى مدخل عيادة إيثر فينك، ولكنه تعلم المشي، على الأقل تمكن من ذلك، وباستطاعته أن يكون اسما على مسمى (فكلمة ووكر
Walker
تعني الشخص الماشي)، ولعل هذا هو سبب إصرارنا على تعلمه المشي. ***
الغريب أن كل هذه الظلمات يمكن أن تبددها بضع نقاط ضوء، حيث إن رد الفعل وحده كان مهما؛ فابتسامة منه أو نوبة بهجة تنتابه كانت تنير مسائي.
أتذكر كم كنت فخورا حين ذهب إلى المدرسة أول يوم؛ فببلوغه سن الثالثة التحق ببرنامج «العب وتعلم»، وهو برنامج رعاية يدمج الأطفال المعاقين مع الأطفال العاديين. تمكنت من التعرف على آباء الأطفال المتأخرين في ساحة سيارات المدرسة حين كنت أذهب إلى توصيل ووكر؛ يبدون كما لو أن قنبلة قد انفجرت لتوها في المقعد الخلفي لسيارتهم. كانوا في أمس الحاجة إلى التواصل ويتوقون إلى قول الحقيقة. وفي مساء أحد الأيام، قابلت بالمصادفة امرأة توفيت منذ عامين ابنتها المعاقة إعاقة شديدة والتي كانت تبلغ من العمر 14 عاما. قالت: «هل تعرف أول شيء فعلته عند عودتي من الجنازة؟ قلت لزوجي: «مهلا، دعنا نتضاجع!» وقد طلقته فيما بعد.»
ذكر في أول بطاقة متابعة لووكر في برنامج «العب وتعلم» ما يلي:
يستمتع ووكر باستكشاف الأشياء عن طريق إمساكها بيديه، ويقلب الأشياء بين أصابعه حين ينظر إليها، وبدأ أيضا في ضرب الأشياء معا.
تقوم فكرة هذا البرنامج على أساس أن دمج الأطفال العاديين مع نظرائهم المعاقين يزيد من حساسية العاديين ويلهم المتأخرين، وتفتخر المدرسة بوجود اختصاصي علاج بالتكامل الحسي يعمل بدوام كامل (غالبا ما تسيطر الحواس على إدراك الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد لما حولهم؛ لذا يتعين أن يتكيفوا معها، حتى لو كان هذا مجرد الإحساس بشخص آخر يلمس جلدهم) واختصاصي علاج وظيفي، يعلم المفاهيم الأساسية للاندماج الاجتماعي مثل الجلوس مع الآخرين أثناء تناول وجبة الغداء. ومما أدهشني أن ووكر بدأ يصبح ببطء أكثر جرأة وميلا للاختلاط بالآخرين. وكانت هيئة التدريس (كلهن نساء) معلمات مخلصات متخصصات في التدريس للمعاقين، وكن متفائلات يرين أملا في كل شيء. ذكر ما يلي في إحدى بطاقات المتابعة:
في المجمل، ينطق الحروف المتحركة المفتوحة وتركيبات الحروف الساكنة والمتحركة - والتي قد تشمل أيا من الأصوات التالية
b, n, d, l, y - بإضافة الصوت «آه»، وبالرغم من أنه لا يبدأ تواصلا مع الآخرين، فهو يستمتع بأقرانه من حوله، وحين يمسك أحد أقرانه بيده، تبدو عليه السعادة.
تأثرت تأثرا كبيرا بالسطر الأخير؛ هو بحاجة إلى من يقف بجانبه.
لكي تبدي الحكومة المحلية في أونتاريو أنها حريصة على تقديم التعليم المناسب، فقد كانت تصر على عمل تقييم لكل الأطفال، والتقييم كان يعني المعايير. وفي المرة الأولى التي رجع فيها ووكر إلى البيت من برنامج «العب وتعلم» ومعه بطاقة متابعة في حقيبة الظهر الخاصة به، عرفنا أنه يتحسن في العمليات الحسابية. العمليات الحسابية! تحسن! حينئذ ضحكنا ضحكا شديدا ثم قبلناه وقلنا له: «أحسنت يا ووكر! اثنان واثنان يساوي أربعة!» فعلنا هذا لمدة طويلة، وتمسكنا بهذا الشيء باعتباره ممتعا ونادرا. بالطبع، كنا ندرك أنه لم يكن يقوم بعمليات حسابية بالمعنى الحرفي الذي نعرفه، ولكنها كانت قصة أتى لنا بها يمكن أن يقدرها أي شخص، جزء من تفاصيل حياته ظهر من خلف الستارة العازلة للصوت.
ما لا أستطيع أن أفهمه هو ما الذي كانت تعنيه الأعمال الروتينية التي كان يقوم بها في هذا البرنامج بالنسبة إليه، هل علم أنه كان «يرسم» حين كان المعلم يوجهه في استخدام يديه أثناء الرسم؟ كان له صديق، يدعى جيرمي، ولكن هل كان يعرف ما معنى صديق؟ كان يجلس إلى الطاولة مع الأطفال الآخرين في وقت تناول الوجبات الخفيفة - أحببت ذلك - ولكن هل شعر بصحبة الأطفال؟ ما الذي كان يحدث تحت هذا الجلد السميك، وخلف هذا القلب المتضخم؟ لم أكن أبالي إذا لم يلق الكرة أو يضايق أخته أو يتزلج بجواري أو يمزح أو يواعد بنتا (بالرغم من أني كنت سأحب هذا لو فعل)، كان كل ما يهمني هو معرفة إن كان لديه إحساس بنفسه، بحياته الداخلية. وكان يبدو هذا أحيانا أكثر الأسئلة إلحاحا بالنسبة إلي. ***
منذ مجيئه من المستشفى إلى البيت طفلا رضيعا وعمره يومان، كانت الليالي تمر علينا بصعوبة. إذا كان دور جوانا أن تجعله ينام وتنام معه، كنت أوصل أولجا إلى شقتها بالسيارة، ثم نتبادل الأدوار الليلة التالية. وكانت الليالي التي لم نكن نعمل فيها على رعاية ووكر مناسبات مهمة: كنت أخطط أسبوعي بناء على ذلك، بالرغم من عدم الثقة في إتمام تلك الخطة. (إذا حدث أن كان أحدنا مضطرا للسفر في مهمة عمل - وهذا أمر كان يحدث لكلينا على الأقل بضعة أيام كل شهر - يتولى الآخر رعاية ووكر وحده، ليلة تلو الأخرى. وكان هذا أمرا منهكا، ولكن هذا جعلنا نعتز بالليالي التي كان ينام فيها، كما لو أنها منح رائعة وغير متوقعة؛ فأربع ساعات خالية بالنسبة إلينا كانت تعني نوم ليلة لأي شخص آخر.) وبعد توصيل أولجا إلى شقتها، أصبح حرا؛ فأذهب لأتناول مشروبا، أو أتمشى، وفي معظم الوقت كنت أعود إلى البيت وأدخل بهدوء، وأغلق مفتاح الباب الأمامي الثقيل بيدي ، تاركا حذائي بجوار الباب، آملا أن أنام دون إيقاظه، ودون سماعه وهو يصرخ أو يلكم رأسه، فهو لديه قدرة على التسلل إلى عقلي بمجرد أن أفتح كتابا أو أبدأ كتابة خطاب، وبمجرد أن أسمعه، يخطفني؛ فلم أكن أستطيع تحمل صوت معاناته المطردة. ولكن إذا كان نائما وأستطيع أن أظل مستيقظا، فيمكنني أن أقرأ، وكنت أقوم بذلك بنهم، ولم أقدر قط قيمة الكلمات والكتب والوقت وحياتي العقلية أكثر مما كنت أفعل في هذه الليالي المختلسة. دانتي، كتاب «تاريخ التأخر العقلي»، كتب عن الصمم والتهتهة، روايات عن رعاة البقر والأشرار، ويوميات دبلوماسيين، ومذكرات كازانوفا. (ادعى كازانوفا أنه لم يتكلم حتى سن الخامسة، ثم عندما تكلم، كان موجودا على سفينة بخارية صغيرة، تعبر قناة جراند كانال في مدينة فينيسيا. وقال، إذا لم تخني ذاكرتي: «الأشجار تتحرك!» وبدلا من أن يفرح والداه أن ولدهم المتأخر قد تكلم أخيرا، عنفاه بقوة على الفور لغبائه، وصاحا: «السفينة هي التي تتحرك!» وحينها نطق كازانوفا جملته الثانية: «حسنا إذن، من الممكن أن تكون الأرض هي التي تدور حول الشمس!» أقر بأنه مرت علي أيام تمنيت انفراجة مشابهة تحدث لووكر. بالتأكيد كنت أجمع قصصا.) وقرأت خطابات تشسترفيلد لابنه، والروايات البوليسية الرتيبة لتشسترتون، وكل ما يصرفني عما أنا فيه: إيلمور ليونارد وتشاندلر وروث وأبديك، وكتب عن الآباء وتجميع القصص المماثلة والهوس، والمقالات التي تتناول الموضوعات المختلفة للحياة الشخصية وحياة الفنانين والمليونيرات، وبالطبع كل الأبحاث العلمية حول متلازمة القلب والوجه والجلد، فضلا عن الصحف. توضح إحدى صور ووكر المفضلة لدي من تلك الأيام ووكر وهو يجلس في حجري وأنا أجلس على كرسي الحديقة القابل للبسط، ونحن في كوخ أحد الأصدقاء شمال تورونتو، الذي يوجد بجوار بحيرة ساكنة. أقرأ الصحيفة، وأفتح صفحاتها، ويبدو علي علامات العبوس، ويستند ووكر إلى صدري، يضحك كالمجنون. كان كلانا سعيدا في ذلك الوقت. ***
كنت أنا وجوانا نحلم بالإجازات، ولكن البعد عنه كان معقدا. لم نكن نتركه هو وهايلي بالليل مع أولجا إلا عندما بلغ من العمر ثلاث سنوات، ولكننا لم نكن نرغب في ذلك: كانت أولجا تجتهد كما ينبغي، وكان من الصعب أن نطلب منها المزيد. بدلا من ذلك، أخذناه معنا: أنا وجوانا وهايلي وووكر وغالبا أولجا؛ قافلة الرعاية الصغيرة الخاصة بنا.
أشارت إحدى الدراسات المبكرة حول متلازمة القلب والوجه والجلد أن طبقة الميالين حول أعصاب الأطفال المصابين بهذه المتلازمة غير كافية؛ مما يؤدي إلى توجه قدر زائد عن الحد من المعلومات إلى مخهم: كانت قلة المخرجات لديهم نتيجة لوجود إفراط في المدخلات، بمعنى وجود شبكة أعصاب ضعيفة التحكم والتنظيم. كان هذا منطقيا في نظري؛ ففي السيارة أو الطائرة، أثار النظر من النافذة ووكر، وجعله لا يتوقف عن الحركة، وكان لا يطيق الجلوس في هدوء. ففي الطائرة كان ينظر من النافذة ويضحك، وينظر إلى يديه، وينظر من النافذة مرة أخرى، ويضحك مرة أخرى، ثم يضم ركبتيه ويرفعهما لأعلى، ثم يتكتل في الكرسي، ويميل إلى جانبه، ثم يرجع للوضع الطبيعي مرة أخرى، ثم ينظر من النافذة مرة أخرى، ثم يلكم رأسه، ثم يقع على جنبه ضاحكا بصخب، ثم يمد نفسه على الكرسي الزلق الأملس (كان يحب الانزلاق عديم الاحتكاك للتنجيد)، ثم قام بكل هذا مرة أخرى، ثم شرع في الصراخ، واستغرق هذا دقيقتين. كان يبدو أنه لا يستطيع التحكم في كل ما كان يؤثر فيه، وقد كان هناك الكثير من تلك الأشياء.
أحب إقلاع الطائرة وخروج سيارتنا من ساحة الانتظار، وأحب الإغلاق الآلي لنوافذ السيارة وهو في المقعد الخلفي، وإلقاء الأشياء من السيارة حين يظن أن أحدا لا يراه (وهو ما كان يحدث كثيرا). وأحيانا عندما أعمل في البيت على طاولة حجرة الطعام، محاولا سبر أغوار الأبحاث العسيرة على الفهم حول علم الوراثة أو علم الأعصاب، كان يدخل الحجرة ويجلس في حجري ويقبل بهزة أو هزتين مني، ثم بعد عشر ثوان، ينهض وينصرف. كنت أسمع أولجا في المطبخ وأتساءل: «إلى متى سيستمر هذا؟» حتى وإن كنت سعيدا بالمقاطعة. ثم كان يعود بعد عشر دقائق، ويكرر ما فعله مرة أخرى: الإيقاع الغريب للولد الغامض.
كانت تلك هي الأيام السعيدة، أما في الأيام غير السعيدة فقد كان يجلس معي، متعلقا بذراعي أو راقدا بجواري، يتأوه أو ينوح أو يبكي. وحين كان الثلج يتساقط بغزارة على نحو يمنعه من الخروج في عربة الأطفال الخاصة به، كان ينفجر غضبا، ويرقد على الأرض ويضربها برأسه. أتذكر الشكل الدقيق لهذه الضوضاء من الذاكرة.
في الأيام السعيدة كنا نختلس الوقت أنا وزوجتي لنختلي بأنفسنا، كان لدى صديقينا كاثرين وجون كابينة قديمة بجوار بحيرة شمال تورونتو، في منطقة تسمى مسكوكا، على بعد ساعة ونصف بالسيارة من هنا. دعوانا للذهاب هناك مرات ومرات، غالبا مع زوجين آخرين، هما تيكا وآل. أصبح هناك عالم ثان لنا، ملاذ عطلات نهاية الأسبوع. يمكنك أن ترى على بعد أميال بطول المياه من جزيرتهم مساحات لا نهاية لها من الأشجار الرائعة.
أخذنا هايلي وووكر وأولجا. تولت أولجا رعاية الولد، وجلست معه في الشرفة الخارجية المسقوفة لكابينة صغيرة بجوار شاطئ البحيرة، طفا لحن أغنية «هل تتدلى أذناك لأسفل؟» وكلماتها من تلك الشرفة عبر المياه مرات ومرات ومرات مثل نسمات الحب، وغالبا كان هناك نسيم يهزه. وفي وقت متأخر من المساء قد يجدف في الماء، ولكن ليس بحماس زائد، ولكنه كان يحب أن يكون بصحبة أحد عندما يكون بجانب المياه. وكان يحب أن ينسل إلى حجري وكأنه في زورق كياك، يجرجر يديه على جانبي مثل الحشرة التي تتحسس السطح الرطب لعالمها. تحدثت إليه في أذنه قائلا: «هل ترى الأشجار، وكيف أن الخضرة مختلفة هنا؟ أو هل ترى الزحلوقة المائية؟ ستحب ذلك فعلا.» كان يحب أن نتحدث إليه، وكان يحب أشياء كثيرة، أو كان يبدو كذلك. كنت أثرثر في أذنه باستمرار، ولكن لم أكن أهتم بكونه لم يرد قط. جعلني أقترب منه؛ ولأسباب غير واضحة كنت ممتنا له لذلك، وسأكون كذلك دائما. إلى أين كان يمكن لي أن أذهب من دونه؟ فقد كان ولدا صغيرا، لا حول له ولا قوة، يعتمد على الآخرين، من يكون معه هو عالمه، وأحببت أن أكون عالمه، إذا سمح لي بذلك. وكان يصطدم شعره المجعد بأسفل ذقني ونحن نطفو معا في القارب.
في أوقات المساء، بعد تناول العشاء، كان ووكر ينضم إلينا ثانية من الشرفة الخارجية المسقوفة التي كان يجلس فيها. أتذكر أول مرة فعل هذا، وكيف أنه كان يذهب إلى الجميع عن قصد؛ يصعد إلى حجر كاثرين، واضعا رأسه على كتفها، ثم ينزل ويذهب إلى سوار تيكا الفضي ليعبث به (كانت هي التي أطلقت عليه «الصائغ»)، ثم يصل إلى آل، ثم إلى جون، ثم إلي، ثم إلى أمه وأخته وأصدقائها وعالمه. قام بجولاته، ثم تسلل عائدا إلى أولجا، أو تجول بجوار أضواء جهاز الاستريو وأصواته، أو فتح الباب السلكي الأمامي للاستمتاع بوقت المساء في الخارج. أتصور - هذه هي الكلمة الوحيدة التي يمكنني استخدامها هنا - أنه يريد أن نعرف أنه يحبنا. يستعيد أصدقاؤه الكبار تلك الأيام الآن بوصفها رحلة فريدة ومستحيلة قمنا بها جميعا معا. قال لي أحدهم ذات مرة: «كانت أوقات الصيف تلك استثنائية، بالرغم من أنني غير متأكد أني كنت أعرف أنها كانت كذلك في حينها.»
أما باقي الوقت فكنت أقضيه في القراءة والحديث والسباحة والطهي، والشرب؛ غالبا كنت أشرب الجين بنهم حين لا يكون الدور علي في رعايته ليلا، للاستفادة الفورية من اللحظة (فلم يكن لدي وقت لأضيعه). فكل دقيقة وأنا خال فيها كانت تبدو لي مثل الياقوت الأزرق، غير أنني شعرت بوخزة من تأنيب الضمير، ليس لأني لا أتحمل المسئولية؛ ولكن لأن حاجاته لا تنتهي أبدا. حاولنا بشدة أن نسترخي بقدر ما نستطيع في الوقت المتاح لنا. منذ ثلاثين عاما فقط لم يكن لطفل مثل ووكر أن يحيا، وكان مرضه لم يزل لغزا لمجال الطب بقدر ما هو لغز لنا: كيف كان لي ألا أتعجب فيما يفترض أن أفعله معه؟ تبادلت أنا وجوانا الليالي في الكوخ أيضا، كان أحدنا ينام مع ووكر في غرفة صغيرة في الدور الأرضي لمكان الإقامة الرئيسي، بينما كان يستمتع الآخرون بالنوم بالليل وحدهم في ترف في كابينة نوم بجوار الماء؛ حيث كانت لديهم الحرية في السهر لوقت متأخر، وتناول مشروب آخر، والعيش لفترة قصيرة تبدو وكأنها الحياة غير العادية. كنا نسمع صوت القطارات وهي تمر بجوارنا بالليل في أقصى الشاطئ.
في الصباح التالي لليلة عصيبة مع ووكر - تكونت لدي نظرية غاضبة بأنه لا ينام جيدا أبدا معي؛ لأنه كان ينام دون أن يحرك ساكنا في الليلة التي يكون فيها مع أمه - وبعدما دخل في النوم في النهاية، أو في الساعة العاشرة صباحا بعدما خرجت أولجا من كابينتها لتتولى رعايته، سرت متعثرا في الطريق إلى البحيرة. ما زلت أتذكر زوجتي ذات الأرجل الطويلة في تلك الأيام وهي مستلقية بالفعل بجوار الماء، تسمر جسمها وتقرأ بنهم. سعدت من أجلها، وغضبت منها، وكنت منهكا، ولكن نفس الوخزة الخاصة بتأنيب الضمير أصابتني على أي حال: أين الولد؟ (كنا نطلق عليه «الولد») لماذا ليست هي معه؟ ولماذا لست أنا معه؟ كان هذا يتم بلا توقف، ويستمر بلا توقف داخلنا.
الفصل الخامس
كان من شبه المستحيل أن تلتقط صورة جيدة لووكر، تقتضي المهارة أن تنتظر حين تتقاطع ثلاثة أشياء على الأقل في وقت واحد: لحظة أن يكون هادئا وجسمه يبدو منتظما ومسترخيا، ولحظة أن تهدأ معاركه الداخلية ولم يكن يضرب نفسه، ولحظة أن يكون يقظا ونشيطا. ولا تحدث هذه اللحظات كثيرا، فحين تحدث واحدة ويتصادف أن تكون معك كاميرا في يدك، وتمكنت من التقاط صورة قبل أن تتبخر اللحظة، فربما تحصل على صورة تحب النظر إليها، ولا ترغب في التحول عنها. تلك كانت كنوزنا الحقيقية، دليل على ووكر الذي كنا مقتنعين بوجوده، بآلامه وصراخه.
أول مرة حدث هذا كان عمره ثلاث سنوات تقريبا، وكان يجلس في حوض الاستحمام. بحلول هذه المرحلة من حياته، كان هدوءه في البانيو كبيرا إلى حد ما. والمعيار اليهودي القديم للماء في حوض الاستحمام ثمانية جالونات وثلاثة أرباع الجالون يناسب ووكر تقريبا، حتى تصل سخونة الماء إلى صدره، وحينئذ يتعصب مرة أخرى . وتقتضي المهارة أن تظل داخل منطقة الارتياح المحدودة لديه.
كان التقاط أول صورة جيدة له ضربة حظ، والتي تم التقاطها بينما كان ينظر للأمام بعد فترة طويلة من تقليب لعبة في يديه. كنت قد اشتريت غواصات وحيتانا وضفادع سباحة لعبة، ولكنه أحب أكواب المعايرة والمناخل التي تسمح للماء أن يسيل منها. كان يحب صوت الماء الصادر عنها.
أول صور أحبتها جوانا دون شك التقطت حين كان عمره سبع سنوات، سبع سنوات في محاولة لوضع ووكر في موضع تريده!
كان الجو حارا في فصل الصيف، وكان ووكر، كعادته في الأيام الحارة، لا يرتدي سوى قميص وحفاض، وكان مستلقيا على ظهره على الأريكة في حجرة التليفزيون، مرتديا «تي شيرت» برتقالي اللون، ونظارتي الشمسية، والتي وضعتها هايلي على رأسه. هذا في حد ذاته جرأة؛ لأن ووكر مدمر للنظارات العادية والنظارات الشمسية على السواء، وبسرعة كان يكسر أذرعها ويحطم عدساتها. مؤخرا أجرت جوانا حوارا مع روبرت إيفانز، منتج الأفلام الراحل، وفي ذلك الوقت كان إيفانز في السبعينيات من عمره، ولكنه كان لا يزال يمثل القطب البارز في هوليود الستينيات: نظارة شمسية ملونة، ولفاع العنق، ونجوم صغيرة على ذراعه، وصوت يبدو أنه وهن من التدخين والمال. لم يوقف إيفانز أي شيء ولم يربكه أي شيء أيضا، وبمجرد أن شاهدت جوانا صور ووكر، بدأت تطلق عليه: ووكر إيفانز، وعلقت تلك الصور على خزانة المطبخ، كتذكرة بجماله. كانت تبدو عليه نظرة «لا شيء يوقف بوجل»، وأتخيل أنه كان يتذكر ناتالي وود. وحين أنظر إلى تلك الصورة الآن، أتذكر الغناء الذي كان يصدره في تلك الأيام (ولم يعد يصدره بعد ذلك): «را-را-را-را-را-را» والذي يبدو بوضوح أنه كان أسلوبه في سرد القصص، حين كان يعرف أن عليه الدور في الكلام. كان يمكن أن يكون متحدثا في التليفون، يغري شخصا ما بصفقة مغرية، وكان يبدو أنه لا يقاطعه أحد في هذا الحوار؛ إذ لم يكن ينطق كلاما، بل مجرد نغمات.
على أي حال، كانت لقطة معجزة في ذلك اليوم الحار في حجرة التليفزيون، ولم تستدع الصورة التالية في سلسلة الصور الجيدة إيفانز، ولكن الممثل الكوميدي درو كيري، الذي حل منذ ذلك الحين محل بوب باركر في تقديم برنامج «ذا برايس إز رايت». إيفانز وكاري؛ الرجلان اللذان على ما يبدو كانت لديهما رغبة كبيرة في أن يكون لهما مكان في صناعة الترفيه، حتى إن كان ذلك يمثل إهانة لتاريخهما.
في الصورة التي كان يبدو فيها مثل كيري، يبدو أكثر حرصا وثقة، ولكنه يستمع في حذر لبعض التفاهات عبر مسجل الصوت. كان من الممكن لصورة طبيعية أن تجعلنا نتصور أنه طفل طبيعي.
أفضل صوره التي التقطت في لحظات أكثر خصوصية له؛ فحين بلغ من العمر حوالي عام، استأجرنا كوخا في جزيرة في خليج جورجيان، على بعد بضع ساعات شمال تورونتو. كان مكانا منعزلا على بعد 40 دقيقة بالقارب من أقرب مرسى قوارب، ويحيط به فقط ساكنو الأكواخ الآخرين من الجزر الأخرى، ويمكن الوصول إليه فقط عن طريق الماء، وهو مكان هادئ جدا لدرجة أنني كنت أخشى عندما توجد رياح خفيفة أن يسمع ساكنو الأكواخ الآخرون صراخ ووكر، أو حتى صياحي. ولكن هدوء المكان غيره؛ فهناك تغير حاله، وأصبح أكثر ثقة بنفسه، وأقل تشتتا. أحيانا كان يتطلع إلى أوقات الغروب البرتقالية في نهاية يوم صاف، مع هبوب النسيم، كما لو أنه كان يستطيع رؤية شيء على بعد ألف ميل بجوار مياه الخليج؛ المنظر الطبيعي الممتد. عرف المكان، وعرف ما يميزه على أي حال، حتى لو لم يكن يعرف أين يوجد على وجه التحديد، أو لم يتمكن من إيضاح ذلك. التقطنا صورة له هناك، وهو بين ذراعي أولجا، وهي المرة الوحيدة التي كانت فيها معنا هناك خلال سبع سنين (فقد كان المكان الوحيد الذي لا يمكن أن تذهب إليه؛ فهي تكره الثعابين، والجزيرة مليئة بالأفاعي ذوات الجرس)، بخصلة شعره الأمامية الغريبة الذهبية في ضوء غروب الشمس، أطلقت جوانا على الصورة اسم «ابن بالمعمودية»، وقد بدا هو كذلك. كانت هذه الجزيرة أول مكان أتصور فيه أن لديه حياة داخلية، حياة خاصة مستقلة عن أي أحد فينا. هناك، بعد ظهيرة أحد الأيام، حين قال الجميع بعد يوم من السباحة - النسخة الكندية للجنة - التقطت له جوانا صورة وهو على الأريكة الزرقاء الناعمة الموجودة في حجرة المعيشة، وشمس ما بعد الظهيرة تتوهج من خلال النوافذ المحيطة.
يبدو طبيعيا تماما، صورة طبق الأصل من والده حين كان طفلا، ومن جده قبله، وربما لهذا السبب أحببتها؛ فهي دليل على الرابطة التي تجمع بيننا. أرى فخذيه النحيفتين، وسمرة بشرته - سمرة البشرة! - وقد وضع رأسه على يديه، وركبتيه إلى أعلى، ويرتدي بنطالا قصيرا مربع النقش (وهو من ملابس هايلي التي لم تعد ترتديها)، وسويت شيرت أزرق. وهذه صورة قريبة جدا لما نعتقد أنه يفترض أن يكون عليه، وهي غير أمينة إلى حد ما.
وفي صورتي المفضلة من بين كل الصور، كان عمره ست سنوات، وكان قد التحق حينها بمدرسة جديدة، وبدأ يتحسن. تبعد مدرسة بيفرلي العامة للأطفال المعاقين عقليا عشر دقائق بالسيارة من بيتنا، وتقع مباشرة بجوار مكتب صغير كنت أمتلكه في تلك الأيام؛ فكان بإمكاني الوقوف بالخارج والنظر من فوق سورها إليه، وهو يلعب بالأرجوحة في ملعب المدرسة. كانت مدرسة رائعة، كبيرة ومفتوحة، ومصممة بكوات في السقف ونوافذ منخفضة تناسب الأطفال الذين يقضون معظم يومهم وهم راقدون على ظهورهم. كانت هناك مساحة ملائمة للأطفال.
التقطت الصورة بعدما التحق ووكر بالمدرسة مباشرة. يقف ووكر في الحجرة الشمسية لبيتنا، يحملق بتركيز في الآلة الكاتبة اليدوية القديمة الخاصة بي، ويداه وأصابعه مبسوطة على المفاتيح. بالطبع كان ملمس المفاتيح على راحتيه المتململتين هو ما جذبه لفعل ذلك، مرونة المفاتيح والشعور بالقدرة على استخدام اليدين، ولكنه يبدو كما لو أنه يحرز تقدما، وهو وهم ليس غريبا على من يتكسبون رزقهم من الكتابة. كان يلبس القميص الأحمر مربع النقش الذي أعطيته إياه، وهو مستعد أن يكتب على الآلة الكاتبة، ولديه الكثير ليقوله وبعينيه بريق الشخص المتحمس للقول. ربما قد رأى والديه كثيرا ينحنيان بهذه الطريقة، وهو مشهد رائع؛ من يدري، قد يوضح لنا أن هذا حب استطلاع عبقري، لحظة صفاء في هذا الرأس المضطرب. أو هكذا أرى حتى يتبدد الجمال، والمساحة التي حول عيني تبدأ في الأفول، ولا أستطيع النظر إلى الصورة مرة أخرى. هكذا الحال بالنسبة إلى كل لحظة من السعادة معه، هنالك لمحة من الحزن عندما تصل لنقطة ما حتمية فيها، تذكرك ب ... حسنا، لا داعي لذلك، لا حاجة للخوض في هذا الأمر على نحو عميق، ولكن علي أن أضع صوره جانبا الآن؛ هذا أقصى ما أستطيع تحمله، لقد استغرق الأمر مني وقتا طويلا حتى أبعد هذه الأفكار عني، ولا أجرؤ أن أدعها تعود ثانية. ***
أثناء الأوقات العصيبة، كنا نذهب أنا وزوجتي مرتين أو ثلاثا كل أسبوع إلى المستشفى لأسباب كثيرة، منها: عدوى في الأذنين، ونوبات برد مصحوب بصعوبة في التنفس، وحالات إمساك طويلة، وحالات طفح جلدي، ونزيف، وجفاف وإمساك (على الأقل في مرة لا تنسى)، وآلام بالأسنان وأكثرها صراخ لا يتوقف. وذات مساء، كنت قد ذهبت إلى مستشفى الأطفال المرضى في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، وبقيت حتى منتصف الليل، وعدت في صباح اليوم التالي من الساعة التاسعة صباحا وحتى الثانية عشرة.
الواقع يكون ثلاثي الأبعاد في جحيم قسم الطوارئ في مستشفى الأطفال. بداية، مستوى الضوضاء المعتاد يكون في الغالب ستة أطفال يصرخون في وقت واحد، وكل واحد يصرخ بنبرة ودرجة مختلفتين؛ وبوسع الموسيقار روسيني أن يؤلف أوبرا من هذا الصراخ. يتعامل طاقم المستشفى بحيوية مع أزمة تلو الأزمة، هم آلات في أردية ذات لون أخضر وأزرق فاتح، يكرسون وقتهم بالكامل للعناية بصحة الأطفال، سواء الأطباء المقيمون الذين في غاية الحماس، أو الممرضات والممرضون الذين يتفانون في العمل ويتسمون بالهدوء الشديد، أو الأطباء الذين يتنقلون بين كل جنبات القسم، يحاولون ألا يتأثروا بسجال الصراخ والتبول والتقيؤ والألم الحادث. وبالطبع هناك الصوت الصاخب المماثل، والذي لا يمكن دائما أن تسمعه ولكن تستطيع أن تشعر به دائما كصوت زئير في أذنيك، وهو صوت قلق الآباء. بعض هؤلاء الآباء فظ جدا بحيث يتحدثون بحدة مع الأطباء والممرضات، وهم يشعرون بتوتر شديد، ويدفعون أطفالهم قبل أطفالك؛ لأن مشكلتهم أكبر، أو لأنهم ينتظرون منذ فترة طويلة. هناك فئتان من الأمهات في قسم الطوارئ، الأولى تكره وجودها في المكان، والأخرى تحب المكان في قرارة نفسها؛ لأنها في النهاية وسط أشخاص آخرين يتفهمون حالة أطفالها. ويعد قسم الطوارئ مهرجانا اجتماعيا متكاملا؛ إذ نجد الأطفال الأصحاء الذين يوجد لديهم بثور غريبة على أرجلهم البريئة (بسبب مرض في الدم)، والأمهات الوحيدات ومعهن أربعة أطفال شاحبين يعانون من سوء التغذية من منازل أستطيع أن أتصورها في ذهني، إضافة إلى الأسلاك العديدة الممتدة في حجرة النوم (ودرجة حرارة الأصغر فيهم 102 لمدة أربعة أيام متصلة)، وعائلات محتشدة يرتدي أفرادها ملابس أنيقة وهم لا يألفون المشهد الدرامي للاستشارة التي تلي العمليات (حادثة معسكر، سكين في الرأس، تلف محدود في العصب البصري دون إضرار بالبصر أو الرأس، ولكن مع حدوث خلل مؤقت في حركة الذراع اليسرى).
من المحظوظون هذه المرة؟ من سيمكثون ومن سيتنفسون الصعداء ويغادرون المستشفى؟
كان قلقي يذهب عني ثم يعود: هل هو مجرد برد؟ لا، هو سرطان. لا، هو برد ... دائما ما كانت حالة ووكر تحير الأطباء وكانوا يسألون دائما نفس الأسئلة، ويطلبون نفس التفاصيل مرات ومرات. «نعم، هو يأخذ كل طعامه من أنبوب التغذية في البطن.» «نعم، حاولنا إطعامه عن طريق الفم.» «هيدرات الكلورال. نعم، بناء على وصفة طبية.» «ليست المشكلة في أذنيه، أعرف ذلك؛ لأنني كنت هنا أمس بسبب أذنيه، المشكلة ليست في أذنيه؛ لأنه لا يصرخ بمثل هذه الطريقة إذا كان الألم فيهما.» «نعم يا دكتور انتظرت، انتظرت خمسة أيام، وهو يصرخ طوال الوقت، قبل أن أفكر حتى في إحضاره إلى هنا.»
كان يوجد العديد من اللعب المحشوة التي على هيئة حيوانات في المتجر الكائن في ردهة مستشفى الأطفال المعروف الموجود في قلب المدينة العبقرية الرائعة! ومع ذلك فالمكان كان مليئا بالأطباء الذين لا يمكنهم مساعدة ولدي. ونشأت لدي درجة من الشك نحو مجال الطب، والتي بدت لي بعدما أخبرني الطبيب الرابع على التوالي بشيء أعرفه مسبقا. أحيانا يرون شكي ويتفقون معي، ويعترفون بهدوء بعجزهم، الأمر الذي كان يجعلني أحبهم مرة أخرى، وفي أحيان أخرى يلاحظون إحباطي، ويبتعدون عني.
تحليت بصبر كبير كصبر علماء الجيولوجيا. كنت أعرف المستشفى جيدا، تماما كمعرفتي بقبو بيتي، كل خبايا المكان أعرفها؛ كأنسب مكان لوضع سيارتي في ساحة انتظار السيارات (الطابق الثاني، حتى قبل أن يكتمل الأول، بالقرب من المصعد الشمالي)، وأين يمكن ختم تذكرة موقف السيارات، وأفضل وقت تقف عنده في الصف للحصول على القهوة (قبل الساعة الثامنة إلا الربع في الصباح، أو بعد الساعة الحادية عشرة)، وكيف تتعامل مع طاولة صرف الأدوية في الصيدلية لتقليل وقت الانتظار للحد الأدنى. وحفظت كيف أصل إلى قسم العلاج الطبيعي وقسم أشعة الرنين المغناطيسي وقسم الأسنان، وعرفت ما يمكن أن أراه وأنا أتجول في أدوار المكان؛ الأطفال المرضى بحالاتهم الغريبة، برءوس بحجم البطيخ والتي عليها جروح جراحية عميقة وطويلة حديثة ذات لون أحمر فاقع تم تخييطها، والتي تمتد من الأذن إلى الأذن الأخرى، وأدوات لتقويم العظام وجبائر، وجلد أصفر مائل للرمادي وعيون واهنة خاضعة، ووهن أعمق وأكبر مما يمكن أن يصيب الكبار.
عرفت كيف أستجيب لتلك المواقف: أبتسم. ابتسامة لكل واحد منهم. لكن دون مبالغة، إذ كنت أعرف ماذا كان يعني أن يحاول أحد الأشخاص إرضاء ووكر، ولم أكن أريد هذه المعاملة الخاصة، ولكن مع ذلك فالأمر كان يتطلب الانفتاح والبعد عن العدوانية والخوف. كان الأمر أشبه بشكل من أشكال التأمل، ولكنني كنت دائما أنظر، وأسأل في صمت: ماذا حدث هناك؟
بطريقة أو بأخرى، ورغم كل التوتر، كان قسم الطوارئ بمنزلة مصدر للراحة والهدوء؛ لأن القسم نفسه كان يتسم بالهدوء؛ هدوء مباشر وقائم على الحقائق، وخال من مشاعر القلق. هنا في قسم الطوارئ القلق ممنوع: أنت الآن في وسطه، وقد وصل الأمر إلى أسوأ ما يمكن، وعليك أن تجتازه. تعرفت إلى أطباء اعترفوا لي بشكل شخصي بالجاذبية الخفية للأدوية في قسم الطوارئ؛ فهم مشغولون جدا لدرجة جعلتهم لا يفكرون في الحزن الذي يخيم على المكان كله، فعملهم لا يسمح بالاهتمام العميق بمشاعر الآخرين، وهم متحررون في غفلتهم.
يمكن أن تجلس وتنتظر في هذا الهدوء لوقت طويل كأب، دون أن تنزعج. ستنظر حولك، وستجد التكنولوجيا في كل مكان، في العربات، تقنيات متطورة تسير على عجلات، ويتكرر الأمر عند رأس السرير من حجرة لأخرى، ونفس الأنابيب والزجاجات والصمامات الجديدة والنظيفة موجودة مرارا وتكرارا، وذلك بالطبع بسبب أن ضعفنا نحن البشر لا يتغير. عدد لا حصر له من أكياس جمع المخلفات البلاستيكية الصفراء التي يمكنها حمل أشياء ثقيلة، المعدة كي تحمل أكياس الدم الفاسد وموزعات الأدوية البالية، هذه صناعة بأكملها (التخلص الآمن!)، وأموال يمكن تحقيقها من مخلفات أمراض الجسم. الروائح: مطهر وقهوة وقيء وحلوى المافن وبياضات جديدة وبراز وقلق وخوف وأسى. والأخير الأسوأ؛ رائحة جافة، مثل الأرض القديمة، والرصيف الساخن. وغسيل الأيدي، مرات ومرات، ورش مطهر اليد، وصوت القفازات البلاستيكية بينما تفرد عليها مادة التعقيم اللزجة، والطقس المقدس الخاص بالتعقيم، وجوقات من الصراخ، وصوت طقطقة النقالات، وأضواء سيارات الإسعاف التي تزعج الضحايا، والستائر التي تخفي يأسا مجهولا. والأسئلة المطروحة: هل يمكن الشفاء من هذا؟ هل يمكن أن يشعروا بمدى قلقي؟ والمقارنة الحتمية: هل طفلي أحسن حالا من هذا الطفل؟
عبر كل ما سبق، تحمل جسم طفلك، وتحمل لحمه وحرارته قريبا منك، مثل جلد من نار؛ لأن عليك أن تتعلق بحيث توجد الحياة. تدفعنا الحاجة إلى الطعام، وينزع الجنس عنا الحياء، ولكن الملامسة هي أصدق ما نحتاج إليه. ما عليك إلا أن تتعلق، ما عليك إلا أن تتعلق، ما عليك إلا أن تتعلق، ما عليك إلا أن تتعلق.
وبالتدريج، ودون أن تلحظ ذلك، يتغير شيء، ولا يكون عليك أن تتعلق بشدة بعد ذلك، وإلا فلن يعود هناك ما يمكن أن تتعلق به؛ فالأزمة تمر أو تحل. الأمر كله لا يمكن الحديث عنه، ومع ذلك، وبعد حين، فمن المستحيل ألا تتحدث عنه مرارا وتكرارا.
إذا حالفك الحظ فسيسمحون لك أنت وطفلك بالمغادرة. أكبر شعور بالراحة عندما تغادر المستشفى في النهاية مرة أخرى في الصباح الباكر، قبل طلوع الشمس، وما زال رصيف الشارع رطبا من الندى، وطفلك سليم مرة أخرى، حتى الآن. ويبدو أن العالم سيبدأ من جديد، وقبل أن تذهب لسيارتك - الطابق الثاني بالقرب من المصعد الشمالي - تضع خططا مرة أخرى. •••
طوال هذه السنوات، وفي ظل عدم استمتاعنا بنوم طبيعي، تشاجرنا أنا وزوجتي كثيرا. ومثل معظم آباء المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، تشاجرنا كثيرا بشأن النوم أكثر من أي موضوع آخر: من تمكن من النوم ومتى، ومن لم يتمكن، ومن استحق أن ينام أكثر ومن لم يستحق، وهي في الغالب نفس المناقشة. وهي تجري كالتالي: في منتصف الليل، بالرغم من أن الدور على جوانا لتنام مع ووكر - ويحدث الأمر عينه حين يكون الأمر معكوسا - لا أستطيع النوم وأتوجه إلى الطابق السفلي إلى حجرة المعيشة من أجل القراءة، وبعد خمس دقائق، أسمع جوانا: «لا، ووكر، لا!» وبعد دقيقة تظهر عند أسفل السلالم - عارية وما زال جلدها مسمرا خفيفا (حتى في شهر يناير) ومنهكة. ظل ووكر مستيقظا لمدة ثلاث ساعات وأخذ يلكمها في رأسها وينفجر في الضحك: «هل يمكن أن تأخذه؟»
أتنهد (هذا خطأ) وأقول (هذا خطأ آخر): «ظل مستيقظا معي الليلة الماضية لمدة ثلاث ساعات متصلة في منتصف الليل.»
تقول غاضبة: «انس الأمر ... لا عليك! آسفة لطلب ذلك!»
أتبعها لأعلى، متراجعا.
أتجاوزها وأصل إلى حجرة ووكر قبلها وأرقد بجانبه، والآن زوجتي المسكينة متعبة جدا وترفض أن تذهب. تصرخ، وأصرخ، وأغلق الباب. تأتي مرة أخرى، لذا أدفعها إلى الخارج، وأغلق الباب مرة أخرى، وأسنده بقدمي. لست في كامل أعصابي. وحين أفتح الباب مرة أخرى، أسمع هايلي، في حجرة نومنا (لعبة الأسرة الموسيقية التي لا نهاية لها لرعاية الولد) تسأل عما يحدث، وأعتذر إلى أمها بشدة، مع أنه ليس بإخلاص كلية، ولكن أحيانا في هذه المعارك السريعة قد يفي بالغرض.
لكن، هناك أوقات أخرى أيضا، لحظات من السعادة المتواصلة. يجمعنا السرير نحن الأربعة في صباح يوم سبت، ووكر على ركبتيه، يعلو فوقنا جميعا. ثمة شيء ملحوظ، كما ترى: ففي كل مرة يكون فيها سعيدا، يكون في قمة سعادته. أما هايلي فهي راقصة باليه ماهرة ورقيقة، تتمايل بووكر على أنغام الموسيقى من جهاز الاستريو، ووكر يبلغ القمر من شدة الفرح. هذه دقائق من حياته، وهي أحداث عادية بالنسبة إلى طفل عادي، ولكني أعرف قيمتها الحقيقية. ***
قبل أن يبلغ ووكر الثانية من عمره بوقت قليل، علمنا بإجراء دراسة عن متلازمة القلب والوجه والجلد في مستشفى فيلادلفيا المشهور للأطفال. وقدنا السيارة إلى هناك واستغرقت المسافة عشر ساعات، وفي نهاية يوم من الفحوصات قابلنا أخيرا طبيبا أخبرنا بشيء لم نكن نعلمه، وكان اسمه دكتور بول وانج، وهو طبيب أطفال متخصص في نمو الأطفال.
أجرى وانج سلسلة من الاختبارات - وكان رجلا نحيفا ذا جبهة عالية وصوت هادئ - وقدم إلى ووكر بعض الرسومات الخطية، ومصباحا، ولغزا. ألقاها ووكر على الأرض. وانتهى الطبيب من مهمته بعد ساعة. ثم تجول ووكر في المكان وتسلل إلى حجري.
قال وانج: «كما تعلمون، هناك ثلاثة مستويات عامة من التأخر المعرفي، أو التأخر بصفة عامة؛ بسيط ومتوسط وشديد، والذي أحيانا يسمى حادا.»
فسألته جوانا: «وحالة ووكر تنتمي لأي مستوى؟» «إذا استمر ووكر على معدل نموه الحالي، فقد نشخص حالته على أنها تأخر عقلي متوسط كبالغ.»
قالت جوانا: «متوسط؟!» ووضعت يدها على فمها، وكانت تبكي بالفعل (لعلي أمسكت يدها الأخرى)، وأضافت: «كنت أتمنى أن يكون بسيطا، هل سيتمكن يوما من القراءة؟ أو ... قيادة سيارة؟» «أشك في ذلك.» كانت تلك هي الأخبار السيئة، فما زال التأخر المتوسط كارثة، ولا يمكن التأكد من أن حالته لن تسوء مع تقدمه في العمر، وسيحتاج إلى رعاية مدى الحياة، ودعم في ترتيب أمور معيشته. وأضاف: «حتى الآن، لا توجد سوى معلومات ضئيلة ومحددة عن الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد.» وذكر الطبيب أن معدل النمو العام لووكر هو نفس المعدل لطفل طبيعي في عمر الأشهر العشرة. أشهر عشرة! أقل من نصف عمره! «بالطبع مع تقدمه في العمر، ستظهر الفروق على نحو أكبر.»
تحول وانج إلي وقال: «هل لديك أي أسئلة؟» «سؤال واحد، استأجرنا كوخا هذا الصيف لأول مرة، في شمال تورونتو، وهو مكان منعزل وهادئ جدا في جزيرة وليس حولنا أحد، ويبدو أن ووكر يحبه. وهذا يغيره، يهدئه. هذا المكان، والطريقة التي يهدئه بها، يعني الكثير لي. هل سأتمكن من شرح كل هذا له؟»
هز وانج رأسه قائلا: «ليس من الناحية المنطقية، واحتمال ألا تتمكن من ذلك، ولكن ...» ثم توقف عن الكلام، وفكر ثم قال: «يبدو أنه يفهم ذلك بالفعل.» ثم سكت ثانية، وأضاف: «يقول البوذيون: إن الطريق إلى التنوير، إلى أن تكون كائنا نقيا، هو أن تنفصل تماما بذهنك عن العالم الخارجي. لا أحاول أن أكون مبتذلا، ولكن ووكر يعرف بالفعل كيف يفعل ذلك؛ فهو كائن نقي، قد يكون لديه تأخر في النمو، أو تأخر عقلي متوسط، ولكنه بهذه الطريقة، يسبق معظمنا بالفعل بمسافة كبيرة.»
كانت هذه أول مرة يتحدث فيها أحد عن أن لووكر موهبة ليست لدى أي منا. •••
تدريجيا، بينما الروتين المستمر لرعايته ومراقبته ومنعه من إيذاء نفسه وتحفيزه أصبح مألوفا، قل خوفي، وتحول حزني إلى وحدة غير عادية. فلم يعد بإمكاني تخيل الحياة، معه أو من دونه.
بقدر ما حاولت التفكير في البدائل، لم أستطع أن أتخيل أني لا أرعاه كل يوم: لا يمكن تصور يوم دون الاستيقاظ في الصباح، وتنظيفه، ومساعدته في ارتداء ملابسه، والذهاب به للمدرسة، والعودة به إلى البيت، والنحيب المتعب، والتغير المفاجئ ونوبات السعادة المشرقة، والتغذية، والتدريس الذي لا فائدة منه، والمرح، والمستشفيات والأطباء، والقلق المستمر، ومرات التجول الليلي. نكرر كل هذه الأمور كل يوم حتى النهاية، مهما اختلفت طريقة حدوث ذلك. ولم يكن هناك مكان يمكن أن نتحمل تكلفة وضعه فيه، ولم يكن هناك مكان نضعه فيه على أية حال.
عرض أصدقاؤنا أن يأخذوه، أن يمنحونا عطلة نهاية أسبوع من دونه، حدث ذلك مرتين في خلال 12 عاما، وفي كل مرة يكون الزوجان مختلفين، من أصدقائنا الحميمين، وذلك لليلة واحدة كل مرة. عرضوا ذلك مرات كثيرة قبل أن نوافق؛ فرعاية ووكر أمر معقد لا تستطيع أن تطلب من شخص ما أن يقوم به. وبغض النظر عن ذلك، ماذا عن أنابيب التغذية ومواد التغذية والأدوية، وضربه المستمر لنفسه وصراخه الذي لا يتوقف. حين أذهب به إليهم كنت أرى في أعينهم نظرة كلها حماس وتأهب، إلا أن هذه النظرة تختلف تماما بعد 36 ساعة حين كنت أذهب لاستلامه، فأرى عليهم ذهول من استقبل 150 ضيفا في منزله في عطلة نهاية أسبوع انهار فيها نظام الصرف الصحي كله، هذا الذهول الذي ذكرني بذهول ركاب الطائرة التي هبطت اضطراريا بسلام وبمعجزة في نهر هدسن منذ بضعة أسابيع. نعم، كان هذا حال أصدقائنا بعد عطلة نهاية أسبوع مع ووكر! أتفهم هذا كلية، ولكن سأظل دائما مدينا لهم لأنهم حاولوا؛ حاولوا أن يصلوا إلى عمق البئر المظلمة التي نعيش فيها، ومساعدتنا في الخروج منها. لا أستطيع أن أخبرك بمدى عمق هذه البئر، والمسافة التي كان عليهم أن يقطعوها حتى يصلوا إلينا. لم أطلب منهم أن يفعلوا ذلك مرة أخرى؛ فالأمر لا طاقة لهم به، كما كنت أقول دائما لجوانا.
قالت ذات ليلة: «أتمنى أن يعرض علينا أصدقاؤنا أخذه مرات أخرى!»
كنا نتحدث في الفراش، في إحدى الليالي النادرة التي نام فيها ووكر مباشرة، فنوم بعضنا بجانب بعض في الظلام يعد أمرا نادرا في ذلك الوقت، وهو أمر يبعث على الإثارة مرة أخرى. كنت أشعر بجلدها الدافئ مقابل جلدي، سعيدا كنت بالإحساس الجديد نسبيا لوجود شخص كبير بجواري. كانت الحجرة مظلمة لدرجة لم نستطع معها رؤية بعضنا بعضا، ولكننا تحدثنا في هذا الظلام الدامس على أي حال؛ فأنت لست بحاجة إلا إلى حديث مخلص، وشخص يستمع إليك. «أقصد أنه لم يعرض أي شخص من أسرتي أو أسرتك أن يأخذه لليلة واحدة، عرضت أمي ذلك مرة واحدة. هذا كل ما في الأمر.» صدمت ، ليس من حقيقة ما قالت، ولكن من جرأة ما أشارت إليه؛ أي أن نطلب من أحد أن يأخذ ووكر! من هي حتى تفكر في هذا! كان والداي في الثمانينيات من العمر، وكانا خائفين من ووكر، يخشيان أنهما لن يعرفا كيف يتصرفان معه. وكانت أخواتي يعشن في مدن نائية، وأخي الذي كان يعيش في بوسطن وشريكته فرانك عرضا علي أن يأخذا ووكر لبعض الوقت، ولكني لم أكن أرغب في أن أفرض نفسي عليهما؛ فليس عندهم أطفال، ويعد منزلهم مكانا مثاليا للتدمير. كانت أخت زوجتي عزباء وتعيش في لوس أنجلوس، وليس لنا أقارب يعيشون بالقرب منا، ولا مجتمع كبير في المدينة. لم تكن المشكلة في أن نطلب إلى غيرنا فعل هذا، بل كانت المشكلة أن نتصور هذا.
قلت لها: «أخذ أصدقاؤنا المقربون ووكر ليعيش معهم كما لو كان واحدا من أطفالهم ... كل هذه الأسابيع في الأكواخ، وحفلات العشاء في منازلهم. وليس عليهم فعل ذلك.» «لكن لليلة واحدة؟ كنت سأفعل أكثر من ذلك لهم.» «لكنك تعلمين ماذا يعني أن تقومي بهذا، لديك طفل مثل ووكر. لكن هم لا. معظم الناس يصيبهم الرعب.»
كنا نتحدث في الليل الدامس، وتتلامس أجسامنا، ونتذكر التوفيق والحظ السعيد.
الأمر لا طاقة لهم به.
في حفلات العشاء، كنا نأكل بالتناوب، أحدنا يأكل، والآخر يتابع ويمسك بووكر، حتى يظل هادئا، وإذا بدأ يهتاج ويصبح عدوانيا، أو بدأ يلكم رأسه على نحو يخرج عن السيطرة، كنت أجلسه على كتفي أو أربطه في عربة الأطفال ونخرج، كنا نخرج ونعود بعد عشرين دقيقة. وإذا وجدت رائحة تخرج من حفاضه، كنت أستبدلها بعيدا. كنا ملتزمين بالحفاظ على الروتين والعادات المعتادة. «هو بخير.» يقولها الأصدقاء لي حين يدعوننا إلى العشاء أو لتناول شراب، ولكني أعرف صراخه الذي يشبه صوت المنشار الآلي، ولا أريد أن أكون مسئولا عن إزعاج الآخرين، ولا أريد منهم ألا يدعونا مرة أخرى؛ لأنهم كل ما نملك من أصدقاء. وفي تلك الأيام كنت أرى أن ووكر انعكاس لي، ولم أر أنه كائن منفصل . وحين يكون ووكر هادئا، كان ينتقل من ضيف إلى آخر، زاحفا إلى حجورهم، يلعب في ساعاتهم وأسورتهم، ويسيل لعابه على بنطلوناتهم وقمصانهم، كان يمثل تذكرة مستمرة ليس فقط بوجوده، ولكن بوجود كل الأطفال الذين هم على شاكلته، الذين كثيرا ما نحاول أن ننساهم؛ ولهذا السبب سعينا لاختيار ضيوف حفلات العشاء بعناية. وإذا ارتبط بشخص ما، كنت أتدخل: «حتى لا يزعجك، سآخذه!» اعترض كثيرون ودعوني إلى تركه معهم، لكن كثيرين لم يعترضوا؛ إذ يمكنك أن تلحظ التحفظ في عيون الفريق الأخير، وفي وقفتهم: يستمرون في الحديث، ولكنهم لا يقاومون تركه. من يمكنه أن يلومهم؟
كانت جوانا أفضل مني في هذا الموضوع: سمحت للآخرين بالاعتناء به، والتجول والجلوس معه، وبدا أنها شعرت أن هذا واجبهم، حقنا عليهم، في حين كنت بالفعل أسرع لآخذه من بين أيديهم، فأنا لا أريد لأحد أن يرفضه؛ لذا حاولت أن أحميه من الرفض من البداية، فأنا أحميه بهذه الطريقة؛ فلم أكن لأسمح لأحد بأن يجرحه، لأن فيه ما يكفي؛ لذا أحاول أن أغلف براءته بوجودي المستمر معه لحمايته من أي شيء، حتى من رفضه من قبل الآخرين. فنحن معا، أنا وهو، ولا يعنينا الآخرون. يمكنك أن تهاجمني كما تشاء، ولكنك لن تستطيع الوصول إليه والمساس به بأي شكل. الأمر يشبه حالك عندما تتعرض لهجوم شديد: فأنت تختبئ، وتحتمي بمكان ما، وتمكث حتى يتوقف الهجوم، وهذا أقل ما يمكن أن أفعله كوالده، وكنت على الأقل أفعل ذلك.
لهذا كنا نأخذه معنا، في الطائرات وفي السيارة. كان التعامل معه في السيارة أسهل: كان هايلي وأولجا وووكر يجلسون في المقعد الخلفي، وأنا وجوانا في الأمام، وكنا نقسم كل ما نحتاجه إلى قسمين: الأشياء التي يمكن أن نحزمها ونضعها في شنطة السيارة، والمتعلقات التي يجب أن تكون قريبة منا، من أجل ووكر. وتشمل هذه المتعلقات: عربة الأطفال، وعلى الأقل عبوة واحدة كبيرة تحوي 36 حفاض أطفال، وعلبة أو اثنتين من اللبن الصناعي الذي يستخدمه، ومبرد كولمان صغيرا للأدوية، وطاقمين من الملابس وصدريات أطفال ومناديل عنق في حقيبة كبيرة واحدة (لأن لعابه كان يسيل وكان يتقيأ) من أجل الرحلة ذاتها، وحقيبة من اللعب وأدوات التسلية. هذا بخلاف الحقائب الأخرى والسرير/قفص اللعب الذي يمكن طيه. وإذا كنا في السيارة، فيمكننا أن نأخذ أشياء أكثر بالطبع؛ صندوقا آخر من اللعب و«وثابة» بلاستيكية، وهي عبارة عن شيء غريب بلاستيكي للتأرجح لونه أصفر وأخضر وأرجواني، وبه مقعد قماش معلق في المنتصف، حيث يمكنه الجلوس أو دفع نفسه للأمام في الحجرة. كان يحب هذا الشيء الغريب. كانت جوانا تسأله: «هل تحب القفز؟» كان يبتسم ابتسامة عريضة ثم يقفز كثيرا.
كنا نأخذه معنا أيضا في الرحلات الجوية، ولكن القيام بهذا كان أمرا صعبا حقا، وهذا نوع من السفر الصعب الذي كنا نقوم به فقط لنرى جوان وجيك - أم جوانا وزوج أمها - في بنسلفانيا من أجل الاحتفال بأعياد الكريسماس (كنا نضع قفص لعب ووكر بين السريرين المتشابهين في حجرة الضيوف شديدة التدفئة، مع فتح النوافذ على مصراعيها حتى في فصل الشتاء، ونتولى رعايته معا بالليل، ونحاول أن نسكته حتى لا نوقظ الآخرين)، وكنا نذهب أيضا إلى فلوريدا لزيارة منتجع والت ديزني العالمي. (اشترى جيك، وهو كاثوليكي مخلص، صكوك غفران باسم ووكر، وتوسل إلى بادري بيو، الممثل المحلي للقديسين.) ولم نكن ندري قط إن كانت أذن ووكر ستستجيب وتجعله يصرخ بأعلى صوته، أو كونه في الطيارة سيجعله يصاب بالجنون (وتجعلنا نحن أيضا)، أو إن كان بدلا من ذلك سينام أو يرقد في المقعد ويحملق من النافذة في السحاب، وقد انطبعت على وجهه ابتسامة. لم نكن ندري قط ذلك.
في الظروف الطارئة، كنا نستعين بجليسات أطفال، فحين تكون أولجا غير موجودة أو في إجازة، كما في ليلة رأس السنة والأعياد الكبيرة، كنا نستأجر جليسة أطفال من وكالات الرعاية المؤقتة المتخصصة في رعاية الأطفال المعاقين. كن جليسات أطفال ممتازات، وفي الغالب هادئات جدا، ولكن حتى تقابلهن أو تعرف مع من تتعامل، فالأمر يشبه قليلا ترك طفلك مع حيوان لافقاري مستأجر . أقصد ، من يمكن أن يكون متاحا لرعاية أطفال في ليلة رأس السنة؟ كان كثير منهن أشخاصا غريبي الأطوار. كان يصل شخص غريب، امرأة عملاقة عرجاء خجولة بشكل طبيعي عند الباب، وكنت أتظاهر أن أمرا طبيعيا جدا في العالم أن أسلم ابني المعاق (وغالبا ابنتي) لشخص غريب لمدة ست ساعات: «آه، أهلا، أيها الكائن الغريب، كيف حالك؟ تشرفنا، تفضلي، أنا إين.»
وزمجرة مرعبة من الكائن الغريب تكون هي الرد الوحيد. «أقدم لك ... ووكر! هل يمكن أن تقول أهلا، يا ووكر؟» بالطبع أعلم أنه لا يستطيع أن يقول أهلا، ولكن ماذا كان من المفترض مني أن أقول؟ «هنا، يبدو أنكما متلائمان جدا.» بدلا من ذلك، كنت أقول الشيء الوحيد الذي كنت أستطيع قوله: «دعيني أرك حجرته.»
بعد ذلك، كنا نبدأ الشرح المعتاد لروتين ووكر؛ هذا طعامه، وملابسه، وحفاضاته، وحجرة تبديل الملابس، وحجرته، وحجرة اللعب، وسريره. ثم هاك الروتين نفسه: يأخذ هذه الحقنة في ذلك الوقت، و4 سنتيمترات مكعبة من هذا في ذلك الوقت، ثم علبتين من اللبن الصناعي كل أربع ساعات، وتعطينه إياها هكذا، رابطة هذا الشيء بذلك الشيء، وهذه الأداة في تلك الفتحة، وهكذا.
كنا نقول: «تعرف هايلي كل تلك الأمور.» مشيرين إلى ابنتنا المحبوبة البالغة من العمر أربع سنوات، كان الأمر أشبه قليلا بمحاولة شرح نظام سباكة منزل معقد كبير في خمس دقائق قبل أن نطير مسرعين خارج الباب، بالطبع كنا «نريد» أن نطير مسرعين خارج الباب.
بعد ذلك تفرغ المرأة الغريبة ... محتويات حقيبتها. حقيبتها؟ دائما ما كان هؤلاء الجليسات يحملن حقيبة سفر صغيرة بها أشياء غريبة؛ بخاخات وأجهزة استنشاق (خاصة بهن)، وزجاجة كريم لليد، ووجبات خفيفة (بما في ذلك في إحدى المرات رغيف خبز بأكمله؛ قالت جوانا: «ماذا ستفعل بعدما نذهب؟ هل ستقوم بنزهة؟») ووجدت إحداهن - والتي جاءت للبيت مرات عديدة - السلالم صعبة الصعود، وعدنا بعد منتصف الليل لنجدها في حجرة المعيشة، وووكر مستيقظ وبحالة جيدة، ودائما مستيقظ تماما. وكانت هايلي تفضل جليسات معينات؛ كالمرأة القاطنة في منطقة المقاطعات الساحلية الكندية التي كانت تحكي قصصا حول الحياة في الريف، وأخريات مثل المرأة التي أصرت على أن تعطيها هايلي كل الحلوى الحمراء الموجودة في كيس حلوى، واحدة تلو الأخرى. كنا نعيش في عالم خاص بنا، عالم من صنع ووكر.
الفصل السادس
لكن دعني أسألك هذا السؤال: هل ما نمر به يختلف عما يمر به أي والد؟ حتى لو كان طفلك طبيعيا كأي طفل، هل حياتنا تختلف حتى الآن عن تجربتك؟ ربما أكثر مشقة؛ نعم، أكثر حدة في أغلب الأحيان، ولكن هل تختلف فعلا في النوع؟
لم نكن ممن يتلذذون بالإعاقة. قابلت هؤلاء الناس أيضا، آباء الأطفال المعاقين الذين يستمتعون بالمعاناة التي هم فيها، وجعل الآخرين يشعرون بالذنب والأفضلية. أكره هؤلاء الناس، وأكره شعورهم بأحقيتهم في الغضب وتظاهرهم بأن إشفاقهم على ذواتهم الذي لا يمل شجاعة وشفقة، وعدم قدرتهم على تحقيق أي تقدم، أو طلب مساعدة، فهم يريدون أن يتكيف العالم مع ظروفهم، في حين - بقدر ما أستطيع أن أصوغ ذلك في كلمات - لا أريد إلا طلبا يسيرا؛ أن يعترف العالم بأن حياتنا؛ حياة ووكر وهايلي وزوجتي وأنا، لا تختلف عن حياة أي شخص آخر، فيما عدا درجة التركيز والانشغال. أدرك أني كنت واهما. يسأل الناس في الغالب: «كيف تتمكن من فعل ذلك؟ كيف لا تزال قادرا على الضحك، وعندك ابن مثل هذا؟» والإجابة بسيطة: الأمر أصعب مما يتصوره أي إنسان، ولكنه مرض ومجز أكثر أيضا، وما لم يقولوه: لماذا تبقون عليه في البيت معكم؟ ألم يكن هناك مكان ما يمكن لطفل مثل ووكر أن يجد فيه الرعاية؟ حيث لا يتحمل الوالدان العبء كله، ويتيسر لهم بعض الوقت ليتفرغا فيه للعمل والعيش ومراعاة حالهما الآن وفي المستقبل؟
سألت نفسي هذين السؤالين أيضا. كنت أدرك أنه يتعين أن يعيش ووكر في مكان خاص برعاية المعاقين في نهاية الأمر، ولكن هذا بالتأكيد بعد عدة سنوات، وكنت أتناول هذا الموضوع عرضا، حتى في البيت. قلت بشكل عفوي ذات مرة على الإفطار: «علينا أن نضعه في قائمة انتظار طويلة الأجل لمكان رعاية.» غالبا ما كنت أفكر في المشكلة وأنا في الفراش بالليل.
ودائما ما كانت ترد جوانا: «أوه، لست مستعدة لذلك.»
وأقول لها: «لا، لا، ليس الآن، فيما بعد.»
بمجرد بلوغ ووكر سن الثانية، بدأ يؤذي أذنيه ويعض نفسه، ولم يتوقف عن هذا لمدة عام ونصف العام. ظننا أنه يعاني من ألم في الأسنان والأذن، واتضح عكس ذلك. ظهر مصطلح «تشويه الذات» لأول مرة في السجل الطبي لووكر في شهر مارس عام 1999، قبل عيد ميلاده الثالث بوقت قليل. وبسرعة بدأ يتحول إلى ضرب نفسه في الرأس. كان يلكم نفسه، كما يفعل الملاكم البارع، وأطلقت هايلي على ذلك «اللكم الشديد» وتبعناها في ذلك.
المفارقة أنه كان يحرز تقدما إلى حد ما: دقة أكبر في مسك الأشياء بأصابعه، وقيامه بالأكل بنفسه قليلا. (كان يحب الأيس كريم. إذا استطعت أن تجعله يبلعه، فالأيس كريم كان يجعله يبتسم ويعبس - من البرودة - في الوقت نفسه.) وأصبح بإمكانه تتبع الأشياء والإشارة بيده عند توديع شخص، والغمغمة كثيرا مثل المجنون.
ثم توقف عن التواصل معنا.
هل السبب كراهية للذات؟! تعجبت من ذلك. أخذناه لعيادة إعادة تأهيل مشهورة، تسمى «مركز رعاية الأطفال بلورفيو ماكميلان» (وهي تسمى الآن «مركز بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال») في شمال تورونتو، حيث اطلع على حالته معالج سلوكي. في الأماكن الأخرى حين يرى الناس عليه الكدمات يتساءلون عما كنا نفعل بطفلنا. ولاحظ دكتور ساوندرز أنه «لا يستطيع التواصل.»
أحيانا يتألم ووكر ألما شديدا حين يضرب نفسه بعنف ويصرخ من الألم، وفي أحيان أخرى بدا أن هذا يحدث بصورة أشد، كطريقة يريح بها رأسه، أو لكي يعرفنا أنه كان يمكن أن يقول شيئا إذا كان باستطاعته الحديث. أحيانا - وهذا أمر محزن لا نطيقه - كان يضحك بعد ذلك مباشرة. لا يستطيع قول أي شيء لنا، وكان علينا أن نخمن. وازدحمت حياتنا بكثير من المتخصصين. تم تشخيص حالة ووكر بأنها توحد وظيفي - ليس توحدا إكلينيكيا، ولكنه كان يتصرف كما لو أنه مصاب بذلك - إضافة إلى إصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وعالجه دكتور ساوندرز بأدوية البروزاك والسليكسا، والريسبيريدون (وهو دواء مضاد للاختلالات النفسية، يستخدم في علاج مرض الفصام؛ إذ إنه يخفف سلوك الوسواس القهري عند الأطفال)، ولكن لم تجد نفعا هذه الأدوية. وذات مرة وبينما نحن في بنسلفانيا، ضرب يده ضربا مبرحا، وبعد ساعة من إجراء جراحة ليده لعلاج الإصابة، قضى ليلة في المستشفى (ودفعنا فاتورة بقيمة 14 ألف دولار أمريكي).
بدأت ملاحظات الدكتور ساوندرز تسجل جوانب مرعبة أكثر فأكثر. على سبيل المثال: ««اللكم الشديد» للأذنين لمدة 2-3 أيام.» أتذكر ذلك الصباح، وبخاصة نظرة الحزن الشديدة التي حلت على وجه ووكر حين ضرب نفسه بعنف. كان ينظر إلي مباشرة، وأدرك أن هذا أمر سيئ وخاطئ، وعلم أنه يؤذي نفسه، وأراد أن يوقف ذلك ولكنه لم يستطع، فلماذا لا أستطيع أنا؟ وأصبح نحيبه البسيط مخيفا وعاليا. ومنذ شهر يونيو عام 2001 إلى ربيع عام 2003، ذكر كل إدخال في سجله الطبي تعاسته وسرعة انفعاله.
هل علم أن فرصته في التعلم توشك على الانتهاء؟ هل تنخفض قدرته على الرؤية؟ «72 ساعة من السلوك العدواني، وصياح بائس لمدة 5 أيام.» حتى خط الدكتور ساوندرز أصبح غير دقيق وغير واضح، وأذهله فوضى تلك الزيارات الصاخبة. «صراخ طوال النهار، مطلوب إيقافه.»
أخاف من حجرة الانتظار عند الطبيب، بما فيها من أمهات يرتدين ملابس أنيقة وأطفال يتصرفون بشكل جيد. كانوا دائما أناسا طيبين، ولكن عند الدخول مع ووكر وهو يصرخ ويلكم رأسه بعنف، كنت أشعر وكأني أقتحم إحدى الكنائس كفرقة مكونة من رجل واحد عار وإحدى الألعاب النارية موجودة في مؤخرتي وأنا أغني: «نعم! ليس لدينا موز.» «أم باكية.» يدون دكتور ساوندرز ذلك في يوم 29 من شهر ديسمبر من ذلك العام المخيف. «دخول عاجل للرعاية.»
أتذكر ذلك اليوم أيضا. ركبنا السيارة متجهين إلى المنزل عائدين من عند الطبيب ومعنا ووكر، ثم أطعمناه، وحممناه، ولاعبناه حتى نام. سمعت صياحه وهو ينخفض تدريجيا. عادة ما تشعر جوانا بالراحة حين ينام ووكر، ولكن في تلك الليلة جاءت من حجرة نومه إلى الدور السفلي باكية، وتلف ذراعيها حول جسمها.
وقالت: «لقد ذهب ... لقد ذهب ولدي الصغير، أين ذهب؟» ولم نستطع تهدئتها.
لذا، ولعلك قد تفهم السبب، بدأت في صباح اليوم التالي أبحث جديا عن مخرج مما نحن فيه. لم أخبر جوانا، ولكن كان علي أن أجد مكانا يعيش فيه ووكر، مكانا ما خارج بيتنا، لم أكن أدرك أن الأمر سيستغرق سبع سنوات، إنه أكثر الأشياء التي فعلتها في حياتي إيلاما، والألم لم يفارقني نهائيا. ***
على مكتبي في العمل صورة لهايلي تقرأ لووكر، كان هذا في الجزيرة الهادئة التي توجد في الشمال. في الصورة، يرقدان جنبا إلى جنب على السرير، وينظر ووكر في الكتاب الذي في يدي هايلي، وكأنه مأسور بكل كلمة فيه. ولا أدري إن كان يفهم أي مقطع تقوله أم لا، ولكن يمكنه سماع صوتها، ويشعر بسعادة غامرة لكونه معها، ويستحوذ عليه بوضوح حب أخته الكبيرة الذكية. لقد أصبح هو اللحظة، وأصبحت اللحظة ووكر؛ لأنه لا يوجد شيء آخر يكونه. فووكر تجربة في الحياة الإنسانية عاشت في البيئة النادرة للحاضر الحالي، وقليلون جدا من يستمرون على قيد الحياة في تلك البيئة.
تذكرني الصورة بقصيدة ماري جو سولتر التي قرأتها ذات مرة في مجلة:
لا يتذكر أحد منا تلك الأيام
حين كان يعجب بنا الغرباء المارون من أول نظرة
فقط من أجل الحياة، أو من أجل المشي في الشارع.
يثنون على كل أسمائنا، ويستجدون منا الابتسامة.
أنت أيضا بعد قليل يا حبيبي
ستفقد كل هذا،
عندما تطلب قبلة، أمنحك إياها،
وتتعلم كيف يحكم الحب على الإنسان بأن يتكسب الحب
بمجرد أن نتحدث عنه.
ليس لدى ولدي ووكر ما يقلقه هناك، إنه لا يطلب أي شيء، ومع ذلك يحبه الكثيرون. ولكني أشك أن يكون الأمر هينا عليه بهذه الصورة.
قالت جوانا في إحدى الليالي، وكنا نرقد على الفراش، نتحاور قبل استغراقنا في النوم: «أسمع آباء الأطفال المعاقين الآخرين يقولون طوال الوقت: «لا يمكن أن أفرط في طفلي ...» ويقولون: «لا يمكن أن أفرط فيه مقابل أي شيء.» ولكني سأفعل، سأفرط في ووكر إذا كان بإمكاني الحصول على طفل عادي جدا يحصل على تقديرات متوسطة في المدرسة، سأفرط فيه على الفور. أنا لا أفرط فيه من أجلي، أو من أجلنا، ولكني أفرط فيه من أجله هو. أعتقد أن حياة ووكر صعبة جدا، جدا.»
الفصل السابع
لمدة سبع سنوات كنا نتحدث عن انتقال ووكر إلى مكان لرعاية المعاقين، أو إذا أردنا الدقة: لمدة سبع سنوات كنت أثير بحذر موضوع انتقال ووكر إلى مكان لرعاية المعاقين، ولكن لم يستطع أي منا أن يواجه هذا الاحتمال. لقد كان علينا أن نقوم بذلك، ولكننا لم نستطع فعله.
يذكرني هذا المأزق بتجربة قرأت عنها قبل ذلك. وضعت فئران في صندوق سكينر، ثم تمت كهربة أرضية الصندوق، والطريقة الوحيدة التي يتمكن بها الفأر من الهرب من الصدمة الكهربائية هي القفز إلى منصة عالية، لكن للأسف، أي فأر يستخدم المنصة كان يعاقب بتوجيه تيار حاد من الهواء البارد جدا مباشرة إلى فتحة شرجه؛ وهو شيء لا يحبه الفئران على ما يبدو، وبدأ يظهر سريعا على الفئران التي تعرضت لهذا المأزق الذي لا مفر منه سلوك فصامي تقليدي. أدرك جيدا شعور الفئران.
قبل أن يبلغ ووكر سن التاسعة، كان وزنه يقترب من 65 رطلا، وكان يزداد حجما، بينما نتقدم نحن في العمر. كنت أبلغ من العمر 50 عاما، وجوانا 41 عاما، وفجأة أصبحت هايلي مراهقة. إن حمل ووكر إلى الطابق العلوي مثل سحب حقيبة مصنوعة من القماش بها كرات حديدية، ويتمركز كل الثقل في القاع. بدأ النوم لثلاث ساعات كل ليلة ولمدة أربع ليال متصلة يؤثر على صحتي، وأصبح الصداع النصفي العيني مظهرا جديدا في حياتي. إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ ويبدو أن اليأس يحل علينا من وقت لآخر، خاصة عندما تتدهور حالة ووكر.
ظللت أتابع أخبار دور الرعاية المعروفة ومراكز المساعدة الموثوق بها المخصصة للمعاقين عقليا؛ لكن في كل مرة أتواصل مع أحدها، تفشل المحاولة بحجج مختلفة؛ كعدم وجود مكان شاغر ، أو عدم وجود تمويل، أو كون المكان غير مناسب للأولاد الصغار. ولإحدى المؤسسات المشهورة الخاصة بالمعاقين عقليا التي تقع في شمال المدينة؛ قائمة انتظار لعشرين عاما ولا تقبل الأطفال. انضممت إلى الرابطة المحلية المعنية برعاية المعاقين عقليا وذويهم، على أمل أن أتودد بنفسي إلى المنظمين وأجد مكانا لووكر في وقت مبكر. بدلا من ذلك، أبلغني المنظمون أن متوسط سن المتقدم لأماكن الرعاية في شبكة المدينة 40 عاما للشخص المصاب بمتلازمة داون وأن يكون والداه من كبار السن وبحاجة كبيرة إلى أماكن بدور رعاية. انصرفت من هذا الحوار مدركا أنه لا يزال أمامنا طريق طويل لنخوضه في المستقبل. لا عجب أننا أردنا أن نبقي ووكر معنا؛ فالمشهد خارج جدران بيتنا، في عالم أماكن الرعاية العامة للمعاقين أشد الإعاقة، يبدو مثل رواية لزولا.
عشنا في هذه الحالة اليائسة لسنوات. حينما كان ووكر عمره سنتان - خلال الأيام البائسة التي بدأ يلكم فيها نفسه - عرفني صديق له ابنة معاقة برجل قيل لي: إنه يمكن أن يحل مشاكلي، كان يعمل محاميا للمعاقين. لقد سمعت عن هؤلاء الناس: فهم أشبه بالمخلوقات الأسطورية التي يتحدث الناس عنهم كثيرا ولكن نادرا ما يراهم أحد. كان المحامي أشبه بالمدير والوكيل الخاص؛ شخص يتولى قضايا محددة (ولكن ليس أي قضية)، ويتدخل نيابة عن الشخص الذي يوكله في بيروقراطية الإجراءات المعقدة والكبيرة المتعلقة بذوي الاحتياجات الخاصة. كان هذا المحامي يساعد الأسر في تحديد ما يحتاجون، ووضع الخطة المناسبة لهم للهجوم على المنظومة البيروقراطية، ثم يضغط من أجل الحصول على الرعاية والدعم والمال. وفي الغالب يعمل المحامون مقابل مرتب من جمعيات الخدمة الاجتماعية، والتي هي في العادة مؤسسات لا تهدف إلى الربح وتمولها جمعيات خيرية ومنح حكومية.
قبل أن أقابل المحامي، تصورت أن هناك نظاما حكوميا عاما تسير من خلاله كل قضية من قضايا الإعاقة. كنت مخطئا؛ إذ قال لي المحامي: «كل واحد يتصرف بما يناسبه.» كان هذا المحامي في الثلاثينيات من عمره، ويرتدي بذلة ورابطة عنق، وأضاف: «ما تحصل عليه، يمكن ألا يحصل عليه غيرك.» وأخبرني عن أطفال التحقوا بعد عناء بدور رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، وآخرين لديهم شققهم ويدفعون مليون دولار سنويا لفريق الدعم؛ فالأمر يعتمد على: كيف يطلب الفرد وممن يطلب وكيف يساوم؟ ثم أضاف: «لكن لووكر احتياجات كثيرة، وهذا جيد.»
والحكمة أن تنتظر حتى تحصل على ما تريد؛ لأنك إذا حصلت على القليل من الحكومة، فمن الصعب أن تحصل على المزيد. على الجانب الآخر، إذا حصل طفلك على مكان ما في دار محترمة ورفضت ذلك، فستعود إلى ذيل قائمة الانتظار. إن محصلة هذا التفاوض أشبه بلعبة غير عادلة، يصعب التنبؤ بنتائجها؛ مما يجعل والدي الطفل المعاق قلقين وطماعين في الوقت نفسه، وممتنين أشد الامتنان لأي شيء يحصلان عليه في النهاية. وبدأت أشكال جديدة وأكثر غرابة للشعور بالذنب تهاجمني. فإذا عاش ووكر طوال الوقت في مكان رعاية جيد، فستصل التكلفة إلى 200 ألف دولار أمريكي على الأقل سنويا، ولو عاش إلى سن الخمسين، فسيكون إجمالي التكلفة 8 ملايين دولار أمريكي. ليس معي 8 ملايين دولار، ولكن كان يعيش 8 ملايين نسمة في تورونتو، المقاطعة الكندية التي أعيش فيها. هل هذا يعني أن ووكر يستحق أن يحصل من كل شخص منهم على دولار؟ كانت هذه الحسابات تشغل ذهني بالليل.
كان المحامي على دراية بكل تفاصيل عالم الخدمات الاجتماعية، وبنهاية الساعة والنصف التي قضيناها معا، اقتنعت أنه عبقري، وقلت له ذلك. قلت له وأنا أرفع ناصية شعري: «أريد منك أن تمثل ووكر، إذا كان بإمكانك هذا، وأردت هذا، وكان لديك متسع لعميل آخر.»
قال: «يشرفني ذلك ... هو بحاجة إلى محام، لكن هناك أمر واحد فقط: سأترك مجال المحاماة، وسأعمل لدى الوزارة.» بدا الأمر كما لو أن جدران الحجرة تتساقط فجأة. فقد تولت السلطة حكومة جديدة من حزب المحافظين، وقدرت وكالات الخدمة الاجتماعية بالمقاطعة أنها بحاجة إلى أحد موظفيها المتمرسين في جهاز التمويل. ومرت عشر سنوات تقريبا حتى قابلت شخصا مثله. •••
فيما يلي جزء من دفتر ملاحظاتي:
25 نوفمبر عام 2003
مكالمة من مدرسة ووكر. تقول آلانا جروسمن المديرة : «تواجهنا مشكلة كبيرة.» فقد تحول من عض نفسه إلى لكم رأسه، إضافة إلى حركاته وسلوكياته الغريبة.
نتقابل في المدرسة الساعة التاسعة صباحا، والحضور هم: جروسمن، ومعلما ووكر الشابان؛ توماس ودين، واختصاصية نفسية من مجلس إدارة المدرسة، وهي امرأة حازمة حريصة على الشكليات ترتدي فستانا جزؤه العلوي مصنوع من قماش صوفي مربع النقش، واثنان من المساعدين التربويين، وأنا وجوانا، والتي ما زال عليها أثر معركة الصباح الخاصة بإيقاظ ووكر وتنظيفه وجعله يرتدي ملابسه وإطعامه وتهدئته، وهكذا لم يكن لديها وقت لاستبدال بيجامتها والتي كانت ترتديها تحت معطفها. جيش كامل للاعتناء بولد واحد. قالت الاختصاصية النفسية: «يحتاج إلى تحفيز»؛ وذلك توضيحا لسبب لكمه لرأسه. لا أدري كيف عرفت ذلك. «نريد أن يتحول لكمه لرأسه إلى مسألة اختيار.»
يتقابل كل هؤلاء الناس بشأن ووكر مرة كل أسبوع. وهو يعرض حياته للخطر كل ثمانية أيام من عشرة أيام. يقول دين: «يمكنه اتباع روتين، ولكنه يتضايق إذا فرض عليه ... وأحيانا يفيد الحزم معه.»
تقاطع الاختصاصية النفسية قائلة: «لكن في الوقت نفسه نريد له أن يختار.»
أريد لها أن تختار مهنة أخرى!
تقول جوانا: «أرفض هذا الوصف لشخصيته، ولهذا السبب أصابني الإحباط من عدم قدرتي على توفير أي نظام تواصل معه.»
تقول صاحبة الفستان ذي الجزء العلوي المصنوع من قماش صوف مربع النقش: «هل يعتمد اعتمادا كليا على مسك الأشياء؟»
هذا الذي أراه يحدث: يريد ووكر أن يطمئن أنه إنسان، ويكره اعتباره غريبا ومختلفا. والآن تريد الاختصاصية النفسية أن تحرمني من الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها أن أخبره أنه ليس كذلك. ***
من دون محام، ونحن بانتظار حدوث شيء ما يساعدنا على الخروج من كابوس رعاية ولد حاجاته في تزايد بينما قدراتنا في تناقص، نجد أنفسنا نعود إلى الخدمات الخاصة التي تقدمها الحكومة كبديل مؤقت لحل أكثر ديمومة. هناك خدمات الرعاية المؤقتة - والتي ترسل بأشخاص لرعاية الطفل المعاق لمدة نصف يوم مرتين كل أسبوع - ولكنها أيضا تحتاج إلى السعي وراءها، وأن نتقدم إليها، وأن تتم الموافقة على حالتنا. كان كل شيء نحتاجه يتطلب ملء استمارة: أي استمارة؟ ومن أين نحصل عليها؟ ومن لديه الوقت للحصول عليها؟ وإلى أين نرسلها؟ وبمجرد إرسالها، علينا أن ننتظر.
مر عدد من الطلاب الجامعيين البارعين بحياة ووكر بهذه الطريقة؛ يتذكر ذهني المشحون من السيدات منهم فقط جوين وإليزابيث وديل. جوين متخصصة في دراسة فترة العصور الوسطى وهي من تكساس، وهي امرأة بارعة ومبدعة وتتمتع بنظرة أمينة المكتبة الجذابة، وكان لها رفيق ضخم ولطيف. أما إليزابيث فهي أول امرأة أقابلها متحمسة للمسلسل التليفزيوني «بافي قاتلة مصاصي الدماء»: تستطيع التحدث بذكاء ودون ملل عن بطلتها، وعلمتني أن آخذ هذا الاهتمام من جانب الناس بمواد الثقافة الشعبية بجدية. أما ديل فهي الأجمل، وهي طالبة جامعية مخلصة، شعرها أسود وهادئة، تدرس تعليم الأطفال، وهي أخت لولد معاق. وتعشقهن هايلي كلهن كأنهن أخواتها الكبار، ولم يعد ووكر يزعجهن أكثر مما يزعجهن أحد الشوارع المزدحمة. فهن صغيرات جدا في السن، ولديهن أمل وحيوية كبيرين، وأشعر بامتنان كبير لهن. ويشبه شعوري بالامتنان لهن الحشائش التي تنمو بكثرة في المروج.
لكن لكل منهن حياتها الخاصة، ولم تمكث أي منهن معنا طويلا. هناك بعض التخفيضات الضريبية المتاحة، ولكنني وجوانا نعمل؛ لذا فدخلنا عال جدا بصفة عامة بما لا يجعلنا مؤهلين لتلك التخفيضات، وقد اكتشفنا ذلك بعد ملء استمارات التقدم. وهناك برامج لتغطية تكلفة الأجهزة المساعدة، ولكنها تتطلب كما كبيرا من الأوراق، بالإضافة إلى المراجعات الشاملة: يبدو أن الحكومة ترى أني يمكن أن أتحايل من أجل الحصول على سرير بناموسية وحامل لأكياس التغذية، وهذا ما أردته دائما بالفعل! على أي حال، كان على أحدنا أن يملأ هذه الاستمارات؛ ولكن كلينا كان يعمل ويرعى ووكر كل الوقت. وعندما بدأنا نعمل بشكل حر، لكي تكون لدينا مرونة أكثر في الوقت، ملأت جوانا الاستمارات - كانت تقضي أربع ساعات كل أسبوع للقيام بهذا - ولكننا كنا نكسب مالا أقل، ومن ثم كان بإمكاننا أن نتقدم للحصول على التخفيضات الضريبية هذه. ويشبه النظام بالكامل آلة روب جولدبرج الكرتونية التي تقوم بالمهام اليسيرة بشكل معقد جدا.
وتلك فقط البيروقراطية الموجهة للمعاقين، أما بيروقراطية غير المعاقين، فهي شيء آخر مختلف كلية. في سن الخامسة، بدأ ووكر في الذهاب إلى مدرسة بيفرلي العامة للأطفال المعاقين عقليا، وهي مؤسسة محلية مشهورة مخصصة بالكامل للأطفال الذين لديهم إعاقة عقلية، حيث معدل الطلاب إلى المعلمين ثلاثة إلى واحد فقط، وللمدرسة مساحة جيدة التهوية وجميلة مصممة للأطفال الذين لا يستطيعون النظر من النوافذ العادية أو المشي بسهولة عبر الباب المعتاد. كان تأثيرها في ثقة ووكر بنفسه فوريا؛ ففي خلال شهر تقدمت حالته من الحاجة إلى أن يحمل من حجرة إلى أخرى في المدرسة إلى المشي بنفسه. لكن في خلال عام، أعلنت الحكومة المحلية عن نيتها إغلاق المدرسة؛ فالمدرسة مخصصة فقط للمعاقين - أي مكان «تمييزي»، في مصطلحات مجال تعليم المعاقين - ولا تتوافق مع سياسة المقاطعة في دعم المدارس «الشاملة» (الأقل كثيرا في النفقات)، حيث يتعلم الطفل المعاق من الناحية النظرية جنبا إلى جنب مع الطفل العادي، ويألف كل منهما الآخر. المدارس الشاملة تكون ممتازة في الغالب، ويفضلها جيل معين وطبقة سياسية معينة من التربويين، ولكن حتى هؤلاء التربويون يعترفون أن الدمج لا يناسب الجميع، وأن المؤسسات المخصصة للمعاقين يمكن أن تكون أكثر إفادة للأطفال المتأخرين مثل ووكر.
لكن الحكومة المحلية ضد مدرسة بيفرلي لأسباب أخرى أكبر من ذلك، منها أن المدرسة لا تتوافق مع القواعد الغامضة لوزارة التعليم الخاصة باستيعاب الطلاب. ولكي يبرر وزير التعليم التخفيضات في ميزانية التعليم بالمقاطعة، قرر أنه على المدارس أن تستوعب عددا معينا من الطلاب لكل قدم مربع من مساحة الأرضية، ويسمح هذا لحكومة حزب المحافظين ببناء مدارس أحدث و«أكفأ» في الضواحي، حيث يوجد دعم سياسي لهم، وإغلاق المدارس في وسط المدن الكبرى، حيث يعيش الليبراليون الذين يعدون مصدر إزعاج لهم. ولا تتوافق مدرسة بيفرلي مع قواعد الاستيعاب هذه؛ لأن طلابها المعاقين يحتاجون إلى مساحة أكبر، لأنهم يستخدمون كراسي متحركة وبسطا رغوية ووحدات تهوية وغرف لعب وحوامل لأكياس التغذية والأدوية وعربات؛ لذا فالمؤسسة مرشحة للإغلاق. وفي النهاية أجبر الغضب الشعبي الحكومة على عدم إغلاق المدرسة، ولكن أولويات الحكومة واضحة: المعاقون لا يصوتون؛ لذا لا يستحقون اهتماما فرديا كبيرا، ولا تناسبهم الخطة الحكومية؛ أية خطة.
حاولنا جميعا تلبية احتياجات ووكر مهما كانت الصعاب، وبمساعدة أولجا، وما نقوم به نحن، وأماكن الرعاية المؤقتة، وطلاب الجامعة، والبرامج المتخصصة، والوكالة الغريبة، والمدرسة، والحظ؛ تمكنا من تسيير الأمور لمدة عشرة أعوام، وأصبح الروتين الخاص بووكر مألوفا أكثر، ولكن الضغوط نادرا ما تتوقف، ولا يمكننا توفير أي قدر من المال، ولا نستطيع وضع خطط واقعية، ولا يمكننا السفر أبعد مما يمكن أن تأخذنا إليه السيارة أو عربة الأطفال (الآن ووكر أكبر، وأصبح التعامل مع ووكر في الطائرات أكثر صعوبة)، أو أي مكان لا يوجد به مستشفى جيد قريب. نحن نحاول أن نعيش كما لو أن الأمور كلها طبيعية، ولكن الروتين معيق مثل المكان الذي علي أن أنام فيه مع ووكر، ويبدو المستقبل كئيبا وغير محدد الملامح. والأموال التي ننفقها على أولجا، والاثنا عشر ألف دولار التي ننفقها كل عام على الألبان الصناعية وحدها، والأموال التي ننفقها على الحفاضات؛ يمكن إنفاقها كلها على تعليم هايلي في الجامعة. تقول هايلي بشجاعة إنها ستحاول جاهدة الحصول على منحة دراسية لتوفير النفقات، ولكنها طفلة قلقة فعلا، وهذا من تداعيات العيش في منزل من المتوقع فيه دائما حدوث انفجار. أحلم باستمرار بالمال، وبأني قد أسأت التصرف في ممتلكاتي، وبأن الشرطة تلاحقني وتطلق علي النار في النهاية. ***
ثم فجأة، يظهر بصيص من الضوء في أفق المستقبل المظلم؛ ففي خريف عام 2003، دعينا مرة أخرى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع احتفالا بعيد الشكر في كوخ أصدقائنا الطيبين جون وكاثرين، ودعي أيضا ضيوف آخرون، وهم: صاحبانا الدائمان آلان كلينج وتيكا كروسبي، وزوجان آخران وهما صديقانا القديمان لوري هاجينز وكولين ماكينزي. لكننا لم نستطع التحدث إليهم كثيرا؛ لأن ووكر كان في حالة سيئة، فهو لم يتوقف عن الصراخ، ولم يتوقف عن ضرب نفسه، ولم يتوقف عن طلب اهتمام فرد واحد، بل فردين (وأحيانا أربعة من خمسة أفراد موجودين)، ولمدة ثلاثة أيام في خريف كندا الصعب.
اتصلت بي لوري بعد أسبوعين، وبعد ضغوط كبيرة من تيكا وكاثرين؛ اتصلت بي أنا وليس جوانا. فلوري تعلم من منا ذو القلب الأكثر تعقلا وتفتحا. وقالت لي: «هناك شخص ما أريدك أن تقابله، وهو امرأة تعمل محامية في مركز «سري بليس» - مشيرة إلى معهد محلي متخصص في دراسة التوحد وعلاجه - أرى أنها قد تتمكن من مساعدتك؛ لأنك بحاجة إلى ذلك.» فحياتنا في نظر لوري تعد كابوسا حقيقيا.
محامية، مرة أخرى! ستأتي المرأة إلى المنزل، وتستكشف حالة ووكر، وترى ما نحن فيه، وترصد حياتنا، وإذا كانت «حاجاتنا» - هذه الكلمة موضوعة دائما بين علامتي اقتباس في ذهني - كبيرة بما يكفي، فستحاول مساعدتنا في إيجاد مكان في العالم الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة، حيث يمكن لووكر أن يعيش وتتحسن حالته، ولكني لا أعلق آمالا كبيرة على ذلك. ***
4 أبريل عام 2004
الآن عندنا محامية لقضية ووكر، اسمها مارجي نيدجفيتسكي، وقالت في أول مرة نتقابل فيها، وذلك قبل الكريسماس في العام الماضي: «سنبدأ في التقدم بطلبات من أجل تقديم رعاية طويلة الأمد لووكر.» لا بد أنه قد بدا علي أنني صدمت، لذا أضافت بسرعة: «ليس عليك أن تتخذ هذا القرار الآن، بل فكر فيه بترو.»
على أي حال يستغرق أي طلب مثل هذا سنوات حتى يقبل. ولدهشتي، فمجرد حقيقة أن ووكر يستطيع الحركة ويعتمد على الآخرين في قضاء احتياجاته يجعل منه حالة معقدة. هناك دور لرعاية الأطفال الذين يعانون من ضعف بدني شديد، ولكن قد يتحرك ووكر هنا وهناك ويغلق أجهزة تنفسهم، وذلك من باب المرح الذي يشعر به بالضغط على الأزرار. ثم هناك دور أخرى للأطفال ذوي الإعاقة العقلية الشديدة، ولكنهم لا يمكنهم التعامل مع حالة الضعف البدني التي يعاني منها ووكر، ومرحلته العمرية.
أصبحت قلة الأماكن لأي من النوعين السابقين أمرا شائعا؛ ففي كل شهر في تورونتو وحدها، يبحث 2400 معاق عن مكان يعيشون فيه في 76 دارا لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وينتظر بعضهم ثماني سنوات، ونادرا ما يتغير هذا الرقم.
تقول مارجي: إن رهاننا الرابح هو الحصول على مساعدة من فرع جديد لمؤسسة عريقة تقدم خدمة اجتماعية متخصصة في التعامل مع «أطفال غير عاديين وتصعب خدمتهم».
لا تروق لي فكرة عيش ووكر في أي مكان آخر غير البيت، ولكن شعوري بالذنب الآن يعد ترفا. علينا التصرف؛ فهو لا يستطيع أن يكون وحده حتى لمدة دقيقة، فهو يحتاج لمساعدة 24 ساعة في اليوم، وفي النهاية عليه أن يخرج من المنزل. تقول مارجي: إنها فكرة جيدة أن نبكر بنقله؛ إذ في سن الثامنة عشرة سيصبح الأمر غاية في الصعوبة.
الزيارة الأولى لها لبيتنا كانت في حجرة المعيشة. مارجي أكبر منا في السن، ربما تكون في أوائل الستينيات من عمرها، وهي طويلة وشعرها رمادي ينسدل حتى كتفيها، وهي هادئة تماما، وتستمع عشرة أضعاف ما تتحدث، ولا تستخدم مصطلحات الخدمات الاجتماعية؛ مما جعلني أعجب بها على الفور. وحتى جوانا وافقت على الجلوس معها والتحدث إليها عن إلحاق ووكر بدار للرعاية طويلة الأمد؛ إنها حقا مفاجأة.
تقول جوانا لمارجي: «يستجيب ووكر بالحب ... ونريد أن يذهب إلى مكان حيث يحبونه كله، وليس بعضه.»
لكنها لا تقصد ذلك، وهي مثلي لا تريده أن يذهب إلى أي مكان على الإطلاق.
يتشارك ووكر ووالدي في شيء ما، شيء لا نستطيع تحديده. فوالدي في التسعينيات من العمر، وما زال يذهب إلى العمل، وما زال يمارس تدريبات رياضية لمدة خمس عشرة دقيقة كل صباح، ولكنه يشعر بضعفه ويكره ذلك، وقد توقف عن قيادة سيارته في سن الثالثة والتسعين، بعد إصابته في رقبته، وما زال يرى أنه سيعود إلى قيادة سيارته مرة أخرى. لن يحدث هذا، ولكن السيارة تخفف الضغوط عليه بدرجة كبيرة؛ فلا يمكنه المشي سريعا مثل بعض الناس، ولكن بالسيارة يمكنه أن يصبح الرجل الذي كان في ماضيه. اسمه بيتر، واسمه الأوسط هنري، وهو ما ألقب به ووكر.
أذهب بالسيارة في عطلات نهاية الأسبوع لمساعدة والداي، فهما يعيشان في منزل صغير وحدهما بجوار نهر، آخر ما تبقى من الريف في أطراف ضاحية ذات أنشطة متنوعة. يحتاج أبي إلي ويحتاج سيارتي من أجل قضاء بعض المهام، كأن يذهب إلى الحلاق، أو متجر الخمور، أو الأماكن المختلفة الخاصة بإعادة تدوير الأشياء، أو متجر البقالة، أو الزيارات الأسبوعية للمستشفى لعلاج توسع الأوردة، أو إدخال السعادة على أمي؛ كل ما سبق يمثل متعه الآن، فهو يستميت حتى يصبح قادرا على الحركة، ومن هنا تأتي الحركات الثلاث للخروج من السيارة: يفتح الباب، ثم يميل برجليه إلى الجانب - «هل تستطيع ذلك؟ نعم، نعم» - ثم يبسط ذراعيه إلى جانبي إطار الباب، كما لو أنه على وشك الهبوط بالمظلة إلى منطقة بعيدة من إحدى طائرات شركة سيسنا. الصخرة للوراء، والمنجنيق جاهز و... استعداد! انطلاق! ثقل معادل لمنع الرمية للأمام! هل تمكن فعلا من الخروج؟ نعم، مرحى! المقلاع البشري، يستخدم فقط لجلب اللبن أو دفع الفواتير في المصرف؛ وهو أحد مصرفين يستخدمهما هو وأمي البالغة من العمر 94 عاما، حتى لا يخاطرا بوضع كل أموالهما في مكان واحد.
جلد والدي ضعيف مثل الورق البصلي المستخدم في إحدى نسخ الكتاب المقدس. اعتدت أن أضع ذراعي حول كتفيه حين نتقابل، وهو يجفل إذا نسيت وحاولت القيام بهذا بعد ذلك. كنت أخشى أن أخلع شيئا ما من مكانه، ويجب علي تجنب هذا الخلع بأي ثمن، وبكل أشكاله. لا يتغير الروتين - المصرف، ثم أماكن إعادة تدوير الأشياء، ثم متجر البقالة، بهذا الترتيب - ولا المسار. يسأل وهو في السيارة: «لماذا تسير في هذا الطريق؟» كما لو أنني شككت في وجود جزيئات الكربون نفسها. وهو يصل مبكرا عن المواعيد المحددة بخمس وأربعين دقيقة، ويحمل منديلا يمسح به لعابه من الجانب الأيسر لفمه حين يعتقد أني لا أراه، فالشيخوخة ليست فقط شيئا يكرهه، بل هي تزعجه شخصيا؛ فمزاجه متقلب، وهو حاد الطبع قليلا. وبينما تخور قواه، يقل تحفظه المعروف عنه؛ فهو سيئ المزاج الآن، إلا عندما يكون مع ووكر؛ فيبدو أنهما يدركان ضعف بعضهما بعض؛ ولذلك يصبر كل منهما على الآخر.
كل مرة يتقابلان فيها يحدث الشيء نفسه: يقف الولد أمام الرجل العجوز، ويمسك والدي بيديه وينظر في عينيه ويقول: «أهلا بك.» ثم يبتسمان. ويعرف والدي ما يفعله دون أن يخبره أحد. «أهلا بك، يا سنودجراس.» كما اعتاد أن يقول لي ولأخي، ثم يتسلل ووكر إلى حجره ولا يتحرك لمدة عشرين دقيقة. ووكر يعرفه، ولا أدري كيف لأنه لا يرى جده كثيرا. ليس صحيحا أن السبب في ذلك هو أن والدي لا يحبانه؛ فهما ببساطة لا يتحملان القلق الذي يمكن أن يتسبب فيه، وهما يرسلان بطاقات تهنئة له في عيد ميلاده، ويطلبان منا أن نشتري له هدايا مناسبة في الكريسماس، ويسألان عن حالته كلما زرتهما، ولكن الفوضى التي يمكن أن يتسبب فيها ووكر عندما يأتي لبيتهما واستهدافه المباشر لزهرية بها زهور كالسيلاريا موجودة على طاولة الألعاب العتيقة الخاصة بأمي؛ لا، هذا ليس أمرا مريحا، ويمكن لأنفه فقط أن يغضب بشدة أمي المحاربة للجراثيم.
هي تحبه، لا شك في ذلك؛ فهي - اسمها سيسي - تحبه كأي شيء في الطبيعة، مثل نبات الياسمين البري الخاص بها أو ورودها أو النهر في سفح حديقتها، كما لو أنه يجري في عروقها مثل راسب طبيعي سميك. إنها البنت الريفية التي توجد بداخلها، العامل الكادح الذي يتعامل مع الطبيعة كما هي. ولكن البنت الريفية هذه - السمينة والقوية والشجاعة وحتى الشرسة - يزعجها احتياجاته العلمية؛ أنابيبه وجرعات دوائه، وتخشى أن تؤذيه أكثر. وفي اليوم الذي أخبرتها فيه بدرجة الإعاقة التي سيكون عليها - وكان هذا بعد رحلتنا إلى مستشفى الأطفال في فيلادلفيا، بعدما علمنا أن قدرته على القراءة وعلى أمور أخرى كثيرة لن تتجاوز قدرات طفل بلغ من العمر سنتين أو ثلاثا - كانت تجلس على أريكة صغيرة في حجرة التليفزيون في بيتها الرائع، ونظرت إلي ويداها في حجرها، دون أن تبدي أي رد فعل، ثم تقدمت إلى طرف الأريكة، وقالت: «حسنا، ما علينا حينها إلا أن نحبه كما هو.»
لم تر في ووكر هبة مثلما رأت في حين كنت أشب عن الطوق: فلربما جعلها ووكر أكثر رفقا (وإذا كان الأمر كذلك، فهو ولد معجزة)، لم يكن هذا ردا بالمعنى الحرفي - «ما علينا حينها إلا أن نحبه كما هو.» - ولكنه الرد الوحيد المتاح دائما، في الانتظار. وتتمتع أمي بموهبة إصابة كبد الحقيقة.
من ناحية أخرى، يعد والدي صديق حفيده، ويجلسان كلاهما يمسك بيد الآخر. وإذا تذمر ووكر، سيسمع عبارة سريعة وبحرية «توقف، الآن!» وكأن والدي الذي عمل رائدا بحريا لسنوات في سلاح البحرية الملكي يعود إلى الخدمة. وغالبا ما ينجح هذا، ويشعر الجد والحفيد بالسعادة للانتظار معا، وربما ينتظران الشيء نفسه؛ ولكن ما هذا الشيء؟ هذا ما قد يجول ببالك حين تراهما. هذا الرجل الذي أصبح أنا وأنا الذي أصبحت ووكر. ذلك التعثر، وذلك التردد، وتلك الحيرة؛ للرجل العجوز، وللولد، ولي.
ليس والدي رجلا عاطفيا؛ إذ أرسل إلى مدرسة داخلية عام 1918 وهو في سن الرابعة، ومات أخوه العزيز هارولد، على متن سفينة في معركة عسكرية ما. وترك أخ آخر البيت، ولم يسمع عنه مرة أخرى، ولم تأت سيرة أي منهما بعد ذلك. ولكن ووكر يحسن من طباعه، وكلما كبر والدي في العمر، يتضح هذا أكثر؛ فهو يرى الطفل المحطم، ويبدأ في إدراك أن القوة ليست مهمة كما كان يعتقد.
والآن أستعد لأن أضع حفيده في دار لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة. ***
منتصف شهر أبريل عام 2004
اجتماع آخر في مركز سري بليس، وهو عبارة عن مؤسسة في تورونتو متخصصة في علاج التوحد، حيث تشرف على حالة ووكر معالجة سلوكية.
هذه الاجتماعات دائما كما هي: حجرة ألعاب، وموكيت، وجدران فاتحة اللون، وست نساء أنيقات يحملن لوحات ملاحظات، عمرهن بين الثلاثين والخمسين، ويلبسن كلهن أردية فضفاضة من قماش الدنيم أو جينزا فضفاضا يبدو باليا ومرنا من عند الخصر؛ وهي ملابس تناسب العمل على الأرضية مع أطفال يسيل لعابهم.
اجتماع اليوم بشأن لكم ووكر لرأسه، ودائما هناك مصطلحات جديدة نتعلمها. «إذن الأمر داخلي؟» «يدفعه لذلك شيء داخلي، من الواضح أنه يحصل على شيء من هذا الفعل.» «مهاراته الحركية ليست بارعة بما يكفي كي يتعلم لغة الإشارة.» «قد تكون الإشارة مفيدة لذوي الأداء الضعيف.»
كي يتواصل ووكر بالإشارة، يحتاج إلى عشر جلسات من «تعليم الإشارة»؛ فهي «أداة» جديدة تتطلب «مدخلات» جديدة، ومن ثم أشكالا جديدة.
أخبرتني إحدى المعالجات أنها تقضي نصف وقتها في إنهاء الإجراءات البيروقراطية، ولكن لولا هؤلاء النساء اللاتي يضئن الطريق، لكنت فقدت الأمل منذ سنوات.
لا تعطينا المعالجة السلوكية أي أمل. تقول: «السبيل لمنع الطفل من ضرب نفسه يكون عن طريق الطعام والألعاب، ولكن ووكر لا يهتم بتلك الأمور.»
في البيت، جوانا في حالة سيئة: «الآن، أدركت أنهم لا يعرفون أي شيء. الأمر واضح الآن، لا أحد يساعدنا؛ لأنه ليس باستطاعة أحد ذلك.» ***
28 أبريل عام 2004
مرت ستة أشهر. تعرفنا المحامية الخاصة بنا، مارجي، على ليزا بينروبي وميندا لاتوسكي، العنصرين الأساسيين في الفريق الجديد المعني بقضية ووكر. تعمل مارجي في قضية ووكر منذ ستة أشهر، وليزا هي رئيسة الفريق.
حضر الثلاث إلى البيت وجلسن في غرفة معيشتنا، واستمعن إلى قصة ووكر. حتى الآن، نعرف كيف نحكيها. وبعكس الأطباء، تتمتع ليزا وميندا ومارجي بالقدرة على التواصل بالعين، ويبدو أنهن يستمعن إلينا أيضا. تسأل ميندا؛ باهتمام بالغ على ما يبدو: «كيف قمتم بهذا لمدة عشر سنوات؟» تبكي جوانا، ولا تستطيع الاستكمال. أبدأ في البكاء وأشعر أن علي أن أتمخط، وبعد ذلك أعتذر إلى مارجي؛ فتقول: «لا، من المفيد أنك بكيت.»
ستكون ميندا المسئولة عن قضيتنا، وحتى يتم تطبيق هذا البرنامج الجديد في أونتاريو، يجب أن يكون الطفل المتأخر في النمو تحت وصاية الدولة - يتنازل عنه والداه قانونيا لجمعية مساعدة الأطفال - حتى يمكنه الالتحاق بإحدى دور رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، ووفقا للبرنامج الجديد سنظل نحن أولياء أمر ووكر؛ وهو ما يعد مصدر ارتياح ومطلبا لنا. إن أي شيء عكس ذلك قد يصدمني، ويجعلني أرى حجم خطأ ما نفعله. سنتخذ كل القرارات، ولكن رعايته ستتوزع على الجميع. ترفض ميندا، مخلصتي الجديدة، الإشارة إلى أي دار رعاية محتملة لووكر بأنها «بيت ووكر» وتقول: «سيكون بيتكم أيضا.»
المشكلة الحقيقية هيكلية؛ فحتى فترة وجيزة، لم يكن أحد - بالتأكيد من جانب جهاز التمويل الحكومي - مستعدا للاعتراف بأن الطفل يمكن أن يكون محبوبا من جانب والديه وأن والديه يجدان صعوبة بالغة في رعايته؛ لأنه حتى عشرين عاما مضت، لم يكن هناك هذا التقدم الطبي الكبير، ولم يكن يكتب للأطفال البقاء، وقد أتاح الطب الحديث وجود سلالة جديدة من البشر تحتاج إلى رعاية فوق طاقة البشر. وعلى المجتمع الاعتراف بهذه الحقيقة، خاصة على المستوى العملي.
ويعد ووكر مثالا شديد الحاجة للرعاية من السلالة البشرية الجديدة تلك. هناك أماكن عالية الجودة لرعاية الفئات الخاصة، ولكنها في العادة تستوعب من 10 إلى 12 شخصا فقط. فبتكلفة 250 دولارا في اليوم - في ظل رعاية على مدار الساعة، وتوفير مأوى وغذاء ووسائل تنقل - يظل التمويل محدودا ويعتمد على الحاجة، والأدوات الغريبة الخاصة بالرعاية وحدها مكلفة جدا: فمقعد التغذية الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة ثمنه 729 دولارا، وخوذة بريزلايت ثمنها 129 دولارا، والسرير المغطى (للأمان) ثمنه 10 آلاف دولار. استغرق الأمر منا ثلاث سنوات تقريبا لتوفير المال اللازم لشراء هذا السرير لووكر في البيت، وتمكنا من ذلك فقط في النهاية بمساعدة مارجي. في الوقت ذاته، أستطيع أن أتقدم للحصول على رهن بقيمة 500 ألف دولار خلال عشرين دقيقة. قالت جوانا بعدما غادرن: «ما أريده فعلا أن يعطونا المال، حتى نتمكن من توفير كل الرعاية التي يحتاجها على مدار الساعة، لكن في بيتنا.»
لا أوافق على هذا، فلست متأكدا من أن عمل مستشفى مصغر له في بيتنا سيحل المشكلة.
لكن جوانا تدعي أن لديها إلهاما تكشف لها من حالة ووكر، فتقول: «أحيانا لا يكون الأمر اختيارا بين الصواب والخطأ، لكنه أحيانا اختيار بين السيئ والأقل سوءا. وكان هذا يلهمني أن بعض الأمور لا يمكن إصلاحها.»
قد تغير رأيها.
ماذا كان يحدث لزواجنا؟ في كثير من الأيام بدا الأمر كما لو أنني رجل مصاب بمرض مزمن لا يعلم به، يزداد ضعفا ووهنا، ولكنه مع ذلك يذهب إلى العمل كل يوم.
ذات صباح، قالت لي جوانا موضحة الحالة المزاجية السيئة المتبادلة بيننا: «نطلب من أنفسنا الكثير جدا فيما يخص رعاية ووكر، أما حين يتعلق الأمر برعاية كل منا الآخر، فلم يعد يتبقى لنا شيء.»
تتراوح تقديرات عدد الزيجات التي تفشل بسبب رعاية طفل معاق من 60 إلى 80 في المائة، والزيجات التي نجحت في الاستمرار، وفقا لدراسات أخرى، هي تلك التي كانت الأقوى في مواجهة التحدي. ليس لدي فكرة بشأن دلالة أي من النتيجتين السابقتين. في حالتنا توجد مشاعر الاستياء مثل الغبار الدقيق فوق كل شيء، ولكن فكرة تخلي بعضنا عن بعض غير واردة على الإطلاق؛ فلا سبيل لرعاية ووكر إلا إذا قمنا بذلك معا.
مع تقسيم الليالي بيننا، أصبحنا مثل زملاء السكن أكثر منا زوجا وزوجة. كنت أرى جوانا في المنزل في الصباح، تحمل الحفاضات وأكياس التغذية وتتجه خارجة من الباب إلى المواعيد المحددة، وتحمل بين ذراعيها الولد نائما، وبالليل مرة أخرى بينما هي تهدهده على ركبتيها أو تبعده عن واجب هايلي المنزلي أو اللبن الصناعي الموضوع في أنبوب التغذية، أو أراها (في اللحظات الممتعة حين يكون نائما) تجلس إلى الطاولة المصنوعة من خشب الصنوبر في المطبخ، وكوب الشاي بجانبها، وتختلس الوقت لقراءة الصحيفة (لا أحبذ ذلك بالطبع؛ لأني ليس لدي الوقت لقراءة الصحيفة، كما هي لا تحبذ ذلك حين نتبادل الأدوار). كوب الشاي الذي بجانبها: فكرت في هذا كثيرا حين كنا محطمين لدرجة أننا لا نستطيع التحدث، وكيف أنها تعيد تسخينه أكثر من مرة خلال اليوم، وتضعه بجوارها دائما، مثل المرهم أو الدواء المنشط الذي يعينها على القيام بواجباتها. أصبحت أعرف جيدا الأرواب التي ترتديها: الكيمونو الطويل الذي اشتريته لها من معرض المصنوعات، والروب الياباني القصير فيروزي اللون، والروب الحريري القصير الذي كانت ترتديه في الصيف، والروب القطني الأسود متعدد الأغراض الذي كانت ترتديه حين يهب الشتاء على المنزل. «زوجتي»، تلك الكلمة القديمة؛ أم طفلاي، أم ووكر. (حلت المرارة مرة أخرى، أرادت طفلا آخر. أدرك أني كنت جزءا من هذا الحمل، ولكن هذا لم يمنعني من إلقاء اللوم على الجسم الذي أدى إلى قدوم ووكر للحياة.) كانت جوانا تراني من نفس الزاوية المشتتة والمبتلاة، كانت تعمل في البيت، أما أنا فلا. كانت لدي فرصة الخروج كل يوم، ولكنها لم تتهرب قط من الأعباء الملقاة على عاتقها. وسمعت أحد الأصدقاء مرة في حفلة كوكتيل بعدما سألني كيف نتصرف في هذا الوضع، يقول: «هي تفعل كل شيء.» امتعضت من هذه الفكرة؛ لأني كنت أعرف أنها غير صحيحة: كانت جوانا دائما وإلى حد كبير هناك، ولكن لأنها كانت تأخذ كل شيء على أعصابها، فالنوبة الحادة من الألم أو المرض أو التعاسة لووكر تصيبها بحزن شديد، ويمكن لحزنها هذا أن يشل حركتها تماما. وفي أوقات مثل هذه كنا نعتمد على قوتي الداخلية وثباتي الانفعالي.
أحيانا أكون مرهقا لدرجة أنني لا أستطيع أن أحييها في الصباح، وأكون سيئ المزاج غالبا؛ وهي مثل شخص ما من العمل تراه في الشارع، تومئ برأسك إليه ثم تحييه وتبتسم له، ثم يذهب كل منكما إلى حاله. (كانت تقول: «صباح الخير.» بينما أتعثر في دخولي المطبخ، وأنخر ردا على التحية. وتقول هي مرة أخرى: «صباح الخير».) كنت أحبها، ولكن من الصعب سداد اعتبارات القيمة المضافة، والانزلاق في هذا الجميل أو اللطف غير المتوقع العرضي الذي يحافظ على تماسك أي زواج يدوم. كنت أراها، وأرانا، يبتعد كل منا عن الآخر، من بعيد: هناك أشياء أسوأ، ولكن هذا لا يتغير أبدا على ما يبدو.
كانت، ولا تزال، المفاوضات حول ووكر مستمرة، لا تنتهي. تسأل زوجتي: «هل يمكن أن تأخذ ووكر إلى موعده مع اختصاصي الوراثة/ الأسنان/التغذية/العلاج الطبيعي/أو أيا ما كان يوم الأربعاء؟» فهي منظمة ومباشرة، ولكني أفضل أسلوبا أكثر «حيادية» وأقول لها: «لووكر موعد مع اختصاصي الوراثة/الأسنان/التغذية/العلاج الطبيعي/أو أيا ما كان غدا!» تاركا طلبي يفهم ضمنيا.
نتجادل فيمن سيأخذه، ومن أخذه المرة السابقة، ومن يعمل أكثر أو أقل، ومن لديه موعد نهائي لعمل ما ، ومن يسهم أكثر. والحديث عن المال مثير للجدل جدا، ويبدو من المستحيل أن تسهم جوانا أكثر مما تفعل، ولكني لا أدري أين أجد الطاقة الزائدة في نفسي لأساعد بها. لدينا لحظاتنا الخاصة، لحظاتنا الحميمية، ولكنها نادرة وعاجلة جدا مثل الهلاوس. لا يمكن لأحد أن يقول إننا لسنا زوجين حقيقيين.
من الناحية النظرية، قد يجمع وجود طفل معاق الأسرة معا؛ مشروع مشترك، تحد مشترك، رابطة واحدة. أما من الناحية العملية، يحرمنا ووكر من أية خلوة كنا نتمتع بها من قبل؛ إذ كنا نتمتع بالخصوصية وكنا انطوائيين ومحبين للقراءة والتأمل، وبدلا من أن يجمعنا ووكر، فهو يفرقنا، ويقلل من خصوصيتنا ويزيد من انعزالنا في الوقت نفسه؛ مما يجعلنا نلهث من أجل الحصول على ملاذ لا يوجد فيه إزعاج، ولا مفاجآت. كثيرا ما أخشى أني لن أقرأ كتابا كاملا مرة أخرى؛ فبدا تركيزي مشتتا باستمرار، وتخليت عن خططي منذ فترة كبيرة في امتلاك كوخ أو منزل لقضاء الإجازات فيه؛ فكل همنا هو أن يذهب ووكر لمواعيده الطبية.
تمر الأسابيع دون تواصل حقيقي بيننا؛ ثم نتشاجر، ربما نضطر للتواصل. لا تتغير أبدا علامات الوجود المرهق لووكر، آثار وجود ولد معاق بالمنزل: ستائر النوافذ المشوهة، التي يلعب بأصابعه في أجزائها باستمرار، والأكوام التي لا تنتهي من الغسيل التي تنتشر في كل مكان مثل نباتات الغابات، وفرشاة أسنانه في درج المطبخ، وجرعات الدواء والمراهم والسرنجات والزجاجات المحشورة خلف باب إحدى الخزانات. ومع هذه الفوضى التي تحيط بنا من كل اتجاه، هل من الصعب عليها (أو علي) وضع اللبن في مكانه؟
قد يكون الأمر متعلقا بنا، وليس به، غالبا ما كنت أعتقد ذلك. هناك عائلات أخرى - أعرف أنها موجودة؛ لأني قرأت عنها في مواقع الإنترنت - تمكنوا على ما يبدو من التكيف الجيد مع الأمر. لقد كنا بارعين في السابق، قبل ظهور الولد في حياتنا، وهذا ما كان يجعلني أفتقد تلك الأيام.
لكني ما زلت أحب زوجتي، ما زلت معجبا بجسمها، وبشرتها القمحية؛ ما زلت أريد أن أحميها . هي لا تزال تدخل السرور علي، وتحكي لي قصصا بطريقة بارعة، وتتذكر كلمات أي أغنية سمعتها من قبل، وتستطيع أن تروي مشاهد الأفلام السينمائية مشهدا مشهدا، وتتمتع بعاطفة عميقة ودائمة، وما زالت أما راعية لهايلي، ولا يزال بإمكاني أن أدخل السرور عليها بطريقة لا يستطيعها أحد آخر، وما زال يمكنني أن أصل إلى المناطق الغريبة والخاصة التي يعرفها فقط الزوج والزوجة، ونرقد في الفراش معا حين نستطيع ذلك، نتلاعب بالألفاظ تلاعبا جنونيا. أستطيع سماع عقلها وهو يحاول بقوة الانتصار علي، أحسدها على وقتها الذي تقضيه في قراءة الصحف، ولكن ليس لحبها للآخرين؛ أغفر لها خوفها الأسود الذي تشعر به في مناسبات كثيرة، وجهادها في حبها لابنها المحطم. كنت دائما على استعداد لمساعدتها للتغلب على تلك الكراهية السوداء للذات، وبهذه الطريقة جعلنا الولد أحيانا كرماء أيضا. ولا يخطر ببالك مقدار السعادة التي يقدمها أحدنا للآخر عندما يقول له الكلمات التالية: «لا مشكلة، سآخذه إلى الطبيب.»
مثال: في إحدى الليالي، كنا في حفلة، كان وقت أعياد الكريسماس وكنا في حانة مظلمة في منطقة بعيدة بالمدينة. لا يزال ووكر صغيرا، لم يتعد سن الثالثة. أستند إلى حائط في أحد جوانب المكان، وأستمع دون إنصات إلى زوجين أعرفهما وهما يتحدثان عن الأصولية الدينية، الأمر الذي يثير الدهشة. ولكن ما أفعله حقا هو مشاهدة زوجتي؛ وهي الهواية السرية لكثير من الأزواج، أتذكر هذه اللحظة لأني أشاهد زوجتي تخرج قليلا من شرنقة التزاماتها اللانهائية، من حياتها الرتيبة في البيت مع طفل معاق. وهي مشهورة وسط أصدقائها بروحها العالية التي تظهرها في مواجهة الصعاب، ولكني أعلم تكلفة ذلك عليها. وهي وسط حشد في الحانة وبجانبها رجل أعرفه، وهو صديق قديم لنا، وهي تضحك بصوت عال، ولا أستطيع أن أتذكر آخر مرة حدث فيها هذا، على الأقل في وجودي. ويبدوان في صورة حميمية: كتفاهما تتلامسان، ويشربان المشروب نفسه، فودكا مع ماء تونيك. أعلم أنه مغرم جدا بها، لدرجة أني سألته ذات مرة - أعترف أني حينها شربت كأسا من الخمر - هل كان واقعا في غرام زوجتي؟
قال: «نعم، أنا كذلك.»
قلت: «هذه مشكلة.»
قال: «لا، ليست مشكلة.»
قلت: «حسنا، توقف عن هذا.»
هذا كل ما في الأمر، لا أمانع فعلا. بداية، هناك مساحة في خصوصيتها لخصوصيتي الممزقة. كيف لي أن أحسدها على هذه اللحظة من الصداقة والحرية وحتى المغازلة، تلك الحميمية الرقيقة، بعد كل ما مر بها؟ وكيف لي أن أحسدها على بعض الاهتمام من جانب شخص آخر، نظرة العشق الواضحة لشخص ما جديد ومفعم بالنشاط، شخص ليس عليها أن تتفاوض معه بشأن كل لحظة من لحظات الراحة؟ هي لا تتوقف عن الابتسامة في صحبته، وأندهش حين أجدني سعيدا لرؤية هذا. أنا متأكد أن لها أسرارها، ولا مانع لدي في ألا تفصح عنها، وأن تظل تحتفظ بها، هي فقط. ذات مرة عثرت على مدونة على شبكة الإنترنت لوالد طفل معاق، يناقش فيها مثل هذه الأمور، وكتب يقول: «يعلمك الطفل المعاق أن تضع قواعد خاصة بك.» أعد مشروبا، وأتساءل: ماذا تفعل حين لا أكون موجودا؟ أعلم أنها تتساءل أيضا عما أتساءل عنه.
في الغالب، يغفر كل منا للآخر، وقد علمنا ووكر كيف نفعل ذلك. ***
25 يناير عام 2005
أول زيارة لي لمؤسسة ستيوارت هومز، وهي مؤسسة ربحية مستقلة لرعاية المعاقين، قد يكون لديها - بتدخل من جمعية رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة - مكان شاغر يقيم فيه ووكر.
أسس هذه المؤسسة آلان ستيوارت منذ 30 عاما، وكان هو نفسه يتبنى بعض الأطفال.
أصابني الرعب عند الدخول من الباب. أعرف شعور الدخول إلى غرفة خاصة بالأطفال المعاقين، دائما ما كانت تدهشني سيمفونية الصياح والعواء التي كانت تلاحقني حين أزور ووكر في المدرسة، ولكن هذا أمر مختلف؛ هذا مكانهم، وأنا الذي عليه أن يحسب خطواته. شاهدت خمسة أطفال في حجرة واحدة، ولكنهم منعزلون بعضهم عن بعض انعزالا تاما، كما لو أنهم في مجرات منفصلة، ويبدو عليهم حزن شديد.
هناك ثمانية أطفال في كل بيت داخل المؤسسة، وهو عبارة عن بيت من طابق واحد، يتسع بصورة كافية للمضخات الطبية والكراسي المتحركة وحاملات التغذية والأدوية والألعاب، والأرضيات فيه مستوية تماما، دون سجاد، لتناسب الكراسي المتحركة. والأطفال يبدون كأنهم قد صغر حجمهم، ولكنهم متزنون؛ فهذا مكانهم، الملاذ الذي لم يعودوا فيه مخلوقات شاذة. تبعد المدرسة مسافة تستغرق عشرين دقيقة بالحافلة، ويقوم الطبيب المحلي بمتابعة حالة الأطفال، وهناك مستشفى جيد، وممرضة ضمن فريق العمل وطبيب نفسي يتم استدعاؤه عند الحاجة. ومن الأشياء التي لا تحبها جوانا رائحته؛ رائحة مسك غريبة تمتزج فيها رائحة الإنسانية برائحة المرحاض.
بالطبع لا يوجد مكان. تقول لنا دايان دوسيت، المديرة: «أحيانا تتاح أماكن بصورة غير متوقعة.»
أرى أنها تعني عندما يموت الأطفال. أنا مستعد للانتظار. ***
8 أبريل عام 2005
مكتب مشروع رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة. بعد سبع سنوات من بداية التفكير في البحث عن مساعدين من الخارج لمعاونتنا في تربية ووكر، وجدت ميندا لاتوسكي مكانا له، وهو يقع في أطراف تورونتو، في بيكرينج، والتي تبعد عنا 40 دقيقة بالسيارة.
ثمة طفلان قادران على الحركة هناك بالفعل: كيني الذي يبلغ من العمر 13 عاما، وهو فتى طويل ونحيل، يعاني من تلف في المخ بسبب حادثة كاد أن يغرق بسببها، ولكن يمكنه فهم ما يقوله الآخرون والتعبير عن نفسه بالإشارة بذراعيه وإصدار بعض الأصوات. وشانتال وهي صغيرة الحجم بالنسبة إلى سن الثامنة، وهي تتحدث وتفهم، وسيكون كيني رفيق ووكر في الغرفة؛ منحنا ذلك إحساسا بأن ولدنا صبي حقيقي، وهو أمر مثير للغاية. والبداية المعتادة هي من زيارتين إلى أربع من باب التجربة، مع بقاء أولجا معه بالليل في البيت الجديد لتوضح للعاملين هناك طرق التعامل معه، بينما أنا وجوانا نكون في العمل. وتقول ميندا: «ثم تتم عملية الانتقال.» ثم أسبوعان من دون زيارات، لتستقر الأمور.
تطمئنني ميندا قائلة: «ستمر عدة أشهر قبل أن تدرك أنه بإمكانك وضع فنجان قهوتك، دون أن تخاف أن يوقعه ووكر. ولكن بحلول ذلك الوقت سيعود كثيرا لزيارتك هنا.» ويبدو أن جوانا مستسلمة، أو على الأقل مخدرة فيما يخص قرارنا الذي طال انتظاره، ولكني محطم نفسيا.
أشعر كما لو أن الشكل الذي أعطاه لحياتي، هذا المصير الغامض الذي وجهني إليه، يتلاشى. من أجل ماذا؟ من أجل راحتي الشخصية؟ ألأنه لا يوجد ما يسمى بالحل المثالي؟ وحين أفكر في هذا المنزل من دونه، يصبح جسدي كالكهف. ***
بينما يقترب يوم انتقال ووكر إلى بيته الآخر - في يوم 25 يونيو عام 2005، في نهاية العام الدراسي - كنت أغرق فيما أدرك الآن أنه بحر من الأسى. ذهبت إلى الطبيب أشتكي من آلام في البطن، لكن التحاليل التي أجراها لي لم تظهر أي شيء. الأسى - «ستارة الصمت» كما يسميه سي إس لويس - كان الستار الذي يحجبني عن البشر الأحياء الآخرين، وقد بدا مستحيلا لي أن يفهم أحد المأزق الذي نعيشه: إذا لم يروا أننا وحشين، فعليهم أن يعتبرونا أحمقين. وأحيانا في الليالي التي لم يكن الدور علي في مساعدة ووكر على النوم، كنت أذهب إلى الحانات في المنطقة التي أقطن بها، ولكن كان كل ما أفعله هو أن أحتسي الخمر، وأجلس في مكان واحد وأبقى مع نفسي وأستمع إلى الحوارات، محاولا أن أسترق السمع إلى جزء من الحوارات الطبيعية. كنت أتمنى أن يتحدث أحد إلي - لحسن حظي، لم يفعل أحد ذلك قط - ولكن أردت استعادة جزء من حياتي القديمة البسيطة.
حتى أني أحيانا كنت أذهب إلى نوادي التعري. كنت أفعل هذا بالليل، في طريق عودتي إلى البيت بعد توصيل المربية أولجا بالسيارة إلى شقتها. أعتقد أنني كنت أحتاج إلى الشعور بشيء ما، أي شيء بخلاف فقدان ووكر، مهما تكن درجة غرابته ووضاعته، وشهوتي في أبسط صورها كانت هذا الشيء. وفي حانة التعري يمكنك أن تكون قريبا من رغباتك لفترة من الوقت، يمكنك فيها الوثوق بها وبالمفاجآت، وتذكر نفسك بالعادات القديمة لهذا الشخص الغريب الذي تحولت إليه.
أكثر شيء افتقدته هو غرابته. فقبل ووكر، تصورت أن آباء الأطفال المعاقين والمشوهين يخشون الظهور أمام الناس مع أطفالهم: إن احتمال أن ينظر الآخرون إليهم ويحملقون فيهم وحتى يسخرون منهم يمثل عذابا بالنسبة إليهم، ولكن الحقيقة هي أن ووكر كان يحب أن يركب في عربة الأطفال، وكنت أحب أن أكون معه في الشارع أيضا؛ أتمشى في الشارع العريض الذي تكتنفه الأشجار، وأتحاور معه حول المناظر التي نمر بها، وكان يستجيب إلى نبرات صوتي. «انظر هنا يا صغيري! هذا كلب كبير، وبنت صاحبته. انظر إلى القبعة الفرو التي ترتديها!» وأشياء من هذا القبيل. كان هذا يجعله يضحك، وكان عادة ما يبدو محبا للاستطلاع في الغالب؛ كان هذا أفضل تعبيراته بالنسبة إلي. كان الناس ينظرون إلينا، وعادة لا يستطيعون منع أنفسهم من التحديق في وجه ووكر المكتل، وملامحه الغريبة، وجسمه المشدود المتشنج. ولهم عدد من «الطرق» في النظر إليه؛ فهناك طريقة النظرة الخاطفة ثم النظر بعيدا، وكانت هذه الأكثر شيوعا، وهناك النظرة ثم الابتسامة، لتطمئننا بأن المجتمع يتقبلنا، وأن هذا ليس وصمة عار، وهناك بعض الناس الذين كان يصيبهم الرعب بصورة واضحة، وكان الأطفال يحملقون بصورة مباشرة، وبعض الآباء لم يزجروهم حتى عن فعل ذلك، وعلي أن أعترف أني كنت أنظر إليهم كحيوانات، أوغاد يسيرون في الشارع.
وأحيانا النساء الحوامل، أو النساء الصغيرات بعض الشيء اللاتي أظن أنه بدأت تتكون لديهن رغبة في الإنجاب، كن يأتين نحونا وهن يثرثرن في الشارع، وكأننا أحدب نوتردام كوازيمودو الغريب وحارسه الذي يتمتم، وقد مرت سحب من الذعر على وجوههن الجميلة، ثم كن يتفحصن وجهي، لينظرن إلى أية علامة في قد توحي بأني والد لطفل مثل ووكر، ويعتقدن أن بإمكانهن تحديد مثل هذا الأب. ولكني أبدو طبيعيا، فكانت سحب الذعر تعود وتبقى. تجذبنا حالات الشذوذ؛ لأنها تظهر على نحو عشوائي.
كانت الحملقة تضايقني، وأسوأ من كان يقوم بذلك الفتيات المراهقات، اللاتي لا يمكنهن التوقف عن الأمل والخوف من أن العالم بأسره يحملق فيهن بإعجاب، فتيات يردن الظهور والقبول من جانب المجتمع في الوقت نفسه، وهو أمر مخادع لا يسمح به ووكر لنا نحن الاثنين. في ربيع إحدى السنوات، في افتتاح موسم البيسبول، أخذته لمشاهدة مباراة لفريق تورونتو بلو جايز، وأتت مدرسته كلها في ذلك الوقت، تلك المخصصة فقط للأطفال المعاقين: ثلاثون جسما محنيا ومحطما، يصفرون ويهتفون ويصرخون من أماكنهم على كراسيهم المتحركة وعرباتهم، ويسيرون في صف فردي بطول الرصيف لمسافة عشرين مجمعا سكنيا عبر وسط المدينة. شاهد الجميع هذا المشهد. تفرقنا عندما وصلنا إلى الاستاد، وسرت بالكرسي المتحرك لابني خلال هذا الحشد.
كان يوما دراسيا أو يوم المضارب المجانية، أو مزيجا ما فريدا من الاثنين، وكان الاستاد يعج بالمراهقين، وتكرر ثانية الطقس المماثل نفسه: بنت طويلة بالغة من العمر حوالي 13 عاما تلبس قميصا قصيرا لونه قرنفلي أو أزرق وتنورة قصيرة بيضاء وحذاء خفيفا، وهي قائدة مجموعة صغيرة من ثلاث فتيات يكن دائما أقصر منها، واللائي يلبسن نفس الملابس تماما، تلاحظ أن ووكر وأنا قادمين نحوها، فتميل وتهمس إلى مجموعتها. ثم يحملقن كلهن فينا، وأحيانا تضحك واحدة منهن، وغالبا ما كن يخفين أفواههن بأيديهن ويتظاهرن بأنهن يخفين صدمتهن. أفضل الضحك الصريح على أدبهن المتكلف.
الفكرة أنني أعرف الشعور الذي يحس به الشخص عندما يحملق فيه أحد، بكونه شيئا يستحق الخوف منه والشفقة عليه وحتى كرهه. أتمنى ألا يستطيع ووكر إدراك ذلك؛ وفعلا يبدو أنه يتجاهله، وبالتدريج علمني أن أتجاهله أيضا. في هذه الأيام كنا نسير في الشوارع وكأنها ملكنا، وقد جعلني ووكر أدرك أن كثيرا من القواعد في حياتنا مجرد قواعد مصطنعة.
أتذكر اليوم الفعلي لرحيله على نحو غائم، وكأنني لم أكن في كامل وعيي. كان توصيله هناك - نقلت جوانا ملابسه وألعابه في عربة صغيرة على مرات عديدة في أيام سابقة - هادئا، بعد ظهر يوم إثنين مشمس. تكدسنا كلنا في دار الرعاية، ورحبت به النساء الست العاملات هناك، وأخذته الطفلة شانتال البالغة من العمر ثماني سنوات معها مباشرة. وذهبنا في جولة في حجرة النوم وبقية الدار، والحديقة والتفاصيل الخاصة بأدويته وتغذيته وتعليمات تشغيل المضخة، كل هذا من أجل طمأنتنا. مكثنا هناك لمدة ساعة، ثم احتضناه وقبلناه واحتضناه مرة أخرى، أنا وأولجا وجوانا وهايلي، ثم فعلنا ذلك مرة أخرى، ثم أجبرنا أنفسنا على الرحيل، مودعين الجميع بصوت عال ، ومحاولين أن نستمر في التحرك، وألا نتوقف حتى لا نتأثر بشدة بما كنا نفعله. وفي طريق العودة إلى وسط المدينة من دونه، لم نكن نشعر بالحزن أو الغضب وإنما كنا متيقظين للغاية، كما لو كنا نسير بالسيارة وسط أمطار غزيرة.
بالطبع كانت دار رعاية جيدة، بل ممتازة. أكدنا ذلك لبعضنا، ولم نخرج في تلك الليلة، ولكن بدلا من ذلك بقينا في المنزل وشاهدنا التليفزيون، متعجبين من الهدوء، والوقت الخالي الكثير الذي أصبح متاحا لنا فجأة. فترات كبيرة من الزمن وكأنها ستائر في الهواء. يمكننا مشاهدة التليفزيون! أي شيء نريده! والولد، الذي كنا نتطلع لمساعدته في النوم، كنت أظن أنه في حجرة اللعب السفلية مع أولجا، حيث يلعبان غالبا، ثم تذكرت أن القبو أصبح فارغا، لم يعد هناك شيء إلا الحوائط البيضاء والأرضية الرمادية، ولم يعد هناك ولد مغامر غريب يستكشف أركانه ورفوفه وخزائنه مرات ومرات ثانية، كما لو أنه يعرف أنه يحتوي على كنز، مهما تكن صعوبة العثور عليه. الولد القرصان، في أعماق منزلنا الصغير، لم يعد موجودا. وحتى اليوم لا أستطيع أن أتذكر تلك الليلة دون حالة صمت غريبة تتملكني، دون الرغبة في وضع أصابعي في أذني، حتى لا أستطيع سماع ضحكه، وصراخه، وثرثرته. ***
اعتدنا على الروتين الجديد. كان ووكر يعيش في بيته الجديد: كان يأتي لمنزلنا كل عشرة أيام في زيارة لمدة ثلاثة أيام، إضافة إلى عطلات نهاية الأسبوع والإجازات الطويلة. كانت ميندا تتصل بنا كثيرا لتطمئن على سير الأمور بالنسبة إلينا، وكنت على حذر من أي إشارة تدل على رفضها لما قمنا به. ففي النهاية، ميندا نفسها أم، ولا أستطيع أن أتصور أنها لا تزدري بعض الشيء - في نفسها - الآباء الذين لا يمكنهم رعاية أبنائهم؛ لأن هذا التفكير كان يوجد بداخلي، ولكني كنت مخطئا: فبعد ظهر أحد الأيام بعد سنتين تقريبا من انتقال ووكر، ذكرت ميندا ما قد شاهدته في منزلنا في ذلك اليوم الذي زارتنا فيه للمرة الأولى. كنا نشرب القهوة في إحدى ضواحي المدينة، في طريق عودتنا من أحد اجتماعات تخطيط الرعاية لووكر.
قالت: «من الناحية البدنية، كنت أنت وجوانا مجرد شبحين، كان هناك أب وأم يحبان طفلهما، حاولا رعايته بقدر المستطاع، وكانا يعملان أيضا، ولديهما طفلة أخرى أيضا. كنتما تفكران في الأمر بنظرة مستقبلية: أيجب أن تعاني هايلي أيضا؟ كانت العاطفة واضحة، والكفاح الذي كنت أراه فيكما والألم الذي كنتما تتحملانه؛ لقد وصلتما إلى الحد الأقصى من المعاناة.»
توقفت عن الحديث، وملأت كوب القهوة مرة أخرى.
ثم واصلت ميندا كلامها قائلة: «لم تكن شكواكما خيالية؛ فكل أسرة لها حالتها الخاصة، فالأمر مجرد مستويات، ويتعلق بقدرة الأسرة على التكيف مع الأمر واستجابتها له، وعليكما أن تطلبا المساعدة؛ لأن الحاجة إليها شيء وطلبها شيء آخر تماما، إذ يعني هذا أنكما لا تستطيعان النهوض بالأمر بمفردكما أكثر من ذلك. من يقول بعد ذلك: إن لديكما طفلا لم تستطيعا تربيته؟!» ***
26 فبراير عام 2006
ذهبت لآخذ ووكر، يبدو أنه ليس لديه صديقة واحدة بل صديقتان: شانتال، التي ترتدي الآن حزام ظهر بسبب مرض الانحناء الجانبي للعمود الفقري الذي تعاني منه، وكريستا لي، وهي بنت جميلة في الرابعة عشرة من عمرها تجلس على كرسي متحرك، وووكر معجب بها بشدة. شانتال أكثر تسلطا وتدفع بنفسها في المنطقة التي يكون بها ووكر، بينما تنتظر كريستا لي؛ لذا كان يذهب إليها.
ابتكرت كاتي - وهي أحد أفراد كتيبة الرجال والنساء الذين يعملون في دار الرعاية - طريقة لمنع ووكر من ضرب نفسه، دون اللجوء إلى الخوذة المصنوعة من الفوم التي يكرهها؛ وذلك باستخدام علب برينجلز فارغة، مدعومة بأدوات خفض اللسان الطبية والشريط اللاصق الذي يستعمله الكهربائي، ومغطاة بقماش زاهي اللون، والأطراف الداخلية محشوة ببعض المطاط، وتوضع العلب على ذراعيه، حتى كتفيه؛ فيمنعه هذا من ثني ذراعيه ورفع قبضتيه للكم رأسه. وبعد سنوات من العذاب، يأتي الحل في ابتكار لا يكلف سوى بضعة سنتات.
ما زلت أشعر بالخجل من نفسي حين يسأل الناس لماذا لم يعودوا يرون ووكر كثيرا، ولا يمكنني أن أقول لهم إنه يعيش هنا معظم الوقت، ولكن جوانا أكثر ثباتا مني؛ فقد قاومت مغادرته، ولكنها وافقت الآن على هذا الترتيب وتؤيده. وفي أحد الأيام، بينما كنا نجلس أمام طاولة المطبخ وهي تستمتع بقراءة الصحيفة قالت لي: «أشعر كما لو أنه يخص الآخرين الآن، كما يخصنا.» (وما زلت أشعر بأن امتلاك الوقت للقيام بمثل هذا النشاط يعد أمرا غريبا مثل زيارة لاس فيجاس.) وهو بالتأكيد قد بدأ يتعود على المكان هناك. منذ فترة ليست طويلة ذهبت أولجا وجوانا لتوصيل ووكر بالسيارة إلى «هناك»، كما أطلق على هذا المكان، بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع هنا في البيت. دخل ووكر دخول الزاهدين، وتعثر في سلة المهملات وألقى برأسه في صدر تريش، المسئولة الليلية، ثم أخذ جوانا وأولجا كلا من يدها، وبرفق ولكن بحزم اصطحبهما إلى الباب الأمامي، وأراد منهما أن يغادرا. نوبة غريبة من التحرر!
يأخذ الآن جرعة جديدة من الريسبيريدون وعقارا جديدا لعلاج الارتجاع، ومزاجه في حالة أفضل. بيد أن هناك زيادة كبيرة في ثقته الانفعالية؛ فالعيش فقط في عالمنا كان يجعله يرى عيوبه في كل مكان، لكن في منزل قضاء العطلات الجديد الذي يعيش فيه، كان محاطا بأقرانه، وأصبح صلبا مثل غيره. وأتمنى أن يكون تركه في دار الرعاية هو الهدية التي قدمناها له. ***
في أدنى معنوياتنا، كنا نجرب أي شيء يمكن أن يحسن من حالنا. أتذكر العودة إلى البيت في أحد الأيام لأجد زوجتي تشرب النبيذ، وتحكي حكاية مطولة إلى تيكا وكاثرين؛ الصديقتين اللتين عاصرتا كل مرحلة من مأساة ووكر.
قالت جوانا: «كنت عند المعالجة اليدوية الخاصة بي، وتدعى أنيتا، وفي نهاية الجلسة، قالت لي: «لدي فكرة بشأن ووكر. هي فكرة مجنونة جدا - هذه هي عبارة أنيتا، مجنونة جدا - لماذا لا تأخذينه إلى عراف؟ عراف محلي؟» كنت حينها يائسة جدا من حالة ووكر لدرجة أنني قلت لها: «بالتأكيد.» ولذا بعد أسبوعين ذهبنا للقاء العراف.»
قالت كاثرين: «ماذا دهاكم أنتم الثلاثة؟» «نعم، ذهبنا إلى مركز علاج محلي في مبنى غريب لا يمكن وصفه ، كان يشبه حجرة الترفيه؛ سجادة صناعية، وجدران مغطاة بألواح مصنوعة من الخشب الصناعي الشبيه بخشب الصنوبر. خشيت أن ووكر قد يحطم قدرات العراف بأفعاله غير الطبيعية، ولكن حين دخلت العرافة، أصبح هادئا تماما، وهذا أمر شديد الغرابة، كان يبدو أنه وجد بعض السلام الداخلي.
كانت هناك بطانية في وسط أرضية هذا المكان. كانت العرافة تجلس على تلك البطانية، وكان هناك مترجم، شاب يوضح ما تقوله العرافة، وعليك أن تعطيها بعض المال وبعض السجائر في المقابل؛ لذا أعطيتها خمسين دولارا ووضعت علبة سجائر على البطانية.» «ماذا كان ووكر يفعل؟» «كان ووكر يجري بين العرافة وبيني وأنيتا والمترجم. كنت متوترة، ولكنهم لم يبالوا بذلك؛ لذا بدأت لا أبالي بالأمر.
أشعلت العرافة البايب، وأشعلت بعض أعشاب المريمية، وبدأت في تلاوة تعويذة تمهيدية مطولة، وذكرت اسم ووكر بالكامل: «ووكر هنري شنيلر براون» ونادت على الرياح الشرقية، ثم كل الرياح الأخرى، ثم ووكر. في ذلك الوقت، أصبح هناك دخان كثيف في الحجرة، وأصبت بصداع فظيع، ثم قالت العرافة: «تظهر البوابة.» ثم قال المترجم: «نعم، تبدأ في الظهور.»
قالت العرافة: «أرى شجرة، وهي قديمة وجديدة، أجزاء منها ميتة، وأخرى حية، وهناك مصباح على الشجرة، وكانت الشجرة مليئة بالطيور المغردة. وفي الناحية الأخرى من البوابة، بئر أو حفرة.» كانت العرافة تغني كل هذا، ويترجم المترجم ما تقول، وأنا ألخصه، ثم قالت: «أرى بئرا عميقة جدا بحيث ترى الماء فيها بصعوبة، وأرى كثيرا من كبار السن.»
كنت لا أزال في المكان مرتدية السترة، أنصت لما يحدث.
قالت العرافة: «إن كبار السن قد جاءوا ليروا ووكر. هناك عدد أكبر من المعتاد، لعلهم يعرفونه، ولعل ووكر واحد منهم، لعل ووكر كبير في السن. لا تستطيع أن تحدد. إلا أنهم يعرفونه على ما يبدو، على أي حال».»
تعجبت تيكا قائلة: «هل العرافة قالت: إن ووكر كبير في السن؟» «لم تكن متأكدة. وبعد الطقوس، قال المترجم: إن الشجرة هي حياة ووكر، والطيور المغردة فيها هي كلنا جميعا. وكانت البئر هي ضالة ووكر ، وضالة ووكر غايته في الحياة، هو محاولة معرفة إن كان يستطيع رؤية انعكاسه في الماء في قاع البئر.»
قلت: «لا يعقل.» «هذا ما قالته: «هذا هو الطريق الذي اختاره لنفسه، ليرى إن كان بإمكانه رؤية انعكاسه. قد يرى أو لا يرى، ولكن هذا هو ضالته.» ثم سألني المترجم إن كان لدي أسئلة معينة للعرافة، فقلت: نعم، وماذا عن دار الرعاية الجديدة التي التحق بها، هل هي مفيدة له؟ هل يتعين علي السماح له بأن يذهب هناك؟
قالت العرافة: «ستغير مساره، ولكن مساره محدد. وعليه أن يسير فيه.» ثم سألتها: لماذا يؤذي نفسه، لماذا يضرب نفسه؟ فردت العرافة بأنه يحاول أن يجد شكل انعكاسه في البئر.»
أردت أن أرقد على أرضية المكان.
قالت جوانا: «كان الأمر يمثل مصدر راحة كبيرة لي؛ لأنه لأول مرة، المرة الوحيدة، لا يحاول أحد علاجه، فهم فقط كانوا يحاولون وصفه، ولا يوجد حكم عليه أو خوف، وهذا أمر مقبول جدا، وأرى أن هذا كان يعد نقطة تحول بالنسبة إلي؛ فبدلا من محاولة علاج ووكر أو تحسين حالته أو تشخيصها أو البحث عن أسبابها، كان الأمر يقتصر فقط على تحديد من هو وما هدفه في الحياة، وهذا هو ما يفعله. لم يكن الأمر نصرا أو مأساة، لقد كان كما كان.»
عم الصمت. قالت كاثرين: «حسنا، إذا كنت قد علمت أنه كبير السن، فما كنت قد سمحت له بالنظر في فتحة بلوزتي كل هذه المرات التي كان يتسلل فيها إلى حجري. لقد اتضح أنه رجل عجوز سافل.»
ترد عليها تيكا: «بل عرافة عجوز سافلة.»
الفصل الثامن
في الصيف الذي بلغ فيه ووكر الحادية عشرة، وهو يعيش في دار الرعاية، قررت ركوب سيارتي والسير بها، شعرت أني مدفوع - بالرغم من أن منجذب قد تكون أدق، فإنها قد تبدو غريبة - لكي أجد بعض الأشخاص الآخرين المصابين بنفس حالته في هذا العالم. يوجد مائة مثله فقط، وهم منتشرون في كل أنحاء العالم: أستراليا والدنمارك وبريطانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وأقرب حالة كندية سمعت عنها تبعد ألف ميل في ساسكاتشون. عندما أفكر في هذا الأمر الآن، أرى أن دافعي كان التعلق بولدي، حتى ولو كنا قد سمحنا له بالانتقال لدار للرعاية.
أولى محطاتي كانت كاليفورنيا، واستغرق الأمر أسبوعين. لم تكن جوانا تمانع غيابي؛ فلم تقف قط في طريقي حين أحاول العمل على الاقتراب أكثر من ووكر، وكان ذلك الأمر المعتاد، منذ الأيام الأولى حين كان صغيرا وكانت تشعر بالخوف، وتحملته عنها في تلك الأيام الصعبة، حتى بدأت تحبه، وهذا ما أعطاني سعة من الوقت، أو ربما، كما قالت في إحدى الأمسيات: «أنظر لووكر كووكر، وإذا رأيت أطفالا آخرين مثله، فسأراه كطفل مصاب بمتلازمة.» كانت تفضل أن تراه باعتباره الوحيد من نوعه، وكنت أريد له أن يكون مثل غيره في العالم؛ أو العكس بالعكس، بالرغم من أنني لم أكن أدرك هذا في حينه. ***
من الصعب نسيان إيميلي سانتا كروز. كانت أول شخص مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد - بخلاف ووكر - أشاهده في حياتي.
كان عمرها تسع سنوات، وكانت في أحضان أمها مولي، في شرفة بيتهم المطلي باللونين الأبيض والأزرق في أرويو جراند، في منتصف الطريق إلى ساحل كاليفورنيا. وتقع أرويو جراند حيث تنحدر المزارع الصناعية لوادي ساليناس الجاف الحار إلى الساحل الأكثر برودة والمحيط الهادئ. والوصول إلى هناك كان مثل الدخول إلى جو جديد أكثر رحمة.
كانت إيميلي لا تختلف في شكلها عن المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، شأنها شأن ووكر؛ فشعرها مجعد أسود، وعيناها مائلتان، وأصابع يدها كثيرة العقد، وجلدها سميك بني، لم أستطع التوقف عن التحديق في شكلها. فمثل ووكر، كانت نحيلة، ولا تستطيع التحدث، ولكن يمكنها التركيز بعينيها أكثر منه، وهي أقل خجلا منه. شعرت بالارتياح عندما وجدت أحدا مثل ولدي، ولكني صدمت عندما رأيت مدى بروز المتلازمة فيها؛ فلم يكن لدي حينها أي ارتباط عاطفي بإيميلي، ولا حاجة إلى أن أجد «البنت التي بداخلها» أو أن أراها بغير ما هي عليه، ولذا رأيت ما هو موجود فقط؛ طفلة صغيرة محنية غير عادية فضولية تنتفض، مريضة ولكنها أيضا يميزها مرضها. شكل بدائي من البشر، عيون بنية داكنة، وابتسامة عريضة مثل رفرف السيارة.
حتى بيتهم يشبه بيتنا، فكل سطح جرى إخلاؤه حتى ارتفاع 18 بوصة، وهو قدر ما كانت تستطيع أن تصل إليه إيميلي. مثل ووكر، كانت تحب أن تلقي بالأشياء على الأرض. كانت الألعاب منتشرة في حجرة المعيشة، نتيجة نشاطها الصباحي.
بعد أن دعتني مولي سانتا كروز إلى دخول بيتها وطلبت رؤية صور لابني، تحدثنا لمدة ثماني ساعات دون توقف. كانت إيميلي أكثر حظا من ووكر في بعض الأشياء - فقد كانت تستطيع الأكل بنفسها - وأقل حظا في أشياء أخرى؛ فهناك قائمة معلقة على الثلاجة تسجل فيها النوبات المرضية التي تتعرض لها، وقد كانت تمتد لعدة صفحات ولا توجد مسافة كبيرة بين الأسطر فيها، وتدون فيها البيانات بشكل يومي.
أحيانا كانت تترك إيميلي كرسيها وتنحني على أربع بجوارنا لتنظر إلى لعبة ما، وفي أحيان أخرى كانت تخدش جزءا من الحائط بأصابعها. نفس صراخ الإثارة، ونفس الأصوات المعبرة عن الرغبة التي يصدرها ووكر.
كل ما أخبرتني به مولي كان مألوفا بالنسبة إلي؛ كانت إيميلي تحب النوم دون أن تغطى ببطانية، وفي السنوات الثلاث الأولى، كانت تستيقظ كل ليلة ثلاث مرات. قالت مولي: «أرى أن الأطفال الذين لديهم إعاقة عصبية يحبون الاستيقاظ في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا.» وقد كانت تحكم حياتهم المواعيد الطبية: اختصاصي العلاج الوظيفي واختصاصي التخاطب مرتين أسبوعيا، واختصاصي جراحة العظام كل ثلاثة إلى ستة أسابيع، وطبيب القلب مرة سنويا، وطبيب العيون مرتين في السنة، وطبيب الأعصاب أربع مرات في السنة.
كانت مولي تبلغ من العمر 45 عاما، وكانت تسير بطريقة منظمة في حياتها، نتيجة السنوات التسع التي قضتها في رعاية إيميلي طوال اليوم، والعمل في المساء في مطعم الأسرة في منطقة نيبومو القريبة. وكان عمر زوجها إرني 56 عاما، وقد كان يعمل اختصاصي خدمات لوجستية بالشركة التي تصنع منتج «سليم»، الذي يعمل على رتق ثقوب الإطارات. وكانت أخت إيميلي الكبيرة ليان تبلغ من العمر 18 عاما .
بعد ساعة من حديثنا، بدأت إيميلي تحبني، ووضعت وجهها بالقرب من وجهي بحوالي بوصتين وتفحصت دفتري؛ رسمت صورة لها فنظرت إلى الصورة وبدأت تسعل، ثم ضحكت على سعالها. مررت بيدي على ظهرها: كان نحيفا ونحيلا، وعمودها الفقري عبارة عن سلسلة ظهر رفيعة، مثل ابني. إذا حدث أن استطاع البشر أن يكتشفوا حياة متعاونة وطبيعية على الكواكب الأخرى، فلن أندهش إذا شعروا بنفس الطريقة التي شعرت بها بعد ظهر يوم ملؤه النسيم في كاليفورنيا بعد مقابلة إيميلي، قريبة ووكر بالوراثة. وأرى أن الأمر يسير؛ شعرت أن عالمه صار أقل انعزالا عن ذي قبل، فولدي لم يعد وحيدا في هذا العالم. كانت إيميلي تصفق وتصعد إلى كرسيها مرة أخرى وتبدأ في إحداث صوت معين بشفتيها، كانت تعتبره أكثر مرحا مما أراه أنا، وكانت أكثر رشاقة من ووكر، ولكنها من حين لآخر كانت تتسلل إلى نفس الأماكن الخاصة التي يصعب الوصول إليها. وكانت مولي تتحدث إليها مثلما تتحدث إلى الآخرين.
سألت مولي: «هل تظنين أنها تفهمك؟»
قالت مولي: «لا أظن أنها تفهم كثيرا، ولكنها بدأت تفهم، وبخاصة في المدرسة، مع روتين كل يوم.»
كانت الدراسة على وشك البدء وذلك بعد أسبوع، وحين ذكرت مولي ذلك، بدت على وجهها نظرة متعطشة؛ فذهاب إيميلي إلى المدرسة يعني توافر فرصة للنوم.
الشيء الغريب أنه حين تتملكك اليقظة المستمرة الناتجة عن رعاية طفل مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فمن الصعب أن تذهب. لاحظ إرني سانتا كروز - زوج مولي - هذا حين قضى هو ومولي أول عطلة نهاية أسبوع بعيدا عن إيميلي، حين كان عمرها خمس سنوات. تركاها مع أخت مولي - كيت - التي تعيش في مكان يبعد 15 دقيقة عن وادي ساليناس، ليس بعيدا عن والديها اللذين ينحدران من سلالة بعض المبشرين الأوائل الذين استقروا في كاليفورنيا، وحجز إرني حجرة في فندق كبير بالقرب من منتجع أفيلا هوت سبرينجز، وقد كان المكان في غاية الروعة. وتعد هذه أول عطلة نهاية أسبوع لهما منذ خمس سنوات.
رغم ذلك، كان هناك شيء وحيد يشغل بال إرني؛ إيميلي. فكل بضع دقائق، تنتابه نفس الأسئلة: ماذا تفعل إيميلي الآن؟ هل هي تزيح الكتب من على الأرفف في حجرة المعيشة؟ أم هي بمفردها في حجرتها؟
نشأ إرني في مدينة ويتير، في كاليفورنيا، موطن ريتشارد نيكسون، والتحق بجامعة الولاية في مدينة تشيكو للحصول على درجة جامعية في التربية البدنية، وخدم في سلاح البحرية في اليابان وفيتنام، وكان يدرب فريق الكرة الطائرة للبنات في مدرسة أرويو جراند الثانوية بعد ظهر كل يوم، وكانت ليان ابنته الكبرى ضمن الفريق، وقد فزن بالبطولة الإقليمية مرتين، وببطولة الدوري 16 مرة. وعرض عليه تدريب بعض الكليات، ولكنه لا يريد أن يسافر بعيدا عن إيميلي، فهو شخص مثابر جدا.
في فناء منزلهم الخلفي في أرويو جراند كانت توجد سقيفة قديمة، وبجوارها كرسي قديم، وبجواره معتزل إرني. على أي حال، هذه إحدى الكلمات التي تصف المكان. (قالت مولي وهي تأخذني في جولة في المنزل: «يقول إنه يمثل هويته.» وبدت مرتبكة وواثقة في نفس الوقت. «يقول إنه يفضل هذا المكان».) سيارة بلاستيكية، وبعض الضفادع المطاطية، وسيارات دنكي اللعبة، ومفرمة لحم مليئة بنبات الصبار، ودلو جعة كورونا، وبعض أقنعة المايا، وأحذية رياضية قديمة خاصة بإيميلي مرسوم على موضع أصابع القدم فيها قلوب. كانت إيميلي، في تلك الأثناء، تسير حول الفناء وتتسلل إلى نباتات الخزامى وتشمها وتقول: «به! وه! وه!» وكان إرني يحب الجلوس على الكرسي بينما تلعب إيميلي في الفناء الخلفي، ويمكنه الجلوس هناك في معتزله ويشاهد إيميلي وهي تتصرف على طبيعتها.
كان هذا بالتأكيد آخر عام له في تدريب كرة الطائرة. قالت مولي: «أرى أن الإرهاق بدأ يظهر عليه بعض الشيء.» وكان إرني ومولي يستبعدان دائما فكرة إلحاق إيميلي بدار رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن هذا بدأ يتغير. قالت مولي: «دائما ما نقول: إننا سنبقيها معنا بقدر ما نستطيع.»
قبل أن تبدأ في الحديث عن مثل هذه الأشياء، كنا في سيارتها، متجهين لتناول العشاء في المطعم الذي كان يمتلكه والداها منذ سنوات عديدة . وقد بدأت ماكينات الري الآلي الطويلة في العمل في المزارع الكبيرة بجوار الطريق السريع، كما هي عادتها كل مساء، وينتشر الماء سريعا فوق الحقول في الأفق مثل الأفكار الشاردة: «لكننا بدأنا نفكر في ذلك. كنا دائما ما نقول، سيكون الأمر أفضل مع إيميلي العام القادم، ولكن هذا لم يحدث قط.» ***
المشكلة فيما يخص مجتمع المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، كما اتضح لي، هي أن كلا منهم منعزل عن الآخرين، رغم أنه يعرف كل واحد فيهم. على سبيل المثال، قابلت مولي وإرني وإيميلي سانتا كلوز من خلال بريندا كونجر، وكان الجميع يعرف بريندا.
في عام 1992 وفي سن الرابعة والثلاثين، كان لبريندا كونجر زوج يدعى كليف، وابنة تبلغ من العمر عامين في حالة صحية جيدة، اسمها بيج، وكانت بريندا تعمل في وظيفة معلمة لذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة بينجمتن، في جنوب وسط نيويورك. ثم حملت مرة أخرى.
هذه المرة، لم تسر الأمور على ما يرام؛ فقد ولد ابنها كليفي قبل ميعاده بثمانية أسابيع، ووفقا للتكنولوجيا المتاحة في ذلك الوقت، لم يظهر لديه أي اختلالات كروموسومية، ولكنه كان يعاني من مشكلات أكبر. على سبيل المثال: لم يكن يستطيع التنفس، وقضى أول 63 يوما من حياته على جهاز تنفس صناعي في وحدة العناية المركزة. تقول بريندا: «كان أسوأ هاجس ينتابني كمعلمة لذوي الاحتياجات الخاصة، أن يكون لدي طفل معاق.» وتوقع الأطباء ألا يعيش الولد، وحتى لو عاش، فلن يتمكن من المشي أو الكلام. بالنسبة إلى بريندا، كان الأمر يمثل معاناة شديدة. بدأت تصلي، ولكن موضوع صلاتها هذه المرة لم يكن الموضوع المعتاد الخاص بالخلاص، بل كانت تهمس في نفسها: «خذ هذا الطفل عندك، وبسرعة.»
مرت الأيام والليالي والرؤية غير واضحة تماما. وفي النهاية، بعد متابعة طفلهما وهو يتنفس على جهاز التنفس الصناعي لأكثر من شهرين، قرر الزوجان كونجر والأطباء نزع جهاز التنفس الصناعي عن كليفي. أخبرت بريندا الصحيفة المحلية فيما بعد: «ويبدو أنه كان هناك ملاك حارس؛ لأنه في ذلك اليوم بدأ يتنفس بمفرده. كنت غاضبة جدا من الرب في ذلك اليوم؛ فلم يكن ذلك جزءا من الخطة، ولكن في ذلك اليوم عرفت أن كليفي هو من كان يقود الخطة، وهو من كان يقوم بذلك فعلا من اليوم الأول.»
انخرط الزوجان كونجر في تفاصيل الحياة اليومية لأسرة لديها طفل معاق، وفجأة لم يعد لديهما وقت وقل مالهما. قالت بريندا: «نحن ننتمي إلى الطبقة المتوسطة، وأنا معلمة، وإذا لم تتساقط الثلوج، فلن يتحصل زوجي - الذي يملك محلا لأدوات التزلج على الثلوج - على مال.» وبلغ الطفل ثلاث سنوات قبل تشخيص الأطباء لحالته، ولم يفسر التشخيص كثيرا: لم يكن كليفي سوى الحالة رقم 22 من الحالات المصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد التي استطاعت بريندا أن تجدها في المراجع الطبية.
وصفت المتلازمة - أو على الأقل المجموعة الواسعة من الأعراض التي بدا أنها ترتبط بمظهر بدني محدد مثل حالة كليفي - بصورة علنية لأول مرة في مؤتمر لمؤسسة مارش أوف دايمز في فانكوفر في عام 1979، في عرض تقديمي بعنوان: «متلازمة تأخر عقلي جديدة تتميز باضطرابات في الوجه والجلد وشعر غير سوي». إن تقديم هذا العرض التقديمي بدا كأنه معجزة صغيرة؛ إذ كان فريق علماء الوراثة الإكلينيكية المسئولون عن تحديد المتلازمة موزعين على أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، واجتمعوا في الغالب بالمصادفة. وكان من ضمن أعضاء الفريق جون أوبتز، وهو عالم وراثة أسطوري قام بالفعل باكتشاف ستة أنواع جديدة من المتلازمات وتسميتها. ادعى أوبتز أنه شاهد أول حالة لمتلازمة القلب والوجه والجلد في منتصف ستينيات القرن العشرين، وبالرغم من ذلك لم تتم تسمية المتلازمة إلا في عام 1986. ولم تجد كونجر سوى 12 ورقة بحثية ذكرت المتلازمة، معظمها كان مجرد تقارير مختصرة لحالات اكتشفت حديثا، وكانت المتلازمة لغزا وأمرا غامضا.
لم يوقف هذا كونجر. عندما تراها، تجدها نحيلة وتجد شعرها أشقر مائلا للحمرة وعينيها قلقتين، وتعطي انطباعا بوجود قائمتين أو ثلاث في ذهنها طوال الوقت؛ بكل الأشياء التي عليها أداؤها قبل الغروب. وفي العام الذي شخصت فيه حالة كليفي، انتحر أخوها كارل، لكن معاناتها مع ولدها غطت على تلك المأساة. وشرحت بريندا الأمر لي عندما قابلتها بعد 11 عاما قائلة: «أنا محظوظة في تعاملي مع طفل مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فهذه المتلازمة هي علاجي.»
في خلال 24 ساعة من التشخيص، لاحظت وجود إعلان في مجلة «إكسيبشنال بيرنت» عن شيء يسمى «شبكة أسر المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد». وبحلول عام 1999، كانت بريندا تديرها، وكان لا يزال هناك خمسون حالة معروفة فقط من حالات المتلازمة، ولكن بريندا أرسلت رسالة إخبارية لكل من كتب إليها أو رد على الإعلانات في مجلة «إكسيبشنال بيرنت.»
في عام 2000، نظمت أول تجمع من نوعه لأسر المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، والذي عقد في مدينة سولت ليك سيتي حتى يكون قريبا من جون أوبتز، وحضرت مولي سانتا كروز أيضا، مصطحبة إيميلي. تتذكر مولي ذلك قائلة: «قلت في نفسي حينها: «يا إلهي! هؤلاء الأطفال يشبهون ابنتي!» نعم، كان هذا رائعا، لا يوجد أفضل من مقابلة شخص ما يشاطرني نفس الهموم.»
فيما بعد أصبحت بريندا عضوة في مجلس إدارة شبكة بريندا، وحين علموا بأمر بحث لعالمة وراثة من سان فرانسيسكو، تدعى كيت روين، كانت تدرس متلازمة القلب والوجه والجلد، طلبت منها مولي الحضور لمقر الشبكة. وبتشجيع من الدكتورة روين، استعانت بريندا ومولي بفرق من آخذي عينات الدم لأخذ عينات دم في مؤتمرات الشبكة، التي كانت تتم حينها كل عامين. وفي عام 2005، ومن خلال الحمض النووي الذي جمعوه من 23 فردا، حددت روين في النهاية الجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وأعلنت أن بريندا ومولي شركاء لها في هذا الاكتشاف، وهي المرة الثالثة فقط التي يعلن فيها عن قيام أشخاص من غير العلماء بالاشتراك في اكتشاف أحد الجينات. (نتيجة لذلك، سيكون لشبكة بريندا - والتي أصبح اسمها المجموعة الدولية المعنية بمتلازمة القلب والوجه والجلد - نصيب في أية براءات اختراع مستقبلية يتم تطويرها؛ نتيجة لمشاركتها في اكتشاف تلك الجينات.)
تدير بريندا كونجر هذه الأيام عالم متلازمة القلب والوجه والجلد من المكاتب المزدحمة للمجموعة الدولية المعنية بمتلازمة القلب والوجه والجلد - وذلك من غرفة تقبع خلف سلالم الدور الثاني من منزلها. علاوة على ذلك فهي تشرف على موقع الإنترنت، حيث يناقش الآباء من كل أنحاء العالم الذين أحد أبنائهم مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، كل الأمور بدءا من علاج النوبات إلى متوسط العمر المتوقع، والذي حتى مع حسن الحظ لن يتجاوز منتصف العمر.
قالت مولي لي: «وهذا جيد بالنسبة إلي؛ لأني لا أريد لمولي أن تكبر في السن وأنا غير موجودة معها.»
وماذا عن كليفي كونجر، الذي قال الأطباء: إنه سيموت قبل عيد ميلاده الأول؟ هو يبلغ من العمر الآن 17 عاما، ويذهب إلى المدرسة ويقرأ ويتحدث ويمكنه قيادة جرار. ***
حتى أقصر لقاء مع طفل آخر مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد كان مثل اكتشاف عنصر كيميائي جديد. كانت تعيش كوليجا توليولي وابنتها فاسي، في شقة صغيرة جدا في حي مشهور بالجرائم في مدينة ستوكتن، بكاليفورنيا، وكانت فاسي تبلغ من العمر عامين ونصف العام، وقضت 80 في المائة من عمرها في المستشفى. عند ولادة فاسي، كانت كوليجا أما وحيدة لديها ابن عمره ثماني سنوات، واضطرت إلى ترك وظيفتها، وتدفع إليها ولاية كاليفورنيا الآن (باعتبارها ولاية تقدمية، فيما يتعلق بحالات الإعاقة) 8,25 دولارات في الساعة لترعى ابنتها، ويتولى التأمين الصحي بقية التكاليف الأخرى، ويوصل اللبن الصناعي إلى باب بيتها مباشرة. أخبرتني لوري كنت، الممرضة التي كلفتها الولاية برعاية البنت المعاقة: «أحيانا في حالة وجود طفل ذي احتياجات طبية كثيرة، يكون من الأفضل أن تكون مفلسا!» ***
كان أول شيء فعله دانيال هيس حين قابلني هو الصياح وإلقاء نظارته في غرفة المعيشة. كان هذا رد فعل مفهوما؛ فقد قاطعت إفطاره مع جده وجدته، اللذين كانا يزورانه من مدينة نيويورك. وكان هذا في جلين إلين، وهي ضاحية غنية في غرب شيكاجو، حيث يعيش دانيال مع أمه إيمي، ووالده ستيف، وأختيه الصغيرتين سارا ولورا.
كان دانيال المعجزة أحد المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وكان يبلغ من العمر ست سنوات، وكان يستطيع الكلام، وكان في المدرسة ويمكنه القراءة في مستوى مرحلته على نحو أفضل من معظم زملائه، وكذلك كان بإمكانه أن يرتدي ملابسه بنفسه؛ كان يرتدي حذاء أخضر عالي الرقبة رائعا جدا على شكل ضفدعة حين قابلته، ليخفي الآلام التي كان يعاني منها في الكاحل، لكن فيما يتعلق بعملية الأيض، فهو ليس محظوظا جدا؛ فهو يعاني من قرح في الأمعاء وحساسية شديدة ومشكلات في المناعة وارتجاع مستمر ونوبات.
كانت إيمي، التي كانت على وشك الدخول في عامها الأربعين، عبارة عن كتلة من الثبات في العزم وكانت ذات شعر أشقر، وربما تعد (كما تدعي أمها) أكثر امرأة تنظيما في شيكاجو، وقد نشأت في ليك فورست بإلينوي، وفي مدينة هيوستن، وعمل والدها مديرا تنفيذيا بإحدى شركات التأمين، وحصلت على درجة جامعية في الاقتصاد والأنثروبولوجيا من جامعة سانت لورانس، وتخرجت فيها عام 1990، وتزوجت عام 1999، وخططت للعمل في مجال الإعلانات. وزوجها ستيف كان يمتلك عدة مبان، انتقلت ملكيتها إليه بالوراثة.
في عام 2001، ولد دانيال قبل ميعاد ولادته بأربعة أسابيع، ولم يستطع الرضاعة من ثدي إيمي، ولكنه كان طفلها الأول؛ فكيف كان لها أن تعرف؟ كان ينام ثلاث ساعات بالليل، ويعاني في التنفس ويتقيأ طوال الوقت، وشخصت حالته بأنها متلازمة كوستلو، وهي طفرة جينية تشترك مع متلازمة القلب والوجه والجلد في كثير من الأعراض والمظاهر؛ كثير جدا بالفعل، لدرجة أنه عادة ما يحدث خلط بين المتلازمتين، بالرغم من أن تأثيراتهما قد تختلف تماما. (غالبا ما يكون لمتلازمة كوستلو أعراض أخف في الوجه وتأخر عقلي أقل، إلا أنها ترتبط أيضا ببعض أشكال السرطان، الأمر الذي لا نجده في متلازمة القلب والوجه والجلد. اكتشفت كيت روين وعلماء آخرون الجينات المرتبطة بمتلازمة كوستلو أيضا.) تذكرت إيمي اليوم الذي شخصت فيه حالته بوضوح شديد؛ وذلك لأن تشخيص الحالة على أنها متلازمة كوستلو فاجأها، ففي رأيها كانت هناك أشياء في دانيال لا تتناسب مع متلازمة كوستلو، وبالرغم من ذلك كان هذا هو التشخيص الوحيد وقتها، وكانت تخطط بالفعل لبحث التبعات بعد ظهر ذلك اليوم.
لكن في طريق العودة إلى البيت من عند الطبيب ، وهي تمسك بيد دانيال في الشارع، التقت إيمي بالمصادفة امرأة كانت تعرفها، من خلال عملهما التطوعي معا، ونظرت المرأة إلى دانيال وتغير لون وجهها، وقالت: «أعرف صديقة ابنها يشبه ابنك تماما.» وأرسلت إيمي صورة دانيال بالفاكس إلى صديقة صديقتها لحظة وصولها إلى البيت، فاتصلت المرأة على الفور وقالت: «ابنك مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد.» وبدلا من إعادة البحث عن متلازمة كوستلو، اتصلت إيمي بالتليفون ببريندا كونجر في ذلك المساء. ليست هذه قصة غريبة في عالم متلازمة القلب والوجه والجلد.
كانت صديقة صديقة إيمي هيس على صواب؛ كان دانيال مصابا بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ويثبت ذلك الجينات المشوهة. لم يخفف التشخيص الصحيح لحالة دانيال العبء الملقى على عاتق إيمي، ولكن معرفة أن ابنها مصاب بمتلازمة ناتجة عن طفرة جينية عفوية، تقريبا في لحظة الحمل، ساعدها بطرق أخرى. قالت: «أزال عني شعوري بالذنب للتسبب في تكوين طفل يعاني هكذا. كما تعلم، كانت تشغلني أسئلة من قبيل: «ما الذي فعلته خطأ؟ هل لأني وضعت طلاء أظافر وأنا حامل، فتسببت الأبخرة التي خرجت منه في هذا؟ هل لأني كنت أقفز بالمظلات وقمت ببعض القفزات قبل أن أعرف أني حامل، وهكذا عانى من نقص الأكسجين؟» لذا أراحني كثيرا هذا التشخيص.»
أو على الأقل شعرت بشيء قريب من الشعور بالارتياح الذي يمكن أن يشعر به والد طفل معاق؛ لأنه حتى التشخيص الدقيق لا يمكن أن يزيل الإحساس القديم بالذنب الذي يرجع للأحداث الجينية العشوائية هذه التي حدثت منذ آلاف السنين؛ الفكرة الغريبة العالقة أنه دائما ما يكون هناك سبب لحدوث مثل هذه الإعاقة، وأنه عقاب، وبالتالي فهو مستحق. عزا الأطباء الأوروبيون في القرن السادس عشر حالات التشوه والإعاقة هذه إلى الفقر (كما فعل السياسيون المحافظون في أمريكا الشمالية في العقد الماضي). وأصر هيرودوت على أن سبب التشوه يرجع إلى الزواج من أشخاص لا يتمتعون بجمال معقول. ورأى مارتن لوثر، الذي كان يتصرف كثيرا في خرق، أن المتأخرين والمشوهين هم أقرباء الشيطان، كائنات مولودة في المكان الخاطئ ؛ ولذا يجب أن نغرقهم. كانت إيمي هيس نتاجا مثقفا ومستنيرا لعصر العلم والتقدم، ولكن الإحساس بالذنب القديم سار في مجراه على أي حال.
قالت لي إيمي في صباح يوم مشرق في شيكاجو: «كنت أحيا حياة سعيدة جدا جدا. لدي والدان رائعان، وصديقات حميمات، ووظائف ممتازة، ومدارس رائعة، وأرى أنه قد جاء دوري.»
إيمي أم محاربة، ولحسن حظ دانيال كافحت بالبحث. وقد تركت وظيفتها وتحولت إلى باحثة طبية تعمل بدوام كامل، وأخضعته لأنواع عديدة من العلاجات؛ حتى وصل الأمر لعشر جلسات علاجية كل أسبوع - منذ أن كان عمره شهرا واحدا وحتى بلغ سن الثالثة - كانت الدولة تدفع تكلفتها في الغالب من خلال برنامج التدخل المبكر للأطفال المتأخرين بنسبة تزيد عن 30 في المائة. قالت: «إنه بحاجة إلى أي فرصة تتاح له، لم أرد له ألا يتعلم في مرحلة مهمة كهذه من مراحل عمره.» كانت هناك فترات يخضع فيها ووكر لشكل من أشكال العلاج الطبيعي على مدار اليوم، سواء أكان نائما أم على كرسي التغذية.
الطفل المعرض لخطر عدم القدرة على الكلام سيتم في الغالب أولا محاولة تعليمه لغة الإشارة، ولكي يتعلم هذه اللغة، على الطفل أن يكون راغبا في التواصل بالعين حتى يتمكن من رؤية الإشارات الصادرة عن الآخرين. تعامل معالجو دانيال المتخصصون في اللغة والتخاطب بالإشارة معه لمدة أربعة أشهر قبل أن ينظر إليهم دانيال، قبل أن يتخلوا عن الأمر في النهاية. كانت إيمي تحتفظ بسجلات مفصلة لكل موعد طبي حضره ابنها، وكل دواء تناوله. تنطوي متلازمة القلب والوجه والجلد على كثير من المفاجآت، ولكن الاهتمام المنظم لإيمي يعد نموذجا لكيفية التعامل مع هذه المتلازمة والمتلازمات المشابهة، وفيما يخص الحصول على الخدمات، فلا ضرر من الاهتمام الزائد.
النتائج واضحة، يستطيع دانيال مشاهدة التليفزيون ويضحك؛ وإن كان انتباهه يتشتت بالتأكيد. له نفس الركبتين كثيرتي العقد مثل ابني، ولكنه يستطيع أن يركب السيارة مع والده ويقول له - مسلحا بالإحساس المكاني اللافت للنظر الذي يسمح له بحل ألعاب تركيب الصور المقطعة بالمقلوب: «أنذهب في طريقك، أم طريق ماما؟» عاش ستيف في جلين إلين طوال حياته، ودائما ما يأخذ الطرق الخلفية، في حين تلتزم إيمي التي تعد وافدة جديدة على تلك الضاحية، باستخدام الطرق السريعة. لاحظ ذلك دانيال، وعبر عن ذلك بالكلام. لم يتحدث مباشرة إلي قط - كنت متطفلا، وكان يشاهد التليفزيون - ولكنه ثرثر مع الآخرين جميعهم. ومن بين كل الأمنيات التي تمنيتها لابني العزيز، كان التحدث ببضع كلمات هو أول أمنية أريدها أن تتحقق. أحب مشيته التي تشبه مشية فرانكنشتاين، ويديه الضعيفتين، وهما عزيزتان بالنسبة إلي بسبب ما فيهما من خلل. ولكن ماذا لو سمعته ينطق اسمه؟ ينادي على أخته بصوت عال وواضح قائلا: «هايلي!» بدلا من «هاااا» التي يقولها من حين لآخر؟ يقول: «ماما، أحبك.» ينبض قلبي لمجرد التفكير في الأمر. «تبا لك، يا بابا!» سيكون مثل خطاب جيتسبرج بالنسبة إلي.
ليس هذا بسبب ما تعنيه الكلمات؛ فلغة الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد الذين يمكنهم الكلام غالبا ما تكون لها طابع مفتعل أو مصطنع باهت، شعور أدنى من الشعور الحقيقي؛ فهم يعنون ما يقولون، ولكن أحيانا يتكون لدى المرء انطباع بأنهم يستخدمون كلمات شخص آخر في قولهم، وأن لغتهم مستعارة أكثر منها منتجة ذاتيا. ولكن على الأقل هي لغة، ودليل على الحياة الداخلية، وبرهان على أنهم يمكن أن يدركوا السياق، وأن لهم رغبات. لا أحتاج إلى أن يقول لي ووكر: «أحبك» لأعلم أنه يحبني، ولكنه إذا تحدث بكلمة، فسيعد دليلا على أن لديه شيئا ليقوله، وأنه يريد أن يقوله، وأن هناك مغزى لقوله، والرغبة قصد، والقصد أمل.
في خريف العام الذي بلغ فيه ووكر 18 شهرا، جلست بجوار زوجتي أمام طاولة المطبخ وملأنا نموذج مقياس ماكارث لنمو الاتصال، وكان يتكون من ثماني صفحات. وفقا للمقياس، كان ووكر يفهم 115 كلمة، منها: «هل تشعر بالجوع؟» و«افتح فمك»، «قبلة» و«مبلل»، و«مقزز» و«أنت» و«إفطار» و«قمر»، و«جيد»، ولكن ليس منها «سعيد»، و«مظلم» ولا «مكسور»، ولا حتى كلمة «سماء». بالطبع من المفيد ذكر أنني وجوانا ملأنا النموذج؛ فقد رأينا براعته في كل مكان، ولكنه في الواقع لم يقل شيئا. تحلم جوانا وهايلي كثيرا باليوم الذي يستطيع ووكر فيه أن يتكلم مثل محام في قاعة محكمة. وفي تلك الأيام، تستيقظان منتشيتين مفعمتين بالإثارة. في ذهني، ندردش أنا وهو بلا توقف، ولكن في الحياة الواقعية، كان عاجزا عن الكلام.
لذا كانت هناك أوقات في منزل هيس ذي الموقع الجميل والتنظيم الرائع لم أستطع فيها الكلام أنا أيضا، بسبب الحسد والحزن، وحينها كنت أرغب في ركوب سيارتي فالطائرة وأطير مباشرة إلى ووكر. لو كان قد التحق ببرامج رعاية أفضل، وكان التدخل في حالته مبكرا أكثر (بدأنا عندما بلغ ثلاثة أشهر)، وكانت لدينا أموال أكثر، وكان لديه أب أكثر نشاطا وإخلاصا - هكذا قلت في نفسي - ولو لم يكن قد ولد قبل ميعاده بخمسة أسابيع؛ ربما كان ووكر اليوم محظوظا مثل دانيال. ماذا يحدث لو اختار أحدنا التوقف عن العمل تماما، وبقي في البيت لكي يكون والدا ومقاوما للإعاقة طوال الوقت؟
يعرف والد كل طفل معاق هذا الحسد الخفي، والشعور بالذنب المصاحب له، ولم يعد من المعقول (أو المنطقي) أن تصر على القول بأن على الوالد أن يبقى في البيت أكثر من إصرارك على القول بأن على إيمي هيس الالتزام بالخروج للعمل خارج منزلها. لقد قمت أنا وزوجتي بفعل كل شيء أشار إليه الأطباء والتقارير الطبية، بل وأكثر من ذلك. كنا نتبع ما يشير به علينا أطباء مستشفى الأطفال المرضى بتورونتو ومركز بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال، وهما اثنان من أفضل المؤسسات المتخصصة في طب الأطفال في العالم. وقد ألحقنا ووكر ببرامج للتدخل المبكر حين بلغ من العمر ثلاثة أشهر، وبدأ يستخدم لغة الإشارة عند سن الستة أشهر، ولكن لم يكن لأي من هذا أي تأثير؛ فقد كانت الطبيعة - الحالة التي ولد بها - أقوى.
من الناحية العلمية، يعني تعرف كيت روين على الجين المسبب لمتلازمة القلب والوجه والجلد أنه يمكن إجراء اختبار متلازمة القلب والوجه والجلد للجنين وهو في الرحم وإجهاضه إذا تأكد إصابته بها، وهكذا يمكن تجنب كل هذه الآلام. (ومع ذلك فالمرض نادر جدا مما يجعل هذا الاختبار يمثل عبئا ماليا.) لن تفكر إيمي هيس حتى في ذلك وتصر قائلة: «لم أكن لأفرط في دانيال.» ولكن حين نضغط عليها، تقر بأنها لا تريد إنجاب أطفال آخرين يعانون، ربما تتبنى طفلا آخر من ذوي الاحتياجات الخاصة «لأنه على الأقل حينها لن تكون لديها عقدة الذنب، بإنجاب مثل هذا الطفل وإخراجه للعالم.» فهي ما زالت تلوم نفسها على إنجابها لابنها، ولا تلقي باللوم على العالم للطريقة التي يتعامل معه بها.
بالرغم من ذلك، يتمتع دانيال بحرية أكبر؛ فكثيرا ما يتقرب إلى الغرباء في الشارع ويقول: «أهلا، هل تحبونني؟»
هذا هو السؤال الحقيقي. ***
وأخيرا، بعدما قابلت إيميلي سانتا كروز ودانيال هيس وآخرين من خلال موقع متلازمة القلب والوجه والجلد لبريندا كونجر، سنحت لي الفرصة لمقابلة بريندا كونجر نفسها. وحين وصلت إلى فيستال بنيويورك، حيث تعيش كونجر وأسرتها، كان ابنها كليفي ينتظر بالباب، وبدا نسخة أكثر لطفا، وأقل مرضا من ووكر؛ فشعره مجعد ويلبس نظارة، لكنه أنحف وأطول، يشبه نويل كوارد. وحين طرقت الباب اندفع نحوه كلبا العائلة اللابرادور، هنري وجاكسون.
قال كليفي: «ستؤذيك هذه الكلاب.» وضحك.
كانت هذه أول محادثة لي مع شخص مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد.
قبل أي شيء آخر، أراد كليفي رؤية صور لووكر، ثم ذهب لمساعدة أمه في تطرية الدجاج الذي تعده للعشاء. كانت شاشة التليفزيون العريضة في حجرة المعيشة تعرض السيد روجرز، مقدم برنامج الأطفال التليفزيوني الشهير، ذي الإيقاع البطيء. في ذلك الوقت كان عمر كليفي 15 عاما؛ مراهق يشاهد السيد روجرز. كانت هناك علامات صغيرة مثل هذه، مجرد إشارات. استطاع أن يضرب الدجاج عشر ضربات، ثم كان عليه أن يتوقف، بعد أن أصابه الإنهاك. في هذا الوقت، لاحظت كم كانت ذراعاه نحيفتين، وكيف كان انتباهه غير منتظم.
اصطحبني في جولة في البيت، ويبدو أنه كان يفضل الطابق الثاني.
أشار إلى الركن الذي استطاعت بريندا كونجر من خلاله تغيير حياة المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد قائلا: «هذا مكب (يقصد مكتب) ماما.» «هذه هي الغرفة الجديدة»، مشيرا إلى المكتب الذي أضافه والده.
أشار إلى الحمام، والدش، وستارة الدش الأهم بالنسبة إليه، وقال: «لا تفتح هذه!»
وسرنا في الجولة حتى الردهة.
أومأ كليفي قائلا: «هذه حجرة ابنتي.» «ابنتك؟ تقصد أختك.» «تمام.»
لديه مشكلة في نطق حرف «الراء»، وتتميز لغته بهذا الطابع المفكك العارض، كما لو أنه يتلو من الذاكرة، أو من قائمة احتمالات في ذهنه. بعض أجزاء ذهنه كانت خالصة له، والأجزاء الأخرى بدت كما لو أنه اشتراها مجمعة بشكل مسبق من أحد المعارض، وقد وصف أطباء الأعصاب نفس هذا الملمح في العقل الطبيعي، أي النشاط المجتمعي المخطط له مسبقا - ولكنه في حال كليفي بطيء، ويمكنك ملاحظة طريقة عمله.
حجرة نومه، ملاذه الخاص، كانت مزينة برسومات لجرارات جون دير، التي يهتم بها أيما اهتمام؛ فهي مهندمة، ومفيدة، وقوية. وهناك سجادة على الأرضية مرسوم عليها صورة جرار جون دير، وكذلك ورق الحائط والستائر وغطاء السرير، فضلا عن مفتاح الكهرباء وعلبة المناديل الورقية وسلة المهملات، حتى طرف السلسلة التي تدير مروحة السقف كان يحمل صورة جرار جون دير.
مشينا خارج البيت، بينما كانت بريندا تنهي إعداد العشاء، وكان والده كليف يحدثني عن أيام المعاناة مع متلازمة القلب والوجه والجلد، قبل أن يعرف أي أحد عنها أي شيء، وكيف أنه علم كليفي التزلج عن طريق المشي على التل المخصص لتزلج المبتدئين، وهو يلبس حذاء التزلج لمدة عامين قبل أن يشعر كليفي بالارتياح الكافي لكي يجرب الزلاجة، وبينما كنا نحن الكبار مشغولين، تسلل كليفي إلى جرار جون دير المخصص للعمل في الفناء، فأدار المحرك وقاد الجرار خارج سقيفته، وتحرك به حول الفناء، وحين انتهى عاد به وبمقطورته إلى السقيفة. وقد قام بهذا ببراعة كبيرة.
قلت لوالده: «ليس باستطاعتي فعل ذلك.» وفجأة جالت بذهني صورة لووكر وهو يقطف العنب. ربما يستطيع ووكر قطف العنب!
قال كليف: «هو أبرع في الركن الدقيق للمركبات من أي شاب بالغ من العمر 18 عاما يحمل رخصة.» استغرق الأمر منه أربع سنوات كي يعلم ابنه قيادة الجرار، وقد بدأ كليف الأمر بجز الحشائش وهو يحمل الولد على ذراعيه.
في الساعة 47 : 10 في تلك الليلة، أبعدت بريندا كليفي عن التليفزيون، وقالت له: «كليفي، حان وقت النوم.»
قال: «ماما.» لم يكن هناك أي شيء يدل على التأخر في نبرة الصوت هذه. «لماذا لا أسهر؟ فأنا مراهق.»
كان يقوم بالأعمال الروتينية الحياتية بإتقان. وبين ما كان يشعر به وما طلب منه أن يشعر به شعرت بوجود الولد الحقيقي، الذي كان لا يزال يتشكل. هل هذا من السمات المميزة للطفل المصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد؛ أن يظل يتشكل دائما ولا يتشكل أبدا؟
حين نزلت لتناول طعام الإفطار في صباح اليوم التالي، وجدت كليف وكليفي مستيقظين منذ الساعة السابعة صباحا، يعدان أطباق الأومليت الخاصة بأيام الآحاد. كان كليفي يرتدي بيجامة عليها صورة سبونج بوب، وكان يمشي متثاقلا، وكان ضوء الصباح الخافت ينفذ من النافذة. «سيد براون، أتريد عيش غراب في الأومليت؟»
قلت: «إين. نادني بإين.» «إين.» قالها بلا مبالاة، وانتهى الأمر بالنسبة إليه، فالأسماء لا تهم. «أتريد عيش غراب؟»
سألته: «هل أنت من محبي عيش الغراب؟» «نعم.» «وأنا أيضا!»
صاح قائلا: «نعم!» أعلم صيحة الفرح هذه من ووكر. فنادى على والده قائلا: «هو من محبي عيش الغراب!»
توقف كليفي ثم قال: «ماذا عن المخللات؟»
قلت: «لا، لا أحب المخللات.» «ماذا؟!» نظر إلي نظرة تعجب، النظرة التي تنظر بها لشخص يعارض المعتقدات السائدة.
سألته: «هل أنت محب للمخللات؟» «نعم!» قالها مرة أخرى بنفس الحماسة.
لعل هذا هو السبب وراء فعل ووكر لنفس الشيء أيضا؛ حين كان يشعر بأننا متساويان، أو على الأقل نفكر بنفس الطريقة.
كان كل ما نحتاجه مترجما، ولدا يتحدث لغتي ولغته. ***
اكتشفت أن كثيرا من آباء المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد يقضون معظم وقتهم على شبكة الإنترنت، فيتقابلون عبر المجموعة الدولية المعنية بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وعبر غرفة الدردشة الإلكترونية لبريندا كونجر، أو عبر قائمة بريدية. وكان الآباء الذين اكتشفوا أن طفلهم المولود حديثا مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد يندفعون إلى غرفة الدردشة مثل المسافرين المترنحين الذين وجدوا واحة بعد سنوات من التيه في الصحراء، وكانوا يخرجون من غرفة الدردشة كما لو أنهم يودعون أقاربهم الذين افتقدوهم لمدة طويلة:
مع خالص حبي
زوجة مالكوم مام إلى لويس 9 جيمس 7 إيمي 4
تأكدت الإصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد
دائما ما كانوا يخرجون من غرفة الدردشة بالطريقة نفسها، وتعني عبارة «تأكدت الإصابة» التأكد من الناحية الوراثية، وهي أعلى درجات التأكد من إثبات حالة متلازمة القلب والوجه والجلد. وإذا تأكدت إصابتك بالمتلازمة - أصبح الاختبار الوراثي لمتلازمة القلب والوجه والجلد متاحا بحلول ربيع عام 2006 - يمكن تضمين الحمض النووي الخاص بك في الدراسات البحثية. كان الآباء يتوقون للتأكد من الإصابة بالمتلازمة؛ فبعض الأطفال تم تشخيص حالاتهم إكلينيكيا بأنهم مصابون بمتلازمة كوستلو أو نونان القريبتين في مظاهر عديدة من متلازمة القلب والوجه والجلد، ولكن اتضح بعد ذلك من الناحية الوراثية أنهم مصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وهناك أطفال آخرون أظهر تشخيصهم إكلينيكيا أنهم مصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد ثم تبينت إصابتهم بمتلازمة نونان أو كوستلو من خلال الاختبار الوراثي. (يرى عدد قليل من علماء الوراثة أن متلازمة القلب والوجه والجلد ومتلازمة كوستلو ليستا متلازمتين منفصلتين على الإطلاق، ولكنهما مجرد أشكال مختلفة من متلازمة نونان، الأكثر شيوعا.) ولم تخرج كونجر أيا من الأطفال الذين أعيد تشخيص حالتهم وظهر أنهم غير مصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد من شبكتها، ولكن هذا التشخيص الجديد كان في الغالب صادما لآباء هؤلاء الأطفال.
بلغ ووكر سن الخامسة قبل إنشاء موقع المجموعة الدولية المعنية بمتلازمة القلب والوجه والجلد على الإنترنت، وقبل أن يبلغ سن العاشرة أنشأ آباء الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد مجتمعا على الإنترنت. وتعد متابعة الرسائل في القائمة البريدية لمتلازمة القلب والوجه والجلد على مدار سنوات عديدة أشبه بمشاهدة بلدة صغيرة وهي تظهر إلى النور من ظلام مجرة عملاقة؛ فتشاهد ضوءا يومض، ثم ضوءا آخر ثم آخر، وببطء، وببطء جدا تستحيل الأضواء قرية. وبدأت تظهر حالات متلازمة القلب والوجه والجلد في أماكن أخرى من العالم؛ في أستراليا ولبنان وهولندا، وحالة ثانية في كولومبيا البريطانية، بل وحالة ثانية في تورونتو.
عند قراءة القائمة البريدية لمتلازمة القلب والوجه والجلد تشعر كأنك تقرأ رواية طويلة مكتوبة على شكل رسائل. كان الوافدون الجدد يندفعون إلى المشهد، بانفعالاتهم والمعلومات التي يقدمونها، وكان القدامى يرحبون بهم ويطمئنونهم. ما لم يذكره أحد هو كيف أن القصص تتشابه، وأن الشكاوى كانت تظل كما هي لسنوات دون تغيير، ودون علاج؛ كالأشياء المقلقة التي أكد الأطباء للآباء الجدد أنها ستزول، والتي كان يعرف معظمنا أنها في الأغلب لن تزول. أتذكر امرأة اسمها كيت وصفت بلغة عاطفية سمات ابنها الصغير، البالغ من العمر ثماني سنوات، والذي تأكد لتوه من إصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فكتبت تقول: «لا يستطيع ابني الكلام، وليست لدي فكرة إن كان سيتمكن من ذلك أم لا، ولكنه يعبر بطريقته عما يريده ... أحيانا يصاب بالإحباط فيعض يديه أو يلكم رأسه بعنف. هذه شخصيته، وهو يجلب المرح إلى حياتنا، ولكن للأمانة هناك أوقات أتمنى أن أكون أمه فقط وليس الممرضة أو مقدمة الرعاية أيضا، ولا أضن بأي شيء يساعد في جعل حياته أفضل، ولكنها تشهد أوقاتا صعبة في بعض الأحيان.»
المشكلة، كما يعرفها أي والد طفل مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد لديه خبرة طويلة في هذا الشأن يقرأ رسالتها، أنه لا يوجد شيء يمكن أن يحسن حياته بدرجة كبيرة.
كانت قراءة رسائل القائمة البريدية تؤدي حتما إلى إجراء مقارنات، ولم تكن المقارنات فكرة جيدة قط. لسارة وكريس، وهما زوجان من ماساتشوستس، ابنة اسمها ريجان تبلغ من العمر عامين ونصف العام، وهما يصفان حالتها كما يلي:
تتحدث ريجان وتستخدم لغة الإشارة. أعتقد أنها قالت «أيس كريم» الليلة، بالرغم من أنها لن ترغب أبدا في تجربته، وهي تختار ما تأكل، ولكنها توسع من دائرة ما تأكله بالتدريج. وهي تشير إلى أطباق طعامنا وتقول: «مممممم »، ولكنها ترفض معظم ما نقدمه لها ... ريجان متأخرة في النمو ومهارتها الحركية الأساسية أكثر تأخرا بكثير من المهارات الحركية الدقيقة ومهارات التواصل. لا تستطيع المشي أو الاستقرار في وضع الجلوس حتى الآن، ولكن يمكنها تحمل الوقوف، ويمكنها الزحف على مقعدتها، وفي الفترة الأخيرة فقط استطاعت سحب نفسها من وضع الجلوس إلى وضع الوقوف.
من الأفضل: حالة ريجان التي هي أفضل في التواصل، أم حالة ووكر الذي هو أفضل في الحركة؟ من المستحيل ألا تسأل نفسك هذا السؤال، ومن المستحيل أن تجيب. كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بجدية إلى توفير برامج حكومية إجبارية للتدخل المبكر لأي طفل بلغ من العمر ثلاثة أشهر وتظهر عليه الحاجة للحصول عليها. لم تكن مثل هذه البرامج متاحة حين كان ووكر طفلا صغيرا، وما زالت نادرة في مناطق كثيرة في كندا، وكان لكولومبيا البريطانية السبق فيما يتعلق بتوفير الترتيبات المعيشية وفقا للاحتياجات، وتميزت أونتاريو بتقديم خدمات الرعاية المؤقتة. وما لم يتوافر هو وجود برنامج يسهل الانضمام إليه ويكون مضمونا وموثوقا منه ومتسقا للمساعدة ورعاية الأطفال المعاقين خلقيا. ولم يكن من الصعب استنتاج أن الأصحاء كانوا يرغبون في تجاهل هؤلاء الأطفال، أو على الأقل ألا يذكرهم أحد بهم.
انضم بعض الآباء متأخرين إلى المجموعة الدولية المعنية بمتلازمة القلب والوجه والجلد، بعد سنوات من ظنهم أن أبناءهم يعانون من متلازمات أخرى. كانت حالاتهم في الغالب الأكثر تعقيدا، في ظل وجود أعراض متداخلة. وتكون النتيجة أنك حين تقرأ رسائل القائمة البريدية قد تصادف شيئا جديدا تماما تشعر بالقلق نحوه. فهناك قصص درامية عجيبة، مثلا أنقذت امرأة تدعى ريني من إعصار مدينة نيو أورليانز في خريف عام 2008، بينما ابنتها هارلي المصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد كانت تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة في المستشفى. أرسلت ريني بالمستجدات عبر الإنترنت تصف فيها حالتها كما لو أن هارلي ابنة الجميع، قائلة:
أهلا بكم، يا أسرتي. ليس لدي سوى بضع دقائق للكتابة هذه المرة، ولست متأكدة إذا كنت قد ذكرت هذا من قبل أم لا، ولكن الممرضات في المأوى الذي تعالج فيه هارلي ذكرن لي أن الهواء الداخل لرئتها اليسرى مصدره جهاز التنفس المساعد فقط ... وقالت الممرضات: إنها يمكنها الخروج الليلة، ويمكن بعد أربعة أو خمسة أيام، ويمكن لهارلي أن تتغلب على الأمر مرة أخرى كما فعلت في كل المرات السابقة، ولكن يبدو أنهن لا يعتقدن أنها ستتمكن من ذلك؛ فهارلي في حالة سيئة حقا. لا تنسوها وإيانا بالدعاء. فليبارككم الرب!
في النهاية ماتت هارلي في شهر مارس عام 2009، وظل آباء الأطفال الآخرين المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد يكتبون إلى موقع كونجر لأسابيع بعد ذلك ما يثنون به على كفاحها ويحيون ذكراها. ومثلهم لم أقابل هارلي، ولكني علمت الكثير عنها؛ فهي عضو آخر من أعضاء أسرة ابني الأخرى.
ثم كانت هناك الموضوعات المحورية اليومية لرسائل القائمة البريدية: المناقشات المعتادة حول قنوات الأذن وشمع الأذن، ومسائل التغذية، ومستويات الصوديوم، وعلاج النوبات، ومشكلات البلوغ ومزايا وعيوب تأخيره من خلال العلاج بالهرمونات، وظهور التوحد المعقد ضمن أعراض متلازمة القلب والوجه والجلد (النسبة منخفضة ولكنها في تزايد)، وأنابيب التغذية، ومن يستطيع المشي ومن لا يستطيع، وما الذي يمكن فعله حيال ذلك، ومن يستطيع الكلام ومن لا يستطيع وما الذي يمكن فعله حيال ذلك، ومن لديه شعر ومن ليس لديه، ومن يريد أن يتعرى ومن لا يريد، وكيف نشغل الأطفال، وما الذي يمكن أن يجعلهم ينامون. بعض الأمهات - مثل إيمي هيس - كن يعرفن أكثر من أي طبيب، ولذلك، كن كثيرا ما يستشرن من أجل المساعدة الطبية والفنية. كان ذكر مرض هيرشبرنج، وهو عبارة عن عيب خلقي في الأمعاء الغليظة، يظهر لمرات قليلة ولكنها مخيفة؛ إذ يصبح فيه جزء من الأمعاء الغليظة دون خلايا عقدية (بمعنى أن الأمعاء تفتقد الأعصاب المعوية الطبيعية التي تساعد على حركة الأمعاء)، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث انسداد في الأمعاء، والذي بدوره أيضا يؤدي إلى تضخم دائم في الأمعاء يعرف بتضخم القولون. يبدو الأمر مثل دوامة مرعبة لا فكاك منها. بشكل عام ، يعد التبرز واضطرابات الأكل أكثر الموضوعات مناقشة، إضافة إلى أسماء العلاجات المضادة للإمساك، كميراللاكس ووكريستالوز ودولكولاكس، وأسمائها التجارية الخفيفة والعجيبة، مثل أسرة من الأخوات المغنيات المشهورات.
من حين لآخر كانت هناك ومضات من التبصر؛ فحين اعترفت امرأة تسمى روزان في كولورادو بشعورها باليأس والخزي بسبب تمنيها أن يكون طفلها طبيعيا، ردت عليها امرأة أخرى، تدعى ستايسي، بوضوح وعطف قائلة:
أتفهم - شأني في ذلك شأن كل آباء المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد - التحديات التي تواجه أطفالنا ذوي الاحتياجات الخاصة، وأعتقد أن أصعب شيء بالنسبة إلي كان التخلي عن حلم العيش في أسرة طبيعية. لم تشخص حالة لوجان حتى بلغ سن الخامسة، وظللت طيلة العامين الأولين أردد لنفسي: «حسنا، بعد علاج «هذا» ستكون حالته طبيعية، بعد علاج «هذا» ستكون حالته طبيعية!» وظللت أتعلق بأمل أنه سيكون مثل بقية الأطفال الآخرين. وكان يصيبني الضيق حين أسمع الأمهات الجدد يشتكين من أشياء كنت أستطيع فقط أن أحلم بها وآمل فيه (كأكل كل شيء متاح، وزيادة الوزن، والجري حولي في كل مكان ... إلخ). أصابني «هوس شديد» عندما عرفت بنفسي المشكلات التي كان يعاني منها؛ فقد كان لدي ابن يحتاج إلى جراحات متعددة، ولا يأكل، ويتقيأ «كل ما يتناوله» خمس مرات في اليوم، ولم يكن أي طبيب يستمع لشكواي أو يتفهم ما كنت أمر به. في البداية شعروا أنني لم أكن أرعاه كما ينبغي، ثم في أحد الأيام حين بلغ عامين أدركت أني مهووسة جدا بالبحث عن مشكلته وبخوض هذه المعركة بنفسي لدرجة أنني لم أكن أحبه ... لأن قلبي منفطر جدا بسبب أن حلمي بوجود [إنسان] «طبيعي» قد تحطم تماما؛ لذا بدأت من هنا تقبل لوجان كما هو، ولم أعد أفكر فيما ينبغي أو يستطيع أن يكون عليه، ولكن فيما «كان» عليه فعلا. وبالرغم من الأيام الصعبة والتحديات، كانت هناك أيام «جميلة»، والآن أصبحت هذه الحياة بالنسبة إلي طبيعية، وأتمنى أن تكون أيسر في المستقبل.
حظا سعيدا، ولن أنساك أنت وأسرتك
ستايسي
يأتي المساهمون المنتظمون في القائمة البريدية ويذهبون مع تقلب صحة أطفالهم، والتي كانت تتقلب بمعدل خطير، في حالة كل فرد. غضبت بعض الرسائل من التسلط والذعر الذي لم يكن في محله، وكانت هناك عدم رغبة ملحوظة بصفة عامة في الشكوى أو اليأس؛ أصحاب مدرسة «أنا المعذب فقط»، الاسم الذي تطلقه الأمهات الحازمات للأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد على معتادي الشكوى، رافضات الشكوى بوصفها أمرا لا فائدة منه ونوعا من الأنانية. وفي الوقت نفسه، هناك الكثير من الأمور الدينية في هذا المزيج؛ فنادرا ما يمر يوم دون أن يشكر شخص الرب على «نعمه» الباطنة في وجود «ملاك» مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ودون أن يصر شخص آخر على أن الرب «يهب الأطفال المختلفين إلى الآباء المختلفين.»
كنت أتفهم القصد من وراء ذلك: أعطى ووكر حياتي شكلا، وربما أعطاها معنى، ولكنه أيضا حولها إلى جحيم. وفي أيام الجحيم كان يبدو الوعظ العاطفي الساذج عن الملائكة والاختلاف نوعا واضحا من خداع الذات، أشبه بعمل الفتيات القلقات اللاتي يسعين إلى تبرير ما يقمن به أمام مدرسة ثانوية ساخرة. لا تختلف الإعاقة عن السياسة أو حتى كرة القدم الجامعية؛ فهي تقسم الناس وتسيسهم وفق حاجتهم، محولة تجربة سيئة لا سبيل للتعامل معها إلى موقف ثابت ومطمئن، ولكن تفاصيل حياة ووكر تكذب أي مسار كهذا.
تواصلت جوانا مع شبكة بريندا كونجر الخاصة بمتلازمة القلب والوجه والجلد منذ وقت مبكر، قبل ظهور الإنترنت. لكنها كانت حينها بحاجة شديدة للحصول على نصائح محددة، ومعلومات عن كريمات الجلد والعلاجات التي يكون لها تأثير مباشر، وأخبرتني بعد سنوات بأنه: «كان هناك كلام كثير حول موضوع الرب والملائكة واعتبار الأطفال هبات من الله.» وكان من الصعب اعتبار ووكر هبة من الرب، إلا إذا كان الرب ساديا ينتقم منا في شخص الولد الصغير! وبعد ذلك لم تعد جوانا تتواصل مع الشبكة، وسرنا في الطريق بمفردنا. ***
لانا فيليبس والدة جايمي فيليبس، وهي واحدة من خمسة أطفال شخصت حالتهم على أنها متلازمة القلب والوجه والجلد في عام 1986، وفي ذلك الوقت كان عمر جايمي عشر سنوات، وتعاملت لانا مع نفس الطفلة المريضة والمحطمة لمدة 25 عاما تقريبا قبل ظهور الإنترنت، أو أي شبكة من شبكات دعم المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد ذات دور حقيقي؛ وكان هذا بالقرب من مدينة ويندول، أيداهو، والتي لم تكن الخدمة الطبية فيها متقدمة حينها.
تعرفت على لانا عبر التليفون؛ لها صوت واضح ونقي مثل شيء نضر في يوم مشرق. كانت لانا ممتنة بأن جايمي ما زالت على قيد الحياة، وقد أدرك الأطباء وجود مشكلة من لحظة ولادة الطفلة، ولكنهم لم يستطيعوا تحديد المشكلة. فهي لم تكن تأكل. وأشارت إحدى الجارات على لانا بلبن الماعز والبطاطا الحلوة - فكلاهما يسهل هضمه بالنسبة إلى الأطفال الذين يصعب إرضاؤهم، أو هكذا قالت جارتنا - لذا اشترت لانا ماعزا وحلبتها وطهت كميات كبيرة من البطاطا الحلوة؛ ففوجئت أن جايمي أحبت هذا، وأصبحت أكثر قوة. أما محاولة جعل جايمي تتكلم، فكانت أقل نجاحا؛ فقد ذهبت لانا وزوجها مايك، الذي يمتلك شركة تأمين، بالسيارة إلى لوس أنجلوس كي يتم فحص جايمي في أحد المراكز الطبية التابعة لجامعة كاليفورنيا؛ وأشار الأطباء هناك إلى ضرورة عرضها على دكتور جون أوبتز، عالم الوراثة الشهير، في ويسكونسن، وحين فحص البنت بعد بضعة أشهر، أخبر الأطباء الحاضرين أنهم لن يروا في الغالب حالة أخرى مثل حالة جايمي في حياتهم.
مرت سنتان قبل أن ينشر أوبتز وفريقه ورقتهم البحثية المبتكرة التي تحدد متلازمة القلب والوجه والجلد بوصفها متلازمة جديدة ومتميزة. واليوم الذي قرأت فيه لانا هذه الورقة البحثية كان أول مرة ترى فيها صورة طفل آخر مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد؛ فتولدت لدى لانا فكرة أن نشر الورقة البحثية هذه سيؤدي إلى ظهور فيض من الحالات غير الموثقة لمتلازمة القلب والوجه والجلد، وأن العلماء سيجعلونها تتواصل مع آباء الأطفال الآخرين المصابين بهذه المتلازمة، والعكس صحيح، حتى إنها أعطت لهم موافقة كتابية على مشاركة اسمها وعنوانها. لكن لم يحدث شيء، واحتفظ علماء الوراثة بهذه المعلومات لأنفسهم؛ لأسباب تتعلق بالحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بالمرضى. لكن حين يكون لديك طفل مصاب بمرض نادر وغير معروف مثل متلازمة القلب والوجه والجلد، فإن «آخر» شيء قد تفكر فيه هو سرية المعلومات الخاصة بك وبطفلك؛ فأنت تحتاج إلى أي مساعدة يمكنك الحصول عليها. ولكن هذا مثال للكيفية التي تجعلك بها الحياة مع طفل مصاب بمتلازمة نادرة منعزلا عن الغير.
لمدة أربع سنوات، لم تسمع لانا أي شيء عن الموضوع، وبدا الأمر كما لو أن المتلازمة قد تم تحديدها وإعطاؤها اسما، ثم ذهبت طي النسيان؛ لذا فقد فعلت الشيء الوحيد الذي يمكنها القيام به، وهو أن قضت ساعات في إعادة قراءة التقرير المنشور، وفحص الصور نفسها مرات ومرات، وبدا لها أن ابنتها مصابة بأشد الأعراض، واعتقدت لانا أن السبب في أن أحدا لم يتصل بها هو أنه لا أحد يريد مقابلة جايمي.
قبل أن تبلغ جايمي أربع عشرة سنة، اتجهت لانا للعمل ضمن برنامج «هيد ستارت»، وهو برنامج تعليمي قومي معد للأطفال من خلفيات غير مستقرة ومحرومة، وعملت في المدرسة العامة المحلية، وفي أحد الأيام وصلت رسالة من الإدارة بأن هناك طفلة جديدة ستنضم إلى فصلها، وأنها لم تبدأ المشي حتى بلغت سن الرابعة؛ مثل جايمي تماما.
بعد يومين، قابلت لانا البنت الجديدة. قالت لي لانا: «حين دخلت هذه الطفلة إلى الفصل، لم أصدق عيني، وعلى الفور قلت في نفسي: لو كنت عالمة في الوراثة، لقلت: إن هذه الطفلة مصابة بمتلازمة جايمي، متلازمة القلب والوجه والجلد.» في أقرب وقت ممكن، اتصلت لانا بأم البنت وقد شخصت حالتها أيضا بأنها مصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد من قبل نفس طبيب الأطفال الذي شخص حالة جايمي، والذي لم يخطر على باله قط أن ينقل المعلومة للانا. بدلا من ذلك، وفي مصادفة لا يمكن تصورها (لا يوجد نمط جغرافي دال إحصائيا لحدوث حالات الإصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد)، وفي مكان ناء جغرافيا في الولايات المتحدة الأمريكية، دخلت طفلة مصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد إلى فصل امرأة لديها الطفلة الوحيدة المصابة بتلك المتلازمة التي يفصل بينهما آلاف الأميال. واعتبرت لانا أن هذا شيء يشبه المعجزة، من الناحية الإحصائية أو غيرها.
بالنسبة إلى لانا، كانت هذه المصادفة مصدر ارتياح كبير لها. قالت لانا: «هناك شيء قوي ومرض بشأن معرفة سبب كون طفلك على تلك الحال والتواصل مع الأسر الأخرى الذين لديهم طفل مثل طفلك.» وبالرغم من ذلك كانت الطفلة الجديدة أكثر تقدما بكثير من جايمي من ناحية النمو، وخشيت لانا أن أمها قد تتضايق من مقابلة جايمي، وهي شخص أكبر بكثير وتواجه تحديات أكثر صعوبة، مما يعد نذير شؤم للمستقبل.
وكما هو متوقع، لم تعبر قط أم الطفلة الأخرى المصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد عن رغبتها في التواصل معها، وسرعان ما غيرت الأسرة محل إقامتها. قالت لي لانا: «لكني تعاملت مع الطفلة، ورأيت أن هذه حالة متلازمة حقيقية.»
قبل أن تبلغ جايمي الحادية عشرة من عمرها، كانت رعايتها تمثل عبئا كبيرا على لانا وزوجها (خاصة أن لديهما ثلاثة أطفال آخرين)، وذهبت لتعيش في إحدى دور رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة المتميزة في الولايات المتحدة الأمريكية، في أيداهو. قالت لانا: «كان هذا الأمر الأكثر تأثيرا في والأصعب علي في حياتي؛ إذ كان هذا مثل ثقب أحدثته في قلبي، وأرى أنه جزء من الصعوبة التي واجهتني حين فكرت في إعادة محاولة التواصل مع مجتمع متلازمة القلب والوجه والجلد.» وهو ما كان يذكرني باستمرار بأن الآباء الآخرين يعيشون مع أطفالهم المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ويمكنهم التعامل مع مشكلات المتلازمة.
عاشت جايمي في دار الرعاية لمدة 19 عاما، حتى بلغت سن الثلاثين، وكانت ترى والديها كل عطلة نهاية الأسبوع، بالرغم من أنهما يعيشان في مكان يبعد ثلاث ساعات بالسيارة. لكن قبل عام من التواصل مع لانا، مرضت جايمي؛ أصيبت بخليط معقد من الالتهاب الرئوي الإنتاني والوذمة اللمفاوية طرحها على فراش الموت لأربعة أشهر في وحدة العناية المركزة، وحين تعافت في النهاية، أخرجها لانا ومايك - وقد بلغا من العمر حينها 61 عاما و62 عاما على التوالي - من دار الرعاية، وعادا بها إلى البيت لتعيش معهما، بمساعدة اثنتين من مقدمات الرعاية اللتين تعملان بدوام كامل، وتدفع لهما الدولة ومايك من أرباحه من شركة التأمين. قالت لي لانا: «في عنبر الرعاية المركزة، بدا الأمر لي تقريبا كما لو أني أنظر إلى شخص غريب، وأظن أني لم أحب هذا الشعور.» أرادت أن تحمي ابنتها. وفي وحدة العناية المركزة، أعطوا جايمي كمية من المورفين تكفي لتخدير شخص يزن 225 رطلا ليوم كامل، ولكن مفعول المورفين انتهى بعد ساعتين؛ لذا خلعت أنابيب المحاليل الطبية. كانت تبلغ من الطول أربع أقدام وتسع بوصات وتزن 96 رطلا، ولم تستطع الكلام ولم تتدرب تدريبا كاملا على استعمال الحمام، ولكن كانت تمتلك إرادة حديدية.
أعطت عودة جايمي بعد عقدين من الزمن تقريبا في دار رعاية لانا نظرة جديدة. قالت لي: «لم أعد أعيش حياتي من منطلق الخوف كذي قبل.» والآن جايمي في البيت طوال الوقت، وأدرك مايك ولانا أنها تفهم أكثر مما كانا يظنان؛ فلديها إشارات مفضلة لكلماتها المفضلة، ك «حذاء» و«أكثر». ولا يدري أحد السبب لكن يبدو أن هاتين الكلمتين هما المفهومان الأكثر إشباعا في حياتها الغريبة، شيء ترتديه كل يوم، وشيء ترغب فيه. قالت لانا: «تحصل على نتائج كثيرة جدا من إشارة «أكثر»!» وجايمي - التي لديها «عقلية» (كما تطلق عليها لانا) شخص يبلغ من العمر من 18 شهرا إلى عامين - تحب الرجال، «ففي الكنيسة مثلا، عندما ترى شابا حسن المظهر يعجبها، أو رجلا أكبر سنا، تجري نحوه وتمسك بذراعه وتقهقه.» كانت جايمي تبلغ من العمر 33 عاما عندما حكت لي أمها هذه القصة.
لكن لانا لا تمانع في هذا. وقالت: «أشعر الآن بأنني أصبحت الشخص الذي طالما أردت أن أكون في الحياة؛ فأنا أتعامل مع الأطفال الصغار، وتعلمت الصبر والتعاطف للتواصل مع الناس بغض النظر عن شكلهم، وكان كل هذا بسبب جايمي.» وتوقفت برهة تفكر ثم واصلت الحديث. هي مورمونية مخلصة، وأخذت تتحدث عما يطلق عليه أعضاء طائفتها «الخلود في الحياة الآخرة»، والجنة وعدالة الرب. «يوما ما ، سيكون لها جسم كامل وعقل كامل.»
من منا لا يريد الإيمان بذلك؟ فجايمي امرأة كبيرة بعقل طفل، غيرت حياة لانا بالرغم من أنها عاشت حياتها سعيدة من دونها، وقد بدأ هذا التغيير - كما تتذكر لانا - يوم دخلت عليها في الفصل طفلة أخرى مصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. قالت: «بالنسبة إلي، كان هذا اللقاء مهما جدا.»
باعتباري ملحدا تقليديا إلى حد ما، لم ترق لي فكرة الخلود وبعض الكلمات مثل «معجزة»، ولكن يبدو أنها تقوم بدور مهم في حياة كثير من الناس الذين يتولون رعاية أطفال من ذوي الإعاقة، وهم يجدون في فكرة أن الرب اشتملهم بعنايته سبيلا لاستيعاب ذلك العبء الذي ألقي على كاهلهم.
الفصل التاسع
كنت أميل للاتصال تليفونيا بآباء الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد في المساء، كنت بحاجة إلى استجماع شجاعتي والاستعداد لذلك بينما اليوم يمر بطيئا، وكنت أخشى مما سأسمعه؛ كأن أسمع أن هذا الطفل أكثر حظا من ووكر، أو أن هؤلاء الآباء أكثر تفانيا في خدمة أبنائهم مني، ومع ذلك لم يحدث قط هذا؛ فلم يكن أحد أكثر حظا من ووكر. وإذا كان شخص ما يتمتع بميزة في هذا العالم الغريب لذوي الإعاقة الشديدة، فلا بد أن لديه عيبا ما في أمر آخر. الأوهام كانت نادرة: كانت ظروف هؤلاء الآباء قاسية، ولكنها كانت واضحة، وللوضوح جاذبية نادرة.
لذا كنت أتصل بهم تليفونيا، وأحيانا كنت أسافر إليهم لمقابلتهم، فكانوا يحكون لي قصة حياتهم، ويخبرونني بأهم أحداثها. ***
كانت شيلي جرينهاو تعيش في مدينة أوكلاهوما سيتي، وتتحدث بإحدى لكنات أوكلاهوما المتشعبة العديدة. وهي أم لفتاتين إحداهما تدعى كينلي تبلغ من العمر خمس سنوات، وهي مصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد، والأخرى تدعى كامدين تبلغ من العمر أربع سنوات، وكانت تعاني على ما يبدو لشيلي من اضطرابات طيف التوحد. أذهلتني فكرة وجود طفلين معاقين في البيت، ولكن شيلي كانت تتمتع بشخصية مذهلة في كثير من الجوانب. لعبت في فريق السوفتبول بالجامعة («بدأت باللعب كمدافعة في الجانب الأيسر للملعب، ولكن عندما أصبحت في السنة الثالثة، أصبحت ماسكة للكرة»)، وحصلت كذلك على لقب ملكة جمال اللطف في مسابقة ملكة جمال المراهقات في أمريكا في عام 1995، والتي دخلتها من باب التسلية فقط، وبعد إنهائها لدراستها الجامعية، ذهبت لتعمل لدى شركة لتوريد أدوية، ما زالت تعمل فيها في قسم المبيعات. كانت شيلي نوعية مختلفة لم أكن أتوقعها من الأمهات اللاتي لهن طفل معاق.
سألتها: «كيف تتصرفين حيال ذلك، مع وجود بنتين على هذه الحالة؟» «أحيانا أرى أن ليس لدي خيار آخر.» لقد رأت أطفالا في حالة أسوأ، وشعرت أنها محظوظة أن لديها «طفلة تستطيع المشي، وأخرى تستطيع التحدث.» كانت مسيحية وهذا ساعدها، على حد قولها. ثم أقرت بأنها مرت أيضا بأيام عصيبة، وهذه الأيام لا يمكن فصلها عن الأيام الطيبة.
قالت: «أدرك أنهما تدخلان كثيرا من السرور على حياتي، وأعرف أنهما بنتان كاملتان من الداخل، وأعتقد فعلا أنهما ليستا خطأ وراثيا. أحيانا تبدوان كذلك في عقولنا بسبب الحدود المصطنعة التي نضعها نحن البشر، ولكنى أرى أننا جميعا لدينا طفرات جينية، لكنها ليست واضحة تماما في شكلنا الإكلينيكي. وقد غيرت هاتان البنتان من أسلوب حياتي؛ غيرتا طريقة تواصلي مع الآخرين وتعاملي مع الناس.» كانت تقدر هذه التغييرات. ثم أضافت: «لم تعد تخيفني الحياة، ولا أخاف من المجهول.» أخبرتني أنها عندما تقابل شخصا يجلس على كرسي متحرك في مركز تسوق الآن، فإنها تريد أن تجري إليه وتعانقه. «أنا مصممة على الاستمرار في هذا الأمر حتى النهاية. حقا إنها قيمة لا يقدرها كثير من الناس.»
توقفت للحظة، ثم قالت إنها لا تعرف فعلا سببا لتملك اليأس منها في بعض اللحظات. «بنتاي الصغيرتان أروع مثال أعرفه للإيثار وطيبة النفس، ومع ذلك وفي الوقت نفسه لدي شعور عميق بالضياع من أجلهما، ولا أستطيع أن أفصل هذا عن شعوري أنا بالضياع، وأن بعض آمالهما قد تتبدد، وأنهما قد لا تحصلان على نفس القدر من القبول المجتمعي كالذي حصلت عليه.»
قالت إن النور الذي أدخله بنتاها في حياتها، والظلام الذي يحوم حولهما وحول مستقبلهما ، يسيران جنبا إلى جنب، لا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر. ولم يكن الشيء الأصعب في قبوله بالنسبة إليها المصاعب التي تواجهها طفلتاها، وإنما كونها لم تدرك - حتى رزقت بطفل معاق - كيف أن الحياة معقدة، وكيف أنها كئيبة وفي الوقت نفسه غنية. ومجرد وجود كينلي (وكذلك ووكر، كما أدركت) يعد شكلا من أشكال الاعتراض، وتذكرة لك بأن تعمق النظر، أو على الأقل أن تكون متيقظا. «أنظر إلى بنتي، وأفكر فيمن يقول إنهما ليستا أسعد في عالمهما مني في عالمي! ومن هنا أشعر بالحزن عليهما؛ لأني أحاول الحكم عليهما بمعايير عالم ليس بعالمهما.» أخذت تبكي لبعض الوقت الليلة السابقة، وتتحدث إلى زوجها عن إنجابها طفلا آخر. «أصابتني نوبة بكاء طويلة، ولا تأتيني هذه النوبات في الغالب، ولكن حين تأتيني فاحترس. هناك أيام كنت أرفض بشدة فكرة الإنجاب. هل أصابك الجنون؟ حين أفكر في إمكانية إنجاب طفل آخر من ذوي الاحتياجات الخاصة. ولكني حينها أفكر كيف أن الرب أكرمني كثيرا بهاتين البنتين، ولعل طفلا آخر يمكن أن يمثل كرما أكبر، ولعلي أستدعى إلى نداء أعلى. ثم تكون هناك أيام أفكر فيها، يا إلهي! كأن الأمر مثل لعب الروليت.
الآن أرى أن كينلي علمتني دون جهد منها كيف أحيا حياة سعيدة، بالرغم من الظروف القاسية، وأن أستخدم وقتي بحكمة، وألا أقلق من الغد أكثر من اللازم، وأن أستمتع باليوم، وعلمتني ألا أهتم بالأشياء التافهة، وساعدت في تكوين رؤيتي للحياة، كما ساعدتني في إدراك أن كل شخص لديه شيء يمكن أن يسهم به، وشيء يتعلمه من أكبر عدد ممكن من الناس، بغض النظر عن قدرتهم وعرقهم ودينهم. وعلمتني ألا أهتم بنفسي فقط، وأن أدرك أن الحياة أكبر مني. أعتقد أنني قد تعلمت منها أيضا أننا معتمدون بعضنا على بعض بدرجة كبيرة، وأني بحاجة إلى هاتين البنتين بالقدر نفسه الذي هما بحاجة إلي به.» ***
كانت ديانا زيونن تعيش في ويلمينجتن، بنورث كارولينا، وكان ابنها روني يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، وهو أحد الأطفال المتأخرين تأخرا كبيرا في شبكة بريندا كونجر لمتلازمة القلب والوجه والجلد. كان هدفه في تلك الأيام أن يأكل بنفسه، وأصبحت حياته تنحصر في طلب شيء غير عادي، لكن هذا الطلب - القدرة على الأكل بنفسه - بدا مطلبا يسيرا. كان لدى زوج ديانا، وهو ميكانيكي سيارات، طفلان من زوجة سابقة، وأنجبت ديانا منه روني. قالت لي ديانا: «هو نتاج لربط القناة المنوية بعد فصلها؛ لذا فقد كانت هناك رغبة شديدة في إنجابه.»
مرت بفترة حمل عادية، ولكن حين ولد روني، وجدوا أن أطرافه تكون تارة مشدودة وتارة ساكنة أو مثل الجيلي، وشخص الأطباء حالته بأنها شلل دماغي. لم تصدق ديانا الأمر، «صحيح أنه لم يكن يتدحرج أو يجري تواصلا بالعين، مثل الأطفال الآخرين المصابين بالشلل الدماغي، ولكنه لم يكن مثلهم، وبالطبع ليس هناك اختبار وراثة للتأكد من ذلك.» وفي غضون ذلك، عانى من مشكلات طبية لا حصر لها جعلتها تتساءل: «لماذا يصرخ؟ لماذا يبكي؟ ذهبنا إلى أطباء متخصصين في أمراض الجهاز الهضمي والأمراض الجلدية ولم نصل إلى شيء.» كان يضرب نفسه طوال الوقت، كما لو أنه مصاب بمرض التوحد، وحين بلغ روني الرابعة من عمره، اطلعت ديانا على ورقة بحثية بها صور لأطفال يشبهونه تماما؛ فاستطاعت بهذه الطريقة أن تعرف بمفردها أن روني مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد. قالت لي ديانا: «ما زلنا نطعمه بالملعقة.» وأعلم ماذا يعني هذا الأمر. «ما زال يضرب نفسه. بالنسبة إلي، كان هذا يعني تواصلا من جانبه» (كما ذكرنا من قبل). «يقول الناس: إن ضحكته معدية، ويقولون لي إنه يعرفني، ولكني لا أدري إن كان هذا صحيحا أم لا! ويحزنني فكرة أنه لا يعرفني» (صحيح). «أنت دائما تريد كلمة «ماما» هذه» (صحيح). ***
يعد الحديث إلى آباء الأطفال الآخرين المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد أمرا يبعث على الطمأنينة - بأن هناك شخصا آخر يعرف الوضع - ولكنه أيضا مثبط؛ أن ترى قلقك ينتقل، بالتدريج، إلى شخص آخر، وكأن هناك شبكة محكمة من الوحدة والعزلة قد وقعنا جميعا فيها ، ولا نستطيع الفكاك منها.
كان فيرجس وبرنيس ماكان يعيشان في بيرنبي، بكولومبيا البريطانية، على أطراف فانكوفر، مع ابنتهما ميليسا. ولدت ميليسا في عام 1985، قبل نشر أي أوراق بحثية حول المتلازمة، وفي مجتمع متلازمة القلب والوجه والجلد المعروف لنا، وفي سن الثانية والعشرين، كانت واحدة من المصابين القدماء بالمتلازمة، وقد قضت بعد الولادة 47 يوما في الحضانة قبل أن يسمحوا لها بالذهاب إلى البيت! 47 يوما لتثبت أنها يمكنها البقاء على قيد الحياة قبل أن يتم تسليمها إلى أبويها، إضافة إلى اللغز الغريب المتعلق بكيفية إبقائها على قيد الحياة بأنفسهم. لم تكن هناك حالة سابقة على حالة ميليسا في النظام الطبي شديد البيروقراطية في مقاطعتها؛ مما أدى في البداية إلى عدم إحالتها للعلاج الوظيفي أو العلاج الطبيعي.
قال فيرجس: «رأينا كثيرا من فقدان القيم هذا، وكثيرا ما حرمنا من الرعاية الطبية. وفي ذلك الوقت، كانت متلازمة القلب والوجه والجلد مجرد متلازمة تم اكتشافها وتوصيفها. كما تعلم: «أوه، حسنا، هي تتضمن هذا وذاك».»
كانت ميليسا بالغة، ولكنها كانت تتصرف بمستوى ذكاء من عنده سنتان أو ثلاث؛ فيمكنها مثلا إحضار كوب لبن من الثلاجة، ويمكنها الأكل، ولكن لا يمكنها أن ترتدي ملابسها بنفسها، وكانت تعض يديها حين تشعر بالإحباط. كانت تستطيع أن تخبر أمها أين يوجد التليفون المحمول، لكن لا يمكنها الاعتماد على نفسها في الأمور الحياتية. وغالبا ما كان الغرباء يخافون من ميليسا؛ فهي صلعاء تقريبا، ولديها وحمات دموية - أورام جلدية وعائية خمرية اللون - بين عينيها. (أشار بعض الأطباء على والديها بإزالتها، في حين أشار آخرون بتركها كما هي.)
كنا نتحدث عبر التليفون؛ كانت برنيس في المطبخ على ما يبدو مع ميليسا، تتحدث من خلال مكبر صوت التليفون، بينما كان فيرجس يتحدث عبر وصلة تليفون في حجرة أخرى. قالت برنيس: «أرى أننا غير راضين إلى حد كبير عن الرعاية الطبية المتاحة لشخص مثل ميليسا.» وبدا صوتها منهكا، كما لو كانت تحمل حملا ثقيلا. «لا يستطيع طبيب الأطفال العمل معنا، ولا يرى فائدة كبيرة من وراء ذلك، وظل يسألنا السؤال نفسه: هل غير أي شيء حياة ميليسا على المدى القصير، أو على المدى الطويل؟ لا. ولكنه كان بالتأكيد فضوليا ومهتما. بالنسبة إلينا، بدا لنا أن العاملين في مجال الطب يشبعون فضولهم فحسب.» كانت ميليسا تمثل عينة، ولكنها كانت تتمتع بشخصيتها المستقلة، وحضورها البارز وذاكرتها المدهشة؛ فلم تزل تستخدم ال 30 إشارة التي تعلمتها وهي طفلة، وكان يمكنها الاختيار، وكان لديها أشياء واضحة تحبها وأخرى تكرهها، خصوصا فيما ترتديه. قالت أمها: «لا يبدو حتى أنها نظرت إلى هذا الشيء، ولكنها لن ترتديه.» وهي لا تختلف في هذا عن كثير من البنات الأخريات في سن المراهقة.
قال فيرجس حينها، عبر وصلة التليفون: «تتعاطف ميليسا بشكل كبير مع الناس، ومع الكلاب والحيوانات.» صدمت مرة أخرى بطريقة أصبحت مألوفة لدي؛ إذ أحزن كثيرا حين أسمع أبا يتحدث عن ابنته بهذه الطريقة، يسعى للبحث عن أشياء لطيفة يقولها فينتهي به الأمر إلى ذكر تعاطفها مع الحيوانات الأليفة، مثل سمكة سحبها لدهشته من نهر سريع. أتفهم هذا، صدقني أتفهمه، ولكن هذا كان يحزنني على أي حال، وكانت كل الحوارات التي أجريتها مع آباء الأطفال الآخرين المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد مثل هذا.
ما كان يدفع فيرجس للجنون بشكل خاص هو أنه بسبب ميليسا، لم يسمح له بأن تكون لديه الدوافع والرغبات نفسها مثل بقية العالم؛ لأن كونك تمتلك طموحات عادية لحياتك يعني أنك تضع نفسك أولا، ولو للحظات، قبل طفلك الذي يستحوذ على كل حياتك.
سألتهما: «ما عاقبة ذلك عليكما؟»
فقالت برنيس: «استمر يا حبيبي.» كان هذا بالفعل حوارا مألوفا.
قال فيرجس: «أرى أن هناك عاقبة أمام حياتنا المهنية؛ فلم يتمكن أي منا أن يغير عمله، ويحصل على تعليم أكثر. حاولت بالتأكيد تحسين مسار حياتي المهنية، ولكني لم أستطع العمل لمدة 70 ساعة في الأسبوع.»
انضمت برنيس إلى الحوار قائلة: «ولا نضحك كثيرا في هذا المنزل. صحيح أن ولدينا يضحكان، ولكنهما ليسا سعيدين. يبلغ أحدهما من العمر 20 عاما والآخر 22 عاما. وحين كانا في عمر 18 عاما، كانا يغيران حفاضات الحيض لميليسا. أي فتى يبلغ 18 عاما يمكن أن يفعل ذلك؟ على الأقل أعلن أحد أخويها علانية أنه لا يخطط لإنجاب أطفال؛ فقد حدد بالفعل مسار حياته بهذه الطريقة، مع أخته.»
في الخلفية كنت أسمع ميليسا تئن قليلا، وتساءلت في نفسي إذا كان قد أصابها الحرج.
قالت برنيس لابنتها مشيرة إلى أخويها: «نعم، هما ليسا هنا، وليسا على وشك المجيء.»
ثم قال فيرجس: «يرى نظامنا في المقاطعة أنه حين يكون لديك طفل معاق، فعلى أسرتك أن تتولى المسئولية، فهم يصعبون الحصول على أي دعم مادي، ودائما ما يكون للآباء أو الأطفال المعاقين طلبات، فترد الحكومة: «حسنا، لا يمكننا تلبية جميع طلبات كل فرد.» في رأيي إن نظام الدعم بالكامل متشابك مع نظام الرعاية الاجتماعية.» إن السبب في إعاقة ميليسا هو سلسلة من الجينات المعيبة، ولكن يرى فيرجس أن الناس تتشكك في تكلفة رعاية المعاقين مثلما يتشككون في تقديم الرعاية الاجتماعية للعاطلين والفقراء، وكان الأمر يبدو كما لو أن بعض الناس يرون، بما في ذلك الحكومة (بما أنها تصعب الحصول على الدعم النقدي)، أنه يمكن أن يتوافر لفيرجس الوقت أو الرغبة، وسط جحيم رعاية طفل معاق، في محاولة استغلال هذه الإعاقة في الاحتيال على الحكومة ودافعي الضرائب.
لم ينجح البديل الذي وفرته حكومة الولاية - الذي يقوم على الاعتماد في رعاية الأطفال المعاقين على العائلات الممتدة، وعائلة ماكان واحدة من هذه العائلات الممتدة؛ إذ تتكون من 44 عضوا من طرف برنيس، و8 أعضاء من طرف فيرجس، ولم يعرض أحد منهم على الإطلاق أخذ ميليسا في عطلة نهاية الأسبوع. وبغض النظر عن شعور المرء حيال ذلك (بدت برنيس غاضبة قليلا: «لم يقدموا أي مساعدة خلال 21 عاما».) ليس هذا أساسا لسياسة عامة. قال فيرجس: «على الحكومة أن تلبي ما تحتاجه أسرتك، فالعدل ليس معناه المساواة بين الجميع؛ فلكل شخص احتياجات مختلفة.»
مع ذلك، فالتوازن الدقيق بين ما يمكن أن تطلبه وما تستحقه، ومقدار استحقاقك له، كان دائما من أولويات عائلة ماكان . لم توافق حكومة كولومبيا البريطانية على أن تدفع لاثنين من موظفي الرعاية اليومية للعيش مع عائلة ماكان، إلا بعد توسل فيرجس وبرنيس إليها وتملقهما لمسئوليها، وذلك لفترة طويلة. وقد جربا ذلك الأمر لبعض الوقت، ولكن في أحد الأيام وصلت برنيس إلى البيت لتجد أن الأثاث قد تغير ترتيبه، وفي مساء يوم آخر اكتشفت أن موظفي الرعاية قد حلقا شعر رأس ميليسا القليل حتى لا تكون لافتة للنظر. وحين أخبرتني برنيس بهذه الحكايات، حتى أنا تعجبت أنها لم تطلب المزيد؛ فلديها طفل معاق إعاقة شديدة، والحكومة كانت تريد أن تدفع لمساعد خارجي للإقامة في منزلهم لرعاية هذه الطفلة: شيء أفضل من لا شيء. ربما يجدر بها إظهار بعض الامتنان! ولكن كلما أفكر في هذا الأمر، تبدو الحجة ضعيفة؛ إذ كيف يمكن أن يعتبر أحد تحمل الحكومة لتكلفة حضور شخص غريب متسلط إلى منزلك لرعاية ابنك منحة تحت أي ظرف؟
كانت ميليسا حالة شاذة، حالة شاذة مقلقة، والحالات الشاذة المقلقة لا تجيد البيروقراطيات السياسية التعامل معها. يمثل المعاقون تحديا لشعور الشخص الراسخ بالنظام: فهم يخيفوننا، إن لم يكن بوجوههم، فبحاجتهم الواضحة؛ فهم يطلبون منا أن نكون أكبر مما نتصور أن نكون. وتعد طبيعة إعاقة ميليسا في حد ذاتها مشكلة لا يمكن علاجها، وعلامة على الضعف والفشل، لا يوجد حل واحد دائم يصلح للجميع، مهما حاولت البيروقراطية أن تكون عملية وكريمة. مسئولو الرعاية اليومية! التمويل حسب القدم المربعة لكل مؤسسة! دور رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة! كل هذه الأفكار جيدة، وكلها مكتوب عليها الفشل، حتما، بالنسبة إلى شخص ما. بالطبع أردنا كلنا حلولا، البيروقراطيات والآباء على حد سواء؛ أردنا كلنا أن نحرر أنفسنا من مواجهة الحقيقة الأكثر سوءا، وهي أن كل إعاقة هي حالة شخصية وفريدة، وربما «غير قابلة للعلاج».
ووكر حقيقة، وسيكون على ما هو عليه طيلة حياته؛ فهو يمثل أشياء كثيرة لي، ليس أقلها أنه يذكرني بضعفي وخوفي. يمكنني الاعتراف بإخفاقاتي، في داخل عقلي، ولكن لا تستطيع البيروقراطية الاعتراف بإخفاقها؛ لذا بدلا من ذلك يصبح الحل الذي تقدمه البيروقراطية هو الحل الأوحد، الذي يطبق دون نظر لخصوصية الحالات. هذا هو التاريخ الذي لا مفر منه للتأخر العقلي والمرض النفسي على السواء. بعد خمسين عاما على تأليف فيليب بينيل «بحث حول الجنون» في عام 1801، والذي أدى إلى ظهور المصحات النفسية، كان واحد من كل عشرة من قاطني باريس يقضون بعض الوقت في واحدة من تلك المصحات، وكانت المصحات النفسية الحل الأوحد الذي يناسب الجميع في ذلك العصر.
لكن أهم ما كان يفتقده فيرجس وبرنيس ليس المال أو المساعدة، ولكن الخصوصية. فقد دفعتهما ميليسا إلى الانضمام لنظام الرعاية الحكومي، وأجبرتهما على المحاربة من أجل الحصول على ما تحتاجه. كانت ميليسا معاقة ولكن رعايتها أعاقت بدورها برنيس وفيرجس. قال فيرجس: «إذا كان لديك طفل معاق، فلن ترى العالم يسير حولك بنفس الطريقة التي يسير بها إذا كان لديك طفل طبيعي؛ فأنت تحارب من أجل الحصول على ما تريد، وتضع نفسك في المواقف المحرجة تلك، وتفقد الكثير. وقد فقدنا الحق في أن نكون أسرة وأن نتمتع بالخصوصية فيها.»
لا شك أن فيرجس وبرنيس قلقان لما سوف يحدث لميليسا بعد موتهما، وقد وضعا خطة بمقتضاها يمكن لميليسا أن تعيش في بيتها مع وجود ثلاث شابات يقدمن لها المساعدة. وقد اشتريا لها بيتا جميلا، ضعف حجم بيتهما تقريبا، بتكلفة 573 ألف دولار. (قال فيرجس: «هذا للأسف كل ما ادخرته لمدة 25 عاما».) ولدى الحكومة برامج تتحمل تكلفة توفير مرافقين لمساعدة ميليسا، ويشرف على إدارة البيت مجلس إدارة يشترك فيه شقيقا ميليسا.
حين تحدثت إلى برنيس وفيرجس، كانا «ينقلان» ميليسا إلى بيتها الجديد، إلى حياتها الخاصة، ويبدو أنها تستمتع بالمشهد. سينتقل أخواها كذلك، وفجأة سيخلو البيت إلا من فيرجس وبرنيس. قال فيرجس: «لم نكن نتوقع أن يحدث هذا بهذه السرعة، ولكنهم قرروا جميعا أن يقوموا بذلك على الفور.» وبعد سنوات من التوق إلى العيش بمفرده هو وزوجته عندما كان لا يمكنه ذلك، سيتمكن من ذلك قريبا، لكن المدهش أنه كان يشعر بالكآبة!
كان جزء مني يريد أن يقول لفيرجس: «حسنا، لقد حصلت على ما تريد.» لا يمكن أن أقول هذا لأب عادي لديه أطفال عاديون يئس لسنوات من الاختلاء بنفسه للحظة، ثم أصبح يفتقد أطفاله حين بدءوا في الرحيل عنه، ولكن فيرجس وبرنيس أرادا إشعار العالم بمحنة ابنتهما. حتى أنا، الذي يستوعب الأمر بشكل أفضل، أردت أن أراهما يعانيان؛ لأنهما جعلاني أشعر بمعاناتهما. ***
هناك دائما قصة أخرى تفوق سابقتها. وبالرغم من صعوبة حياة شخص ما - وأنا غالبا ما يكون علي تشجيع الناس على الشكوى، ويكون الدافع لدي قويا جدا للظهور بمظهر عدم المتأثر - فهناك على الدوام شخص ما آخر يجد الحياة أصعب.
ما زالت أنجي ليديكسن تعيش في البلدة التي نشأت فيها في كونيتيكت. كانت تبلغ من العمر 42 عاما وتعمل مديرة لعيادة أسنان. كان لديها ولدان؛ إريك يبلغ من العمر عشر سنوات، ولوك يبلغ من العمر ثماني سنوات، وهو مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد. قبل ولادة ابنها الأول، كانت «تتوق» لتكوين أسرة؛ فقد مرت بثلاث حالات إجهاض وفي النهاية لجأت إلى أدوية زيادة الخصوبة. وفي حالة ابنها لوك، حملت به سريعا تماما في الوقت الذي أرادته. قالت لي: «أردت أن يكونا متقاربين في العمر.» وكان حملها في لوك «أكثر من ممتاز»، حتى عندما ذهبت إلى غرفة الولادة قبل موعدها بأسبوعين قدر الأطباء أنها جاهزة للوضع. قالت: «دائما ما كانت مشكلتي مع مرات الحمل هي الوصول لنهايتها بسلام؛ لذا حين اقتربت ولادة لوك، لم أكن أتوقع أن حياة أخرى كاملة ستبدأ.» مكافأة غريبة للمثابرة.
تبدلت حياتها في لحظة. «من اللحظة التي خرج فيها إلى الحياة، بدأت المعاناة. فبمجرد أن خرج ووضعوه في حضني، علمت أنا وزوجي أن هناك مشكلة ما فيه؛ فهو لا يتواصل معنا.» أخذوه على وجه السرعة إلى وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة، وفي تلك الأثناء بدأت أمه تنزف بشدة في غرفتها بالمستشفى وأغمي عليها، وحين مرت عليها الممرضة، أغمي عليها هي الأخرى. هذا يوم مشهود، في كل شيء. تحدت حالة لوك الأطباء، ولم يتمكن أحد منهم من تشخيص علته، وأخذته أنجي إلى مستشفى الأطفال في بوسطن وإلى العديد من مراكز الرعاية الصحية في كونيتيكت لمدة ثلاث سنوات قبل أن يشخص أحد الاختصاصيين حالته بأنها متلازمة كوستلو، فتقبلت التشخيص مع بعض التحفظات؛ فهي لم تر أنه يشبه الأطفال الآخرين المصابين بهذه المتلازمة بدرجة كبيرة، ثم بعد ذلك قرأت مقالا في مجلة «روزي»، واتضح أن هذا المقال كتبته زوجتي، وحين قرأت أنجي وصف جوانا لووكر، أخذت لوك والمجلة على الفور إلى طبيب الأطفال وسألت: هل كان محتملا أن يكون لوك مصابا بمتلازمة القلب والوجه والجلد وليس متلازمة كوستلو؟ ولكن الطبيب لم يلق بالا. قالت: «طلب مني أن آخذه إلى البيت وأن أحبه، وقال: «تقبليه على ما هو عليه.» لذا لم أذهب لهذا الطبيب ثانية.»
شرعت في بحث طويل ومضن من أجل الوصول لتشخيص أدق، وحاولت لقاء جون أوبتز، ولكنه كان مشغولا ولم ير لوك إلا بعد عام. «عام!» وفي النهاية قابلته في مدينة سولت ليك سيتي، ولكنه لم يقرر أن لوك مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد؛ إذ كانت تبدو عليه أعراض المتلازمة بصورة «أقل» من أي طفل مصاب بها (لاحظت أنجي ذلك بنفسها)، و«لم ترق له حقيقة أن لوك لديه حاجبان»؛ إذ إن 95 في المائة من الأطفال الذين تظهر عليهم أعراض متلازمة القلب والوجه والجلد ولهم حواجب، يتضح أنهم مصابون بمتلازمة كوستلو. بالنسبة إلى ليديكسن، تبدو هذه الأحكام تخمينات.
انتقلت في مشقة كبيرة بابنها إلى المؤتمر السنوي للأطفال المصابين بمتلازمة كوستلو، رغم أنها كانت لا تزال ترى أنه ليس مصابا بتلك المتلازمة. وفي الزيارة الثانية، عام 2005، قابلت باحثا من مركز السرطان الشامل في سان فرانسيسكو كان يسعى إلى عزل الجينات المسئولة عن كل من متلازمتي كوستلو والقلب والوجه والجلد، وحين أخضع لوك لاختبار متلازمة كوستلو، اتضح بالفعل أنه ليس مصابا بهذه المتلازمة. وكانت ليديكسن «مدمرة تماما. كنا نريد بصورة ملحة أن نستقر على تشخيص محدد، بدلا من ذلك فقد رجعنا إلى المجهول مرة أخرى .» وبعد بضعة أشهر، وكجزء من الأبحاث الرائدة لكيت روين عالمة الوراثة في كاليفورنيا، تأكدت إصابة لوك بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولكنه كان أسوأ حالا من معظم الأطفال الآخرين المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فهو لم يكن يتكلم (بالرغم من تأكيد ليديكسن على أن «سمعه جيد جدا»)، ولم تكن متأكدة من قدرته على الرؤية (فقد كان يشاهد برامج الأطفال الصغار في التليفزيون من على بعد بضع بوصات فقط)، وحتى يومنا هذا يحتاج إلى مشاية ليذهب هنا أو هناك، ويفضل الزحف، وفي سن الثالثة بدأ يكبر فجأة حيث دخل في مرحلة بلوغ مبكر، (وهو مظهر نادر ولكنه ملحوظ من مظاهر متلازمة القلب والوجه والجلد؛ كما لو أن المظاهر المعتادة للمتلازمة لا ترهقه بما يكفي. على لوك الحصول على جرعة علاجية خاصة بالغدة النخامية كل ثلاثة أسابيع، لضبط مستوى الهرمونات إلى أن يكبر في السن). وعلى عكس معظم المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فإن لوك طويل؛ ففي سن التاسعة، كان طوله خمس أقدام وإحدى عشرة بوصة، وانخفضت حدة مشكلاته القلبية (مثل ووكر)، ولكنه (مثل ووكر أيضا) كلما كبر في السن، بدأت تصيبه نوبات. تعرف لوك على أمه وأبيه وإخوته وجدته؛ فهو ودود جدا، بالرغم من أن هذا لم يبدأ حتى بلغ سن الخامسة (مثل ووكر). وقبل ذلك (مثل ووكر) كان يفضل البقاء وحده. قالت أنجي: «يمكن أن أقول: إن عمره العقلي يتراوح بين 15 و18 شهرا. هو بالتأكيد أقل من سن الثانية من الناحية العقلية، ولا يتواصل لفظيا على الإطلاق، هو يضحك ويلعب، ولكنه لا يلعب بكثير من الألعاب.» ومثل ووكر، أحب خلع قبعته مرات ومرات، وإحراج من يحاول أن يجعله يلبسها. قالت أنجي: «أرى أن لوك في الأغلب سعيد. وحين يبكي، فهو عادة ما يبكي لسبب، وفي رأيي هذه النوعية من الحياة جيدة غالبا؛ وأرى أنه سعيد في عالمه الخاص الصغير، وفي الأغلب أنا سعيدة لأنه سعيد. أحيانا يفطر هذا الأمر قلبك؛ لأنه محصور في عالمه الخاص الصغير. ولكن في أحيان أخرى أتساءل إن لم يكن الوضع جيدا هناك، وأحيانا - لأنه يذهب للنوم بابتسامة ويستيقظ بابتسامة - أميل للاعتقاد بأنه سعيد طوال الوقت. أميل للاعتقاد بأنه كذلك.»
هذا اعتقاد مشترك بين آباء الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وما جعله بارزا في أنجي ليديكسن أنه قبل أن تعبر لي عن هذا بستة أشهر، وذلك في شهر مايو عام 2007، تأكد لها أنها مصابة بسرطان الرئة، ولكن صحتها كانت أقل أهمية بالنسبة إليها من قيمة ابنها بالنسبة إلى العالم.
أخبرتني في ذلك اليوم، حين علمت أنها على مشارف الموت: «يا إلهي! لقد وهبنا الكثير، وعلمنا كيف نتقبل الحياة كما هي، ونتعامل معها حسبما تكون. يمكنك إما أن تستسلم للروتين المفروض عليك، أو تستجمع قواك وتسير في الحياة على أفضل ما يكون بقدر ما تستطيع. في ذلك الوقت [بعد ميلاد لوك]، غيرنا طريقنا في الحياة تماما، فاشترينا سيارة تخييم وكنا نذهب في رحلات تخييم؛ لأنه يحب ذلك. ومن الأشياء المهمة التي علمنا إياها لوك هو قبول اختلافه، وألا نخاف منه، وهذا يختلف تماما عما كنا عليه ونحن أطفال؛ إذ كنا دائما نبتعد عن الأطفال المعاقين، ولكن اليوم يلعب الجميع معهم.» ولوك معروف في مدرسته بالعمدة، «وطوال الوقت كنت أفكر، إذا كان يمكنه فعل ما فعله فأنا أيضا أستطيع فعل هذا.» وهي تقصد تعاملها مع مرض السرطان الذي كانت تعاني منه، ويبدو أن لوك يضع الأمور في نصابها. وحين تشتكي الأمهات الأخريات أن طفلها لم ينم خلال الليل، كانت تحاول ألا تضحك. «النوم خلال الليل! يا إلهي! لم أنم خلال الليل منذ تسع سنوات.»
أرادت أن تكون معه للأبد، وحين أصابها المرض خشيت أن أحدا لن يحل محلها في حياة لوك، ولكنها بدأت في الآونة الأخيرة تفكر عكس ذلك. «على المدى الطويل هو يتكيف جيدا.» وعزز مرضها العضال فقط ما أظهرته إعاقة لوك بالفعل. قالت أنجي: «من دونه لكنت اهتممت أكثر بالأمور المادية من متاع الدنيا. أما الآن فيبدو علي، كما تعلم، كأنه يمكنني الاستغناء عنها. أنا لا أحتاجها . فما دمت تتمتع بالصحة ولديك من تحبهم وأسرتك فهذا يكفي ...»
كان الحديث مع أنجي ليديكسن مثل الحديث مع أي أب مر بتقلبات الظروف في تربيته لطفل؛ القلق المنخفض المطرد الذي تقطعه نوبات من الخوف والهم، والكبرياء والإحباط، والإرهاق الشديد والسرور. والجديد في حالة ليديسكن أنها لم تستسلم للشعور المغالى فيه بالعزلة الذي قد يجعل الأب أو الأم يرى كل منهما أنه الشخص الوحيد الذي يحدث له هذا. أخبرتني أنجي ليديكسن في ذلك اليوم في التليفون: «أنا لا أحب الشكوى.»
ماتت أنجي بسرطان الرئة في الربيع التالي، وكان عمرها 42 عاما، ولا يزال لوك يعيش مع أبيه. ***
كنت دائما أبحث عن سياق لفهم ووكر، والذي قد يكون فيه لحياته المضطربة (وإخلاصي الذي لا مفر منه لها) معنى وهدف أكبر. وظننت أني قد أجده في حياة الأطفال الآخرين المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وفي حالة آبائهم. ولدهشتي، بينما كان الأمر يبعث أحيانا على الطمأنينة عندما أدرك أنه جزء من مجتمع أكبر، وأني لست وحدي، فإن طبيعة هذا المجتمع - مائة طفل وآباؤهم، غير مرئيين في العالم الأكبر، ويسعون حثيثا من أجل تخفيف آلامهم، ويحاولون عيش حياة طبيعية قدر الاستطاعة على الرغم من الظروف غير الطبيعية التي يمرون بها - أكثر تعقيدا مما تبدو، وأحيانا هي مقلقة بقدر ما هي مطمئنة. والآن أدرك أن «ووكر وطرقه»، كما تصفها جوانا، ليست فريدة. وما لم أعثر عليه حتى الآن هو «السبب» وراء الحال الذي هو عليه؛ ولذا اتجهت إلى العلم، لأرى إن كان المعمل يمكنه تفسير حالة ابني ووكر.
الفصل العاشر
فيما يلي المصطلحات المسردية التي «تساعد على فهم متلازمة القلب والوجه والجلد»، كما هو مذكور في موقع الويب الخاص بعلم الوراثة التابع للمكتبة القومية للطب بالولايات المتحدة الأمريكية:
موت الخلايا المبرمج، أذيني، جسدي، وراثة جسدية سائدة، سرطان، قلبي، اعتلال عضلة القلب، خلية، جلدي، تمايز، فشل في النمو، جين، صمام القلب، فرط تباعد، متضخم، نقص التوتر، مرض السماك، معدل حدوث، تقرن، كبر حجم الرأس، تشوه، تأخر عقلي، توتر العضلات، طفرة، طفرة جينية جديدة، نواة، فرط تباعد العينين، شق جفني، تكاثر، بروتين، تدلي الجفن، ضيق رئوي، وبروتينات
RAS ، نوبة، عيب حاجزي، قصر القامة، الإشارة، قامة، تضيق، عرض، متلازمة، نسيج.
لقد أسرتني اللغة التي توصف بها حالة ووكر الغريبة. ابتكرت كلمات جديدة لمخلوق جديد، مفعمة بالدقة الظاهرية للتسمية العلمية، كما لو أن كل المسميات تدل على شيء مفيد ونافع، وهي بالطبع تدل على ذلك نسبيا. أسرني ذلك التعقيد الضروري لوصف شخص أبله، إذا استخدمنا الكلمة القديمة التي كانت علمية في السابق لوصف مثل هذا الشخص. إن كل شيء متعلق بووكر معقد بسبب شيء آخر، وكنت في كثير من الأحيان أقدر ذلك، حين كان يضيف له تميزا أكبر، ويقدم لي المزيد للتفكير بشأنه. وأحيانا كان هذا كل ما هو متاح للتفكير بشأنه. ***
كنت جالسا في مكتبي في مقر «ذا جلوب آند ميل»، الجريدة اليومية الكبيرة التي أعمل فيها، في صباح اليوم الذي قرأت فيه البحث العلمي الذي يشير إلى أن عالمة الوراثة كيت روين اكتشفت طفرة في ثلاثة جينات مرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. كان ذلك في يوم ثلاثاء من شهر أبريل عام 2007. يقع مكتبي في مكان مفتوح، وهو مكان لا يختلف في ملاءمته للكتابة عن المجازر في شيء. ولكن في ذلك الصباح كان علي أن أنهض وأخرج لأتمشى، ولم يكن بإمكاني التقاط أنفاسي. هناك جين هو السبب في حدوث متلازمة القلب والوجه والجلد. بعد التعايش مع لغز ووكر لمدة 11 عاما، أجد الفكرة مثيرة، ولكنها مرعبة. فرغم كل شيء، كانت علاقتي بووكر شخصية وخاصة؛ كنا نعمل وفق معاييرنا الخاصة، وما كانت تسمح به الظروف بيننا. كنت «أتحدث» إليه و«يتحدث» إلي بنقر ألسنتنا ذهابا وإيابا حتى نعرف بعضنا أننا ننتبه إلى بعض، وأن كلانا موجود يستمع للآخر. الآن هناك جين، سبب علمي موضوعي، هو السبب في مرضه. كيف يمكن أن يؤثر في هذا؟ هل يمكن أن يغير مما أعتقده بشأن قدرات ابني الخفية؟ هل ما زلت أستطيع أن أجد راحة في لغة الطقطقة الخاصة بنا - على سبيل المثال لا الحصر - إذا قال الجين إنها لا فائدة منها، وأن هذا الاتصال يتجاوز قدراته؟ حتى الآن أنا مضطر فعلا إلى اقتسام ابني مع دار الرعاية. هل علي الآن أن أقتسمه مع المعمل؟
أنا لا أقول إنه لا يوجد أمل كبير في هذا الاكتشاف، فإذا علمت الخطأ الجيني المسبب لمتاعب ووكر، لاستطعت تحديد تلك المتاعب بدقة، وربما قد أجد لها علاجا، فسيكون هناك سبب أكيد ومسلم به، شيء يلقى عليه باللائمة وشيء يمكن علاجه؛ حقيقة ملموسة صغيرة في بحر التخمينات والغموض الذي كان يشكل حياته، وحياتنا.
بعد أسبوعين سافرت بالطائرة إلى سان فرانسيسكو لمقابلة الدكتورة روين، وفي المطار استأجرت سيارة ذات وحدة خاصة بنظام تحديد المواقع العالمي، وكانت أول مرة أقوم فيها بذلك، فحتى ذلك الحين كنت دائما أستخدم الخرائط؛ فأنا أحب الخرائط، وأحب طريقة عرضها التي تتيح لك إلقاء نظرة عامة على مكان ما جديد وغير مألوف، بشكل تخطيطي، قبل أن يتحول المكان لتفاصيل، ويصبح قريبا جدا ولا سبيل لتجنبه.
باستخدام وحدة نظام تحديد المواقع العالمي، أستطيع بسهولة أن أنتقل إلى المكان الذي أريده في مدينة كبيرة ومعقدة ومربكة بعد حلول الظلام، أستأجر سيارة وأدخل عنوان المكان الذي من المفترض أن أتوجه إليه، فتوجهني الوحدة إلى الخروج من باحة الانتظار التي توجد بها السيارة التي استأجرتها، ثم ترشدني على الفور للقيادة عبر سلسلة من الطرق السريعة، من خلال شاشة تتحرك عليها نقطة ضوء بسرعة، تظل تتحرك لمدة طويلة حتى تتوقف في النهاية عندما أصل إلى باحة انتظار السيارات لأحد الفنادق. جعلتني هذه الوحدة أشعر بأني أذهب بسرعة إلى المكان الذي أختاره، وكان العيب فيها أنني لم أكن أدري قط مكاني في الصورة الكلية. تأخذك هذه الوحدة إلى حيث تريد أن تذهب، وتختصر التنقلات الجانبية الأقل فاعلية، وقد خطر لي أنها مثل الجين المسبب لمتلازمة القلب والوجه والجلد تماما. ***
كانت المعامل البحثية الوراثية في مركز السرطان الشامل في سان فرانسيسكو ، حيث تعمل كيت روين، مضاءة كإضاءة الثلاجة، ومكدسة فيها بطريقة غير منظمة المراجع الطبية والأنابيب والسدادات والمقاييس وماسحات المصفوفات الدقيقة. وتحمل الأبحاث العلمية التي يكتبها علماء الوراثة - يكتبها بعضهم لبعض بصفة عامة - عناوين غير مفهومة للشخص غير المتخصص، مثل «تقرن الجريبات الشعرية/الحمامى التندبية الحاجبية، والحذف الجيني في كروموسوم 18: هل من الممكن أن يكون جين
LAMA1
السبب؟» وكان يبدو على وجوه علماء الوراثة أنفسهم بعض الروع مثل الجنود الخارجين للتو من الأدغال المتشابكة، ليفاجئوا بأن الحرب التي كانوا يحاربون فيها انتهت منذ عشرين عاما. وهم مغرمون بشاشات توقف خاصة بالكمبيوتر غريبة تعرض صورا غير بشرية؛ على سبيل المثال: صورة قطة نائمة في بيت قطط عبارة عن كوخ صغير مصنوع من جذوع الأشجار. (ذات مرة ركبت مصعدا مليئا بعلماء وراثة شباب خارجين من العمل، كان ذلك في عشية عيد القديسين، وكانت اثنتان من عالمات الوراثة في المصعد ترتديان قرون شيطان على رأسيهما. قال أحد الشباب لهما: «هل ستخرجان الليلة؟» هزتا رأسيهما تعبيرا عن الرفض. لا يمكن أن أقول إنني اندهشت من هذا.)
في صباح اليوم الذي دخلت فيه إلى معمل روين، وجدت زميلتها، آن إستيب، تضع وسيط تغذية سائلا في أطباق بتري. كانت أطباق بتري تحتوي على نسخ من تسع وعشرين طفرة مختلفة لجين واحد عزلته إستيب وروين من الحمض النووي لأفراد مصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولم تكن روين قد حضرت إلى العمل في ذلك الوقت؛ لذا تولت إستيب - وهي امرأة جذابة ذات شعر أشقر، في الثلاثينيات من عمرها، صرحت علانية بحبها للعمل المعملي - تحدي شرح الجوانب الوراثية المعقدة لمتلازمة القلب والوجه والجلد لي.
كانت ترى العملية ككل من وجهة نظر علمية، بوصفها دليلا على سمو بيولوجيا الإنسان. قالت: «هناك أشياء كثيرة جدا يمكن أن تحدث على نحو خاطئ أثناء الحمل؛ فغالبية حالات الحمل تجهض بشكل فوري أو في وقت مبكر جدا جدا من الحمل؛ فهذه طريقة الطبيعة للسماح للحمل الجيد فقط بالاستمرار حتى نهاية مدته. وعندما تولد، فأنت بالفعل نتاج إحدى حالات الحمل القليلة جدا التي احتاجت إلى أن تسير أشياء كثيرة جدا على ما يرام حتى تصل إلى نهاية مدتها.»
كانت هذه طريقة جديدة لفهم ووكر؛ فبدلا من أن نعتبر أنه محطم تماما، فهو ببساطة كان به عيب بسيط إلى حد ما، مثل زوج الأحذية الذي يباع بخصم في متجر بأحد المراكز التجارية الكبرى ولكنه صالح للبس تماما. فهو ما زال عبارة عن «تكوين جيني» على حد تعبير إستيب، «يتلاءم مع الحياة، فهو كائن حي يتنفس؛ لذا هناك تنوع كبير، وجميع هؤلاء الأطفال لديهم ذراعان ورجلان، ومعظمهم له مجموعة من العواطف؛ فهم بشر.» قبل أن أقابلها بأسبوعين، كانت إستيب قد تعرفت إلى إيميلي سانتا كروز؛ أول لقاء لها مع تجسيد حي لجينات متلازمة القلب والوجه والجلد التي تدرسها في طبق في المعمل لمدة ثمانية أشهر، ووجدت اللقاء «مؤثرا جدا»، بالرغم من أنها اندهشت - كما قالت لي في هدوء - «من حدة حالات التأخر التي كانت تعاني منها.» فحتى بالنسبة إلى عالمة متفانية مثل إستيب، هناك فجوة بين الحياة التي كانت تدرسها في المعمل، والحياة نفسها. ***
كانت كيت روين في أوائل الأربعينيات من عمرها، قصيرة، شقراء، نشيطة جدا. كان لها مكتب في مستشفى أطفال جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، إضافة إلى مكتب آخر في مركز السرطان الشامل، وهي بارعة في توضيح العمليات الوراثية المعقدة. قالت لي لاحقا ذات مساء، بينما ترسم دوائر على ورقة لتوضح كيف تعمل الخلية: «هذا هو الكروموسوم الخاص بك، وفي هذا الكروموسوم يوجد الحمض النووي الخاص بك، وفي الحمض النووي هناك جينات يجاور بعضها بعضا على نحو ما. يصنع الجين منها الحمض النووي الريبي، والذي ينتج بدوره بروتينا، والبروتينات هي التي تتحرك في الخلية وتقوم بالعمل.» هناك تقريبا 25 ألف جين منتج للبروتينات في الجينوم البشري، و35 ألف جين منظم. تلتف بعض البروتينات في أنماط معقدة (مرة أخرى، وفق تعليمات من الشفرة الوراثية) وتكون خلايا، والتي بدورها تكون النسيج البشري. في حين تعمل بروتينات أخرى بمنزلة مديري مجموعات ، فتتحكم في الإنزيمات الأخرى. (البيروقراطية موجودة في كل مكان!) وعائلة بروتينات وإنزيمات
RAS (
RAS
هو اختصار ل
rat sarcoma
التي تعني «الورم اللحمي للفئران»، والذي يعكس الطريقة التي تم بها اكتشافها) هم المديرون؛ على وجه التحديد، هي عبارة عن مفاتيح جزيئية لبدء أو إيقاف مجموعة من مسارات الإشارات التي تربط بين غشاء الخلية ونواتها، للتحكم في نمو الخلية. وضحت روين ذلك قائلة: «النواة هي العقل المدبر للخلية والطريقة الوحيدة التي تتلقى بها تعليمات تأتي من خارج الخلية. وتأتي التعليمات في شكل عملية نقل الإشارة، أو تحدث الجزيئات بعضها مع بعض، والتي تخبر الخلية بالفعل في نهاية المطاف بما تفعله.» وتسير العملية بأكملها مثل لعبة التليفون الخرب؛ إذ يقترب إنزيم أو بروتين من الجدار الخارجي للخلية، ويطلب منها فعل شيء ما؛ فيمرر إنزيم على الجانب الآخر من جدار الخلية التعليمات إلى سلسلة أخرى من نظم الإنزيمات داخل الخلية، وهكذا عبر جسم الخلية حتى تصل الرسالة إلى النواة؛ التي تقوم بما تعتقد أنه طلب منها.
تنشط بروتينات
RAS
بدورها نظم الإشارة الفرعية الأخرى، مثل كينازات البروتين المنشطة بالميتوجين التي تتحكم حتى في بعض الوظائف الأكثر تحديدا للخلايا. وتعد بروتينات
RAS
مسارا سيئ السمعة بين الباحثين في مجال الطب؛ إذ تظهر 30 في المائة من الأورام السرطانية شكلا ما من عدم الانتظام في هذه البروتينات، حيث يخرج نمو الخلية عن السيطرة أو تتوقف عملية موت الخلية، بسبب أمر خاطئ أو نقل إشارة خاطئة.
قالت لي روين: «أنا مجرد عالمة وراثة طبية عجوز بلهاء. أنا فقط أفحص المرضى وأحاول تشخيص حالتهم، وعندما أكون مع اختصاصيي الكيمياء الحيوية الأذكياء الذين درسوا عملية نقل الإشارة، أتذكر أنني نظرت إلى تلك المسارات وفكرت: يا إلهي! في يوم ما سيتم اكتشاف المتلازمات الوراثية المتضمنة في هذه المسارات الخاصة بنقل الإشارات، التي تمثل جزءا من الكل المشوش.»
اكتشف بالفعل أن لأحد الجينات المرتبطة بمتلازمة نونان دورا في مسار بروتينات
RAS ، وهكذا الحال بالنسبة إلى جين مرتبط بالأورام الليفية العصبية. تتشابه المظاهر الجسمية لكلتا المتلازمتين - مع اختلاف بعض التفاصيل بالزيادة أو النقصان - بصورة ملحوظة مع أعراض متلازمة كوستلو ومتلازمة القلب والوجه والجلد. وكان يبدو معقولا أن الجينات المسئولة عن الطفرات الجينية لمتلازمة القلب والوجه والجلد قد يكون لها دور أيضا في مسار
RAS .
بالرغم من ذلك، فإن تمويل دراسة عن متلازمة قد تصيب 300 شخص على مستوى العالم يعد مسألة أخرى. من حسن الحظ - على الأقل بالنسبة إلى روين - أن لمسار
RAS
دورا معروفا في تكوين الأورام السرطانية، التي تنتج عن نمو الخلايا بلا توقف. وتؤدي متلازمات كوستلو ونونان والأورام الليفية العصبية كلها إلى تكون أورام، أما متلازمة القلب والوجه والجلد، فلا. بالنسبة إلى روين، بدت هذه الحقائق المعروفة فرصة بحثية؛ فثلاث متلازمات من أربع موجودة في نفس المسار الخلوي تؤدي إلى الإصابة بسرطان، أما الرابعة فلا. ما الذي جعلها مختلفة من الناحية الوراثية؟ وهل يمكن لهذه المعلومة أن توفر دلائل على سبب تكون الأورام؟ للتبسيط، افترض أن 100 طفل يعيشون في نفس الشارع، ولكن أصيب 75 منهم بنفس نوع السرطان، بناء عليه إذا استطعت تحديد الشيء المختلف في ال 25 الآخرين الذين لم يصابوا بالسرطان، فقد يكون لديك مؤشر لتحديد سبب الإصابة بالسرطان والعلاج.
أكملت روين كلامها، مختتمة رحلتها المنطقية بقولها: «كان هذا هو ما جعل أحد معاهد الصحة القومية تعطيني منحة.» فلم تعد روين تفحص طفرة تصيب فقط 300 طفل تعيس، بل أصبحت تفحص سببا محتملا للسرطان، من خلال المؤشرات الجينية المفيدة الخاصة بهم. وقالت لي: «سوف نتعلم الكثير من هؤلاء الأطفال، وسنتعلم كيف نعالجهم بصورة أفضل بناء على معرفة جيناتهم ... وسنتعلم الكثير عن علاج السرطان من هؤلاء الأطفال؛ مما يجعل هذا اكتشافا كبيرا على مستويات متعددة.»
على أي حال كان هذا الجانب النظري. أما الجانب العملي، فهو مسألة أخرى؛ فقد كانت روين تعمل في وقت واحد على متلازمتي كوستلو والقلب والوجه والجلد، ساعية لاكتشاف الجينات المسئولة عنهما، وكانت بحاجة إلى ثلاثين شخصا مصابين بكل متلازمة منهما، والحصول على موافقتهم وعينة من الحمض النووي لكل منهم؛ فاستغرق تجميع ثلاثين شخصا مصابا بمتلازمة كوستلو خمس سنوات. وفي الوقت الذي أصبح فيه البحث على وشك الانتهاء - وكان جين كوستلو في المكان الذي توقعته، في مسار
RAS - سبقها بشهر إلى نفس النتيجة فريق من الباحثين اليابانيين بقيادة يوكو أوكي من جامعة توهوكو في سينداي، في اليابان.
كان حظها أوفر مع متلازمة القلب والوجه والجلد، بفضل عينات الدم التي جمعتها بريندا كونجر ومولي سانتا كروز في مؤتمرات متلازمة القلب والوجه والجلد الخاصة بهما منذ عام 2000، وما استغرق الحصول عليه خمس سنوات في تجارب كوستلو استغرق فقط مجرد أسابيع بالنسبة إلى متلازمة القلب والوجه والجلد. «تلقيت مجموعة أتراب من الأفراد المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد في أيام، أجل في «أيام»، وحصلت على عينات الحمض النووي خلال هذا الأسبوع. كان أمرا مذهلا!»
في شهر يناير عام 2006، بعد ثلاثة عقود من الإعلان عن متلازمة القلب والوجه والجلد لأول مرة، نشرت كيت نتائجها التي توصلت إليها، ومنها أن الطفرات المرتبطة بالمتلازمة تحدث على الأقل في ثلاثة جينات، هي:
BRAF
و
MEK1
و
MEK2 . وقد أضاف البحث المستقل في اليابان جينا آخر. وقد أظهرت متلازمة كوستلو طفرات في جين
HRAS ، بينما أظهرت متلازمة نونان طفرات في جين
، وكلها موجودة في مسار
RAS ، وكلها تؤثر في نمو الخلايا وموتها.
بدت لي الجينات واختصاراتها المعقدة (يتعلق معظمها بتركيبها الكيميائي) مثل كواكب مكتشفة حديثا، محيرة وغريبة مثل علم الوراثة ذاته، ولكن لم تواجهني أي مشكلة في فهم روين حين أوضحت ما تعتقده فيما يتعلق بالمشكلة التي توجد في ووكر. كانت ساعة العشاء تقترب، وكان لون الغروب الرائع خارج نوافذ مكتبها يغطي سان فرانسيسكو.
يبلغ طول تتابع أربعة أزواج من النيوكليوتيدات التي عند اتحادها وإعادة اتحادها تكون جينات الإنسان؛ ثلاثة مليارات من أزواج القواعد، ويمثل كل نيوكليوتيد حرفا. قالت روين مشيرة إلى ما يسبب متلازمة القلب والوجه والجلد: «إن تلك الطفرة هي تغير في حرف واحد في الجين كله. نعم، حرف واحد في الجين كله، والذي يغير حمضا أمينيا واحدا! حمض أميني واحد، مكون صغير من البروتين كله. هذا ما يسبب متلازمة القلب والوجه والجلد.» وهذا بدوره سبب المشكلات الكبيرة التي كان يعاني منها ووكر في حياته.
سألتها: «هل يعرف أي أحد لماذا يتغير الحرف؟»
ردت: «يحدث تناسخ للحمض النووي. واضح؟ يحدث هذا التناسخ، ولكن ليس بدقة عالية جدا، فإذا حدث التناسخ دون أي خطأ، فسنبدو كلنا بنفس الطريقة. واضح؟ والشيء السار وغير السار في نفس الوقت هو أنه إذا حدث خطأ، فإن هذا يتم مرة كل مليون مرة. واحد من كل مليون زوج قاعدة يحدث فيه خطأ. والآن، تحاول كل أنواع البروتينات والإنزيمات والمواد الأخرى إيجاد هذا الخطأ وإصلاحه؛ لذا هناك كثير من الأخطاء التي لا تعرفها، ولكن أحيانا لا يتم تصحيح الخطأ، وحين لا يصحح الخطأ، فإنه يسبب تغيرا في البروتين؛ وقد يجعل سلوك البروتين هذا النظام المناعي أفضل، وقد يقوي عضلاتنا، وقد تكون له آثار مفيدة تسمى التطور. كما تعلم، البقاء للأصلح. ولكن قد يحدث لك أيضا تغيرا في الجينات يؤدي إلى تأثير ضار، حيث يمكن أن يسبب ثقبا في القلب، يضعف جهازك المناعي. قد يكون له تأثير نافع، وقد يكون له تأثير ضار.»
شكرت كيت روين بعد ذلك بوقت قصير وغادرت مكتبها، وعبرت الشارع خارج المبنى، وجلست على مقعد أفكر فيما قالت. التعريف العلمي للنجاح التطوري، للطفرة العشوائية الناجحة، هو ما يسمح للكائن أن يعيش ويتكاثر. الطبيعة وحدها ما كانت لتسمح لابني بالبقاء على قيد الحياة.
بناء على تقدير عالمة الوراثة، يعتبر ووكر نتاج «التأثير الضار» للطبيعة.
لكن ابني ليس نتاج الطبيعة وحدها؛ فقد ظل على قيد الحياة، وكان بقاؤه أيضا نتاج التكنولوجيا الطبية والاهتمام البشري؛ نتيجة للتغذية عن طريق الأنابيب والأدوية والاهتمام المستمر لفرق من البشر اقتنعوا بأن تفاعلهم معه يستحق جهده وجهودهم، حتى لو كانت نتائج هذا الأمر يصعب قياسها. ولم يكن ووكر مدعاة كبيرة للتفاخر، من الناحية العقلية أو البدنية، ولكن مثل كثير من الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، فقد غير حياة بشر آخرين، غير حياتي أكثر من أي أحد آخر؛ فقد عمقها ووسعها ، وجعلني أكثر تسامحا وتحملا، وائتمانا من الناحية الأخلاقية، ومنحني نظرة أشمل للحياة. بدا هذا كأنه شكل من أشكال التطور أيضا، تطور أخلاقي إيجابي، بالرغم من أنه ليس من النوعية التي يمكن أن يقيسها علم الجينوم الحديث.
ثم نظرت إلى أعلى واكتشفت أني أجلس أمام عمل نحتي في الشارع، يسمى «بغض النظر عن التاريخ» نحته نحات إنجليزي اسمه بيل وودرو. كان نحتا مصنوعا من البرونز يبلغ ارتفاعه سبع أقدام، وهو عبارة عن شجرة رفيعة، تالفة وبلا أوراق، وغير مكتملة النمو، وتنمو من صخرة! ولكنها تنمو. ***
ركبت الطائرة عائدا إلى تورونتو. أصبح الصيف خريفا، وبدأت من جديد محاولتنا للبحث عن فهم أفضل لحالة ووكر.
في صباح يوم أربعاء من شهر أكتوبر، قابلت تينا كاساباكس، مديرة دار الرعاية التي يعيش فيها ووكر، في عيادة الوراثة لمستشفى الأطفال المرضى بتورونتو، وكان ووكر هناك أيضا. تشغل عيادة الوراثة ركنا في الدور الخامس لمبنى في وسط تورونتو. ومن الواجهة، كان المبنى يبدو مثل إصبع أحمر شفاه كبير، وكان في السابق المقر الرئيسي لبنك سويسري. أومأ إلي برأسه موظف الأمن الجالس إلى مكتب في المدخل وكأنه يحييني بتحية الصباح. لا بد أنه رأى الكثير من أمثالي. ثم ركبت المصعد حتى الدور الخامس ومشيت في الردهة إلى عيادة الوراثة وجلست في نفس غرفة الانتظار النظيفة تماما التي اضطررت للانتظار فيها منذ ما يقرب من 12 عاما، حين شخصت حالة ووكر بإصابته بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وصلت مبكرا، قبل تينا وووكر، وكان علي الانتظار، كما فعلت حينها، حتى يصل شخص ما إلى المكتب الأمامي، ولم يكن لدي مانع في ذلك؛ فأنا كنت أحب الهدوء المريح للعيادة قبل الساعة التاسعة صباحا. تنهدت وتنفست مرة أخرى، الهواء الساكن بلا رائحة للممرات الخاوية، في ظل الوهم العابر المعتاد بأننا الوحيدون الذين أتينا إلى هنا، كسلالة نادرة ضلت طريقها في عالم نقي، أو عالم لا توجد به طفرات. (في عيادة الوراثة يوجد فاصل زمني معقول بين المواعيد لضمان الحد الأدنى من التفاعل مع الحالات الصعبة.)
بعد أن عاش ووكر لمدة 11 عاما بتشخيص إكلينيكي بأنه مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، سيجرى له الآن اختبار وراثة. ووفق النظام الكندي للعلاج على نفقة الدولة، فاختبار الوراثة لمتلازمة القلب والوجه والجلد يتطلب الانتظار ستة أشهر: ثلاثة أشهر لبيروقراطية الرعاية الصحية في المقاطعة للموافقة على تكلفة الاختبار، وثلاثة أشهر أخرى للترتيب لأخذ عينة من الحمض النووي لووكر، وملء الأوراق اللازمة، وإرسال العينة إلى معمل الاختبار، ثم اختبارها وإرسال النتائج.
بدأ الروتين المعتاد في مثل هذه الحالات. فبينما كان ووكر يبعثر الألعاب في أنحاء غرفة اللعب، ويأتي إلى حجري ثم يتركه، قرأ علي بسرعة استشاري وراثة (وأحيانا يحضر اثنان) النقاط المعيارية الخاصة بإخلاء المسئولية؛ فليس هناك ضمان أنهم سيجدون انحرافا في جيناته، ولكن لا يعني هذا أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وإذا كانت نتائج اختبارات الجينات الثلاثة سلبية، فسيتم التطرق لما هو أبعد من ذلك، للبحث في جينات أكثر ندرة (والتي تكلفة اختباراتها أعلى). وبالرغم من ذلك، فالتشخيص ليس علاجا. صحيح أن مجال الأبحاث الوراثية كان يتطور سريعا، لكن التكنولوجيا كانت أكثر تقدما من أي فهم علمي لما تظهره تلك التكنولوجيا من نتائج. فقد يؤكد أو لا يؤكد التشخيص الوراثي إصابة ووكر بمتلازمة القلب والوجه والجلد، ولكن حتى إذا لم يفعل ذلك، فهو ما زال ووكر، الولد نفسه. هل لدينا أي أسئلة؟ كنت على وشك سرد كل هذا الحديث من الذاكرة، مثل مناجاة للنفس من إحدى مسرحيات شكسبير: أجري الاختبار أم لا أجري الاختبار؟ تلك هي المسألة. أيريح البال تجاهل خبراء وأحلام أبحاث الوراثة، أم فحص كل جين فكت شفرته للإنسان؟ هل الحل في إجراء الاختبار؟ أن تجري اختبارا ثم تجري مزيدا من الاختبارات، وتدعي أن هذا سينهي الألم والصدمات الطبيعية العديدة المعرض لها جسمه الضعيف؛ فإنها مرحلة كمال نتمنى من قلوبنا أن تتحقق!
ثم يأتي الجزء الصعب: جمع المادة الوراثية. تم أخذ عينة من الحمض النووي لووكر وأعد لاختبار الكروموسومات حين كان طفلا صغيرا (ومن المدهش أن الاختبار لم يظهر أي شذوذ)، وما زالت نتائج هذا الاختبار في ملفه الطبي، ولكن في هذا الصباح سيأخذ الأطباء عينة جديدة، للاحتياط فقط. كنت أعرف دوري. حتى الأطباء كانوا يخشون من رد فعل ووكر، ولا يمكنهم التفرقة بين ما يؤذيه وما يضايقه؛ فقط لأن هذا ليس من الروتين المعتاد له. احتضنته بقوة، ويدي اليسرى على صدره للتحكم في رأسه، وجعله موجها في نفس الاتجاه وجعل فمه مفتوحا، بينما الطبيب كان يقف في الخلف مثل صياد رحلات السفاري المحنك، بانتظار أخذ العينة. كنت أعرف كيف أمسكه بقوة، وتلك السيطرة كانت هي السبيل، ولكن سيطرتي الكاملة أدهشت معظم الأطباء الذين رأيناهم، بقدر ما أعجبتهم، وجعلني هذا أشعر بأني مفيد، وأقرب إلى ابني، حارسه الموثوق به، رجل قوي لا يمكن أن يؤذيه أبدا. ثم تأتي عملية الفتح - «الآن!» - فمسح الطبيب داخل فمه بما يشبه ماسحة قطن طويلة جدا، ثم أدخل الماسحة في أنبوب بلاستيكي، وانتهى الأمر.
حل الشتاء، وكان الجو باردا مع تساقط كثيف للثلوج. نشأت عند ووكر عادة الدندنة معي حين كنت أوصله إلى دار الرعاية وأرجعه منها بالسيارة إلى راي تشارلز وهو يغني «أي نوع من الرجال أنت؟» و«لدي حلم»، وأحيانا كان يتكثف الهواء الرطب الموجود في السيارة على النوافذ من الداخل؛ فكنت أستطيع سماع صرير أصابع ووكر وهي تتحرك على الزجاج أثناء مسحه الضباب، ونحن نسير بالسيارة شمالا وشرقا، نغني أغاني البلوز، وتضحك أولجا مع ووكر في المقعد الخلفي. وفي بعض الأيام، ولكي نعطي أولجا راحة، كنت أعود به بنفسي، ولكن الأمر كان صعبا؛ فقد كان يستغل فرصة جلوسه في المقعد الأمامي، وينزل زجاج النوافذ فتطير خرائطي في هواء الطريق السريع المندفع. لكن الأمر اختلف الآن؛ فقد أصبح كرة من البهجة الملتوية تجلس في المقعد الأمامي، ولكنه كان يحب الدردشة - أدردش أنا معه بالأحرى - ونحن نسير بسرعة على الطريق السريع الواسع الجميل. يا ربي، كم يحزنني التفكير في كيف كنت أعشقه في هذه الجولات المرحة! أب وابنه يسيران بالسيارة ؛ هل هناك شيء أفضل من ذلك ؟ ولكنها كانت أيضا جولات من غير رفيق؛ لأنني كثيرا ما كنت أتضايق، بلا وعي إلى حد ما حين لا تكون جوانا معنا، ولكننا كنا نقوم بالأمر كما ينبغي، فكنا نتبادل الأدوار في توصيله بالسيارة؛ لأنه لا معنى لقضاء شخصين ساعتين في السيارة بلا أي شيء يقومان به سوى توصيله.
جاء الربيع، وبدأت تنمو زهور التريليوم التي زرعتها في الحديقة الأمامية. اتصلت بي تليفونيا استشارية وراثة شابة اسمها جيسيكا هارتلي لتبلغني بأخبار غريبة، وهي أن ليست هناك طفرة في أي من الجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد -
BRAF
و
MEK1
و
MEK2 - في الحمض النووي لووكر.
أخذت موعدا آخر، وذهبنا ثانية أنا وووكر وتينا إلى المبنى الذي كان يشبه إصبع أحمر الشفاه؛ إذ كان الاختبار الوراثي فكرتي؛ لذا كان من واجبي أن أقوم بذلك وليس جوانا.
بدت هارتلي صغيرة جدا في السن بحيث لا يمكن أن تكون على درجة كبيرة من الخبرة. كان شعرها أسود، وأسلوب لبسها وتبرجها يشبه القوطيين على نحو ما. وانضمت إلى موعدنا بطلب من أحد رؤسائها، وهو عالم نحيف في منتصف العمر يدعى ديفيد تشيتايا، وهو عالم وراثة كبير في مستشفى الأطفال المرضى. ولم تكن تعني الكثير بالنسبة إلي حقيقة أن الجينات الثلاثة المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد لدى ووكر لم تظهر بها أية طفرات، وقد حرص الاستشاريون على التأكيد على ذلك. قالت هارتلي بنبرة دفاعية: «إذا لم نجد شيئا، فلا يعني هذا بالضرورة أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وإذا كانت الاختبارات كلها سلبية، فيمكننا إعادتها؛ فتلك المتلازمة هي بالتأكيد الاحتمال الأقرب بالنسبة إليه.» ونصحت بإعادة الاختبار، وهذه المرة سنبحث أيضا عن طفرات أخرى، ولا سيما تلك الخاصة بمتلازمتي نونان وكوستلو.
بينما كان يتطور فهمهم لمتلازمة القلب والوجه والجلد والمتلازمات القريبة منها، كان عدد متزايد من الباحثين يرون ثانية متلازمات القلب والوجه والجلد، ونونان وكوستلو باعتبارها متلازمات مرتبط بعضها ببعض؛ هي «اضطرابات في مسار
RAS » أو «اضطرابات في طيف نونان.» وقد أخذ الجينوم يبوح بأسراره الغامضة ببطء، وبدأ العلماء عزو مجموعة أكبر من اضطرابات التأخر العقلي - ولا سيما إذا كانت مصحوبة بتشوه في الوجه وأمراض بالقلب - إلى مشكلات في مسارات الإشارات داخل الخلايا. ولا يبدو أن أجسام هؤلاء الأطفال كانت تدرك متى تبني الخلايا، ومتى تتوقف عن ذلك.
كان تشيتايا عالم وراثة يحظى باحترام كبير ويتمتع بتاريخ طويل في هذا المجال. قال: إن الطفرة من المفترض أنها حدثت في الأسبوعين الأولين من حياة ووكر في رحم أمه، ومن المفترض أن كل جين من الجينات المختلفة المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد يقوم بوظيفته في فتح الإشارة وإغلاقها في مرحلة مختلفة من «تتالي» الاتصال الذي يحدث داخل الخلية: بدأ جين
BRAF
الذي حدثت به طفرة في التأثير (أو حدثت فسفرة له) مبكرا، ومن ثم أفسد عملية إرسال الرسائل للخلية عند مستوى أكثر أهمية مما فعلت جينات
MEK . ولكن المسارات قامت بتقديم تغذية راجعة لأنفسها أيضا؛ مما أدى إلى النتيجة (المحتملة) بأن الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد جراء طفرة في جين
MEK
لديهم أجسام أضعف، ولكن مشكلاتهم المعرفية أقل. كانت تلك إحدى النظريات، على أي حال، ولم يتم التحقق من «كل جوانبها» بشكل عملي. لقد كشف علماء الوراثة جوانب كثيرة في علم وظائف الأعضاء البشري، ولكن يبدو في الغالب أنه كلما ازداد كشفهم لطبيعة الأمر، قلت قدرتهم على فهم كيفية ربط التفاصيل بعضها ببعض.
صحيح أن جيسيكا هارتلي وديفيد تشيتايا وكيت روين كانوا يعملون في مجالات علمية دقيقة، وأسسوا افتراضاتهم على تفاعلات كيميائية حيوية معروفة وقابلة للاختبار، لكن هناك أوقات لم تبد فيها استنتاجاتهم بالنسبة إلي مختلفة كثيرا عن طقوس التطهير الطبية في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كانت القهوة وسخام المدخنة يوصفان بكل ثقة لعلاج الجنون، وكان يمكن علاج السوداء بسحب مقدار قليل من دم الشخص واستبدال دم عجل به. على أي حال، أضاف تشيتايا: «أهم شيء بالنسبة إلينا هو أن نحدد تشخيصا لحالته، ولكن تشخيص تلك الحالة ليس يسيرا.»
بعد ساعة من الحديث ، أصبحت الخطوات التالية واضحة؛ إذ كان علينا إعادة اختبار متلازمة القلب والوجه والجلد، للتأكد أننا لم نحصل على نتيجة كاذبة، وإجراء اختبار لتحديد ما إذا حدثت طفرات في الجينات المرتبطة بمتلازمتي نونان وكوستلو، إضافة إلى العديد من المتلازمات الأخرى الشبيهة المتسبب فيها وجود اضطرابات في مسار
RAS . إذا كانت نتائج هذه الاختبارات سلبية أيضا، فسنقوم بمسح مصفوفة دقيقة من الحمض النووي الكروموسومي لووكر. ويعد مسح المصفوفات الدقيقة للكروموسومات أكثر دقة على نحو كبير من اختبار الكروموسومات الذي أجري لووكر حين كان طفلا صغيرا. ويوضح تشيتايا الأمر قائلا: «تسعى المصفوفة الدقيقة إلى البحث عن الأجزاء الناقصة أو الزائدة في الكروموسومات - أي الكلمات الناقصة في الجملة الوراثية لحياته - في حين يسعى الاختبار الجيني إلى البحث عن الأخطاء الهجائية أيضا.» وإذا كان ووكر قد حدثت له طفرة في جين لم يكتشف بعد وأدى إلى اضطراب في الكروموسومات، فقد تظهر المصفوفة الدقيقة أين وقع هذا الاضطراب في الجينوم. الأمر يشبه قولك أنك ركنت سيارتك في أونتاريو، ولكنك لا تتذكر في أي مدينة فيها!
يمكن إجراء بعض الاختبارات الجديدة (على سبيل المثال المصفوفة الدقيقة) في كندا، ولكن يمكن إجراء الباقي فقط في بعض المعامل المعتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى تؤكد الاختبارات تشخيص حالة ووكر بأنها متلازمة القلب والوجه والجلد، وحتى يمكن استخدام عينة الحمض النووي الخاصة به في الدراسات العلمية، كان يجب أن تأتي نتيجة التشخيص من معمل معتمد، ويتكلف كل اختبار من تلك الاختبارات من 1500 إلى 2000 دولار؛ وتحتاج جميعها إلى موافقة المقاطعة إذا كانت ستجرى على حساب نظام التأمين الصحي الخاص بها. تتكلف الاختبارات في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر، وتتطلب مراجعة وموافقة أكثر صرامة إذا كان نظام التأمين الصحي الخاص بالمقاطعة سيدفع قيمتها. وقد قدم الأطباء دوافع منطقية لإجراء الاختبارات، مبنية على الحاجة إلى تحديد تشخيص جيني لحالة ووكر؛ وهو طلب معقول جدا؛ إذ إن التشخيص الدقيق قد يؤدي إلى فهم أفضل لاحتياجاته، وتوفير علاجات أفضل له. توقعنا هذه المرة أن نحصل على نتائج في غضون من سبعة إلى تسعة أشهر.
في هذه الأثناء، ما كان علينا إلا الانتظار، وبدا الأمر كما لو أن جزءا صغيرا من جسم ووكر أرسل إلى العالم، ويحاول أن يعود مرة أخرى. لم نكن في عجلة من أمرنا؛ فأيا كان تشخيص حالته، فهو لن يغير من حالة ووكر. ***
في النهاية وصلت النتائج في خريف عام 2008. ذهبت ثانية إلى عيادة الوراثة التي توجد في المبنى الذي كان على شكل إصبع أحمر الشفاه، وكانت جيسيكا هناك مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت هناك الدكتورة جريس يون، وهي متخصصة في الوراثة العصبية، وقد أدت أبحاثها حول الآثار العصبية لمتلازمة القلب والوجه والجلد إلى عملها مع الفريق البحثي لكيت روين. وهي امرأة جميلة في الثلاثينيات من عمرها، متزوجة حديثا، وكانت تتمتع بطريقة دقيقة وحريصة في الحديث.
للأسف، عمقت أحدث جولة من جولات الاختبارات الوراثية من لغز حالة ووكر، فما زالت نتائج الاختبارات الخاصة بطفرات جينات
BRAF
و
MEK1
و
MEK2
سلبية، وهي الجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد. وهكذا الحال بالنسبة إلى جين
KRAS ، وهو جين متلازمة كوستلو، أو متلازمة نونان. ولم يظهر في جين
، المرتبط بتكون الأورام الليفية العصبية، أية طفرات، وهكذا الحال بالنسبة إلى الجينين
SOS1
و
BRAF1 ، وهما جينان اكتشفا حديثا يعتقد أنهما مرتبطان بمتلازمة القلب والوجه والجلد.
أوضحت الأمر الدكتورة يون في إحدى غرف الاستشارة الصغيرة في العيادة قائلة: «لا يعني هذا أنه غير مصاب بمتلازمة القلب والوجه والجلد؛ فهناك جينات لا نعلمها حتى الآن. لا شك لدي في كونه مصابا باضطراب جيني، ولكن حتى هذه اللحظة لا أعرفه. لقد شخص الأطباء من قبل حالته باعتبارها متلازمة القلب والوجه والجلد، وفي رأيي هذا أفضل استنتاج.» على سبيل المثال تظهر الاختبارات في 65 في المائة فقط من المصابين بمتلازمة نونان وجود طفرة في الجين «الصحيح» المرتبط بالمتلازمة.
أضافت يون أنه في الآونة الأخيرة وجد الباحثون في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان ارتباطا بين الجين
SPRED1
والأورام الليفية العصبية، وأقرت يون قائلة: «للأمانة، إن حالة المرضى المصابين بهذا النوع من الاضطراب الوراثي أفضل بكثير.» وكررت قولها بأن متلازمة القلب والوجه والجلد «هي الاستنتاج الأقرب والأكثر معقولية.» قد يكون لدى ووكر مظاهر أكثر حدة، وبالتالي فهو شكل طفري نادر من متلازمة القلب والوجه والجلد، ولكنها أرادت التشاور مع زملائها. التقطت بعض الصور الفوتوغرافية لوجهه وقدميه ويديه، وفحصته فحصا بدنيا، وقاست المسافة بين عينيه (والتي كانت أكبر مقارنة بمعظم الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد)، ولاحظت مظاهره الحادة إضافة إلى الثنيات الجفنية الأنفية المألوفة أكثر، والجلد السميك حول أذنيه؛ تلك هي مجموعة الأعراض المألوفة. قالت إنها سترسل الصور والبيانات بالبريد الإلكتروني إلى فريقها الدولي، لاستطلاع رأيهم.
في هذه الأثناء كان علينا الانتظار لمزيد من الوقت، وشعرت بنفس الشعور الذي أشعر به حين أستيقظ من حلم ولا أتذكر شيئا في البداية مما حلمت به: حدث شيء ما، بيد أن كل ما أستطيع تذكره هو جزء من الحلم مزعج إلى حد ما.
قالت يون، شاعرة بحيرتي: «معرفتنا متأخرة عن القدرات الخاصة بتكنولوجيا اختبارات الوراثة.» كان مجال خبرتها يتمثل في تأثيرات الطفرة الوراثية على القدرات المعرفية؛ ومن ثم فقد كانت تستكشف أقصى حدود البحث الطبي، ليس في جانب واحد بل في جانبين، هما الجينات المعروفة بالكاد والجوانب المعرفية التي ما زالت غير معروفة. وفي المجال الذي كانت تعمل فيه، كلما اكتشف الباحثون أكثر، زاد عدم فهمهم للأمور. قالت يون في نهاية اللقاء: «لا يوجد سوى ثلاثة أشياء في الطب أحدثت فرقا حقيقيا في نوعية الحياة البشرية، وهي الماء النظيف واللقاحات والمضادات الحيوية.» ولم تدرج الجينات حتى الآن في تلك القائمة. ***
كانت ذكريات مواعيدي الكثيرة في عيادة الوراثة النظيفة جدا تسري بداخلي مثل الفيروس المتوسط. لم أكن أكره علماء الوراثة: فهم كانوا أول من اعترفوا بقلة ما يعرفونه، وفي الوقت نفسه كانوا بلا شك أمل المستقبل. وقد أسهم حقا عزل كيت روين للجينات الطافرة الرئيسية لمتلازمة القلب والوجه والجلد في زيادة رعاية الأطفال المصابين بالمتلازمة على نحو كبير من خلال تيسير تشخيص حالتهم؛ وبذا يسمح التشخيص المبكر للحالات بالتسجيل المبكر للحصول على العلاجات المتاحة لتقليل آثار المتلازمة. واكتشاف مسار
RAS
بوصفه المتهم الرئيسي المسئول عن مجموعة كبيرة من التأخر في النمو، إضافة إلى عائلة كاملة من حالات التأخر العقلي، يعد اكتشافا مهما.
رفع كثير من الأبحاث الواعدة معنوياتي؛ على الأقل حتى تبين أنها لم تصل إلى شيء، وحينها كانت معنوياتي تنخفض مرة أخرى. على سبيل المثال، بعد عامين من نشر روين لنتائجها، اكتشف الباحثون في روتردام أنه يمكن لدواء السيمفاستاتين - وهو دواء شائع لخفض نسبة الكوليسترول - أن يعالج المشكلات المعرفية التي تسببها الأورام الليفية العصبية في الفئران، ولا سيما مشكلات التعلم المكاني واضطرابات الانتباه. (علمت بالدراسة حين اتصل بي فجأة الدكتور بول وانج، طبيب الأطفال المتخصص في النمو الذي قيم حالة ووكر وهو في سن الثانية في فيلادلفيا؛ وهو الطبيب الذي أخبرني أنه فيما يتعلق بمعرفتنا بوجودنا في العالم، يسبقنا ووكر بمسافة كبيرة.) ولسوء الحظ، لم تثبت نفس النتائج المذهلة التي ثبتت في الفئران على البشر. كان تعثر تقدم أبحاث الوراثة حقيقة، لكنه لم يكن قط سببا يدعو إلى تثبيط العزيمة. ما كان مثبطا للعزيمة حقا بالنسبة إلى عالم وراثة معملي يدرس متلازمة القلب والوجه والجلد بوصفها اضطرابا وراثيا، هو أنه كان يرى المتلازمة فقط كذلك: اضطرابا، خطأ هجائيا لا يمكن تصحيحه في قواعد لغة الإنسانية. كنت أدرك هذا الوضع، ولكني كرهته كذلك؛ فاعتبار حالة ووكر اضطرابا وراثيا فقط طريقة أكيدة بالنسبة إلي لتذكر أن هناك شيئا اسمه «انتظام» وراثي، بمعنى أنه في مقابل كل شخص مثل ووكر، هناك ملايين من الأطفال الأصحاء وراثيا. وفي أي معمل وراثة، سيعد ووكر على الدوام نتاجا للتأثير الضار للطبيعة والتطور، ولا شيء أكثر من هذا. ***
عندما وصلت نتائج اختبار ووكر من المعمل في خريف عام 2008، كانت صناعة الاختبارات الوراثية تستعد لحدوث طفرة كبيرة فيها. ففي ديسمبر، أعلنت شركة سيكونوم، وهي شركة تكنولوجيا حيوية في سان دييجو، عن اختبار وراثي قبل الولادة لا يستلزم إجراء جراحيا، بدأ يباع على الإنترنت بداية من شهر يونيو عام 2009. وقد رخص الاختبار الإجراءات الطبية التي تم تطويرها في جامعتي أكسفورد وستانفورد.
قبل ظهور اختبار سيكونوم، كان هناك خيار طبي واحد متوافر للمرأة الحامل التي لديها من الأسباب ما يجعل القلق يعتريها بشأن احتمال ولادة طفل يعاني من عيب أو متلازمة؛ إذ كان يمكنها أن تخضع لاختبار فحص مصل الدم القياسي. هذا الاختبار كان (ولا يزال) لا يمكن الاعتماد على نتائجه، وكثيرا ما يعطي نتائج إيجابية زائفة؛ ففي إحدى الدراسات، ظهرت نتيجة اختبار 136 امرأة من بين 199 إيجابية لمتلازمة داون، ولكن أنجبت ست نساء فقط منهن طفلا مصابا بمتلازمة داون. إن 2 في المائة تقريبا من النساء اللاتي كانت نتيجة اختبارهن إيجابية في تلك المرحلة أجهضن الجنين، في حين لجأ الباقي إلى فحص السائل الأمنيوسي، وهو إجراء أدق بكثير، ولكنه يتطلب تدخلا جراحيا؛ لأنه يسحب بعضا من السائل الموجود في الكيس الأمنيوسي، مع احتمال حدوث بعض المضاعفات من آن لآخر.
يقيس الاختبار الجديد لسيكونوم خلايا الجنين في دم الأم؛ وهو اختبار دم لا يتطلب تدخلا جراحيا، وهو بمثل دقة فحص السائل الأمنيوسي، ويمكن إجراؤه بعد عشرة أسابيع فقط من الحمل. وحتى الآن يمكن لهذا الاختبار أن يحدد نوع الجنين ويحدد مدى إصابة الجنين بمتلازمة داون وحالتين أخريين، هما: تثلث الكروموسوم 13 (مادة زائدة في الكروموسوم الثالث عشر، مرتبطة بمتلازمة باتو، يمكن أن ينتج عنها «أحداث» مثل: الحنك المشقوق، وزيادة عدد أصابع اليد، والتأخر العقلي الحاد، وعيوب بالقلب، وعدم نزول الخصيتين)، وتثلث الكروموسوم 18 (تراكب أصابع اليدين، وعيوب بالقلب، وكذلك قلة الوزن عند الولادة، والتأخر العقلي، وعدم نزول الخصيتين، وقصر عظم الصدر، وتشوهات العضلات في جدار البطن).
1
وتنوي الشركة زيادة قدرات الاختبار ليشمل اضطرابات أخرى مثل التليف الكيسي وفقر الدم المنجلي ومرض تاي-ساكس. إن كل هذا يساعد على تقليل الشعور بالقلق للمرأة الحامل، ولا سيما الأكبر سنا منهن (أو النساء اللاتي أزواجهن كبار في السن) اللائي يزيد بشكل كبير خطر تعرض أطفالهن قبل الولادة للإصابة باضطرابات وراثية.
لا يعتبر هذا الاختبار شاملا أو دقيقا تماما؛ فهو لا يكشف عن الحالات الأكثر ندرة مثل حالة ووكر، الذي حالته أسوأ بكثير من غالبية الأطفال المصابين بمتلازمة داون، والذين يعيش كثير منهم حياة طبيعية، ومنتجة بصورة معقولة. وهو لا يقيس حدة المتلازمة. على سبيل المثال، حتى داخل نطاق الأطفال المصابين بمتلازمة القلب والوجه والجلد، هناك فروق شاسعة في القدرة؛ فووكر لا يستطيع الكلام أو التواصل، ولكن كليفي كونجر يمكنه ذلك، ومن المرجح أن يحيا حياة شبه طبيعية. لكن إذا طورت شركة سيكونوم اختبارا لمتلازمة القلب والوجه والجلد، فسنجد أن كليفي هو من ستظهر عنده الطفرة وستكتشف حالته في هذا الاختبار؛ وليس ووكر. كليفي، الطفل الأعلى في القدرات، والذي يمكنه الاعتماد على ذاته، هو الذي يمكن أن يكون مرشحا للإجهاض، وهذا الجانب من الاختبار لا تركز عليه الشركات التي تقدم الاختبارات الوراثية في موادها الدعائية.
على الرغم من ذلك، فالقرار بتجنب قدوم طفل كهذا للحياة يمكن اتخاذه في المقام الأول في الأسابيع العشرة الأولى للحمل.
2
في واقع الأمر، في الولايات المتحدة الأمريكية، يجهض ما بين 80 إلى 95 في المائة من النساء - اللاتي تظهر إصابة جنينهن بمتلازمة داون - حملهن، وبلا شك سيزيد اختبار الدم الأدق الجديد تلك النسبة. ما نتيجة ذلك؟ المصابون بمتلازمة داون في طريقهم للاختفاء. وفي هذه الأثناء هناك 70 ألف شخص في العالم مصابون بالتليف الكيسي، وبعض الأشخاص المصابين بفقر الدم المنجلي - ثلث ساكني الدول الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى مصابون بالجين - يمكنهم أن يعيشوا إلى سن الخمسين تقريبا. وتضع شركة سيكونوم كلا المرضين على قائمة الانتظار بالنسبة إلى الأمراض التي يمكن إدخالها في اختبارها الوراثي. وتعد الاختبارات الوراثية وسيلة للتخلص من الشذوذ، وكل الآلام والمعاناة المصاحبة لهذا الشذوذ. حين كان ووكر طفلا صغيرا، قبل أن يسكن في قلبي وعقلي وذاكرتي، قضيت جزءا من حياتي اليومية أتمنى بشدة أن لو كان لدينا إمكانية إجراء اختبار، وكنت آمل أن يكون لدينا اختيار في مسألة وجوده؛ من أجله ومن أجلنا كذلك. والآن بعد أن تعلقت بووكر ، أشعر بالراحة أنه لم يكن يوجد مثل هذا الاختبار، وأني لست مضطرا إلى مواجهة المعضلة الأخلاقية التي قد تظهر سريعا لي؛ لأن ووكر في أيامه السعيدة يكون دليلا على ما يمكن أن يقدمه الشيء الشاذ والضعيف؛ تذكرة بأن هناك طرقا عديدة لكي تكون إنسانا، وأن تحاول أن تكون سعيدا قدر الإمكان، وأن تستغل كل ذرة عابرة في الحياة حتى لا تمر دون أن تشعر بها.
يتجنب الاختبار كل ذلك، سواء الأشياء الجيدة أو السيئة منه.
ولكن إذا كان هناك نظام أكفأ لتقديم الرعاية للمعاقين، وإذا أصبحنا أقل خوفا منهم، وإذا كانت رعاية الطفل المعاق لا تعمل على تدمير حياة من يقومون بالرعاية؛ إذا كان لدينا مثل هذه البدائل، فهل نحتاج أصلا إلى اختبار كهذا؟ ***
انتهيت من قراءة الخبر حول الاختبار الجديد في الصحيفة وذهبت لكي أغسل الأطباق. كانت جوانا تعد سلاطة كوب، فقلت لها: «ما رأيك في مثل هذا الاختبار؟»
استغرقت وقتا طويلا في الإجابة، ثم قالت: «لو كان هناك اختبار حين كنت حاملا يمكن أن يشخص ما ستكون عليه حالة ووكر، لكنت اخترت الإجهاض.»
لم أقل شيئا. كنت قد أعددت كيكة شوكولاتة في وقت مبكر من هذا الصباح، وأحاول الآن كشط الشوكولاتة الصلبة من المضارب التي استعملتها.
واصلت حديثها قائلة: «كنا صغارا، وحملت على الفور بعد زواجنا، وكان أمامنا فرص كثيرة ليكون لدينا طفل آخر، طفل طبيعي.» أخ طبيعي لهايلي، حليف لابنتنا حين تحتاجه لمواجهتنا.
قلت: «ولكن في ذلك الوقت كنت سترغبين في عدم إنجاب ووكر.»
بدأت جوانا في التحرك حول المطبخ على نحو أسرع. كانت تتهرب، وبدا هذا واضحا عليها، وفي النهاية قالت: «لا يمكنك القول، بعدما عرفت ووكر، أكان يمكن أن أفعل شيئا للتخلص منه؟ فمن ناحية أنت تجهض جنينا مجهولا لك، ومن ناحية أخرى أنت تقتل ووكر. والجنين ما كان ليكون ووكر.» «ما شكل العالم برأيك من دون أناس من أمثال ووكر؛ من دون أطفال مثله، أقصد الأطفال الذين لديهم إعاقات؟» وهذا ليس احتمالا مستحيلا، بناء على التقدم الحادث في مجال اختبارات ما قبل الولادة. «عالم لا يوجد به سوى حكام الكون سيكون مثل إسبرطة، ولن يكون عالما متسامحا، بل سيكون مكانا قاسيا.» «إذن فقد علمك شيئا.» «جعلني أدرك أننا محظوظون لتمتعنا بصحة جيدة، أغلبنا في معظم الوقت؛ كيف أننا ندرك أن لدينا مشكلات، بيد أننا في الواقع ليس لدينا مشكلات، مقارنة بحاله.»
كثير من الفرك والتقطيع، ثم قالت: «لكني لست الشخص الذي يجب أن يسأل عن هذا. أنا لا أرى أني شخص صالح.» «ماذا تقصدين؟ أنت إنسانة رائعة جدا.» «لم أستطع التكيف على نحو كامل مع فكرة وجوده معنا، وما زالت لدي مشاعر مختلطة بشأن كل شيء فعلته، وكل شيء لم أفعله.»
رغم كل شيء، فهي أمه، ولكنها لم تنقذه. وهي ليست من الأمهات اللائي وهبن أنفسهن لرعاية أطفالهن المعاقين طوال الوقت، ولم يتوقفن عن البحث عن سبل لتحسين حالاتهم والدفاع عنهم حتى يحصلوا على حقوقهم. هل كان التزامها بالمكوث في البيت مع طفل متأخر أكبر من أم أخرى مكثت في البيت ولديها التزام بالعمل وأن تكون جزءا من المجتمع «الطبيعي»؟ لا أرى ذلك. كانت جوانا أما رائعة، وقامت بما ينبغي عليها فعله، وقامت به على أحسن وجه، ولكنها كانت مقتنعة أن هذا لم يكن كافيا. صحيح أن العالم تجاهل محنتها، ولكنه لم يجعلها ترى نفسها بريئة تماما أيضا. تشعر كثير من الأمهات المصاب أبناؤهن بمتلازمة القلب والوجه والجلد بنفس الشعور. على سبيل المثال، شعرت إيمي هيس ومولي سانتا كروز بنفس الشعور، وقد بقين في البيت لإدارة عجلة الحياة، وأصبحن أروع أمهات لأطفال معاقين وأنشطهن وفق معرفتي، ولكن لا مفر من الشعور بالذنب؛ فهو يعيش بداخلهن، عميقا. كانت جوانا أم ووكر، الإنسان الذي خرج منه الجسم المعيب والمتألم هذا. لم تكن تستطيع أن تفكر في إصابته الشديدة، وتسبب هذا في حزن شديد داخلها، ولا تستطيع تجاهله أيضا. وأفضل ما كان يمكن أن تفعله هو أن تظل هادئة، وتشغل نفسها وتتحرك، وتتولى رعايته دون أن تسأل نفسها أسئلة أكثر من المعتاد. هذه حيلة دقيقة، تشبه محاولة السير بكعب عال فوق شبكة حديدية على الرصيف، فيما عدا أن تلك الشبكة تمر فوق جهنم والعذاب الأبدي.
حين تحدثت مرة أخرى، قالت: «لا أدري ما قيمة ووكر للعالم، ولست متأكدة أني أتفق أن قيمته الأبدية أن يرهف من إحساس الناس، وأن على حياته كلها أن تكون مثل غاندي، يجعل الناس يشعرون بقيمة أنفسهم بشكل أفضل، ولا أرى أن حياته ينبغي أن تكمن أهميتها فقط في جعل الآخرين أكثر رضا بحياتهم. في رأيي يجب أن تكون حياته لها قيمة في حد ذاتها.»
قلت: «لا، أنا لا أعني هذا أيضا. هو قد يجعل الناس تفكر بهذه الطريقة، ولكن حياته لها قيمة في حد ذاتها، بغض النظر عن ذلك.»
قالت جوانا، وهي تتحدث بطريقة أسرع: «ليست لدي مشكلة فيما يخص دور الرعاية أو عيشه بالطريقة التي يعيش بها الآن، إنما المشكلة الوحيدة لي مع حياته تظهر عندما يحل به الألم؛ لا أتحمل هذا، ولا أطيقه. ألم لا يطاق، يمنعه من النوم.»
رددت عليها قائلا: «كما تعرفين، ليست أمامنا وسيلة للتعامل مع الأمر بمفردنا.» «من الناحية العاطفية، ما زلت أرى أنني لو كنت أما حقيقية له، لكان في البيت الآن.» توقفت عن الكلام، ثم حدثت حالة الانهيار، التي كنت أعرف أنها ستحدث. «لم أعد أشعر أني أمه، فلم أعد الشخص الذي يلجأ إليه الآن.» كانت تبكي، كنت أعرف ذلك من غير أن أنظر إليها. أشعر بها تبدأ في الانهيار، كما لو أن أرضية المنزل تخسف بنا. «هو يلجأ الآن إلى آخرين.» كان هذا هو كل ما كنت أستطيع فعله.
نعم، نعم، كانت تومئ، هذا هو الأمر. «ما دام هناك من يرعاه كل يوم، فلا يعنيني من يكون هذا الشخص.» بدأت الآن في النشيج، في إحدى نوبات النشيج السريعة والشديدة.
كان يمثل فجوة، ثقبا في حياتنا لم يكن ليختفي قط. لقد كان معنا هنا من قبل، والآن هو ليس معنا هنا، فهل مواجهة الجرح كل يوم تجعلنا أفضل؟ لا. وهل لنا أي خيار آخر؟ لا. وهل يجعلنا هذا نتذكر الجرح؟ نعم. وهل يغير هذا أي شيء؟ لا أدري.
الفصل الحادي عشر
«ما دام هناك من يرعاه كل يوم.»
من هذا الشخص؟ هذا هو السؤال.
مثل مولي وإرني سانتا كروز اللذين رحبا بتردد بالفكرة المرعبة الخاصة بإلحاق ابنتهما بدار لرعاية المعاقين، ومثل بريندا وكليف كونجر عندما تجادلا مع زوجة والد بريندا لتخصيص منزل والد بريندا لكليفي، ومثل فيرجس وبرنيس ماكان حين نظرا إلى المنزل الكبير الذي اشترياه لميليسا وتساءلا عمن يمكن أن يشاركها هذا المنزل؛ مثلهم جميعا، بقدر ما كنت أفكر في كيفية تقديم أفضل رعاية لووكر في الوقت الحاضر، كنت أفكر أكثر في المستقبل، من سيرعى ووكر بعد مماتنا؟
لم ترحب جوانا ولا أنا بفكرة أن هايلي «سترث» ووكر. ليس هذا تقليلا من شأن هايلي، لا شك أنها كانت ستهتم بأخيها طوال حياتها؛ فعاطفتها نحوه تضمن هذا، ولم تكن من النوع الذي يمكن أن يتملص من أي التزام. وبغض النظر عن أي شيء، فهي عارفة للواجب، وجادة وزادت جديتها بسنوات معيشتها في الظل الوحيد غالبا لحاجة ووكر. (في سن الخامسة عشرة، أرادت أن تعمل في أفريقيا، في بناء منازل للأيتام.)
لكنني كنت أعرف مقدار الجهد المطلوب لرعاية ووكر، وكم أنه مستحيل على فرد أو فردين أو ثلاثة أو حتى أربعة القيام برعايته على نحو ملائم، للقيام بكل ما هو مطلوب، ويحيا حياة منتجة، فيها التزام من أي نوع. فلهايلي حياتها الخاصة بها، وهذه على الأقل منحة أردنا أن نعطيها إياها، ورفضت أن أجعلها ترزح تحت نير تلك المهمة الثقيلة، التي تقوم على الشعور بالذنب، وهو الأمر الذي يفعله كثير من العائلات التي لديها أطفال معاقون؛ مستنقع من اللاعقلانية أصاب التفكير الاجتماعي بشأن الإعاقة لآلاف السنين. وتناقشت مع زوجتي كثيرا بشأن إنجاب أطفال آخرين (بالتحديد واحد، وأحيانا اثنين) - إخوة وأخوات لهايلي وووكر - حلفاء ليحموه من العالم، ولكن أيضا لكي نبعد شعورنا بالذنب. وهناك طوائف سياسية وحتى حكومات بأكملها تستغل هذا الشعور بالذنب، وتقترح أن الأسر هي الحل الحقيقي الوحيد لمشكلة رعاية المعاقين.
ولكن الأسر، مثل الإعاقات، ليست متسقة أو موحدة، وهي ليست كاملة بأي حال من الأحوال، ولا يطلب أحد الانضمام إليها، وفي أحيان كثيرة لا تستمر. نتيجة لذلك - كانت هذه وجهة نظري - فالأسرة التقليدية ليست نموذجا لنظام يكفل رعاية ذوي الإعاقة الشديدة، وحتى إذا قررت فعلا رعاية ووكر مدى الحياة من خلال وسيلة الأسرة التقليدية الكبيرة - أحتاج على الأقل إلى ستة أطفال يعيشون كل حياتهم في نفس المكان لتولي رعايته على نحو ملائم - فهل هذا اختيار مسئول (دع عنك كونه واقعيا)، في عالم مزدحم، ومثقل بالمشكلات؟
تسارعت هذه الأفكار في ذهني مثل السيارة الجيب التي تدور في حقل ألغام.
الحقيقة أنه حتى مع تقديم أفضل رعاية خارجية متوافرة لووكر كان القلق يتملكني. صحيح أن دار الرعاية التي يقيم بها كانت وما زالت الأفضل من نوعها، ولكن ماذا سيحدث إذا توقف تمويلها؟ وهل هي أفضل الأماكن المتوافرة لووكر؟ وحقيقة أن لووكر مكانا آخر يقدم له الرعاية بطرق لا نقدر عليها لم يمنعني عن الرغبة في تحسينه (وهذا على الرغم من أنني كنت حذرا حتى من ذكر تلك الحقيقة، خشية أن يفقد بأي شكل من الأشكال ما يتلقاه من رعاية؛ وهو نوع جديد من القلق يصيب كل أب له ابن معاق يحصل على رعاية). تدير دار الرعاية التي يعيش فيها ووكر منظمة تقدم رعاية متخصصة للمعاقين بمستوى احترافي كامل. ولكن كيف يمكن أن تتحول تلك الدار إلى بيت عائلة أيضا؛ مكان مليء بالتعاطف حيث الناس متسامحون بلا حدود، إذا استخدمنا تعبير الأم تريزا؟ لووكر مكان يجد الرعاية فيه، لكن هل هم يمثلون أسرة له أيضا؟ وهل المكان الذي يجد فيه الرعاية بعد موتنا سيكون أيضا مثل بيته، يسكنه مجموعة من الأصدقاء ويسير وفق الحياة الداخلية الجماعية لسكانه؟
كان هذا هو نوع الأماكن الذي كنت أريد أن يعيش فيه ووكر، كان هناك مجموعة من أصحاب الفكر المتطور في كولومبيا البريطانية منضوين تحت لواء ما يطلق عليه «مبادرة الدعم المنظم مدى الحياة»، التي طورت شبكات من جهات الاتصال والأصدقاء حول تجمعات المعاقين. لكن كانت هذه الفكرة جديدة وبعيدة، وكانت تتطلب - من وجهة نظري - معركة من أجل الحصول على تمويل، لا أدري كيف كانوا سيحصلون عليه. عودة إلى موضوعنا، كان علي أن أواجه شعوري بالقلق؛ فقد وجدت أنه من الصعب أن أجد مكانا يعمل على رعاية ابني ويكون كأسرة بالنسبة إليه.
ولكن في ربيع عام 2008، بعدما نشرت خبرا عن ووكر، تلقيت خطابا من رجل اسمه جان لوي مان، وكان يعمل مدير الاتصالات للفرع الكندي للمؤسسة الدولية «لآرش»، التي توجد في فرنسا وتدير سلسلة مكونة من 135 مجتمعا لرعاية المعاقين عقليا، والتي كانت تمتد من تورونتو إلى الكويت. لم يكن الانضمام إلى أحد تلك المجتمعات أحد الخيارات المتاحة لووكر؛ فقائمة الانتظار كانت تمتد إلى عشرين سنة، وكان يتم قبول البالغين فقط، بيد أن مان أراد أن أزوره في مونتريال، وهناك في قاعة كنيسة سابقة في فيردان، وهي مجتمع ينتمي إلى الطبقة العاملة في الحد الجنوبي للمدينة، رأيت لأول مرة في حياتي نموذجا للمجتمع الخيالي الذي كنت أبحث عنه، في هذا المجتمع كنت «أنا» الغريب. ***
كانت قاعة الكنيسة هي المركز الإداري لفرع مؤسسة لآرش في فيردان، وقد أنشأ مؤسسة لآرش جان فانيه، ابن جورج فانيه الدبلوماسي الكندي الشهير، في منزله في فرنسا عام 1964. كان جان، الذي ظل طوال حياته يدرس الفلسفة وعلم اللاهوت الكاثوليكي، لا يزال يعيش في قرية ترولي-برويل، حيث كان يتناول طعام الغداء في معظم الأيام مع أصدقائه المعاقين.
كان ذلك في فرنسا. وفي مونتريال، كان يقام القداس في قبو قاعة الكنيسة حين وصلت. تأسست مؤسسة لآرش على التعاليم الكاثوليكية (كان هذا سببا آخر لرفضي لها كمكان لرعاية ووكر، على الرغم من أن المؤسسة قد وسعت من أسسها الروحية منذ ذلك الحين). لكن القداس الذي كان مقاما في قبو الكنيسة كان شيئا لم آلفه على الإطلاق؛ كان يبدو أشبه بتجمع قروي، مقام في حانة حول طعام وحوله صخب، ويتخلل ذلك قداس للكنيسة من أجل الترفيه.
يقع المذبح في ركن يتقابل فيه الدرج مع الجدار، وتبدو حجرة الاجتماعات بالكنيسة عبارة عن مساحة محاطة بفواصل مكتبية. كان يدير القداس بطريقة غير معهودة تماما كاهن طويل أسود يرتدي رداء كهنوتيا أبيض ووشاحا ملونا، ولم تكن تبدو للقداس بداية أو نهاية محددة، وكان الكاهن في حديثه يجمع بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ويتحدث عن المسيح وأتباعه، ومن حين لآخر كان يسأل سؤالا، ويجيب عنه أحد الحاضرين.
قال الكاهن: «لماذا نقول: إن المسيح راع؟» «للمسيح أتباع يتبعونه، مثل الغنم، هل ما أقوله صحيح؟» كان هذا هو رد رجل في الثلاثينيات من عمره كان يقف في الخلف في جماعة المصلين، وكان يرتدي قميصا أسود خاصا بلعبة الهوكي، وعليه كلمة «كندا» مكتوبة في الخلف باللون الأحمر. وبعد رده، سمعت نكات عديدة حول الغنم.
بلغ عدد الحاضرين في ركن قبو الكنيسة 21 فردا، كلهم من البالغين، وكان من الواضح أن معظمهم من المعاقين، والتف حولي ثلاثة منهم لمعرفة من أنا حين دخلت؛ وسارع اثنان منهم إلى مصافحتي أو مسك يدي، ولم أكن أدري ماذا كانوا ينتظرون أن أكون.
سأل الكاهن: «في أي مناسبة أخرى، سمعنا هذه الكلمات، عن كون المسيح راعيا؟»
تمتم شخص ما قائلا: «تعم... تعم... تعميد المسيح؟»
قال الكاهن: «مرحى!» تصفيق كبير، واستحسان التصفيق بتصفيق أكبر.
بدأت الفرقة - عازفا جيتار وطبال - في العزف، مصحوبة بجوقة منتظمة من السعال والتنحنح؛ وكأنما يجري هذا القداس في عنبر مرضى السل. نظرت امرأة كانت أمامي - كانت قصيرة ومنحنية في الستينيات من عمرها، وفمها كان مفتوحا بشكل دائم - إلى رابطة عنقي وشهقت بصوت عال، وأقبل علي رجل آخر وقال: «أنا أصلي من أجلك.» يجب أن أعترف أنني شعرت بأنني سأطلب المساعدة. سأل باللغة الفرنسية، مستدركا: «ما اسمك؟» مدت صاحبة الشهقة العالية المعجبة برابطة عنقي يدها وأمسكت بيدي، ولم تكن تريد تركها. كل ما كنت أخشاه باختصار هو الجراثيم. وقد أراد هذان الشخصان أن يكونا صديقين لي.
أمامي، وضع الرجل الذي كان يرتدي قميص الهوكي (والذي علمت بعد ذلك أن اسمه ريكي) ذراعه حول ريتشارد، وهو رجل أكبر منه في السن، وأكثر صلعا منه، كان يقف بجواره. وكان ريتشارد يرتدي سترة سوداء وقميصا ذا مربعات ورباطا سميكا من المطاط الأسود لحمل نظارته. مال ريكي على صديقه بشدة، وهمس بشيء في أذنه، فتنهد الرجل الكبير ثم قال: «أوووه! وأنا أحبك أيضا.»
كان هناك سبعة من المساعدين في مؤسسة لآرش في الجمع، واحد لكل نزيلين، وكان يبدو هذا كافيا. وجهت إحدى المساعدات - التي كانت تنتمي إلى سكان كندا الأصليين، وكانت في العشرينيات من عمرها - وجهها مقابل وجه رجل مصاب بمتلازمة داون بجوارها، ولمست جبهته بإصبعها. ومن حين لآخر، كان يتعرف مضيفي، جان لوي مان، على شخص ما في الجمع ويكزني بمرفقه كي أنتبه إليه، ثم يعرفني بحالة هذا الشخص. قال مومئا برأسه لرجل طويل وهادئ يرتدي قميصا أخضر: «حين وصل إلى هنا منذ 20 عاما، كان عصبيا جدا لدرجة أن يديه كانتا دائما مقبوضتين.» والآن كان يبدو الرجل سعيدا بالتخلص من مشاعر القلق التي كانت تنتابه، مع قيامه بلعق شفتيه من آن لآخر.
انتهى القداس فجأة، وبدأ الناس يلبسون قبعاتهم، التي كانت عبارة عن مجموعة مذهلة من أغطية الرأس الكندية الكلاسيكية؛ قبعات لها مقدمات كبيرة وأغطية للأذن مثل دلايات إطارات وأغطية محركات السيارات، قزمت من حجم رءوسهم.
تقدم ريكي نحوي وذراعه في ذراع ريتشارد؛ كان ريتشارد يحدث صوت فرقعة بشفتيه. قال ريكي لي: «هذا ريتشارد، كان معي في «مركز الإيواء» الذي كنت فيه، وكنا ننام معا.» كان يقصد في الغرفة نفسها في فرع مؤسسة لآرش الذي كانا يعيشان فيه، وتطلق لآرش على مقراتها «مراكز إيواء»
foyers ؛ المقابل الإنجليزي مأخوذ من كلمة فرنسية تعني المكان الدافئ المحيط بمدفأة.
كان الأمر يشبه مشهدا في إحدى روايات بلزاك أو حتى هوجو، مع وجود شخصياتهم الغريبة التي لا تنسى، في كل مكان. في أول مرة في حياتي أكون فيها محاطا بكبار السن من المعاقين عقليا الذين قد قابلتهم لتوي، أدركت فجأة أنني لم أكن قلقا. ***
عادت مشاعر القلق إلي عندما قادني جان لوي عبر شوارع فيردان، في جنوب مونتريال؛ فقد دعينا إلى العشاء في أحد المقرات الخمسة، التي كانت تخصصه مؤسسة لآرش للمعاقين في المنطقة. فقد تعرضت المدينة لعاصفة جليدية عنيفة في اليوم السابق، وفي المساء كانت الشوارع مليئة بالناس الذين يزيلون الجليد من ممرات سياراتهم الخاصة، ولم أكن أعلم إلى أين نحن ذاهبون، وماذا أتوقع، وما المتوقع مني. وفي النهاية توقفنا أمام منزل جميل مكون من طابقين، وحيانا جيمي ديفيدسون عند الباب؛ وهو رجل قصير وممتلئ الجسم وشعره أحمر ومصاب بمتلازمة داون. كان يلبس بيجامة - بنطلون البيجامة مصنوع من قماش الفلانيلة، ولونه أزرق عليه صور باور رينجرز، وتي شيرت يتماشى معه - وشبشبا. قال جيمي: «أشعر بالاسترخاء التام.» ثم صافحني، وكان عمره 45 عاما.
كانت هناك صورة للعشاء الأخير للمسيح معلقة على الحائط، وهي نوع من الأيقونات التي تجعلني على الدوام في موقف الدفاع، وكذلك لوحة إعلانات، وخزانات صفراء، ونباتات؛ فهو مكان للعيش. وإضافة إلى المساعدين الثلاثة في الدار (مقدمو الرعاية في دور رعاية لآرش يطلق عليهم دائما مساعدون) وجيمي، هناك أربعة نزلاء آخرون (وهو الاسم الذي يطلق على المعاقين في لآرش) كانوا يجلسون معنا على العشاء أمام طاولة المطبخ المصنوعة من خشب الصنوبر، وهم: مارك، وهو رجل في منتصف العمر، كثير الابتسام قليل الكلام؛ وسيلفي، التي لم تكن تتحدث أيضا؛ ويدفيجا، وهي امرأة في الستينيات من عمرها، وهي التي أعدت الوجبة، ويمكنها تذكر الأرقام، ولكن لا تتذكر كثيرا من الوجوه؛ وإيزابيل، وهي شابة هادئة تتحرك بكرسي متحرك، وواضح أنها مصابة بشلل دماغي. جلست إيزابيل في نهاية الطاولة، ولم تكن تستطيع تحريك ذراعيها أو رجليها أو تغيير زاوية رأسها أو الكلام؛ ولكنها كانت تتابع كل الأمور بعينيها، بما في ذلك المحادثات، وكثيرا ما كانت تبتسم بلطف لما يدور حولها.
أصبت بارتباك شديد، ولكن لم يكن لدي وقت للتفكير في ذلك؛ لأن جيمي الذي كان يجلس بجواري - كنت أجلس في موضع الشرف عند رأس الطاولة - كان يمطرني بأسئلة كثيرة بشأن أي من شخصيات باور رينجرز أفضل وأيها ليس أفضل، وفي المقابل أمطرته بأسئلة كثيرة؛ سألته عن المدة التي قضاها في هذه الدار.
أجاب: «سنتين في الدار.» «أين كنت تعيش قبل ذلك؟»
لم يستطع جيمي التذكر، ولكنه أجاب: «مع، أممممممم.» ثم قال: «مع أمي.» كانت تزوره أمه كل أسبوع، وكانت نبرته في الحديث تصبح نبرة جادة حين يتحدث عنها.
كنا نخوض في التفاصيل المختلفة لحياته - كان جيمي يشجع فريق تورونتو ميبل ليفس، وهو فريق قليل الشعبية في مونتريال - حين وصلت ناتالي، وهي امرأة طويلة في الثلاثينيات من عمرها، ابتسامتها عريضة جدا تقدر بثلاثمائة وات، ويلف رقبتها وشاح أنيق على طريقة أهل مونتريال. كانت ناتالي المسئولة عن الدار - المديرة - تزور مادلين، نزيلة أخرى في الدار، كانت في المستشفى لإصابتها بكسر في ساقها.
قام جيمي بشكل مفاجئ وأحضر كرسيا لناتالي، وأمسكه لها. لم يحدث كثيرا أن رأيت عودة شخص في نهاية اليوم إلى المنزل تقابل بمثل هذه السعادة الكبيرة. قالت ناتالي باللغة الفرنسية: «ترسل مادلين سلامها للجميع، ولا سيما جيمي.»
ابتسمت إيزابيل، وهي الشابة التي كانت تتحرك بكرسي متحرك، ابتسامة عريضة.
قال جيمي: «يا لها من فتاة سيئة، داف!» مضيفا كنوع من الشرح لي: «هذا هو الاسم الأول لدافي داك.»
ثم أمسك بعضنا بأيدي بعض، ثم تلونا صلاة الشكر، وتناولنا بنهم حساء السمك اللذيذ، على الرغم من أنه بدا لي أن لبعض النزلاء وجبات خاصة بهم.
كان هناك ثلاثة ضيوف آخرون، وهم: ألين، وهو اختصاصي نفسي من فرنسا يعمل في الدار منذ بضعة أشهر؛ وكاتي، وهي مساعدة من فلسطين؛ وسيجولين، وهي راهبة من فرنسا تعمل في الدار إضافة إلى اهتمامها بأمور تتعلق بمستقبلها.
قالت ناتالي: «هذا هو بيتي الأول، وأسرتي الأولى.» فقد بدأت حياتها المهنية معلمة في المدارس الحكومية، ولكن العمل في مؤسسة لآرش غيرها، وهي تعمل هناك منذ أحد عشر عاما. قالت: «أول مرة أعمل مع المعاقين كانت أول مرة أشعر فيها بالارتياح الداخلي.» واندهشت عندما سمعتها تقول ذلك؛ فهي جذابة، واجتماعية، ومتحدثة لبقة، ولديها ثقة بالنفس. «كنت خجولة، ولكن معهم فأنا القائدة، أتخلص من خجلي وأصبح أكثر ثقة بنفسي.» كانت تعتقد بأن هناك جانبا من عملها مرتبطا بالدين، قد منحها فرصة «لكي أتعرف على الرب في حياتي، وفي حياة الآخرين. وأذكر ذلك أيضا.» ولكن الدين أمر شخصي، ولم تكن تريد أن تفرضه على أحد. قالت: «يتمثل أكبر تحد لي في أن أكون مع الناس غير المعاقين، ويصعب علي أكثر أن أتقبلهم، والأمر أيسر مع إيزابيل. حين تقوم إيزابيل أو جيمي بأشياء غريبة، أقول في نفسي: أوه، هذا لأن لديهما إعاقة. ولكني لا ألتمس هذا العذر للأشخاص الطبيعيين الذين ليس لديهم إعاقات، حين يقومون بأشياء غريبة.»
قال جان لوي مشيرا برأسه لجيمي: «الناس الذين يقومون بأشياء غريبة؟ هل تقصدين هذا الشاب الجالس هناك؟» «في بعض الأيام نعم، وفي أيام أخرى لا.» كانت هذه مزحة. «أنت تعلم، يا جيمي، أن جان لوي يعرف أم إيزابيل.»
يرد جيمي: «لا تعرف إيزابيل ذلك.» «لا، لكنك تعرف ذلك.» «أجل.»
قالت ناتالي: «مممممم.»
إيزابيل، الساكنة في نهاية الطاولة، كانت تسطع مثل النجم الوديع، تراقب ما يقال، ولم يكن لديها سوى طريقتين من طرق التواصل؛ فقد كانت تحرك عينيها لأعلى، للدلالة على الموافقة، ولأسفل للدلالة على الرفض، وأحيانا كانت تخلط بين الاثنتين، بهدف مداعبة الآخرين. كانت هذه من المداعبات القليلة التي كانت تستطيع أداءها، وقد نجحت في أدائها. كانت مسمرة في الكرسي المتحرك مثل العينات التي يجمعها عالم الحشرات، ولكنها مثل الفراشة كانت جميلة. أخبرتني سيجولين، الراهبة الزائرة، بأن رعاية إيزابيل وإلباسها وتحميمها ومصاحبتها، جعلها تدرك كم هي تحبها. إن سيجولين المثابرة ذات الشعر الأسود والتي كانت في أوائل الثلاثينيات من عمرها راهبة في أخوية القدس في باريس. وقد جعلها التعامل مع إيزابيل في مؤسسة لآرش تسأل نفسها عما إذا كانت تريد العودة إلى الأخوية، وفيما إذا كانت تستغل وقتها على نحو جيد في هذا العالم. قالت : «أحيانا عندما أرى إيزابيل، تتولد لدي رغبة في رعايتها وحبها، وأريد أن أفعل ذلك من أجلها؛ لأن هذا لا يجدي نفعا إذا فعلته لأي سبب آخر، ولكن تدعوني عقيدتي لأن أقوم بهذا من أجل المسيح. ولا أريد أن أحب إيزابيل من أجل المسيح.» ولقد هزت إيزابيل إيمان سيجولين وما تراه مهما، ولقد تركت سيجولين العمل المعتاد في الكنيسة لكي تنضم إلى العالم الخارجي بسبب شابة لا تستطيع الحركة أو الكلام.
وأضافت: «كانت هذه أول مرة أقابل فيها شخصا مصابا بإعاقة في مصحة نفسية، وكان هذا الشخص ضعيفا ورقيقا جدا، ومما أدهشني أنه استدعى ما بداخلي من حنان، خرج مني بسبب هذا الشخص. أرى أن هذا الحنان، الذي كان هائلا جدا، يخرج من شيء أكبر مني. هذا ما جعلني أبقى هنا، تلك اللحظة، ذلك الحنان. فإيزابيل في حاجة إليه، ولهذا السبب هي هنا. هي التي علمتني الفرق بيننا نحن الذين نستطيع الاختيار وبين الشخص الذي لا يستطيع أن يختار. وأعتقد أنها بالنسبة إلي قديسة حقا. وتعلمنا إيزابيل أن نكون أنفسنا؛ لأن إيزابيل نفسها تفعل ذلك، وهي منسجمة مع ذلك.»
بوصفي صحفيا، أقضي معظم حياتي في الحديث إلى الناس الذين يحاولون جذب انتباهي، ونادرا ما يكون هناك أشخاص يستحقون هذا، وفي تلك اللحظات، يحيط بالحوار سكون، وليس لدي أي رغبة في أن أكون في مكان آخر، حيث أكون في صحبة الشخص الذي أتحدث معه. والشيء الملحوظ بشأن هذه الدار في فيردان هو السكينة التي حلت علي كثيرا في أمسية واحدة، ولمدة طويلة لم أكن أرغب في الانصراف.
ولكن في النهاية اضطررنا إلى ذلك، وودعناهم أنا وجان لوي. كان الجليد يتساقط في الخارج في شوارع فيردان، ماحيا ما قام به الناس من أعمال إزالة للجليد في النهار. لم أستطع نسيان ما قالته سيجولين، وظللت أفكر: هل كان من الممكن أن يكون ووكر بمنزلة إيزابيل بالنسبة إلى شخص آخر؟ وهل يمكن أن يكون بمنزلة إيزابيل بالنسبة إلي؟ لا يمكن لووكر أن يكون غير ووكر ، فليس له خيار. فلو كان في مقدوري أن أجعله يتصرف على طبيعته، وأتخلص من فكرة أن أجعله كما يفترض أن يكون، لربما فعلت الشيء نفسه.
كانت هذه أفكار شاردة في ليل يتساقط فيه الجليد. ***
بعد ستة أسابيع، في كويز-لا-موت، وهي قرية تبعد تسعين كيلومترا شمال شرق باريس، رأيت تصورا أدق لمستقبل محتمل لووكر.
تعد كويز-لا-موت واحدة من أربع قرى بها مجتمعات خاصة بلآرش، تمثل وحدة واحدة في بيكاردي. القرى الثلاث الأخرى هي: بيبرفو وترولي-برويل وكومبين، والتي تعد ذات مساحة كبيرة بحيث تم إقامة جامعة فيها. وفي وسط تلك المنطقة غابة مساحتها 36 ألف فدان، وهي إحدى المحميات الفرنسية الشهيرة المسموح فيها بالصيد، غابة سابقة للملك. وقد اختبأت جان دارك في هذه الغابة قبل أسرها في كومبين عام 1430، وهي الغابة نفسها التي وقع فيها المارشال فرديناند فوش على هدنة مع الألمان نيابة عن الحلفاء في 11 نوفمبر عام 1918، ونفس المكان الذي أرغم فيه أدولف هتلر فرنسا رسميا على الاستسلام للنازيين بعد 22 عاما. هناك قصران كبيران في المنطقة، يقال: إن أحدهما يمثل إلهاما للقلعة في فيلم الرسوم المتحركة «الجمال النائم» الذي أنتجه والت ديزني، ولم تذكر اللافتات السياحية مجتمعات لآرش، على الرغم من أن الناس الذين يعيشون فيها يمشون في الشوارع مثل المواطنين العاديين.
كان نزلاء دور رعاية لآرش من ذوي الإعاقة الشديدة جدا، من الناحية العقلية والبدنية، يعيشون في دار رعاية متخصصة تسمى «لا فورستيير» - والتي تعني الغابة باللغة الفرنسية - في ترولي-برويل. أما «لا سيمانس» - والتي تعني البذرة باللغة الفرنسية - حيث ذهبت، فكانت دار رعاية الأشخاص الذين في الغالب كانوا لا يستطيعون الكلام، ولكنهم يتحركون بصعوبة، ولديهم الوعي بما حولهم ويستطيعون التعبير عن وعيهم، ولكن ليس بمفردهم. وهذا المكان كان يناسب ووكر، في نهاية المدى المحدد. كنت أجلس في غرفة نوم الضيوف، الشخص الوحيد في غرفة تسع أربعة أشخاص، وخارج نافذة الغرفة كانت هناك شجرة ماجنوليا مزهرة وشجيرات إكليل الجبل وخزامى يانعة. كنا في شهر أبريل.
وصلت رحلة الطيران الخاصة بي إلى باريس في هذا الصباح، ووصلت إلى كويز- لا-موت قبيل وقت الغداء، وتضمنت خطتي البقاء لبضعة أيام، لرؤية كيف تعمل مؤسسة لآرش، وللتحدث إلى جان فانيه، وهو واحد من أوائل المفكرين في العالم فيما يتعلق بموضوع الإعاقة؛ إذ أردت معرفة وجهة نظره فيما يمثل حياة مرضية ومحترمة وعادلة لووكر. لقد قرأت بعض كتب فانيه، ووجدتها مختلفة. كان فانيه يؤمن بأن المعاقين يستحقون مكانا خاصا بهم، وأنهم عادة ما يريدون العيش بعيدا عن أسرهم وآبائهم إذا توافرت لهم بيئة داعمة بصورة كافية، وكانت هذه فكرة ظننت أنني يمكن أن أدعمها. علاوة على ذلك فقد أكد أن المعاقين قادرون على تعليم الأصحاء أشياء أكثر مما يستطيع الأصحاء تعليمهم إياها، وإذا كان فانيه على صواب، فليس علي لوم نفسي للسماح لووكر بأن يحيا حياته بمفرده، على الأقل بدرجة ما. على نحو ما، ذهبت إلى هذا المكان لأكتشف إن كنت أقوم بما ينبغي نحو ولدي أم لا. فرغت محتويات حقائبي وجلست إلى الطاولة في مطبخ غرفتي الصغير لأراجع الأسئلة التي سأطرحها على فانيه بعد الظهر. كنت قد كتبت صفحة أو صفحتين من الملاحظات حين سمعت طرقا على الباب، فتحت الباب لأجد رجلا طويلا ذا لحية وسترة حمراء، وعلى الفور قدم إلي بعض الماء. قبلت، ودعوته للدخول، وطلبت منه أن يجلس على مقعد أمام طاولة المطبخ.
كان عمره 64 عاما، ولكنه يبدو كأن عمره 50 عاما. اسمه جاري ويب، ومع أنه ليس معاقا، فهو يعيش في دار رعاية «لا سيمانس». كان ويب يعمل مدير مؤسسة لآرش للمشروعات الخاصة، وقد عاد لتوه من رحلة قضاها بالبرتغال اصطحب فيها خمسة عشر نزيلا من نزلاء لآرش. وقد نشأ ويب في فانكوفر، وترك المنزل في سن الثامنة عشرة. وقال لي بصراحة: «ليست ثقافتي.» سألته كيف جاء للعمل في مؤسسة لآرش، ولكنه لم يعجبه ذلك؛ لأنه كان يرفض أن يعتبر ما يقوم به عملا، وقال: «هذه حياة ... وجود، والعمل جزء منها ، وكل من يأتي إلى هنا يتغير بسببها، فإقامة العلاقات هي أولويتنا. ونحن نعرف الناس بما نفعل من خلال التصرف على سجيتنا.» إن كل ما قاله كان مثيرا للاهتمام ومتحررا ومفعما بالحيوية، وجعلني منفعلا بشدة. ولكن هذه الطريقة كانت غالبا طريقة بداية الحوارات مع الناس في مؤسسة لآرش، فلم يكن يبدو أنهم كانوا يعانون من الوعي الذاتي كما نعاني؛ فسواء أكانوا معاقين أم غير معاقين، كانوا يشرعون فورا في إقامة «علاقة» مع كل من يقابلونهم، متى قابلوهم. ووجدت حماستهم مقلقة، فهل كانوا ثملين أو يتعاطون المخدرات؟ هل كانوا يدخنون الطيبة؟ بما يهتمون على أي حال؟! أعجبني انفتاحهم، ولكن لكوني ممن تربى في المدن، فلم تكن لدي رغبة في تقليد ذلك؛ قدرت كرمهم، ولكن لكوني ممن تربوا في ظل رأسمالية القرن العشرين، انتابني شك في مدى إخلاصهم. فإذا قدر لووكر أن يعيش في مثل هذا المكان، فهل سيحاط بأناس يعتنون به من أجله، أم أناس يعتنون به لأنهم في طائفة دينية؟ لا أريد لووكر أن يكون في طائفة دينية.
تلقى ويب تدريبا كنسيا يسوعيا، وقضى سبع سنوات في دير تابع لإحدى الطوائف الكاثوليكية الرومانية قبل أن يأخذ إذنا بالرحيل لإعادة تقييم حياته. كانت لديه خيارات عديدة؛ فقد درس الفلسفة وعلم اللاهوت وعلم النفس في الجامعة، وكان والداه فنانين، وكان ويب نفسه يعمل نحاتا بدوام جزئي، وفي أوقات أخرى ممثلا، وكانت لديه متطلبات صارمة لمساره الجديد؛ فعليه أن ينشأ في مجتمع جديد، وأن يكون مسئولا عن عمل، مع الفقراء أو من يشابههم، وألا يحجبه هذا العمل عن بقية العالم (فلم يكن يريد أن يكون محصورا في دير مرة أخرى)، ويجب أن يمثل عمله التزاما على المدى الطويل، وأن يكون شموليا، وأهم من ذلك، أنه يتعين أن يتم في مجتمع يحترم «روحانية كل شخص». حكى لي عن أول مرة زار فيها مؤسسة لآرش فقال: «طلبت أن أبقى ثلاثة أيام، ثم طلبت أن أبقى ثلاثة أسابيع، ثم ثلاثة أشهر، ثم عاما.»
كنت على وشك سؤاله إذا كان العيش في لآرش مملا في أي وقت، ولكن في هذه اللحظة أوضح ويب أنه جاء فقط للترحيب بي، وهو في طريقه للقرية المجاورة ترولي-برويل، لكي يزور جان فانيه في بيته، حيث كانا يتقابلان مرة كل أسبوعين. «فيم تتحدثان؟»
قال ويب: «عنا.» «أوليس عن الأحوال في لآرش؟» «يا إلهي! لا، عنا ... عن أموري؛ لماذا ما زلت أشعر بالخوف على نحو مفاجئ في تعاملاتي مع العالم؟ ولماذا ما زال يجري هنا وهناك بشكل محموم مثل الديك مقطوع الرأس.»
بينما كان يستعد للقيام، اعترفت بأني أنفعل قليلا لمجرد احتمال الحديث مع أناس لا يستطيعون الكلام، فسخر مني ويب ولوح بيده قائلا: «في رأيي نزلاء لآرش هم معلمونا، وإذا تواصلت معهم، فستكون الأمور على ما يرام معك. الغداء الساعة الثانية عشرة والنصف.» ثم انصرف. ***
بعد ساعة، وفي غرفة الطعام، قابلت الناس الذين من المفترض أن أعيش معهم الأيام الثلاثة التالية.
كان جيرارد في الخمسينيات من عمره، كان يستطيع الكلام ولكن بصعوبة، بيد أنه كان يحدث أصوات صهيل، وكان يحب أن يحكي قصصا، ومعروف عنه أنه كان يذهب إلى البلدة لشراء زجاجات جعة. أما لورينت (والذي كان يعرف أيضا بلورينزو؛ لأنه ولد في إيطاليا) فكان مهندما وأنيقا؛ حين كان يأكل، كان يصدر صوت أنين خفيفا، وكان يحب أن يدخل إلى أية حجرة ثم يقف ساكنا بلا حركة لفترات طويلة. قالت ليدي، وهي شابة من جنوب فرنسا كانت مساعدة للورينت: «يحب لورينت القطارات، ولديه كتب متنوعة عن القطارات.»
قال لورينت باللغة الفرنسية: «قطار!» وكانت الكلمة الوحيدة التي سمعتها منه.
ردت ليدي باللغة الفرنسية: «نعم.»
كان كثير من النزلاء يرتدون مناديل عنق كبيرة، على شكل صدريات أطفال، استعدادا لطعام الغداء. كانت فرانسين على كرسي متحرك؛ وبسبب إصابتها بشلل دماغي، كانت لا تستطيع الكلام، على الرغم من أنها كانت تستطيع إصدار بعض الأصوات، وكانت تهتم اهتماما شديدا بمن حولها. هناك نزيل آخر يدعى جان كلود، كان يمكنه التنقل بنفسه بالكرسي المتحرك، وكان يحب الكونياك، وكان يمكنه سماع ما يقوله الآخرون، ولكن لا يمكنه الرد، وكان يحمل الشيء المفضل لديه، وهو لعبة على هيئة حيوان راكون محشو، أينما ذهب، وقد كان في نفس سني. أما سابينا فيبدو أنها مصابة بشكل حاد من متلازمة داون، وكانت تقضي معظم وقتها صامتة على الكرسي المتحرك.
الشخص الذي لفت انتباهي أكثر هو رجل صغير الحجم، ومحني الظهر، ويقظ يدعى جيجي. كان عمره 46 عاما، وكان يذكرني بووكر، وأذهلني ما بينهما من تشابه كبير؛ كنت أستطيع ملاحظة فضول جيجي الذي لا يتوقف، ووحدته الدائمة، فهو لم يكن يتكلم قط، بيد أنه كان يلاحظ ما حوله باهتمام ومكر، ورأسه مائل، وقد كان يجعله الغناء يبتسم، وكان يحدث أصوات فرقعة بفمه، ويمشي بطريقة غريبة، إذ كان نصف منحن، ومن عادته الحملقة في يديه كما لو كانت يدي شخص آخر، تماما كما كان يفعل ووكر.
لم يتحدث أحد في لآرش عن الدمج، الطريقة التي يتحدث بها أحيانا العاملون في دور الرعاية التقليدية المخصصة للمعاقين؛ أنشئت هذه الدار للمعاقين ولم يكن يدعي أحد فيها أن نزلاءها سيكونون في نهاية المطاف جزءا من المجتمع «العادي»، فالناس أمثالي غرباء هنا. هناك روتين وبناء ومجتمع من الأفراد، ولحياتهم أهمية على ما هم عليه، دون الحاجة لأي قيمة مضافة. تم إعداد المائدة، وتلاوة صلاة الشكر، ووضعت حافظات أدوية جلدية حمراء بعناية أمام كل نزيل على المائدة، إضافة إلى الأدوية المساعدة على الهضم؛ صيدلية أدوية منظمة صغيرة بجوار كل كوب ماء. وكان يمكن لبعض النزلاء أن يأكلوا بأنفسهم، ولكن كثيرا منهم كانوا يحتاجون إلى مساعدة في إطعامهم بالملعقة. وبينما كنا نأكل، كان المساعدون يتحدثون مع النزلاء الذين كانوا يقومون برعايتهم، ويرد النزلاء إما بصوت النخر أو الضحك أو الأنين أو الزقزقة، وكان جيرارد النزيل الوحيد على المائدة الذي يمكنه بدء ما كان يبدو لشخص من العالم الخارجي وكأنه محادثة، بيد أن هذا لم يكن يمنعهم من التحاور. كان هذا شكلا من أشكال الحديث، ولكن ما عليك إلا أن تترك الحديث يأخذك إلى منتهاه.
بعد الغداء، عاد إلى العمل النزلاء الذين كانوا يعملون في ورش لآرش ويصنعون حليا صغيرة ومجوهرات، وذهب الآخرون للمشي. فهو مجتمع للمعاقين، ولا جدال في ذلك، ولكن لأن المعاقين كان ينظر إليهم - وهم ينظرون إلى أنفسهم - على أنهم متساوون مع الآخرين، فلا مجال للشعور بأن هناك ترتيبا «خاصا». كان هذا عالمهم، وليس عالمنا، وهذه معاييرهم، وليست معاييرنا. كانت حركة الحياة أبطأ، والحياة نفسها أيسر. صحيح أنه كان هناك تأخر ومشكلات، ولكن الجميع كان يتقبل ذلك. لقد كان مكانا رائعا حقا، ولم يوحي مطلقا بأن الحياة ينبغي أن تكون غير ذلك. ***
بعد شهرين من زيارتي لمؤسسة لآرش، وفي حفلة أقيمت في تورونتو، سخر صديق لي من ورع جان فانيه، فقال: «من الصعب جدا أن تتقبل أن شخصا يتمتع بذكائه وفرصه في الحياة يريد أن يعيش مع هؤلاء الناس ... ولكن ربما يريد أن يتأكد دوما من أنه الأذكى في المكان.» ما استنتجه صديقي كان مزحة رهيبة، لو سمعها فانيه لضحك عليها على الفور.
ولكن كان هناك شيء يدعو إلى المزحة؛ إذ لفانيه سمعة كبيرة، نتيجة لحياة كرسها للإنجاز؛ فقد أسس مؤسسة لآرش، وقد كان مرشحا دائما للحصول على جائزة نوبل للسلام، وقد كتب العشرات من الكتيبات والكتب، بما في ذلك الكتاب الأكثر بيعا على المستوى العالمي: «كيف تصبح إنسانا».
ولكن على المستوى الشخصي، كان فانيه شخصا مهيبا؛ فمنزله - المنزل الذي يعيش فيه حين لا يكون على سفر عبر العالم من أجل مؤسسة لآرش - كان عبارة عن كوخ حجري صغير جدا يقع خلف الشارع الرئيسي لترولي-برويل. وبداخله وخلف مكتب ضيق بالقرب من مطبخ متواضع، وجدت رجلا طويلا خجولا متواضعا ذا لحية بيضاء، يلبس سترة لونها أزرق فاتح.
ولد جان فانيه في جنيف بسويسرا، في العاشر من سبتمبر عام 1929، بينما كان والده جورج فيليس فانيه - وهو جنرال متقاعد في الجيش الكندي - هناك في مهمة دبلوماسية. التحق فانيه بالمدرسة في إنجلترا، ولكن في بداية الحرب العالمية الثانية ذهب ليعيش مع إخوته في كندا، من باب الأمان كما فعل كثير من الأطفال الإنجليز الآخرين.
في أواخر عام 1941، طلب لقاء والده، وبما أن والده كان المبعوث الخاص لكندا في ست دول أوروبية وفي الحكومة الفرنسية الحرة في المنفى (وفيما بعد أصبح الحاكم العام التاسع عشر لكندا)؛ تطلب هذا تحديد موعد. كان جان يريد الالتحاق بالبحرية البريطانية، عن طريق الكلية البحرية الملكية في إنجلترا، وكان عليه أن يعبر المياه الخطيرة للمحيط الأطلنطي، وهي الفكرة التي رفضتها أمه بشدة، ولكن كان لوالده رأي آخر. قال جورج فانيه لابنه: «إذا كان هذا ما تريده حقا، فاذهب. فأنا أثق بك.» وتذكر فانيه هذا الحوار لاحقا باعتباره لحظة فارقة في حياته.
كان صغيرا لدرجة أنه لم يشارك في الحرب الفعلية، ولكنه شهد تحرير باريس، وفي السنوات التالية ساعد في عملية إعادة الناجين من معسكرات الاعتقال في داكو وفي أماكن أخرى. وبحلول عام 1950 التحق بحاملة الطائرات الأكبر في كندا.
في البحر، بدأ فانيه يسأل هل كان يريد فعلا أن يكون في البحرية؟ وبدأ يصلي من أجل الوصول إلى قرار محدد، ولاحقا كتب في كتابه المنشور باللغة الفرنسية بعنوان «كل شخص قصة مقدسة»، والذي ذكر فيه قصة استدعائه الروحي، أنه بدأ يشعر بأنه «مدعو للعمل بطريقة أخرى من أجل السلام والحرية.» وكان أكثر إخلاصا في تلاوة صلوات الساعات الكاثوليكية من الحراسة الليلية، وشعر بأن الرب يناديه، وفي غضون بضع سنوات استقال من المهمة البحرية والتحق بالمعهد الكاثوليكي بباريس لدراسة الفلسفة واللاهوت. علاوة على ذلك انضم إلى جمعية لو فيف، وهي جمعية صغيرة من الطلاب المكرسين أنفسهم للصلاة والميتافيزيقا بقيادة الكاهن الدومينيكي الفرنسي، بير توماس فيليب. وبعد وصول فانيه بفترة قصيرة، مرض بير توماس، وطلب من فانيه إدارة الجمعية، وأدارها لمدة ست سنوات.
في مساء أحد الأيام، أخبرني فانيه ونحن نشرب فنجانا من الشاي: «أعتقد أنني كنت أتنقل بين أماكن كثيرة؛ فقد عملت ضابطا في البحرية، ثم تركت البحرية وانضممت إلى جمعية بالقرب من باريس. كنت في مرحلة البحث، ولم أكن أعرف على وجه التحديد ما علي فعله ، ثم تلقيت خطابا من كلية سانت مايكل في تورونتو: هل يمكن أن تأتي وتقوم بالتدريس؟ كان هذا أمرا مهما.» وبحلول عام 1963 وفي سن الرابعة والثلاثين، ناقش فانيه رسالة الدكتوراه بجامعة تورونتو (والتي كانت بعنوان: «السعادة: مبادئ الأخلاق الأرسطية وأهدافها») وكان معيدا مشهورا له اهتمام أكاديمي بأخلاقيات الصداقة. «ولكني أدركت أن التدريس لا يناسبني، وكان هناك شيء بداخلي يدعوني إلى وجود التزام من جانبي تجاه الناس، وليس الأفكار.» وقضى وقتا طويلا يزور مناطق مختلفة من المجتمع؛ أبرزها السجون القريبة من أوتاوا، حيث اعتاد الصلاة مع نزلاء السجن والحراس والمسئولين والاختصاصيين النفسيين العاملين في السجون، وكتب بعد ذلك قائلا: «وبعد فترة، لم يكن أحد يعرف [أثناء فترات الصلاة] من السجين أو من الحارس.» وكانت أول تجربة له في الحياة خارج النظام المؤسسي؛ وهو ما كان يمثل نموذجا أوليا لما ستكون عليه مؤسسة لآرش لاحقا، والتي يعيش فيها النزلاء والمساعدون جنبا إلى جنب متساوين. وحيث إنه قد تربى في مجتمع دبلوماسي بروتوكولي وكلية حربية، فقد كان المجتمع غير الطبقي كشفا بالنسبة إليه.
في صيف عام 1963، وبعد انتهاء العام الدراسي في تورونتو، زار فانيه أستاذه الروحي العجوز بير توماس. كان توماس قد تقاعد عن التدريس عقب خلاف نشب بينه وبين الفاتيكان، وكان قد عمل حينها كاهنا ملحقا بمؤسسة لو فال فلوري، وهي مؤسسة صغيرة للرجال المصابين بإعاقات خاصة بالنمو في قرية ترولي-برويل الصغيرة. قال فانيه عن زيارته الأولى: «كنت خائفا بعض الشيء؛ لأن ... حسنا، كيف تتعامل مع أناس لا يتكلمون، أو يتكلمون بصعوبة؟»
لكن لقاءاته مع الرجال الذين لديهم إعاقة عقلية في ترولي لم تكن مخيفة. قال: «ما أثر في أن كل واحد منهم كان يقول، بطريقة أو بأخرى: «هل تحبني؟ وهل تقبل أن تكون صديقي؟» وجدتهم مختلفين كثيرا عن طلابي بالجامعة. كان طلابي يريدون خلاصة عقلي، ثم يغادرون ويحصلون على وظيفة وعلى المال، ويكونون أسرة، ولكن هنا الأمر مختلف تماما؛ وفي رأيي فإن قولهم: «هل تقبل أن تكون صديقي؟» أثار أشياء كثيرة بداخلي، وأرى أني كنت أبحث عن مكان كهذا يصبح لدي فيه التزام تجاه الآخرين.»
أوضح فانيه الأمر قائلا: «كان هذا في وقت مارتن لوثر كينج، والذي أراد أن يحرر المضطهدين. وفي رأيي أن المعاقين من بين أكثر الناس اضطهادا في هذا العالم، وأرى أنه من صميم أهداف إنشاء مؤسسة لآرش الرغبة في التحرير، في تحريرهم.
بدا الأمر بديهيا. في تلك الفترة كان في كندا عشرون مؤسسة للمعاقين في أونتاريو فقط؛ وهنا في فرنسا نفس الأمر، وقد زرت هذه المؤسسات من قبل حيث كان يوجد هناك ألف من المعاقين كلهم موضوعون معا. فكرت في معنى ذلك. لذا كان إحساسي صائبا، لماذا لا أنشئ دارا للرعاية؟ ولم لا أستضيف فيها اثنين من المعاقين؟ وأرى ما سيحدث. على نحو ما، أنا ساذج بعض الشيء، وأظن أني أحب المخاطرة، وإذا وضعت السذاجة مع المخاطرة معا، فستنشئ مؤسسة لآرش.»
1
عرض منزل صغير في وسط ترولي-برويل للبيع، واشتراه فانيه، وهو منزل كان بدائيا جدا لدرجة أنه لم يكن بداخله حمام. وفي السادس من شهر أغسطس عام 1964، انتقل إلى المنزل ومعه ثلاثة رجال معاقون عقليا (أحدهم ثبت سريعا أن رعايته تتجاوز قدرات فانيه، وأخرج على الفور)، ولم يكن يتكلم أي من الرجلين الباقيين، رافايل وفيليب. الأصل الوحيد الذي كان لدى فانيه هو سيارة رينو كثيرة الأعطال، كان يطوف بها هو وأصحابه في أرجاء الريف.
قال فانيه: «يمكنني القول: إنني بمجرد أن بدأت، شعرت بأنني رجعت طفلا، فكان يمكنني الضحك، ويمكننا أن نقضي وقتا مرحا، وكنا نجلس أمام المائدة ونلهو. لقد كنت جادا جدا حتى هذا الوقت. فبوصفك ضابطا في البحرية، فإن عليك أن تكون جادا جدا، وتدرك كيف تقود الآخرين. وحين بدأت التدريس، كنت أتحلى بالجدية الشديدة؛ إذ كان عليك أن تظهر أنك تعرف الكثير عن الأشياء التي تدرسها.»
ثم أضاف: «لكن الأمر هنا مختلف؛ إذ يمكننا اللهو لأن لغة المعاقين هي لغة المرح. أعتقد أنك تعرف هذا مع ووكر ؛ فلا تكن جادا أكثر من اللازم . استمتع بالحياة، واجعل هناك مكانا للمرح.» تطور طقس القبول العميق ثلاثي الجوانب لدى فانيه: قبول فانيه لرفيقيه المعاقين، وقبولهما له، وربما الأهم هو قبول فانيه لنفسه في دوره الجديد، الأقل طموحا، والمعاكس للاتجاه السائد في المجتمع.
أطلق فانيه على دار الرعاية لآرش، وفق الكلمة الفرنسية التي تعني السفينة، تشبيها لها بسفينة نوح. ومما أصابه بالدهشة أن المشروع جذب الاهتمام في السنوات التالية، وجذب أيضا مع الوقت التبرعات والتمويل الحكومي؛ مما سمح له بالتوسع.
قال لي جان لوي مان حين التقينا: «في البداية كان فانيه لا يزال متمسكا بالفكرة التقليدية الخاصة بعمل الخير من أجل مساعدة الفقراء، لكن بعد ذلك تغير هذا الفكر؛ إذ أدرك أنه كان يستفيد. وبعد ذلك أراد فانيه أن يكون صوت من لا صوت له، وسرعان ما اكتشف أن الحياة البسيطة، العيش مع رافييل وفيليب، حياة تبعث على الرضا.» وبالتدريج، انتشرت أخبار فانيه وانجذب الشباب من كل أنحاء العالم إلى ما فعله؛ مما دعاهم إلى الحضور إلى مؤسسة لآرش ليقوموا بخدمة المعاقين لمدة عام أو عامين أو أكثر. (ومن ضمن هؤلاء جان لوي مان وجاري ويب، وهناك الكثير ممن ظلوا يعملون في المؤسسة على مدار ثلاثين سنة لاحقة.) وبحلول عام 1971، توسعت مؤسسة لآرش على الصعيد الدولي، وزاد الطلب على الالتحاق بها بشكل كبير، ولا سيما من الآباء الذين لم يعودوا قادرين على رعاية أطفالهم الكبار. ولم تستطع المؤسسة بناء مقرات ومجتمعات لخدمة هؤلاء جميعا، ولكن في ذلك العام، وبمساعدة زميلة له تسمى ماري-هايلين ماثيو، أنشأ فانيه مؤسسة «فيث آند لايت»، وهي عبارة عن شبكة من مجموعات الدعم الممتدة للأفراد الذين لا يمكنهم الإقامة بشكل كامل في أحد مقرات مؤسسة لآرش. واليوم هناك حوالي 1500 شبكة من شبكات مؤسسة فيث آند لايت في 78 دولة تخدم المعاقين وآباءهم على حد سواء، وهو تطور لم يسترح له فانيه في بداية الأمر؛ إذ قال لي فانيه، وهو راجع بظهره إلى الوراء على كرسيه في مكتبه : «في البداية لم أكن أهتم بهم ، واستغرق الأمر مني فترة طويلة حتى بدأت الإصغاء فعلا إلى مطالب الآباء؛ لأن معظم المعاقين الذين كانوا يأتون إلينا في البداية، كان آباؤهم أمواتا أو هجروهم وهم أطفال صغار. وهكذا كان بداخلي في البداية بعض الضيق من الآباء.» تفهمت هذا الشعور؛ إذ كان لدي بعض الضيق من نفسي لسماحي لووكر بأن يعيش في مكان آخر، على الرغم من أن هذا كان ضروريا. لكن عندما قابل فانيه كثيرا من الآباء الذين لم يتركوا أطفالهم ولكنهم مع ذلك لا يمكنهم رعايتهم، بدأت أفكاره المتشددة في الاعتدال، وأثر فيه بشدة قدر الألم والذنب الكبيرين الذي كان يحاول الكثير من آباء الأطفال المعاقين التعامل معه. «الذنب، الذنب. إن آباء المعاقين ككل يعدون أكثر الناس شعورا بالألم؛ لأن كثيرا منهم يشعرون بالذنب، فهم يسألون ذلك السؤال الرهيب: لماذا حدث هذا لي؟ وتجد في أحد فصول إنجيل يوحنا قصة المسيح وحواريه والرجل الذي ولد أعمى، وكان سؤالهم على الفور: لماذا؟ خطأ من هذا؟ هل ارتكب هو أو والداه خطيئة؟ لماذا يولد لك طفل كهذا؟ ولماذا ليس لدى شخص آخر طفل كهذا؟ اقدح زناد فكرك بشأن هذا الموضوع وستجد أنك من الممكن أن تقضي وقتا طويلا في طرح الأسئلة الخاطئة. والسؤال الصحيح الذي يجب أن تطرحه: كيف يمكنني مساعدة ابني ليكون أسعد؟ والسؤال الخطأ هو: هل هذا خطئي؟»
قلت له: «لكن ما زال الرفض الاجتماعي قويا. لماذا لا يحب الناس أن نذكرهم بالمعاقين؟»
أجاب فانيه: «في رأيي يصاب الناس بالذعر عند رؤية المعاقين؛ فهذه الرؤية قد توحي إليهم بأنه في أحد الأيام قد تحدث لهم حادثة ويصبحون معاقين. فأنت تعلم، كلنا نخشى الموت، والمعاقون علامة على الموت.» ثم بدأ يحكي حكاية أول شخص يموت في دار رعاية لآرش في ترولي، وهو مساعد اسمه فرانسوا. ولحظة انتشار الخبر وسط النزلاء، قرر اثنان منهم رؤية فرانسوا، فقادهما مساعد آخر إلى الغرفة التي كان يرقد فيها جثمان فرانسوا في تابوت مفتوح، وذلك لمن أراد أن يلقي نظرة الوداع عليه. سأل أحدهما، جان لوي، المساعد إن كان ممكنا تقبيل فرانسوا قبلة الوداع، فقال له المساعد إنه لا مانع من هذا. قبل جان فرانسوا الميت، لكنه تعجب قائلا: «اللعنة! جسده بارد!» ثم غادر، وسمع المساعد جان وهو يقول وهو خارج من الغرفة: «سيتعجب الجميع بشدة من أنني قبلت شخصا ميتا!»
توقف فانيه عن الحديث، ونظر إلي وهز كتفيه، ثم قال: «ماذا حدث؟» ومما أشعرني بالارتياح أنه لم يكن من المفترض مني أن أرد؛ ففانيه كان سيجيب بنفسه. قال: «أعتقد أنه كان يقبل إعاقته؛ لذا فإن قبول المعاقين هو طريقة من طرق قبول الشخص للموت.»
فجأة وجدتني أسرد لفانيه حكاية تحميم ووكر؛ كيف أني عندما كنت أشعر بضيق شديد ولم يكن يجد أي شيء، كان بإمكاني أن أشعر بتحسن حين أحمم ووكر؛ لأن هذا كان يريحه أيضا.
سأل فانيه: «هل اتضح الأمر لك؟ فأنت تحمم إعاقتك أنت.»
هذه وجهة نظر لم أصادفها من قبل، أقر بهذا.
سأل فانيه: «ما الذي يجعلك تفتح قلبك لشخص ما؟»
حملقت فيه، ولم يكن لدي رد.
رد فانيه: «كون الشخص ضعيفا، أن تجد شخصا يقول لك: أنا بحاجة إليك.» إذا كانت حاجة الشخص كبيرة لدرجة أنك لا تستطيع تلبيتها، كما هو الحال غالبا مع الآباء الذين يتولون رعاية طفل معاق إعاقة شديدة بمفردهم، فالنتيجة هي الذنب والكارثة، «ولكن الآباء الذين يعيشون في قرية، حيث يوجد شباب يأتون ويجلسون مع ووكر ويأخذونه للمشي، وكل ما شابه ذلك؛ إذن ستتغير الحياة، ولكن بمفردك، فهذا هو الموت.
أقصد أن هذا جنون؛ فنحن نعلم جميعا أننا سنموت، سيموت بعضنا في سن العاشرة، وسيموت بعضنا في سن الخامسة والثمانين؛ فحياتنا تبدأ بضعف، ثم نكبر ونصبح ضعافا وأقوياء في الوقت نفسه، ثم نبدأ في الضعف ثانية؛ لذا فالمسألة الكلية للعملية البشرية هي كيف ندمج القوة مع الضعف. أنت تتحدث عن ضعفك مع ووكر؛ حدث لك الأمر ذاته، وكل الذين لم يمروا بالتجربة التي مررت بها لن يتفهموا هذا الأمر بصورة كلية؛ فأنت استطعت أن تصبح إنسانا بتقبلك ضعفك؛ لأنك استطعت أن تقول: لا أعرف ما علي فعله.
نحن في مجتمع علينا فيه معرفة ماذا يجب أن نفعله طوال الوقت. ولكن إذا انطلقنا من موضع ضعفنا بدلا من ذلك، فماذا سيحدث؟ وحين نخبر الناس أننا بحاجة إلى مساعدتهم، فإننا بذلك ننشئ مجتمعا. وهذا ما حدث هنا.»
استمر الحديث لمدة ساعة ونصف، وبحلول المساء أصبح الضوء في الخارج أصفر لامعا، وقال فانيه: «ما لم نتحول من مجتمع يقوم على التنافس إلى مجتمع يقوم على الترحيب بعودة الناس إلى القرية، فلن نتخلص أبدا من هوسنا بالقوة، وهذا هو كل ما تسعى إليه مؤسسة لآرش إلى حد ما؛ فهي قرية نتقابل فيها معا ونحتفل بالحياة، وهذا هو ما يقوم به هؤلاء الناس؛ يحتفلون مع الضعفاء. وحين تكون قويا، فإنك تحتفل بالويسكي.»
توقف فانيه لفترة قصيرة، وشبك أصابع يديه خلف رأسه، ثم قال: «في عام 1960، كان السؤال المهم في فرنسا هو: ما نوع المجتمع الذي نريده؟ هل هو مجتمع ماو تسي تونج؟ هل هو مجتمع روسيا؟ وهل يختلف قليلا عن الشيوعية؟ والآن، لا يسأل أي منا هذا السؤال، بل يطرح كل منا السؤال الآتي فقط: كيف يمكنني النجاح في هذا المجتمع؟ الجميع يهتم بنفسه فقط. افعل أقصى ما تستطيع، اجمع ما تستطيع من مال. لكن ما الرؤية التي توجهنا؟ في جانب ما من رسالة مؤسسة لآرش، هناك رغبة أن تكون رمزا؛ رمزا يعني أن هناك رؤية أخرى ممكنة، وبالطبع لسنا الوحيدين الذين نقوم بهذا، فهناك كثير من المؤسسات الصغيرة.»
كنت أرى أن وجود مجتمع من المعاقين بوصفه نموذجا للسؤال عن كيف يمكن للعالم أن يتعايش بفاعلية أكبر، فكرة جديدة، وعظيمة جدا أيضا. لكن إضافة إلى ذلك كنت أراها فكرة غير واقعية تماما؛ مثل نوعية الأفكار الجميلة التي تراودنا في حالة الاسترخاء، والتي سيعجب بها الشخص المثالي، بما في ذلك فانيه.
لذا قلت له: «في رأيي هذه فكرة جميلة، بيد أن العالم لا يسير بهذه الطريقة، والناس لا تتصرف بهذا الشكل؛ فلقد مات 800 ألف فرد في رواندا قبل أن نحاول إيقاف المجزرة التي كانت تحدث هناك، ويبدو أننا لا نعمل كي نمنع المآسي الأشد وضوحا؛ دع عنك الصغيرة والفردية منها. فكيف يمكن أن آمل في إقناع العالم بأن ووكر يجب أن ينظر إليه كإنسان، ليس كإنسان معاق فقط، لأنه كذلك بالفعل، ولكن كإنسان قد يكون لديه مواهب، ليس فقط المواهب التي نتوقع أن نجدها؟» ما كنت أعنيه أنني كنت أتمنى من العالم أن يرى ووكر ليس فقط باعتباره ولدا دون صفات شائعة كثيرة، ولكن أيضا بوصفه ولدا لديه صفات غير عادية. بيد أن توقع حدوث هذا قد يكون مبالغا فيه. قلت: «الحقيقة أن العالم ليس مكانا كهذا.»
قال فانيه، دون تردد: «هناك نص جميل مأثور عن مارتن لوثر كينج. سأله شخص ما: هل الأمر سيظل دائما كذلك؛ أن يحتقر الشخص الناس دوما ويريد التخلص من الآخرين؟ فرد عليه قائلا: نعم، حتى نتعلم جميعا تحديد وتقبل وحب ما هو حقير فينا جميعا. ما هذا الشيء الحقير؟ أننا ولدنا لنموت، وأن ليس لدينا سيطرة كاملة على حياتنا، وأن هذا جزء من تكويننا، بيد أن علينا اكتشاف أننا مخلوقون لشيء آخر كذلك، وهو القرب من بعضنا البعض، وأن علينا أن نحاول أن نوقف هذه الحاجة كي نكون الأفضل ونوقفها بالفعل. وحينها فقط يمكننا بناء عالم تحدث فيه حالات أقل مثل تلك التي تحدث في رواندا وأماكن أخرى.»
تركت فانيه بعد ذلك بقليل، وانتهينا من الحوار في هذا اليوم، وكان يستعد للسفر إلى كينيا قريبا. وخرجت من المنزل الحجري الضيق في ترولي سريعا، ومشيت في الشارع فدخلت حارة ثم حقلا، ولم أستطع تحديد إن كنت بهت أو فتنت بما قاله أم لا؛ فأفكاره كانت تستهوي الناس: كان كتابان من كتبه من أكثر الكتب بيعا، وترجمت العديد من كتبه إلى ثلاثين لغة تقريبا، وحصل على وسام جوقة الشرف في فرنسا، وانضم إلى فئة المكرمين الكنديين. وقد كانت لديه أفكار راديكالية، منها: الضعف قوة، ولم يعد السلام يكمن في قبول الاختلاف، ولكن في الاعتراف المتبادل بالضعف. أتساءل: كيف سيسير هذا في منطقة الشرق الأوسط؛ إذا اعترفت إسرائيل - على سبيل المثال - بخوفها من حزب الله وضعفها أمامه، وطلبت مساعدة الفلسطينيين، بدلا من الإصرار على التخلص من أي مصدر من مصادر التهديد لأمن إسرائيل؟ وفي عالم فانيه، لم يكن ووكر حلقة ضعيفة، بل قوية جدا.
في الواقع، أردت أن أومن بهذا. يثق كل جزء مني في أن ابني الصغير الغريب يمكن أن يعلم كلا منا شيئا عن نفسه. أما عن إمكانية حدوث هذا، فتلك قصة أخرى.
الفصل الثاني عشر
في حجرتي قبل وقت العشاء، ظهر ووكر هناك فجأة. غالبا ما يقفز إلى ذهني مثلما يفعل الصديق الذي لم أره منذ مدة طويلة وأتذكره فجأة، فاتحا باب ذاكرتي. سألت نفسي ماذا كان يريد، وهو الذي يبعد عني آلاف الأميال عبر المحيط.
اشتريت له كرة سحرية بمناسبة الكريسماس الثاني عشر له، وهي عبارة عن «مصباح زينة للغد» يشبه كرة بلورية ويستجيب للمس والصوت والموسيقى، إن أوصلته بالكهرباء ولمست الزجاج، فستجد ومضات مثل ومضات البرق تتصارع داخل الكرة، كثيفة وبيضاء ومتوهجة تقريبا حيث لمست بأصابعك، هذا إلى جانب الأشعة القرنفلية والأرجوانية المنبعثة من مركز الكرة. أدركت أن ووكر سيحبها، وقد أحبها بالفعل، بمجرد أن مل من الزينة التي على شكل سمكة قشرها معدني، ذات لونين أحمر وأخضر، والتي كان قد نزعها من شجرة الكريسماس ولعب بها بيديه لمدة يومين على التوالي.
في النهاية حين وجهت هايلي انتباهه إلى الكرة السحرية، ظل يلعب بها لمدة ساعتين. (بدأ ينتابني القلق من أنها قد تؤدي لإصابته بنوبة.) أحاط الكرة بيديه مستندا على الغطاء الواقي للذراعين، ولم يتحرك لمدة خمس دقائق في المرة الواحدة، واقترب من الأضواء المتحركة بشكل سريع بجسارة، مثل زيوس صغير يحاول تفجير الأرض من تحته بشعاع واحد كثيف.
اتخذت جوانا في هذا الكريسماس منحى آخر؛ إذ أحضرت له مجموعة من الألعاب الصغيرة، منها: كرة مليئة بسائل متلألئ، وقبعة رجل ثلج مصنوعة من الخشب كثيرة الخطوط ومستديرة، قد يلفها في يديه يوما ما لعدة ساعات دون توقف. وكانت هديتها الأخيرة غريبة فعلا؛ فقد كانت مصنوعة من اللباد، وطولها ست بوصات، وهي مثلث برتقالي في أحد أطرافه كرة زينة مزغبة خضراء، وأربع سيقان خضراء وزرقاء بارزة من قاعدتها وتعمل كأرجل، وخيط وجه رزين وجاد ولكنه تجريدي بمثلث أخضر أصغر، خيط بدوره بمثلث برتقالي أكبر. وكان الشيء الغريب كله في الظاهر سلسلة مفاتيح كبيرة، ويشبه مزيجا من جزرة ومشط وكائن غريب.
قلت لها: «ما هذا؟» أخرجت الهدية من كيسها لتريها لي لحظة دخولها من الباب. «لا أدري، وليس لدي فكرة فعلا، وقلت للشاب الذي عند ماكينة الدفع: «لا أدري لماذا أشتري هذا!» فرد علي: «الجميع يقولون ذلك.» وقلت: «فعلا، هل تبيع منه الكثير؟» قال: «طوال اليوم».» كانت سعيدة جدا بهذا الشيء. «إنه جذاب، ولكنه غريب تماما.» قلبت هذا الشيء في يدي.
قالت: «أعتقد أن هذا ما يرى صانعوه أنه يميزه ويجعل الناس يقبلون على شرائه.» ثم بدت على وجهها نظرة مختلفة، لحظة فارغة من الإدراك، وهي نظرة أعرفها تمام المعرفة. «أظن أنني اشتريته؛ لأنه يذكرني بووكر: جذاب، ولكن يصعب فهمه.» ***
كان العشاء محور اليوم في دار رعاية لا سيمانس. كان مستواي في اللغة الفرنسية ضعيفا جدا، ولكن في هذه الدار لم يكن هذا يهم؛ فقد كنت شبه أبكم مثلهم، غير قادر في أغلب الأحيان على توضيح ما أقول.
كان الجميع في لا سيمانس يأخذ العشاء بطريقة جدية. كان هناك ورد على المنضدة، وكان المساعدون، باعتبارهم فرنسيين، يتعاملون مع الطعام بجدية؛ حيث تقدم الطواجن وأنواع الحساء والسلاطات على المائدة في أطباق تقديم جذابة، وجميعها كان شهيا، وكان يقدم الخمر دائما، حتى للنزلاء، إذا كان نظامهم العلاجي يسمح بذلك. كثيرا ما يكون هناك ضيوف (مثلي)، وهم مرحب بهم ويشرب نخبهم. وكانت تبدأ دائما الوجبات بطقس معين؛ إذ كان يمسك بعضنا بأيدي البعض ونتلو صلاة الشكر، وكان هذا العمل في حد ذاته، إمساك بعضنا أصابع البعض، لحظة طويلة من القلق بالنسبة إلي؛ كنت أشعر بالارتباك وأنا أمسك بيد شخص لا أعرفه، وأبدو سخيفا لشعوري بالارتباك. والأيدي! سواء كانت متيبسة أو بدينة أو غريبة الشكل أو جافة أو رطبة أو رخوة أو عميقة في راحة اليد، كانت كلها يمسك بعضها بعضا. ليس هناك وعي ذاتي هناك؛ فقد كانت كل يد عالما في حد ذاتها.
كانت يد جيجي صغيرة، وكان علي أن أضغط بأصابع يدي اليمنى على قبضته اليسرى الصغيرة، وفتح جان كلود يده ثم ضحك وهو يأخذ يدي ويمسكها، ولكن قبضته كانت ضعيفة، كما لو أنه نسي أن يديه مرتبطة بذراعيه. حاولت أن أكون متسامحا بشأن هذا، وأحيانا ما كان ينسى أن يترك يدي أيضا.
بمجرد أن انتهت صلاة الشكر، قدم المساعدون سلطانيات من العصيدة الخضراء لمن لديهم صعوبة في الأكل، وهي جرعتهم الليلية من الألياف والفيتامينات، أما بقيتنا فتناولوا خضراوات أكثر صلابة. كان الجميع يرتدون بيجامات: يرتدي جان كلود بيجامة مخططة، وفوقها روبا وبريا مخططا، وترتدي فرانسين على كرسيها المتحرك روبا قرنفليا. ويرتدي جيجي بيجامة بأقدام ماركة دكتور دينتنز، وبرنس حمام مخططا أصغر حول جسمه المحني، ولكنه غير محكم الربط دائما، ويجر خلفه الحزام مثل مهمة منسية. وبالطبع لورينزو، محب القطارات الإيطالي الذي لا يتكلم، كان يلبس روبا رائعا ذا شريط حريري لتزيين حواشي الثياب وأشرطة مضفرة على الأكمام، شكل من أشكال الترف المثير لرجل ذي إعاقة عقلية، وقد بقي ساكنا في وسط الحجرة، بلا حراك، وأذرعه ممتدة، ينتظر مترقبا كالعادة. ولكن ماذا كان ينتظر؟ الشيء الذي لا سبيل لمعرفته. وفي رأيي، كان لا يختلف عن أي منا. وبهذه الطريقة حول النزلاء الحياة في دار الرعاية إلى مسرح، وكل ما كان عليك فعله، حتى تعجب بعمق الأداء، هو أن تشاهد باهتمام، وتفكر فيما تشاهده.
تعاقب الحوار على المائدة: حين تجشأ جان كلود، وهو ما كان يفعله باستمرار، امتعض جاري ويب ومزح، أو على الأقل أصدر صوتا بهذا المعنى، ويبدو أن جان كلود أعجبه ذلك. ارتجل جاري في هذه اللحظة، مستخدما قدراته كممثل سابق. وفي وقت تناول التحلية - الأيس كريم وصوص الشوكولاتة - انتهى الأمر بجيجي إلى أن أصبح له شارب من الشوكولاتة. وعلى الفور بدأ جاري الحديث: «آه، لديك شارب! أهلا سيدي، هل أنت غراب؟ هل أنت كورني؟» (كان يقصد بيير كورني الكاتب المسرحي الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي كان له شارب داكن مميز وعنفقة.) «لعلك أحد المهاجمين المكسيكيين! نعم، سانشو! فيلم المواجهة!» وجعل جاري أصابع يده على شكل مسدس وتظاهر بأنه يطلق النار على جيجي. فضحك كل من كان حول المائدة، وهم ينظرون إلى جيجي مثار المزحة. كان جيجي يحملق في جاري، ووجهه لم يتحرك، ثم بهدوء شديد بدأ يحدث ضوضاء مثل الهواء المتسرب من البالون. كان يضحك!
الطريقة التي كان يغيظ بها جاري جيجي لم تكن تختلف عما يفعله صديقان غير معاقين إذا تجشأ أحدهما أو لطخ وجهه بالشوكولاتة. كان هناك ارتباط بين جاري وجيجي: ربط له صدرية الطعام، وأعطاه علاجه وأطعمه، ومزح معه، ودائما ما كان يجلس إلى جواره، ويحممه، ويساعده على النوم. كان يرى بعض المساعدين السخرية المهذبة من عادات النزلاء أمرا غير صحيح، ولكن النزلاء كانوا يستمتعون بها جدا، وأحبوا أن يكونوا موضع الاهتمام والمرح: لم يكن لديهم أي أوهام بشأن الطريقة التي كانوا يبدون عليها، وما كانوا لا يستطيعون فعله. قال جاري: «أقدم كل ما لدي.»
كان عمر جان كلود، رفيقي على العشاء، 61 عاما، وفي جلستي معه بدأت أتصور هذه الحياة لووكر بعد مماتي؛ كنت أستطيع تخيل أمور أسوأ من ذلك. ولكن قائمة الانتظار لدخول مؤسسة لآرش في كندا - حيث تتوافر أماكن أقل بكثير عما في فرنسا - كانت تمتد لمدة عشرين سنة بالفعل. رسمت صورة لجان كلود في كراستي؛ رآني وأنا أرسمه، لذا جعلته يراها، فانفجر من السعادة، وبدا أنني اكتشفت طريقا لاكتساب ثقته وصحبته والدخول إلى عالمه. وكان الأمر أسهل في القيام بهذا مع النزلاء عما كنت أتوقع؛ إذ ليست هناك قواعد ، ولا مسارات محددة، بل أنت تسير وفق ما هو متاح، بأعلى قيمة إنسانية يمكنك فهمها.
1
وهذا أغرب شيء: حتى في الثلاثة الأيام والنصف التي قضيتها في ترولي- برويل، فإن هؤلاء الرجال والنساء المحطمين قد علموني أمورا كثيرة.
على سبيل المثال، هناك مخبز رائع في القرية، مخبز يبعد حوالي خمس دقائق مشيا من المكان الذي كنت أقيم فيه. ذهبت في صباح يومين متتاليين لشراء خبز فرنسي وتناول فنجان قهوة، ولكني كنت أعدل عن هذا ولا أدخل المخبز. من الصعب وصف مقدار الألم النفسي الذي سببه لي هذا الفشل البسيط؛ فلغتي الفرنسية ليست بالمستوى الجيد، وكان سيجعلهم هذا يسخرون مني: أرهبني الأمر ككل. أدركت أني خائف من كل شيء؛ خائف من الاستحمام، خشية إيقاظ الجميع، وخائف من النزول لتناول طعام الإفطار. (بحلول الساعة التاسعة صباحا كان المنزل يعج بالأصوات؛ أصوات أنين عالية وطويلة، وأصوات صياح تشبه صوت القطارات، وأصوات تدل على التعجب والصدمة وأصوات تصفيق.)
لكن شيئا ما بشأن الطبيعة المتواضعة للحياة في دار الرعاية هون علي الأمر؛ ففي صباح اليوم الثالث لي في لا سيمانس، استيقظت مبكرا واستحممت في الحمام الذي يوجد في نهاية الردهة من حجرتي. كان هذا أول استحمام لي منذ ثلاثة أيام - في حمام صغير به مرحاض، والدش متواضع جدا، ومع ذلك بدا هذا قمة الرفاهية. أدركت ساعتها كم يعني الاستحمام لجان كلود وجيرارد ولورينت وجيجي، وووكر؛ جرعة منتظمة من السعادة، والشعور في أجسامهم المضطربة بأنهم يمتلكون في الوقت الراهن شكلا بدنيا منتظما.
بعد الاستحمام ارتديت ملابسي ومشيت في القرية، عبر موقع بناء صغير؛ إذ كانت لآرش تقيم مقرين جديدين، محولة مبنيين قديمين إلى مقرين جديدين لها. (في الآونة الأخيرة، عدلت الحكومة الفرنسية من متطلبات البناء بالنسبة إلى المعاقين، وقد أصبح التوافق مع تلك المتطلبات يمثل تحديا ماليا صعبا.) كنا في بداية فصل الربيع؛ كانت البراعم في حجم كرات قدم صغيرة جدا على الأشجار، وكانت بومة تنعب. أوضح لي جاري أن أفضل روتين في هذا المكان هو أن يبدأ الشخص بشراء شيء للأكل من المخبز، ويذهب به إلى الفندق المجاور لتناول فنجان قهوة. وهناك شيء عليك تذكره، «حين تدخل قل: «أيها السيدات والسادة» (باللغة الفرنسية)؛ بهذه الطريقة على الأقل لن يعتبروك سائحا فظا تماما.» جلست في الميدان، أستجمع قواي، وكان هناك بعض الشباب في محطة الحافلات بجواري يدخنون. كيف أصبحت أخاف من كل شيء؟ الاستحمام، شراء الخبز متحدثا باللغة الفرنسية، والدخول إلى فندق ريفي صغير؛ أخاف أن أبدو متأخرا، غير قادر على استخدام اللغة، أخاف مما قد يظن بي الناس.
لا يساور ووكر القلق أبدا من أي من ذلك.
دخلت المخبز، وكانت هناك بالفعل إحدى نزيلات لآرش، شابة نحيفة صوتها عال متباطئ، وتعاني من تأتأة؛ كما لو أن جسمها ما كان له أن يتكافأ قط مع عقلها، ومع ذلك نجحت في شراء طعام الإفطار لدار الرعاية كلها. دخلت المعركة، وبسبب لغتي الفرنسية، انتهى بي الأمر إلى شراء ضعف ما كنت أحتاج لأكله من الخبز! ظنت البائعة أني أريد شراء رغيفين، ولم أعرف كيف أثنيها عن ذلك، ولكني استطعت على الأقل تناول طعام الإفطار. انطلقت ومعي الخبز إلى الشارع المؤدي إلى الفندق، وأنا أدخل من عتبة الباب، قلت بالفرنسية: «صباح الخير، أيها السيدات والسادة.» وكان يجلس على البار رجلان فرنسيان ضخمان يرتديان سترات جلدية، فنظرا إلي كما لو أنني مجنون عابر.
لكن انتهى الموقف بسلام، ولم يحدث شيء.
أدرك كيف أن هذا الأمر لا قيمة له على ما يبدو، وكيف أنه أمر هين: يطلب إنسان فنجان قهوة باللغة الفرنسية! ولكن جيجي وجان كلود، وابني ووكر، هم من علموني كيف أقوم بهذا الأمر اليسير، وعلموني ألا أشعر بالخجل، وليس هذا بالإنجاز الصغير على الإطلاق، حتى إن كاتب المقالات ويندول بيري ألف قصيدة عن هذا الموضوع:
ستمشي في ليلة ما
في الظلام المريح لفناء منزلك
وفجأة سيسطع ضوء عظيم
حولك، وسيكون
خلفك جدار لم تره من قبل.
وسيتضح لك فجأة
أنك على وشك الهروب،
وأنك مذنب: أخطأت في قراءة
التعليمات المعقدة ، أنت لست
عضوا، فقدت بطاقة العضوية
أو لم تكن لديك واحدة. وستعلم
أنهم كانوا هناك طوال الوقت،
وأعينهم مسلطة على حروفك وكتبك،
وأيديهم في جيوبك،
وآذانهم تصل إلى سريرك.
على الرغم من أنك لم تفعل أمرا مخزيا،
يريدون لك أن تشعر بالخزي.
يريدون لك أن تركع وتبكي
وأن تقول: يا ليتني أكون مثلهم!
ولحظة تقول إنك تشعر بالخزي،
وتقرأ الصفحة التي يعطونها لك،
فإن الضوء الذي صنعته
في حياتك سيتركك
فليسوا بحاجة إلى تتبعك.
سوف تتبعهم، طالبا الصفح
ولن يصفحوا عنك.
لا توجد قوة تقف أمامهم،
فقط الصدق بمعزل عنهم،
فقط الوضوح الداخلي، الجرأة،
هو ما لا يستطيعون الوقوف أمامه. كن مستعدا.
حين يصل إليك ضوءهم
ويطرحون أسئلتهم، رد عليهم: «لا أشعر بالخزي.» ستجد أن هناك أفقا
سيفتح حولك، وسيبدأ طائر البلشون رحلة طيرانه المسائية من قمة التل. ***
في سن الثمانين، كان فانيه يستعد ليطوي صفحة حياته، وأبدى تحفظه على الجوائز والتكريم، ولم يكن يريد أن يلقب بلقب خبير. في صباح اليوم التالي، قال لي: «لا أريد مكانة أكثر مما أنا عليه بالفعل، وأريد أن أكون أقل من ذلك.» لم يكن يريد أن يشعر بالمرارة، كما يفعل كثير من كبار السن الذين «يشعرون بالضيق بسبب فقدانهم للقوة»، ويظل الناس يفكرون أنهم من المفترض أن يتصرفوا بطريقة أو بأخرى، أن يعتقدوا بشيء أو بآخر، أن يؤمنوا بإله أو بآخر، ولكن «ليس عليك أن تفعل شيئا. عليك محو «علي أن ...» كن كما أنت، ودع الحياة تسير، وما هو مكتوب سيحدث. وأعظم خوف يخشاه الإنسان هو الخوف من القوة، الخوف من الفشل، الخوف من الذنب. أن نكون مذنبين. من ماذا؟ مخالفة القانون. ولكن أي قانون؟ لا نعلم.»
قلت: «أوه، لذا فالشعور بالذنب لا مفر منه!» «نعم، هذه هي المشكلة. هناك نص مهم حقا في سفر التكوين، وهو واحد من أقدم الكتب التي لدينا عن بدايات البشرية. في مرحلة ما انفصل آدم وحواء عن الرب، وتتبعهم الرب وقال: «أين أنتما؟ إنه أنا، الرب. أين أنتما؟» ولم يقل: «لا فائدة فيكما .» لم يقل سوى: «أين أنتما؟»
أجاب آدم: «خفت لأني كنت عاريا؛ فاختبأت.» بالتالي، هناك خوف وتعر واختباء. ما معنى هذا التعري؟ معناه أننا كائنات فانية، سواء راق لنا هذا أم لا، لسنا من نتحكم في الأمور. لذا، فالحقيقة الكلية للبشر هي قبول النفس كما هي.»
قلت فجأة: «ووكر، لا يستطيع الكلام. لدي لغة أتواصل بها معه، وهي عن طريق الطقطقة، وهو يعرفها، وأحيانا يستجيب.» استعرضت قليلا من هذه اللغة.
قال فانيه: «هو يطقطق، وأنت تطقطق، وأسمي هذا مشاركة للمشاعر والأفكار. أنت بحاجة إليه، وهو بحاجة إليك، وأنت لا تقوم بشيء له، أنت معه فقط. الطقطقة! أحب هذا التعبير؛ لذا عندما تكون مع ووكر وتقومان بالطقطقة، فكل منكما ممتن للآخر، ولك أن تتخيل كم هو ممتن لك؛ لأنك أبوه وتنظر إليه. وأنت ممتن له؛ لأنه ينظر إليك، إلى الطفل الذي بداخلك، ولا ينظر إليك بوصفك شخصا ما كتب أفضل شيء أو آخر، بل ينظر إليك كما أنت فعلا في أعماق كينونتك.»
لا أقصد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم ولد معاق إعاقة شديدة، لكن فانيه هو من قال هذه الأشياء. أحيانا أجدها معقولة، وفي أحيان أخرى كانت تبدو أفكارا خاصة برجل يتمتع بعقيدة دينية راسخة لا أشاركه فيها.
شعرت بالارتياح لكلام فانيه بشأن قيمة ووكر، بيد أن الجهد الذي بذلته في محاولة الإيمان به كان في بعض الأحيان شاقا. ***
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، يوم نجاحي في الشراء من المخبز، قابلت بالمصادفة فرانسين، والتي كانت تتعرض للشمس على كرسيها المتحرك، وكانت تنتظر في المسار المؤدي من لا سيمانس إلى الطريق، في حين كانت تقف ليدي، المساعدة الجميلة من جنوب فرنسا، على بعد خمسة عشر قدما، تكنس الحديقة. قلت لفرانسين (باللغة الفرنسية): «كيف حالك؟» ولمست كتفها، وقبل أن أتركها وجدتها تمسك يدي، ثم ذراعي؛ فقد كانت قوية، وقد جذبت وجهي إلى وجهها. صحيح أنها مصابة بشلل تشنجي، ولكن فمها كان مفتوحا، وكان يصدر أصوات زمجرة ، ثم أخذت نبرتها تعلو أكثر فأكثر ، واقترب فمها من أذني، وأسنانها كانت بها تشوهات وفجوات كبيرة، وظننت أنها على وشك أن تعضني، ولم أعرف ماذا أفعل؛ لذا عانقتها وقبلتها. وحين نظرت إلى أعلى، وجدت ليدي تراقبنا، فقلت بلغتي الفرنسية الرديئة: «آسف، لعلي ضايقتها!»
قالت ليدي: «لا، هذا جيد، فهي تحب الرجال.» ثم عادت إلى كنس أوراق الأشجار. ***
قبل أن يبلغ ووكر عامه الثاني، نادرا ما كنت أفكر فيه دون التفكير أيضا في الموت؛ موتي في الغالب، ولكن أحيانا موته. بالليل بعدما ينام، «إذا» نام، أو في منتصف الليل إذا كنت مستيقظا ونام هو، أرى السنوات ممتدة أمامنا لا تتغير. كنت أتساءل إذا ما كانت ستتاح لي الفرصة لفعل أي شيء غير رعايته؛ أتساءل إذا ما كانت رعاية ووكر ستؤدي لتآكل ومحو حبي لزوجتي في النهاية. كنت أتصور أين ذهبت كل مشاعر قلقي، والأشياء الحزينة التي كانت تنتج عنها.
لكن كان قلقي الأساسي من الموت؛ من الرحيل بسرعة، قبل أن تتاح لي الفرصة لترتيب المستقبل، ومعرفة ماذا سيحدث له بعد ذلك. تساءلت إذا كان موته سيكون مصدر ارتياح بالنسبة إلي، وإذا كان موتي أيضا سيمثل ذلك له أيضا. كان المال مصدر قلقي المستمر، كأني بواد ضيق عميق؛ لأني لا أريد لجوانا أن تتحمل العبء المزدوج المتمثل في رعاية ووكر وحدها وتوفير دخل للأسرة بمفردها في حالة وفاتي قبلها، اشتريت بوليصة تأمين رهني، وكان يعني هذا دفع 500 دولار كل شهر، وقد كان يصل راتب أولجا والألبان الصناعية الخاصة بووكر إلى أكثر من 40 ألف دولار سنويا. (ولسنوات عدة كانت تبلغ فاتورة تلك الألبان 800 دولار شهريا، بما يساوي أربعة أضعاف تكلفة الألبان الصناعية التي يحصل عليها الطفل العادي، وهو مبلغ لم تكن تغطيه المزايا في عملي؛ فالطعام في نهاية الأمر لا تتم تغطيته. كنت أنفق 800 دولار أخرى شهريا على البقالة التي كنا نشتريها لبقية العائلة، والتي كانت تكفينا تماما. وتبلغ تكلفة الألبان الصناعية لووكر الآن 1200 دولار شهريا؛ لأن تلك الألبان، وفق وصف مصنعها، «سابقة الهضم» للأطفال الذين يعانون من الارتجاع .) وتكلفة الأدوية والأدوات الطبية وحتى رسوم انتظار السيارة في مستشفى الأطفال المرضى (على الأقل 9 دولارات كل مرة نكون فيها هناك) كلها تضاف إلى الأعباء المعتادة التي تضيفها الأسر إلى الخطة الصحية. ومن المفيد دائما متابعة متى ترتفع مزايانا إلى أقصى مستوياتها: في منتصف شهر أغسطس؟ أو هل سنتمكن من أن يحدث هذا في شهر سبتمبر هذا العام؟ بعد ثلاث سنوات من انتقال ووكر إلى دار الرعاية، ما زلت أسدد الديون المتعلقة به.
في الليالي العصيبة على وجه الخصوص، أو إذا أمطرت السماء بشدة، أو في الغالب بعد مرات الجدال العنيفة التي كانت تحدث بيني وبين زوجتي من حين لآخر - وقد أرهقنا النوم القليل وشعورنا بالخجل من أنفسنا بسبب فشلنا مع هذا الولد الغريب - كنت أسأل نفسي: أليس الأشجع أن أقضي على حياتي وحياة ووكر معا؟ صحيح أنني لم أكن مقتنعا بالانتحار كوسيلة للهروب من المشاكل، ولكن اليأس من الحياة في المستقبل، ورعاية ووكر، يمكن أن يجعلني أفكر فيه. يمكنني الانتحار بتناول هيدرات الكلورال أو أدوية أخرى بجرعات كبيرة، ويمكن أيضا بالقفز بالسيارة من أماكن مرتفعة، أو بإلقاء نفسي في بحيرة.
كانت إحدى خيالات الموت السرية أن أضع ووكر في حقيبة ظهر لحمل الأطفال أمتلكها، من ماركة سناجلي، وآخذه إلى أعلى جبال جنوب كندا في الشتاء، وهو أحد الأماكن المفضلة لدي على وجه الأرض، ونرقد عند منحدر جليدي، وهكذا تنتهي حياتنا هناك بهدوء بسبب الانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم. تصورت المغامرة بتفاصيلها الكاملة، وكيف أختار لحظة وجود جوانا في السينما وهايلي في المدرسة، وكيف أخرجه من المنزل ثم إلى المطار، مع كل أشيائه وكل أدوات التزلج. لكن لسوء الحظ، أخرج مجرد التفكير ذلك التخيل عن مساره؛ إذا نجحت في تنفيذ هذا الكابوس اللعين، والوصول إلى المطار ومعي ووكر وأدوات التزلج، فلن أدع أحدا يموت، ولا حاجة لي بقتل نفسي. لم يكن هذا بالضبط ما كان يعنيه نيتشه حين قال: إن التفكير في الانتحار ينقذ كثيرا من الأرواح، ولكنه يمكن أن يفعل في حالتي.
على أي حال، لم يكن باستطاعتي فعل ذلك؛ بسبب هايلي، وبسبب جوانا وبسببي، وبسبب ووكر أيضا؛ لأنهم كانوا يريدون مني أن أستمر معهم، ولأنهم كانوا يريدون قدوة حسنة؛ الأنشودة الأساسية لأب سليم الطوية.
من حين لآخر، كانت تطرأ على ذهني فكرة أكثر تطرفا: يمكنني أن أستغرق تماما في رعاية ووكر. كانت تستهويني هذه الفكرة بعض الشيء، وهو شعور محتوم خانق ومريح، وأعتقد أن كثيرا من الأمهات، ولا سيما الأمهات الوحيدات، تطرأ على أذهانهن تلك الفكرة؛ ليس هذا نوعا من التفاؤل أو التشاؤم، وإنما الاستسلام بكل بساطة. على الأقل بهذه الطريقة كان يمكنني تجنب الشعور بالاستياء من عمليات التبديل المخيفة الخاصة برعاية ووكر بيني وبين زوجتي، وكان سيصبح أحدنا مسئولا بالكامل عنه في نهاية الأمر؛ فرعاية ووكر كانت تستنزف كل جهد ووقت، لدرجة أنني طوال الوقت الذي لم أكن أرعاه فيه، كان علي أن أقوم بمهام حياتي الأخرى؛ كالنوم والعمل والمهام والأعمال الروتينية ودفع الضرائب والرد على المكالمات التليفونية، دع عنك الأمور الضرورية والطارئة المتعلقة برعايته. وبغض النظر عمن كان يتولى رعاية ووكر، فالشخص الآخر بحكم الاضطرار كان يقوم بالمهام الحياتية الأخرى؛ ولذا تشعر دائما كما لو أنك تقوم بهذا وحدك، وهذا يجعلك تشعر بالاستياء.
هل تعرف أي شيء عن هذا الأمر؟ كنت في تلك الليالي الصعبة أشك في أن أحدا كان يعرف بما يجري لنا أو يشعر بوطأة معاناتنا؛ تيقنت من أننا كنا بمفردنا. من الصعب توضيح شعورنا عند فشلنا في تعليم ووكر النوم أو الكلام أو الأكل أو التبول أو حتى النظر إلينا؛ هل يمكن أن تتخيل حجم هذا الفشل؟ أدرك أن هذا غير معقول، ولكننا شعرنا بالمسئولية عنه. أنت لا تستطيع التحكم في مشاعرك، في منتصف الليل في الشرفة الخلفية للمنزل الصغير القديم في وسط المدينة، والذي يسطع في فنائه الخلفي الضوء الأبيض الفلورسنتي القادم من مطبخ الأسرة الصينية التي تسكن في المنزل المجاور لنا مثل كشاف الإضاءة الغامرة في معسكر اعتقال، وفرانكنشتاين الصغير نفسه نائم في الدور الثالث، ذاك الدور الذي يشبه قمة إيفرست في الوصول إليه في بعض الليالي. مرت ليال كنت فيها في أشد حالات التعب، والإرهاق، والإنهاك، والضعف، والتي كنت أشرع فيها في الضحك بينما كنت أمشي بتثاقل عبر الردهة، وكنت أستمر في الضحك لعدة دقائق في المرة الواحدة، كأني شخص مجنون، وشعرت بأنني مثل كلب مدرب جيدا يدرك أنه لا يمكنه تعلم هذه المهارة الجديدة الأخيرة. يا إلهي! أنا متعب تماما: أتذكر جيدا رفع رجلي بيدي اليسرى، الواحدة تلو الأخرى، كما لو أنهما قطعتا خشب كبيرتان، جذلا شجرة ثقيلان، وأنا أصعد السلم، وأستند إلى الدرابزين بيدي اليمنى من أجل الحصول على القوة. أتذكر ما كنت أفكر فيه حينها: «لم أعد أستطيع القيام بهذا أكثر من ذلك.» كان عمري حينئذ 44 سنة.
في إحدى الأمسيات كنت منهكا جدا لدرجة أني سقطت من على درج السلم وووكر بين ذراعي؛ حيث انزلق كعبي من على حافة درجة من درج السلم، فوقعت على ظهري، حينها تملك مني الخوف على ووكر وجعلني أحبس أنفاسي، وعندئذ أحطته بقوة بذراعي وجعلت من نفسي مزلجة، وانطلقنا لأسفل وهو على صدري، حتى اصطدمنا بشيء في نهاية السلم. ضحك وأحب ذلك، وأنا كذلك. كان مصدرا للمتاعب، وكثيرا ما كان المخرج منها أيضا. ***
بعد ثلاثة أيام ونصف، غادرت لآرش وعادت الحياة لروتينها المعتاد هناك، فللحياة اليومية هناك إيقاع منتظم وتوجه محدد، مهما بدا غير تقليدي. كان أمامي وقت كبير للتفكير.
ذهبت إلى فرنسا؛ لأنني كنت أريد أن أعرف إن كانت هناك وسيلة معقولة ومريحة لجعل ووكر يحيا في هذا العالم، لأرى بنفسي إن كان من الممكن ليس فقط إيجاد بيت يأويه بعد مماتي، أو حل خاص لحاجاته، ولكن أيضا إيجاد مجتمع وأسرة يمكن أن يعتبر نفسه جزءا منهما، أو حتى وسيلة للتحرر والاستقلال عنا. وهذه هي الفكرة الأكثر تطرفا.
وإذا كان مثل هذا المجتمع ممكنا، فكيف كان يمكن تبرير التكلفة؟ لم تكن العاطفة سببا كافيا تاريخيا . وهل يمكن لوجود مثل هذا النوع من المجتمع أن يوفر أيضا فائدة ملموسة وكبيرة لنا جميعا - نحن غير المعاقين؟ أردت معرفة إن كانت لحياة ووكر قيمة، واتضح لي أن لها قيمة بالفعل، وأكد فانيه ذلك.
سبق «جيل لو كاردينال» خطوة للأمام في هذا الشأن، وأثبت ذلك بالأدلة. ***
يعمل لو كاردينال أستاذا متفرغا لدراسات الاتصالات والمعلومات في جامعة كومبين للتكنولوجيا، وقد ألف العديد من كتب الإدارة القيمة في فرنسا، بيد أنه بدأ حياته المهنية مهندس كمبيوتر في الذكاء الاصطناعي، يصمم برامج روبوتية خاصة باتخاذ القرار لصناعة التنقيب عن النفط. وكل يوم أربعاء، كان يصطحب زوجته إلى الغداء في أحد مقرات لآرش في كومبين حيث كانت تعمل.
قال لي «لو كاردينال» في إحدى الليالي على العشاء في بيته: «لم أكن مساعدا جيدا، ولكني كنت مستمعا جيدا.» أدهشت العفوية الظاهرة لمجتمع لآرش لو كاردينال؛ طريقة تحقيقها لطموحات مجموعة متنوعة من الناس الذين لديهم قدرات مختلفة. ويرى لو كاردينال أن كل ما حققه من نجاح بوصفه كاتبا ومحلل نظم يرجع إلى «أشياء تعلمها في لآرش.»
كما هو متوقع من شخص وظيفته تحليل عملية معقدة إلى أجزائها المكونة لها، ثم توجيه إحدى الآلات لتكرار هذه الإجراءات، بدأ لو كاردينال في تحليل مؤسسة لآرش، فأعد قائمة بكل «المساهمين» في أي مقر لها؛ النزلاء والمساعدين والمديرين والآباء الذين لهم تأثير على نوعية الحياة ولهم حصة في الناتج، ثم فرز حاجاتهم ومدخلاتهم إلى وجهات نظر واضحة، ثم قسمها بشكل فرعي وفق نقاط الالتقاء بين وجهات النظر هذه، وأضاف إلى هذا الفهم المنهجي ما استطاع تمييزه من آمال كل منهم ومخاوفهم وتوقعاتهم وأي إغراءات لديهم لتدمير النظام، ثم درس ما توصل إليه من نتائج.
اندهش لو كاردينال من النتيجة التي توصل إليها؛ حيث وجد أن مؤسسة لآرش قدمت ذكاء جماعيا أكبر من مجموع أجزائها؛ إذ أدى التفاعل بين الأسوياء والمعاقين إلى ظهور وجهات نظر أكثر تعقيدا من أي منهما على حدة. وبالنظر إلى إقامتي القصيرة في لا سيمانس، أستطيع رؤية تلك الديناميكية على أرض الواقع ، مثلا بدا جيجي فاقدا للشعور بشكل أو بآخر، حتى إني وجدته يضحك على عروض جاري، وكانت استجابته تحفز جاري، وتدفعه إلى الاجتهاد أكثر من أجل إقامة علاقة جيدة مع النزلاء. وحين قابلت فرانسين على كرسيها المتحرك مصادفة وأمسكت بذراعي وقربت وجهي من وجهها، رددت عليها بمعانقتها وتقبيلها، ولمحت أنها كانت تحب الرجال. ظننت أن فرانسين ليست لها احتياجات، واتضح لي عكس ذلك؛ إذ كان بإمكاني أن أشبع رغبتها بقليل من العطف. واكتشفت فرانسين أنها يمكن أن تشعر بالراحة، إذا عبرت عما تريد حين تحتاج إليه. ولم يتضح هذا بالنسبة إلى كل منا إلا حين تعاملنا معا في تلك اللحظة بوصفنا متساويين.
قال لي لو كاردينال: «ما وجدته مدهشا هو نموذج التعقيد ... أنا متأكد من أن العقل، العقل النشط، جزء من التعقيد؛ هي سمة جديدة غير مخطط لها تنتج من التعقيد. وليس ذكاء النظام في أجزائه، ولكنه في التعقيد ذاته، في العملية التي يتفاعل بها الناس. بالمثل، يقدم أي مجتمع في لآرش سمات جديدة ليست في أجزائه المنفصلة، مثل الاعتماد المتبادل والمساواة التامة. ومن هذه السمات الجديدة الاحترام الكامل والمتبادل بين أذكى الأشخاص وأكثرهم إعاقة.»
سألته: «هل يمكن أن تجد تعقيدا في عقل معاق؟ يبدو هذا غير منطقي.»
رد لو كاردينال: «نعم يمكن ذلك، إذا كان لديك مجتمع.» والتقط قطعة من الخبز المرقق، وبعض الزبد على سكين، ثم قال: «إذا أردت بسط الزبد، فستنكسر قطعة الخبز.» وفعل ذلك، فانكسرت قطعة الخبز كما قال. «ولكن إذا استخدمت قطعتي خبز كي تدعم كل منهما الأخرى، فلن تنكسرا. لقد اكتشفت الفرق بين الضعف والهشاشة، فعكس الضعف القوة، وعكس الهشاشة الصلابة. فليس الضعف هو قضية المعاقين؛ فهم ليسوا ضعفاء على الإطلاق، لكن الهشاشة موضوع آخر، وهو أمر يمكن علاجه بالتعاون.»
أدرك لو كاردينال أنه توصل إلى نظرية جديدة وراديكالية للإدارة، وهي التي قام عليها العديد من الكتب المشهورة منذ ذلك الحين. وفي كتابه «ديناميكيات الثقة»، يطبق لو كاردينال الدروس التي تعلمها من التعامل مع المعاقين ليضع نظرية يحدد فيها لماذا يمتلك بعض الناس ثقة أكبر من غيرهم، وكيف يمكن بناء الثقة بالنفس. وقد ساعد الكتاب في التأسيس للدراسة العلمية للثقة. ومن أحد رواد العلم الجديد مارتن سليجمان، عالم النفس من كاليفورنيا، والذي بدأت شهرته من دراساته عن العجز المكتسب في سبعينيات القرن العشرين.
قال لو كاردينال: «ما كنا نتعلمه كان جديدا تماما ... دائما ما يقول المعاقون: «هل لي أن أثق بك بقدر حاجتي إليك؟» وهذا هو سؤالهم المحوري. ولحظة حل مشكلة الثقة، يصبح من السهل الدخول في عالم المعاقين واكتشاف ماذا يمكنهم تعلمه وإنجازه.»
منذ ذلك الحين أخذ لو كاردينال يطبق الاكتشافات التي توصل إليها في لآرش بشأن تقييم الخطر، وبناء الثقة بأية مجموعة - فكرته القائمة على أن الثقة والتعلم ينبعان من الاعتراف المتبادل بالاحتياج المتبادل - على المشكلات الأخرى. وعمل لمدة ست سنوات في روسيا البيضاء، حيث طلب إليه البحث عن أسرع الطرق فاعلية لتعليم النساء المقيمات بالقرب من تشيرنوبل ألا يقدمن لبنا مشعا لأسرهن. وبدا الأمر أصعب مما كان يبدو عليه؛ إذ كيف تمنع الناس من تناول طعام رئيسي - ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بلبن ينتجنه بلا تكلفة في مزارعهن - بسبب كارثة وقعت منذ ثلاثين عاما؟ كانت حكومة روسيا البيضاء قد جربت منع شرب اللبن، ولكن لم يجد الأمر نفعا.
بدأ لو كاردينال مع امرأة واحدة، وشرع في توفير «ثقافة الرعاية» التي كانت ستطور «الوعي الذاتي بالخطر» الخاص بها، ثم استخدم أساليب بناء الثقة المستمدة من مؤسسة لآرش لمد تأثير تلك المرأة التي اختارها إلى بقية النساء في المجتمع. وحين بدأ لو كاردينال المشروع، في بلدة يقطنها 1200 شخص و350 طفلا، كان يحصل الطفل فيها عند تناوله لإناء من اللبن في المتوسط على ألفي وحدة بيكريل من التلوث الإشعاعي. (ويعتبر مستوى 100 وحدة بيكريل مقبولا، أو على الأقل غير ضار.) وبعد ست سنوات، قلل لو كاردينال وفريقه متوسط الجرعة من اللبن إلى جرعة تحتوي على 50 وحدة بيكريل لكل طفل . وتوسع المشروع منذ ذلك الحين ليشمل حماية أكثر من 600 ألف شخص.
لكن لم يدعني لو كاردينال إلى العشاء ليمدح نفسه، بل أراد أن يخبرني أنه يمكنني استخدام المبادئ نفسها مع ووكر. «بالنسبة إلى ووكر، وهو شخص مصاب بإعاقة عقلية شديدة، تكمن الصعوبة في إيجاد «أقرب منطقة للتعلم». ففي بعض المناطق نستطيع بسهولة تعلم أشياء جديدة، ثم هناك منطقة قريبة حيث يمكنك التعلم مع بذل بعض الجهد، وهناك منطقة أخرى لا يمكنك التعلم فيها مطلقا؛ لذلك من الصعب إيجاد المنطقة الأقرب بين المنطقتين الثانية والثالثة، ولكن لو تعاملت مع الموقف على نحو صحيح، يمكنك تحديدها.» وإذا تمكنت من إيجاد تلك المنطقة، فلعلي أستطيع تعليم ووكر بعض المهارات المهمة.
قال لو كاردينال: إن المسألة تكمن في تحديد شيء يهتم به ووكر - على سبيل المثال، الخروج للتنزه، الذي يحبه أكثر من أي شيء آخر - ثم توفير الأدوات التي تسمح له بإيضاح هذه الرغبة. كنا بحاجة إلى إشارة أو رمز. أضاف: «باكتشاف رمز محدد، حتى ولو كان يوصل أيسر المفاهيم، من الممكن للمعاقين أن يعبروا عن أنفسهم حول موضوعات تهمهم؛ لذلك يمكن فجأة، بكلمة أو إشارة واحدة، أن يكون بينك وبين ووكر تناغم؛ حميمية وتقارب. أما مع وجود ألف كلمة، فلا يمكن أن يحدث تناغم بينك وبينه؛ لأن هناك خيارات أكثر من اللازم.»
كان ووكر يثق بي بالفعل؛ لذا فقد تجاوزنا أول المتطلبات. وكانت الخطوة التالية تتمثل في تحديد منطقة التعلم الأقرب له بتعليمه الإشارة بنعم أو بلا؛ وهو شيء لا يمكنه فعله حتى الآن.
أوضحت للو كاردينال أن تعلم كيفية الإشارة ب «لا» قد تكون الأيسر له؛ إذ «كان معتادا على هز رأسه، وما زال يحركه جانبيا، ولكن «نعم» - الإيماءة التي تدل على الموافقة، أو على الاندماج - ما زالت تستعصي عليه.»
قال لو كاردينال: «عليك أن تجد هذا الشيء.» وكانت نبرته جادة وملحة. «صحيح أن هذا صعب، ولكنه ممكن دائما، وقد يستغرق هذا الأمر عاما، ولكنه حيوي ومهم جدا، ولا بد من وجود إشارة قوية يمكن لأي أحد أن يقرأها ، ليس أنت أو زوجتك فقط؛ لأنها فرصته الأولى للتعبير عما يحب. ليس: هل تحب التفاح أم البرتقال؟ فقط: هل تريد برتقالا؟ لا. تفاحا؟ نعم. إنها الحرية، هي الخطوة الأولى له ليكون حرا، الخطوة الأولى له ليختار. هذا مدخله لكي يستخدم ذكاءه، حتى لو كان ذكاؤه قليلا؛ فهو السبيل لمستقبله، وهو ضروري.»
أجرى لو كاردينال تجارب سأل فيها أطفالا معاقين لا يستطيعون الكلام عن أكثر الأجهزة التكنولوجية التي يفضلونها. ما الإجابة الأكثر شيوعا التي قالتها الأغلبية الساحقة؟ لم تكن الكمبيوتر، ولا الآي بود، بل كان الشيء الذي يريده الأولاد هو كرسيا متحركا كهربائيا. لماذا؟ قال لو كاردينال ناقلا ما قالوه: «لأني بذلك أتمكن من الاقتراب من الناس الذين أحبهم، والابتعاد بعيدا عمن لا أحبهم.» فالثقة تولد الرغبة، والرغبة تولد الفطنة، والفطنة تولد الكرامة. لو اختار ووكر شيئا ما، فإنه يتحمل بعض المسئولية عن نفسه، ويمكنه التحكم في جزء من مصيره، وأن يصبح أقرب إلى الإنسان العادي. ولا يجب حتى أن يكون اختيارا بالمعنى الحقيقي للاختيار، بل يكفي فقط أن يكون له شكل الاختيار.
قال لو كاردينال: «عليك أن تعطي لووكر حريته، وحين يتعلم الإشارة، إذا سمحت لي بمعرفة ذلك، فإن ذلك سيسرني جدا، سيسرني جدا، وسأعطيك عنوان البريد الإلكتروني الخاص بي لكي تبلغني.»
أحاول تعليم ووكر الإشارة الخاصة ب «نعم» منذ ذلك اليوم، أي منذ أكثر من عام. وأحيانا أشعر بأنه يتحسن. ***
سوف أتذكر لزمن طويل جلوسي مع جيل لو كاردينال والحديث إليه في بيته في كومبين، ونحن نتناول يخنة الكاسولي اللذيذة رغم بساطتها، التي أعدتها لنا زوجته دومينيك. وكنا كما لو أننا نجلس في مكان سري نتحدث بشأن خريطة أحد الكنوز، التي لم يكن يعرف عنها أحد غيرنا شيئا حتى الآن. وكانت أفكاره من الروعة ما جعلها لا تنسى. وكونها نشأت بوحي من أشخاص مثل ووكر جعلها من الصعب أن تنسى، حتى لو كانت «ثورية»؛ لأنها تتعلق بكيف يمكن لضعفنا أن يتحول إلى شيء مثمر وناجح، ليس للمعاقين فقط، ولكن لغير المعاقين أيضا، وهذا شيء اكتشفته من المعاقين، حين أخبروني أنه ينبغي لي ألا أخفي العيوب التي بداخلي.
قال لو كاردينال، بعد فترة توقف قصيرة عن الكلام: «وقد غيرني هذا؛ لأنه في عالم قائم على التنافس، عليك أن تخفي ما لديك من ضعف أو خطأ؛ إذ سيحاول شخص ما أن يهاجمك حين يكتشف هذا الضعف، سيحاول أن يستغل الضعف. فحين يلعب لاعبان في فريقين مختلفين، سيحاول كل منهما هزيمة الآخر، وهذا ما لا يختلف فيه المعاقون عنهم مطلقا؛ فهم يحترمون نقاط ضعفنا المتبادلة.» فالمرء ينكشف من خلال حاجته، ولا داعي لمحاولة إخفاء هذا.
هناك بطل آخر من أمثال لو كاردينال، وهو جاك دو بوربون-بوسيه - الدبلوماسي الفرنسي ورئيس الأكاديمية الفرنسية الذي ابتعد عن السياسة ليصبح كاتبا - عبر عن ذلك بوضوح بقوله: «عدو الحب الاعتزاز بالذات.» ودو بوربون-بوسيه كان صديقا لشارل ديجول، كما كان جورج فانيه، والد جان فانيه، وكان كلا الرجلين على علم بأمر ابنة ديجول المعاقة آن، التي ولدت وهي مصابة بمتلازمة داون. وكان معروفا عن ديجول أنه رجل متحفظ، فيما عدا تعامله مع آن. وقد ماتت آن عام 1948 في سن العشرين. وبعد جنازتها، واسى الرئيس زوجته وهما يغادران بعيدا عن قبر آن قائلا: «الآن، هي مثل الآخرين.» وكان ديجول يحمل صورة آن أينما ذهب بعد ذلك، حتى إنه ادعى أن الرصاصة التي أطلقت عليه في محاولة الاغتيال الفاشلة عام 1962 أوقفها إطار الصورة، التي كانت مسندة في ذلك اليوم بالمصادفة على رف النافذة الخلفية لسيارته. وبعد عشرين سنة، دفن ديجول بجوار ابنته، وهو أمر أجده مثيرا للحزن بدرجة كبيرة.
على الرغم من أن كلمة «محزن» ليست الكلمة المناسبة، أو ليست كافية، فهي تعبر ولو على نحو بسيط عن شعوري تجاه الأمر؛ فكرة رغبته المتواصلة غير المتبادلة في الوصول إليها، والتي تحققت بشكل محتوم في النهاية: الشكل الكئيب والهزيل لوحدتنا وتوقنا الإنساني وقد كشفت عنه طفلته الضعيفة.
تعلمت كل هذا، من خلال جيل لو كاردينال، وجان فانيه، ومن جوهر ووكر.
لذا ربما تسامحني لأني اعتقدت، في يوم ما، أن لوجود ووكر هدفا في مشروعنا التطوري، وأنه شيء أكبر من محاولة فاشلة للطفرة والتنوع، ولأني فكرت - على ما يبدو أنه بلا جدوى - أنه إذا لاحظنا ونسخنا و«انتخبنا» نموذجه، فقد يكون خطوة (صغيرة جدا) نحو «تطور» أخلاقي مرن وأكثر تنوعا في أفراد قليلين من الجنس البشري، وقد يكون الهدف من وجود المعاقين عقليا مثل ووكر أن يحررونا من العقم الصارخ لنظرية البقاء للأصلح.
الفصل الثالث عشر
من دفتري، في 8 ديسمبر عام 1999، حين كان ووكر في الثالثة:
نحن في فندق نادي اليخوت، أحد منتجعات ديزني، هنا في عالم ديزني، كون ديزني. جئنا لرعاية جيك زوج أم جوانا، وأمها جوان، وكان هنا أيضا أختها وأخوها وأزواجهما وأطفالهم.
حدث الكثير، بل الكثير جدا من الأشياء الغريبة. أولا ووكر يعاني من آلامه فيضرب رأسه باستمرار ويصرخ، ويخرج من أنفه مخاطا كثيرا، ويتصرف على نحو غير طبيعي؛ يتألم باستمرار والسبب غير معروف. وظننت أن هذا بسبب ألم في الأسنان أو تنبيه مفرط، وأخشى - صحيح أن هذا بلا دليل، ولكنه مقنع على أي حال - أنه يؤذي نفسه عن قصد، وأنه يدرك أن هناك مشكلة ما لديه.
ثم يأتي أمر جيك، الآخذ في الاحتضار ببطء بسبب سرطان العظام؛ الأمر محزن للغاية، ولكن لا أحد يذكر الأمر. ولديه دراجة بخارية صغيرة يتنقل بها هنا وهناك، وينضم إليه الأطفال، وأحيانا ننضم إليه بعد قليل من الشراب.
ثم يأتي بالطبع عالم ديزني نفسه، الواحة الأمريكية العظيمة للتجانس. أتعجب كيف سيرى علماء الآثار عالم ديزني بعد آلاف السنين من الآن؛ هل بوصفه مزارا دينيا؟ أتصور ذلك، بل أنا متأكد جدا من ذلك. تتسلل الأنغام بمدينة ديزني من بين الشجيرات، مما يجعلني أثب من السعادة. وقد صدرت تعليمات للموظفين أن يعاملوا الضيوف بلطف، وأن تكون أولويتهم الاهتمام بهم، أيا كان الأمر، حتى إن العمال الذين يصلحون شبكة التبريد والتكييف في مداخل الفندق، الذين غطوا الممرات الكثيرة جدا المفروشة بالسجاد بغطاء واق من نوع رجراب، وهو نوع بلاستيكي محكم مانع للأتربة؛ يوقفون كلهم عملهم ويقولون لنا: «مرحبا! كيف حالكما اليوم؟» بينما أنا وووكر نسير متجولين في ردهة الفندق. يجعلني هذا أتوق إلى من يفيقني من هذا الحلم ويرجعني إلى الحقيقة.
أنا في «حالة مزاجية سيئة». أصبحت هكذا منذ أن وصلت هنا؛ إذ يظل ووكر يذكرني بأن الحياة لا معنى لها.
فيما عدا عالم ديزني، إذا أردت القيام بشيء، فعليك أن تفعله بهدف، ويفضل بدراجة بخارية صغيرة، ولا عجب أن قالت لي هايلي هذا الصباح: «ميكي حقيقي يا أبي!» ولعلها قد أضافت: وأنت لست كذلك يا أبي! لا أحد يستخدم النقود هناك؛ فنفقاتنا تخصم ببساطة من الرصيد الكلي لبطاقة ديزني، والتي يمكن استخدامها بالطبع في أي مكان؛ لأن كل شيء مملوك لديزني. هناك ملاه مائية اسمها بليزرد ماونتن، وتقوم فكرتها على وجود نهر جليدي عملاق يذوب في وسط فلوريدا، ولكن بدلا من جولات التزحلق لأسفل، فأنت تنزلق لأسفل عبر الزحلوقات بملابس السباحة، وهذا أفضل ما في الملاهي. اليوم ندخل إيبكوت، ودخلنا أمس الملاهي المائية ومملكة السحر لحفلة الكريسماس، وغدا من يعلم! ربما ندخل مملكة استبدال المخ الجراحي؛ وهذا ما يضايقني: لا مجال لأي انحراف، ولا للخروج عن المألوف، أو عن سير الزيارة، أو عن توحد أعضاء مملكة الفئران؛ فأنت لست شخصا مستقلا هنا، بل أنت عضو من عائلة الفئران الآلية الممتدة. وووكر أيضا، وأظنك تسمي هذا شكلا من أشكال الدمج، ولكن هذه هي المشكلة مع السياسة الرسمية للدمج؛ لا يمكنك أن تكون ما أنت عليه فعلا، وأظن أني أشعر في عالم ديزني بنفس شعور ووكر في العالم الحقيقي: صحيح أن هناك مواطن سحر فيه، ولكننا في الغالب لا نستطيع الانسجام معه.
تأتي نسخة الدمج الكلية للحياة مع الدرس الأخلاقي الكلي أيضا؛ ففي رحلة الطيران إلى هنا جلست بجوار امرأة تبلغ من العمر 62 عاما، كانت تركب الطائرة لأول مرة في حياتها. حقا. وأول مرة تركب فيها الطائرة، تركبها إلى عالم ديزني! كانت تتكلم بلكنة سكان الجزء الشمالي من ولاية نيويورك، وقالت حين هممت بالقراءة في كتابي: «ابني يؤمن حقا بالأسرة. في ليلة ما، قلت له ولزوجته إنني سوف أهتم بالأطفال في إحدى الليالي، وإنه يمكنهما الخروج لتناول العشاء معا، فقال: «لا، هذه إجازة الأطفال.» لكن زوجة ابني قالت: «حسنا، هذه إجازتي أيضا.» رد ابني: «لا يا حبيبتي، ستحل إجازتنا حين يكبر أولادنا».» أردت البحث عن ابنها في الطائرة حتى أقول له: «خذ هذا الولد الكارثي لبضع ساعات، وحدد مدى استعدادك حينئذ للتضحية بحياتك وحياة زوجتك!» فهو شخص غبي يشعرني كما لو أنني أب فاشل؛ إذ يكون أحيانا الشيء الوحيد الذي يجعل الليل أو النهار يمران علي وأنا مع ووكر هو احتمالية أن أقضي بضع ساعات بعيدا عنه، أقرأ أو أخرج وأركب الدراجة أو أطهو شيئا ما لا يحتوي على مسحوق البابلوم بوصفه المكون الرئيسي. والليلة الماضية بعدما نام ذهبت إلى حجرة المعيشة لجناحنا من أجل القراءة، ولكن كل ما فعلته هو الاستماع إلى الأصوات الضعيفة والحركات والإشارات الأخرى التي توحي بأن ووكر كان على وشك الاستيقاظ. أنا لا أتمتع بإيثار ابن السيدة البالغة من العمر 62 عاما، وبالتأكيد لا أتمتع بصفة التفاني مثله. يوبخني العالم من أجل عدم قدرتي على قبول مصير ووكر، وبالتالي مصيري أنا؛ يوبخني على غروري وكسلي.
غير أن ووكر مضاد للوم الذات هذا أيضا. وحدث هذا اليوم مرة أخرى، بينما كنا نسير في ساحة الأمم أو مؤتمر الكون في عالم ديزني، أيا كان اسمها، وهي عبارة عن ساحة غامضة ومسطحة متناثرة، فيها غابة من سواري أعلام دول عديدة. أخذ ووكر يصرخ ويضرب آذانه بعنف (فهو لا يعجبه طقس فلوريدا الرطب) وكنت أتحدث إليه، وأتمتم بأنشودتي الهادئة لأرى إن كنت سأتمكن من صرف انتباهه عما هو فيه، دافعا عربة الأطفال بوركي بينما أمسك يديه رافعا إياها أعلى رأسه، لأمنعه من ضرب نفسه. كنت معه حينذاك لمدة ثلاث ساعات متصلة، بعدما استيقظ مبكرا واصطحبته للمشي في الخارج حتى تتمكن جوانا من النوم (تنام هايلي مع خالتها آن، في الغرفة المجاورة). كنت على وشك أن أفقد صبري وقوة تحملي؛ فصراخه لم يتوقف لمدة ساعة، وتحت قيظ شمس فلوريدا شديدة الحرارة تسبب صراخه في جعل رأسي يدور، لدرجة أن المعاناة الإنسانية والإزاحة والعزلة الوجودية التي كان يمثلها، كانت هي الأشياء الوحيدة التي كنت أستطيع سماعها أو التفكير فيها أو حتى رؤيتها: لقد أصبح صراخه المتواصل مثل الجلوكوما السمعية، التي أوقفت عمل كل الحواس الأخرى. قلت في نفسي: «أتعلم، يا بني، أن هناك أوقاتا أكرهك فيها؟» وهو موقف مضاد لموقف ابن العجوز التي كانت تركب الطائرة لأول مرة، ولكنه على الأقل تعبير حقيقي عن اللحظة الحالية، وأرغمني ووكر - وحتى سمح لي - أن أعترف بذلك، فهو مضاد للوعي الكاذب، وسوف يذكرني على الدوام بما نحن عليه حقا.
وبطريقة أو بأخرى - ربما بسبب الضوء الشديد لعناده، أو لأننا نجونا من انهيار خطير آخر، لقاء آخر مع الفوضى - تكون حولنا مجال قوة من التكيف، ومن خلال الدموع والأنفاس السريعة وأخيرا التنهدات، توقف بالتدريج عن الصراخ، واسترخى وتحرك معي بسلاسة في عربة الأطفال، ولم تعد لديه قوة لعمل أي شيء سوى متابعة تفاصيل العالم الذي نمر به. ***
إن المكان الذي يعيش فيه ابني عبارة عن منزل أبيض من طابق واحد يشبه الكوخ يقع على حافة المدينة.
حين لا أكون هناك، أستطيع تصور المكان في ذهني، وأفكر فيه طوال الوقت منذ أن انتقل إليه من ثلاث سنوات.
منزل أبيض من طابق واحد على النمط الريفي، عرضه أكبر من طوله، ومنحدر من ناحية الباب، ودائما ما تجد على الأقل سيارتين في المدخل، وتوجد الألعاب التي يلعب بها خارج المنزل ويوجد صندوق رملي في الخلف، كما يوجد مركز تجاري في الركن، ومركز اجتماعي على الجانب الآخر من التقاطع، وأسماء الأطفال مطبوعة على زجاج باب الفناء. وتوجد التخطيطات والسجلات الطبية في المطبخ. لا توجد سجاجيد (لأنها تعوق حركة الكراسي المتحركة والمشايات)، والمنزل به حركة كثيرة.
وهو يعد إحدى دور رعاية المعاقين المتميزة؛ فهو منظم تنظيما جيدا، والعاملون فيه على درجة عالية من الكفاءة (يقدمون الرعاية التي كان يحتاجها ووكر على مدار الساعة، حتى وهو نائم) ومستقر، ونظيف؛ فالنظافة مهمة. وهو يعيش هناك مع سبعة أطفال معاقين آخرين.
أحفظ غرفته عن ظهر قلب: جدرانها زرقاء وخضراء، تحتاج إلى نافذة أخرى، ولكنها منظمة. وهناك خزانة خشبية ذات أدراج لون دهانها أصفر، وملصقات لكرات كرة القدم معلقة على الحوائط، ومفارش للسرير عليها صور سيارات سباق ناسكار! ويشترك في الغرفة ثلاثة أطفال، وهم: ماركوس (أصم ومتأخر عقليا وقلق ولكنه مفعم بالحيوية)، ويوسف (طويل ونحيف جدا ومتأخر عقليا، وله قوة هيكلية خائرة وهو لطيف وهادئ ويصافحني دائما)، وووكر أكثر الثلاثة تأخرا من الناحية العقلية.
على الحائط توجد صورة هايلي، وصورة أولجا، وصورة أمه، وصورتي.
الخزانة منظمة للغاية، والصناديق مصنفة وعليها ملصقات للقمصان والبنطلونات والسراويلات التحتية وأنابيب الذراع الإضافية. وهناك صورة لرجل ثلج وزوج من قفازات الملاكمة، مرسومة على ورق أرجواني اللون، وصورة ولد يوجه لكمات إلى آذانه، وهو دائما كذلك. ملاكم، شخص قوي: قد يكون جسمه صغيرا، ولكنه قوي وخشن، ولديه قدرة هائلة على تحمل الألم. وفي حفل الاحتفاء بمقدم ووكر - الذي أقيم بعد ولادته على غير المعتاد؛ لأنه ولد قبل ميعاده بخمسة أسابيع - قدم لنا صديق صورة للوحة لجورج ستابز مرسوم فيها كلب بولدوج صغير شهير، «بيلي مارتين: الكلب المقاتل». وهناك بعض الهدايا التي اتضح أنها مناسبة له فعلا.
قدت سيارتي وذهبت إلى هناك مساء أحد الأيام بعد انتهاء اليوم الدراسي لإحضاره إلى البيت لبضعة أيام. (هل أخبرتك؟ هو يعيش هناك الآن.) أذهب إلى هناك كثيرا لدرجة أنه يمكنني تذكر كل شبر في الطريق إلى هناك. أميل إلى أن أسرع بالسيارة عند ذهابي لإحضاره، وحين أعود به لا أجدني متحمسا؛ لذا لا أسرع في الطريق. حتى بعد ثلاث سنوات، فالرحيل (تقبيله لتوديعه أكثر من مرة، ثم احتضانه وتقبيله مرة أخيرة، ثم الخروج مسرعا وإغلاق الباب الأمامي للمنزل الذي يغلق أوتوماتيكيا خلفي، والسير عبر منحدر الكراسي المتحركة إلى السيارة) كلها أحداث تقتلني قتلا، وأشعر كما لو أن الشمس تغرب ببطء، كما لو أن شيئا شريرا وغريبا جدا يحدث.
وصلت اليوم قبل أن يعود ووكر من المدرسة، وانتظرت في المطبخ، وكان المنزل صامتا ومظلما تماما، وكان هناك سبعة أشخاص في غرفة المعيشة، وهم نزلاء المنزل - جاسمين وكولين ويوسف وثارسيكا وسيندي وكارين وماركوس (الذي يقرأ حركات الشفاه) - كانوا يشاهدون التليفزيون دون تشغيل الصوت؛ كما أنه لا يسمع صوت لهم. بالطبع هذا صحيح؛ فلا أحد فيهم يتكلم، فهم تائهون في خوذاتهم وكراسيهم المتحركة وعقولهم الخاصة، يخدشون بأيديهم في الهواء. ويقفزون أكثر من مرة، ووجوههم باتجاه الحائط، قد يكون هذا عرضا في فن الأداء الإيمائي، أو عرضا لمعاناتهم القلقة المنعزلة.
ثم سمعت صوت أتوبيس ووكر الأصفر الصغير وهو يتوقف أمام المدخل، فأسرعت لمقابلته ورحبت به قائلا: «أهلا، يا بيجل!» ومما أدهشني، أنه قفز بين ذراعي. في كل المرات التي أحضر فيها لآخذه من هنا منذ أن ترك البيت، لم أكن متأكدا تماما من أنه سيتذكرني. هو على الدوام يتذكرني، ولكني لم أكن واثقا من ذلك على الإطلاق.
حضنته حضنا كبيرا ردا على ذلك.
ثم بعد ذلك، بينما كنا نجمع متعلقاته - مثل المضخة والألبان الصناعية والأدوية وبنطلون التزلج وحقيبة الظهر العسكرية وعلب ذراعيه وخوذته الرغوية (نسيت عربة الأطفال) - كان يتجول في حجرة المعيشة.
لم يقل أحد من النزلاء له أهلا، لكنه حينها لم يكن هو الآخر يستطيع قول ذلك أيضا، وبدلا من ذلك ذهب مباشرة إلى شجرة الكريسماس، بطريقته المتأنية، لتفحص الزينة بها. في مقر الصمت الأبدي هذا، كان هو فقط الذي ينجذب إلى البريق. لم أستطع نسيان ذلك.
غادرنا بسرعة. يحب ووكر أثر الجليد، والخلاء، والهواء الطلق على أذنيه ورأسه، وكل ما يحبه مهم بالنسبة إلي. أعتبر اكتشافي للأشياء التي يحبها إنجازات.
حين بلغت هايلي الرابعة عشرة من عمرها، بدأت أصطحبها إلى حفلات الباليه. هي نفسها كانت راقصة باليه منذ أن بلغت الثالثة، وتعد حفلات الباليه أفضل الأماكن التي أحب قضاء الأمسيات بها، وفيها ألبس بابيونا وترتدي هي فستانا، وتخبرني عن أي الحركات تمثل صعوبة لها وأيها لا تمثل ذلك، ونناقش ما تعنيه رقصة ما، وكيف يمكن لحركة الجسم أن تجعل العقل يفكر في أشياء معينة. وفي هذه الأمسيات مع ابنتي اللطيفة، والتي نجلس فيها في المقاعد القريبة من خشبة المسرح، أشعر بالامتنان؛ لأنني صادفت في حياتي بعض الحظ السعيد والبهجة.
في إحدى الليالي ذهبنا لمشاهدة الفرقة القومية الكندية للباليه التي كانت تقدم باليه «جلاس بيسس»، الذي صمم رقصاته جيروم روبينز على موسيقى فيليب جلاس، وكانت صفوف من الراقصين والراقصات التي بينها مسافات متساوية ترقص على خشبة المسرح على إيقاع موسيقى السيد جلاس. ومن حين لآخر كان يتقدم راقص وراقصة ليؤديا معا حركة ما، ثم يعودان على الفور إلى الصفوف.
بمعنى آخر، باليه عن حياة مدينة عظيمة بمجموعة من الناس يقومون بالأشياء نفسها في المكان الرتيب نفسه على الإيقاعات نفسها، لا يشذون عن هذا إلا عندما ينفصل راقص وراقصة عن المجموعة ثم يعودان إلى مكانهما على وجه السرعة، كما يتعين علينا أن نفعل جميعا. عمل أدبي يسمح لك بمشاهدة الشكل الهش لوجودك، حتى وأنت منغمس في حياتك الرتيبة ضيقة الأفق. لمحة كريمة ومفعمة بالأمل، هبة تعطي لك منظورا معينا للحياة. كان هذا يجعل الدموع الغزيرة تنسال من عيني.
يجعل ووكر الناس تبكي أيضا، ويمكن أن يحدث هذا في أي وقت، وهو يحدث في واقع الأمر تقريبا لأي شخص يقابله، ولكنها ليست دموع الضياع أو الشفقة. توصلت إلى نتيجة مفادها أنها في معظم الأوقات دموع الامتنان.
يذكرنا المعاقون، ولا سيما المعاقون إعاقة بدنية شديدة والمعاقون عقليا، كيف يمكن أن تصبح حياتنا مظلمة؛ كل حياة، وليس فقط حياة المعاقين. فقد ولدنا من ظلام لنتجه فورا إلى ظلام آخر مع وجود ومضة ضوء فقط فيما بينهما: هذا وصف صامويل بيكيت لرحلة الإنسان في نهاية المطاف؛ فمعظم شخصيات بيكيت بلا أرجل أو حركتهم محدودة، أو فاقدون الدافع للأمل؛ فهم معاقون.
لذا عندما يفعل ووكر أي شيء يشير إلى أن لحياته هدفا إلى جانب الألم والعزلة، يبدو هذا أمرا شجاعا بشكل كبير. وبالنسبة إلى ولد مثل ووكر، فالزينة المعلقة على شجرة الكريسماس يمكن أن تكون مثل تابوت العهد: تلمع وتلفت انتباهه، وتنعكس شذرات العناية والتفصيل والخيال التي دخلت في صنعها من مصممها إلي، أو إلى أي شخص آخر ينظر إليها، من خلال ووكر. وإذا ركزت انتباهي لفترة أطول وجلست للتفكير في هذا، إذا كنت جريئا بحيث لا أتحول إلى نشاط أكثر «فائدة» أو تشتيتا للانتباه، فإن فكرة تعليق زينة على شجرة، أو تذكار على فرع شجرة، أو طقس وثني قديم، تبرز مرة أخرى. فووكر عدسة - ذات شكل غريب، أقر بذلك - ترى العالم من خلالها أكثر وضوحا، ويجعلني ووكر أرى الزينة على ما هي عليها؛ وأفضل من ذلك، أنه يجعلني أراها على ما يمكن أن تكون عليه، على ما قد تكون عليه. وكأنه يقول: «انظر هنا بابا، انظر ما ينقصك. كل ما عليك فعله هو أن تتمهل. دعني أوضح لك كيف يكون هذا.»
إذا كان ابني يحاول ألا يستسلم للألم، وفجأة وجد الأمر أكبر منه وأصابه الحزن الشديد لهزيمته، وانفجرت من داخله موجة صراخ أكبر وأعمق، فسيجعلني هذا أبكي أيضا. لماذا؟ هل لأنه من المؤلم مشاهدة ذلك؟ لا، يغضبني ألمه، وأظن أن ما يجعلني أبكي هو التفاؤل الخفي حتى في هذه الأزمة، على الأقل كان يحدوه الأمل في هزيمة هذا الألم، وكان يتوقع أنه قد يختفي. وعلى حد قول صديق لي من مدينة وينبيج ذات يوم، فيما يتعلق بموضوع آخر: في نهاية اليوم، هناك دائما كأس من شراب للمنتصر.
في رأيي هذا هو السبب في بكائي المضطرد، فلووكر نفس تأثير الباليه علي؛ إذ يمكن لكليهما إظهار الشكل الأكبر للعالم، فهو إحدى البرك التي يوجد فيها الأمل.
لذا لأي شخص يتساءل عن القيمة المحتملة للطفل المعاق إعاقة شديدة، والمعنى المحتمل للحياة الناقصة التي تمر في أكثرها في ألم، فإن هذا أحد الاحتمالات. ماذا لو كانت حياة ووكر عملا أدبيا قيد الإنشاء ؛ أو عملا فنيا جماعيا؟ هل يمكن أن يقنعك هذا بأن تتولى رعايته لي؟ ***
أفكر فيه لأول مرة كل يوم قبل طعام الإفطار، في الساعة السابعة إلا الربع صباحا بينما أعد طعام الغداء لابنتي كي تتناوله في المدرسة، وأصادف أدوات تغذيته في الخزانة الخلفية في المطبخ، أو حين ألحظ عوارض ستائر الباب الأمامي وهي لا تزال متشابكة وأنا أحضر الصحيفة. أرى صوره على الثلاجة وعلى خزانة الحبوب، وعلى مكتبي حين أرتدي ملابسي، وهناك القطع المغناطيسية التي هو مغرم بها الموضوعة على الثلاجة. ويدعوني سريره الفارغ من أعلى السلالم، وكلما يخطر على بالي أتذكر أننا لم ننجح في مواصلة رعايته، وينقبض صدري، وأفكر متى رأيته آخر مرة ومتى سأراه ثانية؛ أذكر نفسي بما ينبغي علي فعله المرة القادمة (الطبيب؟ التأمين؟ الاختبارات؟) وأحسب عدد الأيام التي ترك فيها البيت، وأستنكر أو لا أستنكر هذا العدد، وأفكر في شكل رأسه، وأفكر في عينيه، لو أنه يتكلم! وأحسب في أي يوم من الأسبوع سيتوافر لدي الوقت لأذهب لآخذه بالسيارة، وفي أي وقت من اليوم سيكون المرور أقل إرهاقا؟ وأفكر في ترتيب أمور أولجا، وأفكر في هايلي وهي معه بمفردها في هذا العالم. هذا ما يطرأ على ذهني تقريبا في كل مرة أفكر فيه، وبرغم أنه ولد أهميته في الحياة صغيرة جدا، فإنه يجعلني أفكر كثيرا. ***
لكن بعدما انتقل ووكر إلى مقره الجديد، نسيت بالتدريج إيقاعات نومه، وقول هذا يجعلني أبكي: كيف خذلته إلى هذا الحد الكبير؟ وما الذي سيعينه على النهوض مرة أخرى؟ نسيت طريقة إصراره على ضرب رأسه والحائط ورأسه برأسي، حتى يأتي البيت لزيارة ويذكرني بكل ذلك مرة أخرى. ونسيت كيف يستيقظ بالتدريج وبعناد، وببطء معذبا من يرقد بجانبه مع احتمال استرداده لوعيه، مكررا نفس طريقة لكم رأسه أو نفس طريقة الخدش بيده (بقوة، مقابل شيء أقوى)، ونفس الهمهمة أو الأنين، حتى ينجح في النهاية في الاستيقاظ، وغالبا دون أن يكون سعيدا. ونسيت كيف يستطيع ضرب الحائط باستمرار، أربع مرات أو خمسا في الدقيقة، لمدة عشرين دقيقة، دون فتح عينيه، وكيف أتخذ إجراء سريعا للتغلب عليه لينام. ومع ذلك نسيت كيف كان هادئا عند استيقاظه، وكيف كان تناسق جفونه، ونعومة جبينه! وكم كان يبدو ابني المحني الصغير جميلا وشديد الهدوء، وكم هو مقنع هدوءه الكاذب! ونسيت مدى الغيظ الذي كنت أشعر به حين يتحدى إرادتي. في الصيف الماضي، في كوخ أصدقائنا البعيد الذي يقع على شاطئ البحيرة، ظل مستيقظا حتى الثالثة إلا الربع صباحا، وقد حاولت في البداية أن أجعله ينام في الساعة الحادية عشرة إلا الربع، حين قالت جوانا: «عليك أن تأخذه من أولجا، فقد مرت بيوم صعب اليوم.»
كتمت موجة الاستياء المعتادة في صدري، ونزعت خوذته، ورفعت حمله الثقيل إلى السرير، وارتميت بجواره، وغنيت له ما أحفظ من الأغاني؛ كانت الأغاني الوحيدة التي أستطيع بالفعل تذكر كلماتها هي: «الفضل العجيب» (أربعة مقاطع، أحدها من تأليفي)، و«الحب»، و«هل أنت وحيد هذه الليلة؟» و«نهر الرجل العجوز»، إضافة إلى تكرار «الفضل العجيب»، هذه المرة على إيقاع أغنية «منزل الشمس الساطعة» كما تغنيها فرقة بلايند بويز من ألاباما. وقمت بهذا الغناء مرتين، ولم يؤثر هذا. ولاطفته، وطقطقت له، وداعبته، وضحكت معه، ووضعته على السرير، وهمست في أذنيه، وربت على رأسه وظهره. قمت بكل شيء أعرفه في هذا الشأن، وردا على ذلك حاول بشكل متكرر - أقصد بذلك ثلاثين مرة - وبحماس مرضي، أن يضرب رأسي برأسه بأقسى ما يستطيع، وقد نجح بنسبة 40 في المائة.
في النهاية، وبعد أربع ساعات، وبعد أن قام من الفراش مرتين خلال هذا للاستماع إلى الليل ومراقبة الشرفة المسقوفة المهجورة وقتها معي، وبعد الضربة التي وجهها لأنفي، ضربته ضربة من متوسطة إلى خفيفة على مؤخرته وسببته، وقلت له متذمرا: «حسنا أيها اللعين الصغير، يكفي هذا!» كنت أعلم أني دخلت المنطقة الخطيرة حيث يجب على المرء التراجع فورا وفقا لكتب الإرشاد والنصح. وفكرت لبرهة في إيقاظ جوانا أو مضيفي، طالبا المساعدة. (لم أرد إيقاظ أولجا؛ فقد قامت بأعمال كثيرة وصعبة خلال اليوم، وكان علينا تحمل مسئوليته بالليل.) لم أوقظ بالطبع أحدا، ونادرا ما أفعل ذلك، ولكن هذا الخيار كان متاحا لي؛ كان يمكنني أن ألجأ لأحدهم. بمفردي، ودون أن يوجد أحد ليقدم إلي يد العون في موقفي هذا، لم أفكر في هذا البديل.
بدلا من ذلك، وجهت له الضربة وأمرته أن يتأدب، وحينئذ نام على جانبه، ومال على مرفقه، ونظر في وجهي كما لو أنه ميلتون بيرل، وأطلق صيحة عالية قائلا: «ها!» وتقلب ونام. أراد فقط أن يعرفني أنه يمكنه الآن الصمود أمامي، وأنه على استعداد لمواجهة كل ما يبدر مني. لا أدري كيف يتصرف الأولاد الآخرون العاديون في سن الثانية عشرة مثله في تلك اللحظة مع آبائهم، بيد أن هذا هو ما تعامل به ووكر معي، فقد استخدم ما لديه من قدرات.
قد يسأل سائل: لكن كيف لك أن تعرف ما يحاول أن يوصله إليك؟ كيف تعرف أنك لا تتخيل كل هذه الرسائل بينكما؟ وإذا لم يكن يستطيع الكلام، فكيف لك أن تعرف أنك لا تصطنع هذا من خيالك؟ والإجابة: لا أدري. ولكن الأب العادي أيضا لا يعرف في كثير من الأوقات إن كان هو وأولاده يصطنعون الرابطة بينهم أم لا. فيوجد إطار لأي علاقة إنسانية خلف ستار من الكلمات، ويبدو أحيانا شيء خلاف ما هو عليه، ولا يدعي خلاف ذلك إلا شخص أحمق، أو شخص يهوى الإحباط. فلا ووكر ولا أنا نخلط بين ارتباكنا والكلمات، فحن نفضل الأصوات. ***
بعدما عاش ووكر في بيته الآخر لمدة عامين، حلمت به، رأيته في بيته الجديد وأنا كنت أزوره، وكان مسرورا جدا جدا، كان لا يزال لا يستطيع الكلام، بيد أنه كان يفهم كل شيء ويمكنه إيصال كل ما يريد قوله على الفور من خلال الهمهمة. وبعد الزيارة، أوصلني إلى باب بيته حتى يودعني، ووقف هناك مبتسما، وزميلته في البيت شانتال - أو صديقته الأخرى كريستا لي أو الاثنتان - كانت تقف وراءه، ومن الواضح أنها رفيقته. سرني هذا: أدركت أنه في النهاية قد وجد شخصا يحبه وأن هناك شخصا أحبه، ليس فقط بالطريقة المعتادة التي يحب بها الجميع ووكر، ولكن بطريقة لا يفهمها سواه؛ حبه الخاص، أخيرا، أن يعطي ويأخذ، وكان يدرك كلانا هذا. وابتسم حين ودعته ونظر مباشرة في عيني، وأومأ لي برأسه وباركني؛ فقد غفر لي كل شيء، ولكن كان هذا في النهاية مجرد حلم. ***
إنه يصبح ولدا مختلفا هناك، في منزله الآخر. يعيش حياته الخاصة به، وهو شيء لم أتوقعه يوما له. ومن الناحية العقلية، هو طفل صغير، وسوف يظل كذلك؛ فهو يذكرني بشعوري وأنا أجالس طفلا رضيعا. ولكن بينما أعتقد أن ووكر لن يتغير أبدا، أجده يتغير طوال الوقت.
في رحلته الأخيرة إلى البيت رفض فعل أي شيء طلبته منه، رفض الانتباه إلي لمدة يومين؛ فضرب الطاولة وفحص الميكروويف ولعب مع أولجا. كان يتصرف كما لو أنه مراهق، يعاند الكبار. وفي مساء اليوم التالي، بعدما طلبت منه أن يأتي إلي ثلاثين مرة، حاول أن يرضيني، فجلس على ركبتي ونظر إلي، وببطء شديد ابتسم لي ابتسامة خفيفة، بينما كان ينظر إلى مقصده التالي. وعلي أن أقول: إن كلمة «يدرك» طرأت على ذهني، وكان يبدو أنه يدرك على وجه الدقة ما كان يفعله: «وقت استرضاء الرجل العجوز، الذي يحتاج فعلا إلى الاسترضاء، أليس كذلك، أيها الرجل العجوز؟»
لم أتوقع قط أن أراه يتمتع بالاستقلال، وأن تكون له حياته الخاصة به، ولكن هذا حدث بالفعل. وأحدث تطور، كما أخبرني العاملون بالدار، أنه يصيح: «حافلة، حافلة، حافلة!» حين تصل الحافلة. يصعب علي تصديق ذلك، ولكن هناك تحولات أخرى أيضا، تغيرات مهمة في أحواله.
هناك أمسية من أمسيات شهر نوفمبر - منذ ستة أشهر من كتابتي لهذا الكلام - أتذكرها بوضوح كبير؛ إذ وصلت في الساعة السادسة لآخذ ووكر إلى بيتنا، وحين توقفت بسيارتي في المدخل، وجدت كولين الولد الأكبر في الدار، يحملق من نافذة غرفة نومه التي تقع على يمين الباب الأمامي المغلق. كان وجهه ملتصقا بزجاج النافذة، وتتكثف أنفاسه على النافذة، بالقرب من ملصقه الخاص بفريق تورونتو ميبل ليفس. وكولين كان ولدا خجولا صغير الحجم ونحيفا، وعمره خمسة وعشرون عاما (وهو أمر أدهشني كثيرا؛ إذ كان يبدو أن عمره ستة عشر عاما)، وكان جبينه مقطبا على الدوام، وكان ذا وجه مشوه، وجسم محني، يفهم ولا يتكلم، مغرما بألعاب الفيديو ومهذبا جدا؛ فقد كان يسمح لووكر أن يقف بينه وبين شاشة التليفزيون حيث تعرض ألعاب الفيديو، وينتظر في حلم شديد حتى ينصرف ووكر. دائما ما كنت أحيي كولين، وأمر عليه وأربت على ظهره، وأعامله بوصفه الأكبر في الدار والقائد. كان هذا هو كل ما أستطيع فعله؛ حيث لم تكن هناك طريقة غير هذه للتواصل معه دون أن أبدو أحمق، ونادرا ما كان يقوم بالاتصال بالعين، وكان يخفض دائما رأسه. ولكني كنت ألاحظ أنه على الدوام يبتسم ابتسامة هادئة عندما أنطق اسمه؛ وحين كنت أذكر اسمه وأنا أغادر، كما كنت أفعل دائما، كان يبتسم ثانية، ويرفع رأسه لأعلى لينظر إلي خلسة. فخجله، ومحاولته للاختباء، وشعوره بالخزي، وسعادته، وامتنانه، وانعزاله، وشوقه، كل ذلك كان يبدو ظاهرا في تلك اللحظات.
مرت بضعة أسابيع، وفي وقت متأخر من يوم إثنين من شهر ديسمبر، اتصلت بي تريش بيرسن، المسئولة الليلية عن رعاية ووكر، على تليفوني المحمول. كان هذا أمرا غريبا. قالت: «ظننت أنك ربما تريد أن تعرف أن كولين على مشارف الموت؛ إذ لاحظت وجود رابطة بينك وبينه.» كانت له رئة واحدة - لم يكن لدي علم بذلك - وقد بدأت حالتها تتدهور الآن. لم أجد ما أقوله. بقي كولين على حالته هذه لمدة ثلاثة أيام، ثم مات. الآن لا أحد يمانع أو لا يمانع إذا وقف ووكر أمام مشاهدته للتليفزيون.
أتى ووكر إلى بيتنا بعد أسبوع، وحين دخلت البيت عائدا من العمل وأخبرت أولجا ووكر أني قد عدت، جاء ليرحب بي، وهذا أمر غير عادي؛ إذ عادة لا يفعل ذلك، وكان علي أن أنادي عليه. لم يكن يبدو حزينا، ولكنه كان مترقبا، وإذا كان من الممكن أن يكون هناك أمر يشغله، لكان هذا، لعلك تفهم ما أرمي إليه.
لم أكن أدري هل أذكر له كولين. هل لاحظ ذلك؟ كانت تريش تعتقد أن أيا من النزلاء لم يدرك موت كولين، ولكني لست متأكدا من ذلك.
قلت في نفسي: سأقول شيئا على أي حال. كان بجانبي، وظل بين ذراعي، في موضع الراحة الأساسي له. قلت له: «أهلا، بيجل.» باعتبار أن هذا ما أقوله على الدوام، حتى أكون متسقا في كلامي، «كيف حالك؟» وربت على كتفيه برفق كعادتي، وجعلت رأسي في مستوى عينيه، وضربت برأسي العاري رأسه الذي عليه خوذة (برفق)، وقلت: «ألاي، ألاي، ألاي، ألاي.» باعتبار أن هذا ما أقوله دائما، ثم قربته مني أكثر ووضعت فمي قريبا من أذنه. بدا الأمر كأنه شيء مهم، ولكنه بدا أيضا كأنني أتحدث إلى طوبة، وقلت: «شعرت بالحزن لما أصاب كولين!» و«هل تفتقده بجوار التليفزيون، وهو محني على ذلك الكرسي الصغير الذي بلا ظهر؟» و«أعلم أنكما كنتما صديقين»، و«هو يسمح لك أن تقف أمام التليفزيون وتعترض مجال رؤيته. هذا شيء لطيف تفعله تجاه شخص ما، كما تعرف، لكن ألا تمانع إذا اعترض مجال رؤيتك للتليفزيون؟» و«لم يكن ينظر كولين إلى أحد، ولكنه كان يعلم دائما متى يوجد هناك شخص ما، أليس كذلك؟» و«كان يعلم دائما أنك تقف هناك.» ثم توقفت وانتظرت، وووكر كان ينظر إلي مباشرة، فقلت بصوت أعلى قليلا: «قد يكون هذا من الأفضل له الآن، فقد كان يشعر بكثير من الألم، وكان مريضا جدا»، و«هل تتذكر كيف أنه لم يكن يرد علينا قط حين كنا نناديه باسمه أو نقول له مرحبا، ولكن كنا نلاحظ دائما أنه كان ينظر إلينا بعد ذلك، ينظر ويبتسم، تعبيرا عن امتنانه؟» و«كان شابا محترما، يا ووكي»، و«كان يسعد بصداقتك»، و«أنا متأكد من أنك تفتقده، وأعلم أن هذا أمر محزن، لكن لا عليك، فأحيانا تكون مضطرا للشعور بالحزن.» وقلت أشياء أخرى لا أستطيع تذكرها الآن . وفي النهاية، قلت له: «لا أدري أين هو الآن، ولكن لا يعني هذا ألا تتذكره. وأنا على أي حال يا صغيري، أشعر بالحزن لموت صديقك.» ثم ربت على ظهره مرة أخرى، وبدا أنه - أعترف أن هذا تصور شخصي جدا من جانبي - قد شعر بالارتياح بعض الشيء. هناك شيء رق في عينيه، وهدأ تنفسه. هل يمكن أن يكون هذا ما أراد أن يوصله إلي؟
قلت كل هذا بهدوء، حتى لا تسمع أولجا وتظن أني قد فقدت عقلي، ولكني كنت متأكدا أنها سمعتني على أي حال. وما زلت لا أدري لماذا قلت هذا! ولكني أعتقد أنني خيرا فعلت؛ وذلك في حال أنه سمع بموت كولين، وفهم ما حدث له. ***
بعد يومين أخذته مرة أخرى إلى دار الرعاية، وكانت تنتظرنا تانيا - وهي شابة من منطقة الكاريبي كانت تتولى رعاية ووكر من الرابعة بعد الظهر حتى الحادية عشرة مساء - حين دخلنا الدار، كما كانت تنتظرنا تريش، العاملة الليلية، هي الأخرى. وكانت تانيا ترعى ووكر منذ ستة أشهر حتى الآن، وهي مدة كبيرة؛ إذ مرت عليه فترات كان يتنقل فيها بين المساعدين، وكان يبقى معه المعاون لمدة أسبوعين قبل أن يشعر باليأس ويتخلى عنه بسبب كثرة الصراخ أو كثرة لكم رأسه. وكانت تريش أيضا خارج القاعدة، فلقد طلب منها أن تتولى رعاية ووكر بالليل حين انتقل لأول مرة إلى الدار، منذ ثلاث سنوات، وقد كانت تعرف ووكر كما تعرف الأم طفلها، وكل ليلة تتولى رعايته تريش بعد أنه تلبسه تانيا بيجامته التي عليها صورة باور رينجرز. وفي الصباح كانت تدخل تينا، مديرة الدار، وتقوم بالغناء معه لمدة عشرين دقيقة، بينما كان يجلس على المرحاض قبل الذهاب إلى المدرسة، وكانت تحاول تعليمه الإشارة الخاصة بكلمة «العب» (يد ممدودة). صحيح أنه لم يظهر أي تقدم في تعلمها، ولكنها استمرت في المحاولة. وفي بيتنا حاولت تعليمه إشارات معدلة ل «توقف» (ضربة قاطعة بيد على اليد الأخرى) و«نعم» (القبضة لأعلى ولأسفل) و«لا» (هز الرأس يمنة ويسرة) و «حب» (اليد على القلب) و«صديق» (لمسة على الصدر). وكان يبدو أن تلك هي الكلمات التي قد يحتاج لاستخدامها، ولم يكن بارعا في تعلمها، ولم أكن كذلك في تعليمها إياه. وكان يضحك بشكل صاخب عندما أوضح له الإشارة، ثم يتجاهلني؛ فكان الأمر مثل العمل لدى شخص يبدو دائما مشغولا بأمر أهم. ومع ذلك فالطريقة الوحيدة للفت انتباه ووكر أثناء دروس لغة الإشارة هي «الحديث» بينما أحرك ذراعي ويدي. وكان يحب هذا للسبب نفسه الذي كان ينجذب به إلى معاونيه أكثر مما يفعل للأطفال الآخرين في الدار: فلم يكن أي من النزلاء يتكلم، وكان ووكر ينجذب إلى الصوت البشري، الذي لا يستطيع أن ينتجه بتمكن.
لماذا لم يستطع تعلم لغة الإشارة؟ يرى بعض العلماء أن الأطفال حتى المعاقين منهم إعاقة شديدة يضبطون إيقاع تقدمهم في التعلم، بمعنى أن لديهم شعورا بما يمكنهم تعلمه وما لا يمكنهم تعلمه، ويكيفون أنفسهم بناء على ذلك. قالت لي دارسي فايلنجز، طبيبة الأطفال المتخصصة في النمو، التي كانت تعمل في مركز بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال الشهير في تورونتو، والتي عاينت حالة ووكر حين كان طفلا رضيعا، وذلك مساء أحد الأيام: «أرى بالتأكيد أن الأطفال يدركون بطريقتهم قدر الاستطاعة البيئة من حولهم. وفي رأيي، هناك أنماط يمكن لووكر أن يتعلمها، وهي تلك التي توفر له الارتياح والنظام.» ولكنه لم يكن يستطيع استيعاب إلا ما هو مستعد لاستيعابه بالفعل؛ فإذا كان يتم تنبيهه بشكل مفرط بسهولة، ولم يكن مستعدا للقيام بالاتصال بالعين، فلن يكون مستعدا لتعلم لغة الإشارة؛ فالمشكلة عندي وليست عنده. من ناحية أخرى، تذكرت الدكتورة فايلنجز ووكر وهو يهبط من الزحلوقة، وهو ولد صغير، بحماس كبير. وقالت: «تعد الزحلوقة كتكرار ذي معنى بالنسبة إليه.»
هناك شيء آخر كان من الواضح أن له معنى بالنسبة إليه، وهو الاستيقاظ لأطول مدة قدر استطاعته، والمحافظة على نشاطه قدر الإمكان ما دام لديه قدر - ولو كان بسيطا - من الطاقة؛ فلم يكن يريد أن يفوته «أي شيء». وحتى في المنزل الجديد ، وهو يكبر ببطء ليصبح مراهقا، كان نوم ليلة كاملة أمرا نادرا، وحين كان ينام ليلة كاملة، كان القائمون على رعايته يشعرون بنشوة شديدة؛ لأنه في ذلك الحين يكون في حالة مزاجية معتدلة. قالت تريش لي يوما ما: «في الأيام التي يكون فيها سعيدا، يقفز على السرير، وإذا أغلقت الشبكة - الشبكة التي في سريره المغطى، والتي تحفظه من الوقوع - يذهب إلى طرف الشبكة ويرمي بنفسه على الأرض؛ فهو يرى هذا الفعل مسليا.» وفي عطلات نهاية الأسبوع بعدما يذهب للسباحة في المركز الاجتماعي، كانت تأخذه للتمشية. وقالت متحدثة عن محل البقالة القريب: «يعرفونه في سوبيز، ويقولون كلهم له: «مرحبا ووكر!» ثم نأخذ قهوة، ويحاول هو تحطيم كل شيء، ثم نجلس.» كان يحب سحب أكياس المكرونة وعلب الحساء من على الأرفف وإلقاءها على الأرض.
كان يميل إلى ضرب المساعدات في دار الرعاية بعلب ذراعه، ولا يفعل ذلك مع المساعدين. وقالت تانيا: «يضرب البنات فقط لأنهن يصحن ويقلن له: «ووكر، لا تضرب مؤخرتي!» فيضحك: هه، هه، هه.» كانت تنظر إليه وتقول: «هل هذه رقصة التزاوج؟» وتخفف لهجتها الكاريبية التي تتحدث بها من وقع المزحة. نبرة الصوت والتغيير في مقام الصوت والمعنى الضمني، فهم كل هذا؛ فقد كان يتقن اللغة غير اللفظية. ***
بعد ثلاث سنوات من الرعاية الليلية لابني، أصبحت تريش تعرف أشياء عن ووكر لا أعرفها، وهي تسرد علي شذرات من اكتشافاتها، وتضعها أمامي لأشاهدها وأتأملها.
خذ مثلا اليوم الذي كان علي أن أقابل فيه تريش وووكر في مستشفى الأطفال المرضى بتورونتو في الساعة السادسة والنصف صباحا، وقت الفحص المحدد لإجراء عملية له في الساعة التاسعة من أجل تنظيف أسنانه، وغسل أذنيه ثم إجراء اختبار سمع لهما. ليست هذه أمورا مهمة؛ ولكن لأن الأمر يتعلق بأسنان ووكر وأذنيه، تطلبت العملية تخديرا عاما؛ فمن دون تخدير عام لا يمكن إجراء أي من تلك الإجراءات، فلن يبقى ووكر ساكنا حين يضع الطبيب مسبارا داخل أذنه، أو حتى فرشاة أسنان في فمه. (والشخص الوحيد الذي يمكنه غسل أسنانه هي أولجا مربيته؛ فهو يخضع لها تماما، ويصدر فقط أنينا هادئا ومنتظما مثل المضخة الغاطسة.) نعاني من التأخير المعتاد في المستشفى: الانتظار المعتاد الذي يتراوح بين ساعة وساعتين، إضافة إلى المقابلة المعتادة مع طبيب التخدير، وهو اليوم شاب هندي يبدو أنه في العشرينيات من عمره فقط، ويريد أن يعرف إن كان ووكر يعاني من أي أنواع من الحساسية، ومكان النفخة القلبية على وجه الدقة. أقول كالعادة: «الأمر واضح في سجله.» ولكن لأن سمك السجل ست بوصات، فلا يبدو أن أحدا يكلف نفسه عناء الاطلاع عليه. والآن يتصفحه الطبيب الشاب: أرى خطابات من أطباء أعصاب لم أقرأها من قبل، ولكن الحصول على نسخ منها مثل محاولة الحصول على أسرار حكومية محظور الاطلاع عليها. يفحص العديد من الأطباء ووكر مرات كثيرة كل عام؛ فهو يصلح أن يكون مريضا مثاليا لسجل عالمي يوضع على الإنترنت. وسمعنا أن المستشفى يتحدث عن تحويل سجلات المرضى إلى سجلات رقمية منذ سنوات، وأن الحكومة تنفق حوالي مليار دولار لهذا الغرض، وسيكون مرضى السكر هم الدفعة الأولى التي ستتحول سجلاتها الطبية إلى سجلات رقمية، على الرغم من المخاوف بشأن السرية التي قد تعوق ذلك الأمر، دع عنك التكلفة. وعلى الرغم من ذلك، إذا كان هناك طفل لا تعنيه كثيرا السرية، وهو بحاجة كبيرة إلى نشر سجله الطبي على المستوى العالمي، فهذا الطفل هو ووكر. أدخل عادة في حوارات حول هذا الأمر مرات عديدة في سياق زيارة واحدة فقط إلى المستشفى.
أسأل: «كيف ستخدره؟» «ربما بالقناع، وربما بحقن المخدر عبر الوريد، ولكن إذا كانت لديه حساسية، فسأستخدم القناع. هل لديه احتقان؟»
كنت سأظن أنه تأخر قليلا في طرح مثل هذا السؤال، ولكن الأمور تسير على هذا النحو في طب العلاج الخارجي، بناء على قاعدة: قل لي ما أريد أن أعرفه فقط.
ترد تريش: «كثيرا ما يعاني من الاحتقان. لديه حساسية.» «التهاب رئوي؟ حساسية للأزيثرومايسن؟»
طلبت منه تفاصيل عن عملية التخدير لكي يطمئن، وأؤكد له أن ووكر قوي مثل الأطفال الآخرين، وأن والده مهتم بصحته ورعايته اهتماما كبيرا. واندهش الطبيب - لا يهتم معظم الآباء بالتفاصيل - ولكنه سعد بفرصة الحديث عن المواد المخدرة التي يستخدمها في عمله، كمادة السيفوفلوران، ومادة الفينتانيل (مادة مهدئة تشبه المورفين)، ومادة البروبوفول التي تعطى عن طريق الوريد. «قد نعطي له قمع تايلنول حين يفيق.» قمع تايلنول؟ ألا توجد نهاية للعذاب الذي يعانيه الولد؟ «ليس هذه الليلة، أرجوك، فمؤخرتي تؤلمني!» وتخبو المزحة. ليس الأمر مرهقا على الدوام، هنا في المستشفى. «يتم تغذيته عن طريقة أنبوب التغذية، أليس كذلك؟ قد نعطيه المخدر من خلال هذا الأنبوب، ودع عنك الأقماع.» ونعود إلى الانتظار. ولكي أصرف انتباه ووكر، أجلس في كرسي متحرك وأضعه في حجري وأسير في العنبر وفي الطابق، وأحاول أن أسرع بقدر ما أستطيع، لكن ليس الأمر يسيرا كما يبدو. ولمدة عشرين دقيقة ظل الولد في غاية السعادة، رقم قياسي جديد للسعادة المتبادلة والمدعمة. يحب عبور الجسر الممتد فوق صالة الانتظار وينظر إلى الأشكال الملونة الضخمة للأبقار والخنازير والأقمار المعلقة في المنطقة العليا المفتوحة من المبنى. أدهشني ابتهاجه، وقد أخبرت تريش بالأمر.
تقول بشكل مباشر: «أوه، هو يحب ركوب الكرسي والسير به.» والآن تخلع سترتها، وعلي أن أمنع نفسي من النظر إلى فتحة صدرها، فهذا ليس فعلا يرغب أي رجل أن يرى وهو يقوم به، ولكنه على وجه الخصوص ليس الشيء الذي ترغب أن يلحظه الآخرون قبيل العملية في مستشفى أطفال، ومعك طفلك المعاق عقليا وأنت تجري به على كرسي متحرك. ولكن تريش تتجاهلني، أو تسامحني. «اعتاد أن يركب طوال الوقت مع كريستا لي على كرسيها المتحرك، على حجرها.»
كريستا لي، من دار الرعاية الأولى التي كان فيها ووكر، حيث كان معظم الأطفال يعانون من إعاقات حركية شديدة. كان ووكر الفأر الملك في هذا المكان، الولد النجم؛ فقد كان يستطيع المشي، وفي خلال أسابيع لاحظنا تحسنا في شعوره بالثقة. عندما كان يعيش معنا، كان دائما أقلنا قدرة، أما هناك فقد كان متجولا حرا. كان كيني يعاني - أول زميل غرفة لووكر - من تلف في المخ جراء حادثة كاد أن يغرق بسببها، ولم يعد يستطيع الحركة بمفرده بسهولة، ولكن حركة ووكر جعلت كيني ينفعل ويصفق بيديه ويضحك. ولم يكن كيني يستطيع تكوين كلمات أو التحكم بشكل كلي في جسمه، ولكن كان يمكنه السمع والفهم وتوصيل ما يريد للآخرين من خلال مجموعة من الإشارات والأصوات، ولا سيما في حضور الزوار؛ فهو ولد جميل. لم أشعر بالحب في أي مكان مثلما شعرت في هذا المكان، عندما كنت محاطا بمثل هؤلاء الأطفال المرضى.
كانت كريستا لي بنتا جميلة تسير بكرسي متحرك، ولكن عقلها كان ضعيفا، وقد أعجب بها ووكر على أي حال. قالت تريش: «أحيانا يصعد على حجرها ويستخدم ذراع الكرسي المتحرك الآلي ويجعلها تسير به بالكرسي، وكل ما كانت كريستا لي تفعله هو أن تقول: «ووكر! ماذا تفعل؟» لقد كان يحب ذلك.» لا شك في ذلك، وحين كبر ولم يعد مناسبا له البقاء في تلك الدار، انتقل إلى المكان الثاني، الذي كان يبعد بضعة أميال، وقد أخفى المساعدون عن كريستا لي أخبار انتقاله حتى الدقيقة الأخيرة.
أصبح كل هؤلاء الغرباء الآن جزءا من حياة ووكر، وترك كل منهم بصمته عليها. كانت تريش تعيش مع زوجها وابنتها في الناحية الشمالية الشرقية من المدينة في ضاحية تسمى أجاكس، وهي بلدة أنشئت حول مصنع للذخيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي الآن بلدة كبيرة تتطور بسرعة، وبها منازل من طابق واحد ومنازل بمستويين ومراكز تجارية كبيرة وكنائس تعلن عن المواعظ في لافتات على الطريق (المحرمات وآثارها السيئة)، وهو مكان ترى فيه النساء المتزوجات يدخن السجائر ويضعنها في طرف فمهن ويخرجن الأشياء المطلوب إعادة تدويرها، والأولاد يلبسون خوذات ومعهم عصي هوكي، ويذهبون إلى البيت على ألواح التزلج، حيث تقاطعات الطرق عريضة بعرض ملاعب البيسبول.
كانت تريش متزوجة من رجل نحيف، أكبر منها سنا اسمه كوري، وقالت لي عنه في مساء أحد الأيام: «إنه يصنع مكعبات المرق.» أعترف أن هذا الأمر كان مفاجأة لي؛ فلم أفكر يوما أن هناك شخصا عمله صناعة مكعبات المرق ، على الرغم من أنه لا بد من أن هناك أشخاصا يقومون بذلك ومن بينهم زوج تريش. كان زوج تريش صاحب مشروعه الخاص، وكان يعمل لساعات طويلة، وقد بدأ مشروعه بصناعة المرق الذي كان يبيعه لعربات بيع المأكولات والمشروبات، ثم انطلق من هذا إلى مجال النكهات والصلصات والتوابل، وسمعت منها كثيرا من الحكايات عن عمله.
لتريش وكوري بنت صغيرة، اسمها هايلي - سمتها تريش بهذا الاسم عندما قابلت ابنتي هايلي وأعجبت بالاسم - وكانوا يتنقلون بين المنازل والأكواخ التي كانوا يشترونها ليبيعوها بسعر أعلى، وقد فعلوا هذا مرتين، وحققوا بعض النجاح في ذلك، ولم ترد تريش إنجاب طفل ثان حتى يجدوا بيتا أقرب إلى عمل كوري، حتى يمكنه البقاء في البيت لوقت أكبر. «نشكر الرب! أشعر بأن لدي طفلين بوجود ووكر.» صدمتني بهذا القول؛ فقد كانت ترى أن ووكر ابنها، على الأقل لجزء من الوقت.
نشأت تريش في جراند فولز بنيوفنلند، حيث كان يعمل والدها في المناجم المحلية ومصنع الورق. كانت طويلة وصريحة وعملية، ووجهها جميلا وفكها مربعا، وكانت ذات شخصية منبسطة وتتصرف على طبيعتها. في البداية كانت ترعى شخصا مصابا بإعاقة، هذا الشخص كان بنتا مصابة بشلل دماغي، اسمها ديلان، وكان عمرها ست عشرة سنة. وكانت تريش تدرس في مدرسة الأحد، وتتحدث بوضوح عن إيمانها بالرب؛ وهي خبرة ما كانت لتتاح لووكر إذا تربى فقط في منزلنا العلماني شديد العلمانية. وهي حاصلة على درجة جامعية في التعليم المبكر، ولكن التخصص يعد أكاديميا لدرجة كبيرة مقارنة بميولها؛ فهي تفضل التعامل مع مشكلات الأطفال وحاجاتهم على أرض الواقع. أرادت الدخول في تحد عملي، والمساهمة في حل مشكلات هؤلاء الأطفال، وقد تعاقدت معها المؤسسة التي تدير دار الرعاية التي بها ووكر كي ترعى ووكر على وجه الخصوص، وكانت تفخر بأنها حققت إنجازات كبيرة مع ولد كان يعتبره الجميع حالة صعبة. كانت ترعاه بالليل، على امتداد 72 ساعة، ثلاث ليال كل أسبوع، وأربع ليال في الأسبوع التالي، وهو ما كان يمثل جدولا مرهقا لها، ولكن تريش كانت ترحب بذلك؛ بهذه الطريقة كان بإمكانها أن تكون مع ابنتها قبل الذهاب لحضانتها وبعد الرجوع منها للبيت، وتتمتع بالرعاية الصحية والعديد من المزايا الأخرى. كنت أنظر إليها كراهبة، فيما عدا واقعة فتحة الصدر هذه.
أحب ووكر تريش بشدة تقريبا مثلما أحب أولجا؛ فأولجا كانت تمثل الأم والأب الثاني لووكر؛ فقد كان يفعل أي شيء من أجلها، يذهب إلى أي مكان معها، وتستطيع أولجا أن تجعله يدور في المكان ويبتسم كالمجنون، فقط عن طريق غناء أغنية «عجلات الحافلة تدور وتدور»، وهي أغنية تغنيها له عشرات المرات كل يوم حين تكون معه. وهو مغرم كذلك بويل، المساعد الليلي الآخر (الذي يتولى الرعاية حين تكون تريش في إجازة)، وهو شاب طويل ومهذب في العشرينيات من عمره، وكان ويل يتمتع بالهدوء الشديد في مقابل تريش التي كانت تحب الثرثرة، ولكن كان ووكر يحبه بشدة. وكان ووكر يعشق جيرمين، المساعد الذي كان يرعاه بالنهار، الذي ظل معه لأكثر من عامين.
كان جيرمين من جاميكا، وكان طوله ست أقدام وأربع بوصات، وكانت له ضفائر شعر، وكان صوته المنخفض جدا يجعل صدري يهتز كما لو أن قطارا يمر على بعد بضعة مربعات سكنية، وكانت زوجتي معجبة به قليلا؛ فقد كان محبا للأطفال: إذا سألت جيرمين كم عدد الأطفال لديه، كان يقول: «اثنان، في البيت.» وكانت ابنته تبلغ من العمر عشر سنوات، كان ووكر يذهب إليها ويعطيها يده لتقوده. وقالت لي تريش: «يعامل جيرمين ووكر كأنه فرد من عائلته، واعتاد ووكر عليه بسرعة. وفي أول مرة تقابلا، مسح ووكر أنفه في بنطال جيرمين الأسود، وحينها قلت لجيرمين: «ستصبحان صديقين حميمين.» وأصبحا هكذا بالفعل؛ فقد كانا يلعبان معا كرة السلة، وإن كان هذا يحدث بصعوبة، وكانا مثل أخوين. كان جيرمين يقول له: «ووكر، دعنا نذهب.» وكان ووكر يقول: «هه!» في هذه الأيام، كان ووكر ينجذب إلى الرجال.»
كنت ألبس ووكر من نفس نوعية الملابس التي أرتديها؛ فألبسه قمصانا ذات مربعات وبنطلونا مخمليا ، أو بنطلون جينز وسترة. وبعدما ظهر جيرمين في حياة ووكر، بدأ يقص ووكر شعره تماما مع ترك الشعر العلوي فقط، ويرتدي بنطلونات كرة السلة القصيرة الحريرية والقمصان الرياضية وقبعات البيسبول، مثل منسقي الأغنيات (الدي جيه). وبسبب جيرمين بدأ يستمع إلى موسيقى الريجي من راديو السيارة؛ دائما ما كان الإيقاع الثابت الصاخب يجعله يبتسم، وبدا الأمر كما لو كان بعيدا في دولة أجنبية، وكان يحكي لي ما رآه وسمعه وتذوقه هناك.
لم يكن فقط ولدا مختلفا مع ويل وتريش وتانيا وجيرمين بل كان ابنهم، مثلما كان ابني وابن جوانا وابن أولجا، فقد كان ينتمي أكثر فأكثر إلينا جميعا؛ لأنه كان من نوعية الأولاد الذين لا يستطيع شخص بمفرده أن يرعاهم. هذا هو ثمن الحياة وعجائبها.
قالت تريش لي مساء أحد الأيام: «كل ملابسه المطوية هناك في دولابه، أنا الذي جلبتها له.» في البيت كنا نوقظه، لكن تريش كانت تتركه حتى يستيقظ على مهله. قالت عن ذلك: «يحب أن يعتقد أنها فكرته.» وعلى مدار شهور كان يتم البناء على قطعة الأرض المجاورة لدار رعاية ووكر. قالت تريش: «كان يحب ذلك ... وكنت أقول له: «هيا ننظر إلى الشاحنات!» أنا قريبة جدا منه، وأحبه جدا، ويطلقون علي في العمل «الهامسة لووكر». أشعر بوقع هذا حين يترك الدار، أو يكون متعبا، ولكنه لا يريد أن يفوته أي شيء.» ويكمن الاختلاف بيننا وبين تريش في أنها لم تكن أم ووكر؛ فهي استطاعت أن تتولى رعايته، ولكنها أيضا استطاعت أن تفصل نفسها عنه، أن تراه بوضوح، على نحو أقل عاطفية.
زعمت تريش أنها لم تشكك قط في صحة قرارنا بنقل ووكر إلى دار لرعاية المعاقين. وعندما قابلت ووكر لأول مرة، قبل أن يرتدي خوذة وعلب الذراعين (كنت مقتنعا بأن هذه القيود ستحبطه إلى درجة الجنون)، وعندما كان لا يزال يحك جلده مباشرة بقبضتيه، على الرغم من جهودنا المستمرة لمنعه، قالت: «أعلم أن جلبكم إياه هنا كان كصرخة من أجل المساعدة. لا أعلم كيف كنتم تتعاملون مع الأمر لتلك الفترة الطويلة. وحين ذهبت إلى هناك للمرة الأولى، لم أكن أعرف إن كنت سأتمكن من التعامل معه أم لا. وعليكم أن تعلموا جيدا أن عناده وضربه وصراخه ليست أشياء سيئة، وأنه ربما حين يضربكم ضربا شديدا، فهذا يعني في الغالب «أحب هذا الشعور، وعليكم أن تحبوه أيضا».» كانت تريش واحدة من النساء اللواتي ابتكرن علب ذراعي ووكر، فقد صمم النموذج الأصلي من علب رقائق بطاطس برينجلز الفارغة، وقد تذكرت تريش المرة الأولى التي أدخل المساعدون فيها العلب إلى ذراعي ووكر، واكتشف أنه لا يستطيع ضرب نفسه بعد ذلك، فقالت: «حينها تنهد، ثم تنهد مرة أخرى، ثم التقط لعبة ولعب بها.» غيرت تريش مسار عقله.
كانت تريش هي من اقترحت أن يلبس ووكر خوذة، وهي التي اقترحت استخدام بطانية ثقيلة (قماش به أثقال مخيطة به)، حتى تجعله واعيا بشكله البدني على نحو أكثر تأكيدا، ولديها أفكار مختلفة حول السبب في ضربه لنفسه؛ إذ قالت: «أحيانا يفعل هذا بسبب شعوره بالإحباط، وفي أحيان أخرى بسبب شعوره بالوحدة، وفي أحيان ثالثة لا أعرف. فقد يكون السبب هو أن الجو حار - فهو طفل يتضايق من درجات الحرارة المرتفعة - أو أن لعبته وقعت منه ولا يستطيع الحصول عليها مرة أخرى، أو أن موعد تناوله للأدوية قد حل؛ أحيانا ألاحظ هذا منه، وفي أحيان أخرى لا ألاحظه؛ فمن العسير فهمه. أحيانا يكتفي بمجرد ضربة واحدة فقط، عندما يكون متجهما وحزينا. خذ ضربة واحدة. هل هذا يحسن رؤيته بعض الشيء؟»
كانت حياة ووكر تبدو بالنسبة إلى الآخرين ذات قيمة أكبر وأشمل مما كانت تبدو لي، أنا والده. قالت لي تريش: «يحب رائحة قهوتي، فهو مهووس بقهوتي، كراميل ميكاتو. واهتمامه بالزهور أقل؛ فهو يحب الأشياء الأكثر صلابة؛ الصنوبر وإكليل الجبل.»
كما قد يكون أصعب مما يمكن أن يتصوره الآخرون: ولهذا لم يفلح العديد من المساعدين في العمل معه، وبلغ عددهم عشرين على الأقل حسب تقدير تريش. «يأتي المساعدون الجدد ويبقون لمدة أسبوعين ويقول كل منهم: «لا أستطيع التعامل معه.» فهو إما أن يحبك من اللحظة الأولى أو لا؛ والسبب هو أنه كذلك.» فقد كان عنيدا، ويتمتع بكل من العصبية وروح الدعابة، مثل والده ووالدته، على التوالي. وقالت تريش: «أحيانا يقول أحد الأشخاص نكتة وأكاد أجزم أنه سيضحك؛ لأنها لم تكن مزحة معقدة، بل مزحة عادية. كما أنني أعتقد أنه يسب؛ فحين آمره بفعل شيء ما، يلقي بكتابه في وجهي، فأقول له على الفور: «ووكر، لا ترم كتابك في وجهي، اذهب وأحضره.» فيقول: «هه!» أنا متأكدة أنه يسب؛ شيء مثل: «عليك اللعنة أيتها المرأة»!» بالطبع، لا أدري من أين أتى بهذا، فقد كان يكره أن يأمره أحد بفعل أي شيء.
استنتجت أنه كان يفهم الكلمات «التقط» و«تعال» و«توقف» و«اترك هذا»، والتي كانت أكثر مما علمته في السنوات التي عاش فيها معنا. قالت لي تريش: «في رأيي ووكر ألطف من بعض الأطفال الذين تعاملت معهم، ولكن المجهول في ووكر يجعل التعامل معه أصعب، فيمكن لووكر أن يدخل في علاقة؛ يمكنه أن يدخل في حوار على نحو ما، فلديه إحساس بذاته.» كان يعلم من يمكن أن يستمر معه في الحوار، ومن لا يستجيب، فقد كان لطيفا مع من يكون لطيفا معه. «ولكن مع ووكر، إذا حدثت مشكلة، فأنت لا تعرف كيف تحلها.»
كان أيضا لتريش تصور عن مستقبل ووكر، ومما جعلني أشعر بالارتياح أن هذا التصور كان يبعث على التفاؤل، ويشير إلى أن الآخرين يمكن أن يروا فيه شيئا. قالت تريش مساء أحد الأيام: «لن يحصل ووكر أبدا على وظيفة.» كنا نجلس في غرفة المعيشة الرئيسية لبيتها في ضاحية بالمدينة، وهي غرفة لم يكن يبدو عليها أنها كانت تستخدم كثيرا. «ولن يحصل على مرتب. ولكن الأمور تتغير مع ووكر، ودون إتاحة الفرصة له لرؤية أشياء جديدة، فلن يتقدم. إنه يتعلم، ويدلك على ذلك الأصوات التي يصدرها، والآن حين تطلب منه أن يضرب كفك بكفه عاليا، فإنه يفعل ذلك. هذا أمر مهم، وفي رأيي مهم جدا، ولا أرى أنه وصل إلى الحد الأقصى فيما يتعلق بالنمو؛ فهو يستمع باستمرار، كل ما هنالك أن الأمر يستغرق منه وقتا أطول لاستيعابه.»
بعد بضعة أشهر، أخبرتنا تريش أخبارا غير سارة؛ فقد وجدت مزرعة هي وكوري في شمال المدينة بالقرب من عمله، والآن أصبح بإمكان كوري أن يعيش ويعمل في نفس المنطقة، وكان هذا يعني أنه يمكن أن يبقى في البيت لفترة أطول، ولا يضيع وقتا طويلا في الذهاب إلى العمل والعودة منه، وأنه أصبح بإمكانهما تدبير أمورهما الأسرية، وإنجاب أخ أو أخت لابنتهما. وبعد الكريسماس، ستتوقف تريش عن رعاية ووكر، فيما عدا بعض المناسبات الخاصة. كانت هذه خسارة أخرى، بعد جيرمين (الذي تعرض لإصابة خطيرة في ظهره)، وتانيا (التي وضعت طفلا)، ولكن ويل كان لا يزال هناك، وسيكون هناك شخص جديد ونحن معه، لنكون المجتمع المستمر لووكر.
أكدت تريش أنه سوف يتجاوز الأمر: «عندما وصلت إليه في إحدى الليالي - وكان يوم سبت - كان يركل ويصرخ، ولكنه يكون أجمل طفل في العالم حين يكون سعيدا وراضيا، وحين يبتسم، فابتسامته تجعل قلبك يرق. هذه الابتسامة الصغيرة البلهاء، تلك النظرة الجانبية. وأحيانا يوقفني الناس وهو معي ويسألونني: «هل تحتاجين إلى مساعدة؟» وأحصل منهم على نظرة العطف، هل تعرفها؟ هذا ليس مهما؛ لأنك إذا رأيت نظرته السعيدة، فلن تنظر إليه نظرة الشفقة.»
الفصل الرابع عشر
يجعلني ووكر أعيش في الحاضر؛ فهو لا يترك لي خيارا. لكنه نتاج الماضي، مثل أي شخص آخر.
إن تاريخ رعاية المتأخرين عقليا هو قصة معاناتنا مع اللامعقول، صراعنا مع ما يخيفنا، سعينا للتغلب على ما نواجهه، وهناك دليل أثري على أن إنسان نياندرتال كان يرعى أفراد قبيلته من المعاقين بدنيا (أظن أن التأخر العقلي لم يكن ملحوظا في ذلك الوقت)، بيد أن تلك اللحظات نادرة بلا ريب في مسار تاريخ الإنسان المتحضر، فشعارنا الذي نألفه أكثر هو «البعيد عن العين، بعيد عن القلب.» وصل وأد الطفل المعاق إلى ذروته عندما كانت الحاجة لذلك في أدنى مستوياتها؛ في ذروة مجد أثينا ونفوذها، وكان أفلاطون وأرسطو (لأسباب مختلفة) هما من أشارا إلى ضرورة قتل المشوهين بعد ولادتهم مباشرة. وفي هذه الأثناء في إسبرطة كان من حق الأب أن ينهي حياة طفله الضعيف. وكان المعاقون عقليا يربون في الظلام في روما؛ إذ كانوا يعتقدون أن هذا علاج لهم، على الأقل حتى اعترض على تلك الممارسة الجراح الروماني سورانوس (باسم كهذا، كيف لا يكون طبيبا؟) الأب الروحي لطب أمراض النساء وطب الأطفال. علاوة على ذلك فقد أكد على أن دهن رأس المعاقين عقليا بزيت الزعتر ونبات الجلنسرين لن يؤدي لشفائهم.
في اللغة اليونانية القديمة، تعني كلمة
idios
شخصا منعزلا أو لا سبيل لمعرفته؛ ومن هنا جاءت كلمة
idiot
الإنجليزية التي تعني «أبله»، والتي كانت لحوالي عشرين قرنا، وحتى أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين في أمريكا الشمالية؛ مصطلحا مقبولا يطلق على الشخص المصاب بإعاقات عقلية شديدة منذ الميلاد، في مقابل الكلمة
imbecile «مخبول» التي تشير إلى الشخص المولود بصورة طبيعية، ولكنه أصيب بإعاقة عقلية بعد ذلك، والذي قد يشفى من مرضه. وكان لدى ووكر صفات تؤهله أن يكون «أبله»: صحيح أنه كان ظاهرا للناس، وشارك في تربيته جماعة من الناس، لكنه كان مخفيا ولا سبيل لمعرفة ما عنده أيضا؛ لذا فهو منعزل. قدمت المسيحية فكرة أن شخصا مثل ووكر يكون أقرب للرب: «وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم» (لوقا 9: 46). ولكن شجعت الكنيسة المسيحية أيضا فكرة أن المعاقين والمجانين سحرة، أو يسيطر عليهم الشيطان، أو هم شكل من أشكال العقاب لخطايا آبائهم. ويشير قانون الفقراء في بريطانيا لعامي 1563 و1601 إلى أنه على الدولة رعاية المعاقين، ولكن في القرن التاسع عشر كان المعاق أو المتأخر عقليا أفضل حالا فقط عند وجوده وسط أسرة ثرية ومحبة له وفي منزل كبير. لا يزال هذا الوضع قائما، حتى في مناطق كثيرة من أمريكا الشمالية اليوم.
كان الكثير يعتمد على المكان الذي يعيش فيه. كره مارتن لوثر - الغريب السالف الذكر - المعاقين ونبذهم بوصفهم أقارب الشيطان، ولكن في فرانكفورت كان يعين للمعاقين عقليا مرافقون، وفي نورمبرج (على الأقل في فترة ما ) كان يسمح للمعاقين بالتجول في الشوارع دون أن يمسهم أحد، وأن يطعمهم الجيران ويرعوهم. واتخذ تيكو براهي، أول عالم فلك معاصر (وأستاذ عالم الفلك الشهير كبلر) قزما لديه تأخر عقلي كرفيق له، وكان يستمع إلى همهماته كما لو أنها وحي سماوي. ولكن في بروسيا كان المجانين عادة ما يحرقون أو يسجنون. فلم يستطع المجتمع على ما يبدو تحديد طريقة التعامل مع الإعاقة العقلية (بدأت التفرقة بين الجنون والإعاقة العقلية في مطلع القرن السادس عشر، ولكن بصورة فردية فقط): فقد كان مشهد الفوضى الإنسانية لافتا للنظر، ولكنه مرعب للغاية أيضا حين نشاهده لمدة طويلة، والنتيجة - كما يؤكدها ميشيل فوكو في كتابه الرائع والمثير للجدل «تاريخ الجنون» - هي قمع الجنون بل أيضا فكرة الجنون، بابتكار وسيلة العزل، والعزل طريقة لاحتواء المشكلة، وجعلها تحت سيطرتنا وبعيدة عن الأنظار. ما زلنا ننظم ونصنف و«نحل» الإعاقة العقلية منذ بداية عصر العقل على الأقل؛ حين قرر ديكارت أنه موجود فقط لأن عقله قادر على التفكير والاعتقاد بأنه موجود. ولكن في سياق جعل المشكلة تبدو كأنها تختفي بالتظاهر باحتوائها وحلها، فقد نجح المجتمع في احتواء خوفه من الإعاقة وحصره، رعبنا من إمكانية التفاعل البدني معها. وكان يعد الجنون والتأخر العقلي الشديد وأيضا الفدامة حالات وجودية؛ فكان ينظر إلى الجنون على أنه نظير للعقل، ولكن ليس كمرض يحتاج إلى علاج؛ فالجنون، كما يقول فوكو، «لا يتعلق بالحقيقة في العالم، ولكنه يتعلق بالإنسان والحقيقة المتعلقة بنفسه التي يمكنه إدراكها.» فووكر أراني ما لم أكن أريد أن أراه - حاجاته العديدة، ليس فقط حدود إمكانياتي، ولكن أيضا القدرات الكامنة فيها والعطف - وأيضا ما لم أكن أراه لولاه؛ كقدرته على جعل أية لحظة تمر بنا ذكرى لا تنسى، وقدرتي على تقدير أهميتها. لا يريد أحد منا أن يكون مجنونا، ولكن هناك أهداف عديدة لوجود حالات الجنون في حياتنا، بوصفها طريقا للتأمل الذاتي الصعب. ففي عالم ما قبل العلم، عصر شكسبير وسرفانتس، حين كان لكل من الفن والخيمياء والمنطق والوحي السماوي والخبرة نفس المكانة، كان الجنون كرمح مباشر في ظلام الوجود الإنساني. الإنسان الذي ولد للألم والحزن، فقط ليواجه ... الموت! ماذا كان يمكن أن يعني كابوس الوجود؟ وحتى تأمل الغرض منه كان يتطلب رؤية خاصة ووجهة نظر عميقة، فالجنون والمرض العقلي كانا كسيارات مسرعة عبر هذا النفق، وكان عدم الاتزان العقلي مبررا حتى تكون غريبا، وتفكر بطريقة غير تقليدية؛ فقد كان يسمح للحمقى في مسرحيات شكسبير، أو المجانين في سفينة الحمقى، بالحديث عما يدور في عقولهم وبإظهار تفاهة أهداف حياتنا اليومية وحالات الإنكار الصريحة التي نعيش فيها في حياتنا اليومية؛ فهم لا يستطيعون إخفاء ذلك لأنهم متخلفون عقليا. وفي أوروبا في العصور الوسطى أجبر المجانين الهائمون على وجوههم على العيش خارج أسوار المدن، ولكنهم كانوا يدعون من آن لآخر لتسلية السكان؛ لكي يكشفوا عن شكل حياة المواطنين. هناك أوقات كنت أتأمل فيها دار رعاية ووكر الموجودة في ضواحي المدينة التي أعيش فيها، وأقول في نفسي: الأمر ليس مختلفا جدا.
لكن المجانين والمتأخرين عقليا كانوا يتحدون النظام الاجتماعي، كما يؤكد فوكو، وقيمهم المجتمع بناء على ذلك (وهو ما يعني أنه يمكن «فهمهم») ثم قمعهم («تعامل معهم» وعزلهم). أحيانا كانت تحيرني رؤية فوكو للتاريخ والحضارة بوصفهما محركين للقمع الإنساني، وعادة ما كنت أرى فيها مبالغة كبيرة، ولكني فهمت وجهة نظره أخيرا: فإذا حصلت على إشباع كبير من مجرد وجودي مع ووكر، من مجرد إجباري على أن أكون كما أنا، سأسهم بشكل أقل في السباق المحموم للرأسمالية الغربية التي تقوم على قيم اتباع القطيع والنجاح بأي ثمن، والسير وفق معايير الآخرين، والتركيز على تحقيق النتائج الذي أدى، على سبيل المثال، إلى الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ويؤكد فوكو أننا نفضل الوضع الراهن؛ لذا نسعى إلى «علاج» أو «مواجهة» الجنون.
بحلول أواخر القرن السادس عشر وضع توصيف كمي للإعاقة العقلية لأول مرة: فالشخص الأبله هو من كان لا يستطيع عد عشرين بنسا، ولا يعرف أمه أو أباه، ولا يعقل مصلحته. وفي عام 1801، وضع فيليب بينيل، الأب الروحي للطب النفسي، الأسس الخاصة بالتعامل مع المعاقين عقليا؛ فحيث إنه لم يكن هناك أمل كبير في علاج المتخلفين عقليا، وجب الوفاء بمتطلباتهم الجسدية، وهذا أقل ما يقدمه المجتمع لهم. (من بين 31951 طفلا دخلوا دار إيواء الأطفال اللقطاء بباريس من عام 1771 إلى 1777، حوالي 25 ألفا، أو 80 في المائة منهم، ماتوا خلال عام.) ولم يكن بينيل تقليديا؛ إذ فضل العمل في مجال الطب على العمل في الكنيسة، بعدما أصيب صديق حميم له بالجنون، بيد أن رغبته في مساعدة الأفراد المختلين عقليا من خلال محاولة تفسير سلوكهم وتنظيم أحوالهم والسيطرة على تصرفاتهم أدت أيضا إلى بعض من أكثر الظروف غير الإنسانية في تاريخ أوروبا. ففي سالباتير، المصحة العقلية المشهورة في باريس التي كان يديرها بينيل، كانت تلبس خمسة آلاف امرأة سترات فضفاضة مصنوعة من الخيش، وتنام كل خمس منهن في سرير واحد، وكان طعامهن اليومي عبارة عن قدح من العصيدة وأوقية من اللحم وثلاث شرائح من الخبز، وكان يعيش ما يزيد على ألف شخص «ضعيفي العقل» في جناح واحد بمفردهم. وفي بيكاتر، وهي مصحة عقلية أخرى في باريس لكنها أكثر فظاعة، كان يشرف عليها بينيل أيضا، كان يعيش المجرمون جنبا إلى جنب مع المعاقين عقليا، وغالبا ما كان يقدم لهم الطعام، بحكم الضرورة، والسلاح في وجوههم. غير أن هذه الرؤية في التعامل مع الجنون طمأنت الأوروبيين، بنفس الطريقة التي طمأن بها إنشاء السجون كثيرا من الناخبين الأمريكيين خلال السنوات الثلاثين الماضية، بأن مجتمعهم منظم وآمن وعادل، وأصبح عزل المعاقين عقليا هو الشائع؛ فقضى واحد من كل مائة مواطن من مواطني باريس بعض الوقت في مصحة عقلية.
لم يتوقف الأمر على بينيل في فرنسا، فبحلول عام 1890 زاد عدد الأفراد في المصحات العقلية الأوروبية إلى أكثر من الضعف. يقول فوكو: «ظهر حد فاصل جديد مما جعل التجربة التي كانت مألوفة جدا في عصر النهضة - العقل غير المعقول، أو الجنون العاقل - مستحيلة.» أنا لا أرغب في تصوير الإعاقة العقلية بطريقة رومانسية، ولكني أدرك ما يعنيه هذا الجمع بين الكلمات المتناقضة؛ فهو طريقة لمحاولة فهم ووكر ونفسي، بالاستماع إلى ولد لا يستطيع الكلام، بالسير وراء ولد ليس له اتجاه معروف.
بدأت تبزغ ببطء رؤية بديلة للإعاقة تتعارض مع رؤية المؤسسات العاقلة التي كانت تقوم على العزل والبيروقراطية والرغبة في السيطرة على المعاقين عقليا. ففي إيطاليا، منع فينتشنزو كياروجي استخدام السلاسل مع نزلاء المصحات العقلية قبل أن يفعل ذلك بينيل بما يقرب من عقد، وكتب كياروجي يقول: «احترام الفرد المصاب بالجنون بوصفه إنسانا يعد التزاما طبيا وواجبا أخلاقيا ساميا.» والسعي من أجل تحقيق هذا - معاملة المعاقين عقليا بوصفهم أفرادا، متساوين مع بقية أعضاء المجتمع ومساهمين فيه مثلهم، بغض النظر عن قلة أو دقة إسهامهم، وعن عدم رغبتنا في فهم ماهية ذلك الإسهام - هو السعي الذي لم يكتمل في تاريخ الإعاقة العقلية. لا ينكر أحد التقدم الكبير الذي يتم إحرازه؛ فقد شهدت المائة والخمسون عاما الماضية وحدها تحسنا كبيرا في النواحي المادية لحياة أناس مثل ووكر. فباستير وليستر ونظرية جرثومية المرض، وماري كوري وأشعة إكس، وفيركو وخلاياه، ودراسات جريجور مندل عن الوراثة، وداروين ونظرية التطور، وفرويد والعقل الباطن، وحتى علم الجينات؛ أسهم كل هذا في فهم المعاقين عقليا، كما فعل التعليم العام والتعديلات القانونية الحديثة حول حق المعاقين في توفير حياة كريمة لهم. بيد أننا ما زلنا نرى أن «النتائج» هي المقياس الوحيد المؤكد للنجاح الإنساني، وما زلنا نرتكب الأخطاء حتى نحافظ على وهم أننا نحقق نتائج. ففي وقت قريب، عام 1964، اشترى جان فانيه بيتا صغيرا لرجلين من المعاقين عقليا لأن الظروف في المصحات العقلية (في فرنسا، وهذا هو الغريب) أصابته بالانزعاج. ومنذ عام فقط قابلت ليندا بروسين على الغداء في أحد الأيام في تورونتو، وشرحت لي كيف أن أختها كارولين المتأخرة بدنيا وعقليا والتي في الثلاثينيات من عمرها، لا تزال تعيش في البيت مع والديها، اللذين يبلغان من العمر الآن أربعة وستين عاما، ولا يزالان يسعيان من أجل إيجاد طريقة تحيا من خلالها كارولين حياة سعيدة من دونهما . وبالنسبة إلى والدي بروسين، فإن الترتيب لمشاهدة فيلم في السينما في ليلة الجمعة يعد أمرا معقدا مثل التخطيط للذهاب في إجازة لمدة أسبوعين.
قالت بروسين: «النموذج المطروح الآن يقوم على فكرة الدمج، والفكرة تشير إلى دمج المعاق في المجتمع، ولكن سيتوقف هذا عند حد معين؛ لأن أختي لن تكون قادرة أبدا على أن تكون جزءا من المجتمع. على سبيل المثال، من الواضح جدا أنها مختلفة من الناحية البدنية، فإذا أخذتها إلى صالون تصفيف الشعر، فسينظر إليها الناس نظرات استغراب، فهل هذا عادل بالنسبة إليها؟ أليس من المعقول أن نتوقع لها أن تحصل على قصة الشعر التي تريدها دون تلك النظرات الغريبة؟» قضينا ثمانية عشر عاما في محاولة دمج أشخاص مثل ووكر في المدارس العامة، ثم في سن الثامنة عشرة، حين يصلون إلى نهاية المرحلة الثانوية، نخرجهم إلى مجتمع لا يعرف شيئا عن الدمج. سينجو ووكر من هذا المصير؛ لأنه ليس صالحا من الأساس «للدمج» في المجتمع.
هذه الأخطاء كثيرة، وما زالت الخدمات الطبية المخصصة للمعاقين قليلة في مدينة ساسكتون بساسكاتشوان، حتى إنه كان على جوليا وودزورث، البالغة من العمر عشرين عاما والمصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد والتي تعيش مع أمها بام وأبيها إريك؛ الانتظار مدة «ثلاث سنوات» لتحديد موعد مع عيادة الأسنان لعلاج أسنانها. قالت بام وودزورث: «أشعر في كل مرحلة من مراحل حياة جوليا كأن علينا أن نكون نحن الرواد، ولكني لم ألحظ تطورا حقيقيا في بعض الخيارات الخاصة بالمعاقين.» تبعد ساسكتون مائة ميل فقط شرق ويلكي بساسكاتشوان، حيث خنق روبرت لاتمير عام 1993 ابنته تريسي، المصابة بالشلل الرباعي والبالغة من العمر اثني عشر عاما؛ لأنه لم يعد يتحمل رؤيتها وهي تعاني، وحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه قتلا من الدرجة الثانية. وقالت بام وودزورث لي في نفس اليوم الذي لم يحصل فيه لاتمير على إطلاق سراح مشروط: «إننا نتعاطف، كأسرة، كثيرا مع آل لاتمير.» (وألغي الحكم ومنح إطلاق سراح مشروطا بعد شهور .) وأضافت: «السؤال الكبير الذي ما زال يدور في ذهني هو: لماذا لا تحاكم مقاطعتنا؟ ما فعله هذا الأب كان بسبب شعوره باليأس، فتلك الأسرة لم تكن تحصل على الدعم المطلوب. أعتقد أننا جميعا، بصفتنا أعضاء في مجتمع مدني، قد ساهمنا في موت تريسي.»
الآن المسئولون في أونتاريو، الذين يديرون نظام الرعاية الصحية في المكان الذي أعيش فيه، حريصون على أن يبدون كأنهم يبذلون أقصى ما في وسعهم للقضاء على فترات الانتظار لإجراء الجراحات؛ فإذا أردت تركيب ركبة جديدة حتى أتمكن من التزلج بصورة أفضل، يمكنني الحصول عليها في غضون ستة أشهر، وإذا عرفت الطبيب المناسب، يمكنني إجراء الجراحة في غضون أسبوعين؛ فلماذا إذن يستغرق الأمر سبع سنين من البحث والطلب والاستجداء من أجل إيجاد مكان محترم يجد ابني فيه رعاية مناسبة، ويشعر فيه بإنسانيته؟
في تلك الأيام، هناك حلم يقظة كثيرا ما أتخيله؛ حيث أرى أن ووكر وأمثاله يعيشون في مجتمع مثل مجتمعات مؤسسة لآرش بمعاونة المساعدين، وهو مكان جميل في بقعة جميلة تطل على البحر أو الجبال، لأنه في هذا المكان، ليس فقط القادرون ماديا هم من يستطيعون النظر إلى هذه المشاهد الخلابة، ولكن أيضا الذين قد يحتاجون إلى الجمال أكثر؛ لأنهم فقدوا كثيرا منه في حياتهم. وفي حلمي، يمتلك هذه القرية ويسكنها المعاقون، وفقا لرؤيتهم وإيقاعهم ومعاييرهم للنجاح؛ ليس المال أو النتائج، ولكن الصداقة والألفة والصحبة. وفي حلمي، نحن - الطبيعيين - من يجب عليهم أن «يندمجوا» في مجتمعهم، وأن يتكيفوا مع إيقاع حياتهم ومكانهم. يمكنني ترك هذا المجتمع، يمكنني العودة إلى حياتي الأكثر ضغوطا وطموحا وحتى الأكثر إثارة، ولكن يمكنني أيضا العودة للعيش مع ووكر، كما يعيش ووكر؛ ببطء ودون أي مساع أخرى غير أن يعيش على طبيعته.
ولأنه في حلمي «يرغب» الكثير من الناس - الملحنون، والكتاب، والفنانون، والطلاب، والحاصلون على درجة الماجستير في إدارة الأعمال الذين يحاولون الحصول على درجة الدكتوراه في نفس التخصص، والباحثون والمديرون الذين هم في إجازة طويلة - في زيارة مجتمع ووكر والعيش فيه لفترات زمنية ممتدة في المرة الواحدة. يمكننا نحن أيضا الاستمتاع برفاهية العيش في قرية ووكر لبضعة أسابيع أو شهور في المرة الواحدة، في غرف جميلة حيث المناخ يساعدنا على إنجاز عملنا وفننا ودراساتنا. والتزامنا الوحيد سيكون محاولة الاندماج في عالم المعاقين بتناول الغداء والعشاء معهم، وبتحميم أحدهم مرة في الأسبوع. وفيما يتبقى من وقت، نستطيع التفكير والكتابة والرسم والتأليف الموسيقي والتحليل والحساب، ولكن عندئذ سيكون المعاقون قد أنجزوا عملهم، وحققوا أهدافهم، وغيروا نظرتنا إلى العالم، وسنكون قد استفدنا منهم أكثر بكثير مما أفدناهم، ولكنهم لن يمانعوا ذلك. وسيكون ووكر قد قدم مساهمته للمجتمع، بمجرد كونه هناك. كما قلت، هذا حلم. ***
مرت عدة أشهر بعد إجراء ووكر للاختبارات الوراثية الخاصة به قبل أن أتوقف عن كراهية علم الوراثة. لم أكره كيت روين، فعزلها للجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد يسهل تشخيص المتلازمة؛ مما يعني أن البدء في التدخل العلاجي المبكر يمكن أن يحدث في أقرب وقت. ولم أكره حقيقة أن إيجاد علاج وراثي لأعراض تلك المتلازمة تبعدنا عنه أجيالا، أو حتى أن الدكتورة روين كانت هي الوحيدة التي قابلتها وأكدت أن جين تلك المتلازمة سيكون له دور في علاج مرض السرطان.
ما كرهته هو فكرة أن حياة ابني اختزلت خطأ في حرف من سلسلة حروف طولها ثلاثة مليارات حرف، في نيوكليوتيد واحد صغير. وكانت تلك الحتمية التي يتسم بها علم الوراثة هي ما يضايقني، وقد قابلت علماء وراثة بارزين كان لديهم نفس الشعور. كتب كريج فينتر، رائد الأعمال الذي ساعد في إنشاء مشروع الجينوم البشري، وأحد الأشخاص القلائل الذين خضع الجينوم الخاص بهم لتحديد التسلسل الخاص به على نحو كامل، يقول في هذا الشأن في سيرته الذاتية التي بعنوان «فك شفرة حياة»: «لم تصنعنا الجينات، جسدا وعقلا.»
في جامعة أكسفورد، هناك عالم وراثة شهير اسمه دينيس نوبل - مؤلف كتاب «موسيقى الحياة: علم الأحياء فيما وراء الجينوم» - ذهب أبعد من ذلك؛ إذ قال إنه من الممكن من الناحية التجريبية أن نحدد ارتباط جين معين بحدوث طفرة ما، كما توصلت روين وزملاؤها من الباحثين، «لكن خلاف ذلك، إذا تصور الناس من خلال هذا الأمر أنه بالإمكان تحديد وظيفة ذلك الجين، فهذه قفزة إلى نتيجة غير صحيحة.» لقد اتضح أن تركيب الجينوم البشري أبسط بكثير من المتوقع، ولكن علم وظائف الجينات في البشر - طريقة عمل الجينات الفعلية - أكثر تعقيدا بدرجة كبيرة مما يتصوره أي أحد.
والأكثر أهمية، كما يؤكد نوبل، أن فهم البشر بوصفهم نتاج الجينات وحدها، من النيوكليوتيدات فما فوق، يعد تسخيفا للأمور. أخبرني بالتليفون من جامعة أكسفورد ذات صباح: «تعد التداعيات الاجتماعية والأخلاقية لفهم الإنسان على أنه مجرد نتاج للجينات فما فوق عميقة.» كان يتحدث بلكنة إنجليزية فصيحة لافتة. وأضاف: «يبدو لي أن أحد الآثار الأساسية التي ظهرت نتيجة لجاذبية فكرة كون الإنسان نتاج الجينات وما فوق الخاصة بعلم الوراثة، هو أنه كما يكشف أسرار الجسم البشري، فهو يجرده من إنسانيته.»
فيما يخص العقل - الشيء الدقيق الغريب الذي كنت أبحث عنه في جسم ولدي، لأحصل فقط على بعض المعلومات المشتتة - فقد أكد دكتور نوبل أنه لا علاقة له بالجينات، وهي وجهة نظر خلافية، ولكن نوبل كان مصرا عليها، وأوضح قائلا: «على مستوى الخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها، فالعقل ليس له أية علاقة بها؛ فأنت لا يمكنك حتى فهم فكرة القصدية دون فهم الشبكات الاجتماعية التي نوجد فيها، ودون تواصل بعضنا مع بعض. وفي رأيي إننا سنجد أن العقل يقع خارج الجسم، في الشبكات العصبية للحياة الاجتماعية والثقافية.» وكان يتبنى رؤية «البوذيين والطاويين، الذين يعتنقون فكرة أن العقل ليس شيئا، بل عملية.»
قال لي روديريك ماكينيس مساء أحد الأيام: «الجينوم البشري مخزن رائع لكنه سري للمعلومات.» كان ماكينيس يعمل رئيس قسم الوراثة في المعاهد الكندية للأبحاث الطبية، وهو رجل طويل وودود، ويملأ رأسه شعر بني، ومكتبه مليء للسقف بالبحوث العلمية والكتب وصور أسرته. وخارج مكتبه، الذي في الدور العلوي لمركز أبحاث جديد في وسط مدينة تورونتو، كان ينكب عشرات من باحثي الوراثة على أجهزة الكمبيوتر. وبينما كان ماكينيس يتحدث، كان ينظر في الأبحاث والمجلات العلمية وكتاب «الوراثة في الطب» (الطبعة السابعة)، وهو أحد المراجع الرئيسية في هذا المجال، والذي شارك في تأليفه، وأدهشني على غير العادة أن طبيبا يرجع إلى كتاب له، ولكنه اعترف صراحة أن السرعة التي تتطور بها المعلومات، وتعقد ما تشير إليه تلك المعلومات، أمر يجعل من المستحيل استيعاب المجال على إجماله، ويجعل التقدم في المجال العلاجي نادرا. وأشار إلى أن فقر الدم المنجلي هو أول مرض جزيئي (أو «جيني») عرفه العلماء، ويعود هذا إلى عام 1949. وبعد ستين سنة مضت، لم يكتشف له علاج بعد. ويتفق علماء الوراثة بصفة عامة بشأن عدد الجينات المشفرة للبروتينات في الجينوم البشري - والتي تبلغ 25 ألفا تقريبا - لكن هناك على الأقل 32 ألف جين آخر غير مشفر يوجه جينات أخرى إلى ما ينبغي أن تفعله؛ فهناك نظم للتغذية الراجعة ضمن نظم التغذية الراجعة، وهناك اكتشافات وبيانات جديدة تنشر كل يوم. وحتى الجينوم نفسه لم يحدد العلماء تسلسله بالكامل. قال: «لا تزال هناك مناطق لا نستطيع تحديد تسلسلها؛ لأنها معقدة.»
أقنعني ماكينيس بالتدريج أن مشكلتي ليست مع علم الوراثة، ولكنها مع طبيعة المرض الوراثي، وقال: «هناك أمر يتعلق بالمرض الوراثي والأطفال، وهو الطبيعة الدائمة له، والمشاعر المرتبطة بالطفرات؛ فلحظة أن تصاب به، لن تشفى منه. أما الأمراض الأخرى، فلا تدوم معك مدى الحياة، وأرى أن الطبيعة العنيدة للمرض الوراثي هي ما تجعله يسترعي الانتباه. وتتغير خطة المرض الوراثي.» ثم توقف لبرهة وأضاف: «فهو يتغير بناء على التغيير الذي يحدث للأفراد المصابين به.» وكان المرض الوراثي يبدو كشكل قاس جدا من أشكال القدر؛ فمعظم أطباء ووكر كانوا يقولون: «أراك بعد أسبوع أو أسبوعين.» بينما يقول اختصاصي الوراثة الذي يتابعه: «أراك بعد سنتين.»
وماذا عن عقل ووكر؟ هو غير قابل للإصلاح، من وجهة نظر علم الوراثة. قال ماكينيس: «يحتوي المخ على 20 مليار خلية عصبية، وتجري كل خلية عصبية ألف اتصال، ويتصل بها عشرة آلاف خلية أخرى، ومن غير المحتمل أن نفهم المخ على مستوى الخلايا العصبية الفردية، وربما سيتعين علينا النظر إليه بطريقة علماء الفيزياء الفلكية عند محاولتهم فهم مليار نجم.»
أجد هذا مريحا على نحو غريب. أرجع بظهري للوراء متكئا على شيء، وأحملق في الومضات العشوائية لعقل ووكر وأتأمل.
أواصل الحديث إلى الفضاء الأسود الذي به نقط بيضاء، أواصل الحديث إلى ووكر. وبالطبع ليس ووكر وحده من بحاجة إلى مواصلة السماع إلي وأنا أتكلم، فأنا الذي يحتاج إلى مواصلة الحديث إلى ووكر، وأخشى مما سيحدث إذا توقفت عن ذلك. ***
كما اتضح فيما بعد، حاولت مرة أخيرة استكشاف عقله، فتقدمت لعمل أشعة رنين مغناطيسي على مخه، وهي صورة عميقة لمخه، وبعد ستة أشهر طلبوا منا الحضور الساعة الثامنة صباحا إلى قسم الرنين المغناطيسي في مستشفى الأطفال المرضى بتورونتو، المكان المألوف لنا. يقع قسم الرنين المغناطيسي في القبو الواسع للمستشفى، في نهاية ردهة طويلة جدا، وكان لون الحوائط بيج أو أصفر أو أزرق فاتحا، مثل حوائط جميع المستشفيات.
كنت أنا وووكر أول الحاضرين، وبحلول الساعة الحادية عشرة والنصف، أي بعد ثلاث ساعات ونصف، كنا لا نزال بانتظار الطبيب. في الأحوال العادية يشعر المرء بالسخط حين ينتظر الطبيب لمدة ثلاث ساعات ونصف مع أن الموعد محدد سلفا، وذلك حتى إن كان لديه طفل طبيعي. لكن ثلاث ساعات ونصف من الصراخ الحاد والضرب لطفل معاق تجربة تجعل الآباء يصيحون في وجه موظفي الاستقبال، ولكن لم يصل هذا الفهم بعد إلى عقول مسئولي المستشفيات، حتى أفضل مستشفى أطفال في البلاد.
في النهاية حضرت طبيبة تخدير شابة كانت ترتدي اللباس الطبي الأزرق الملكي المعتاد، وأبلغتني أنها تريد تقريرا حديثا من طبيب القلب الذي يعالج ووكر قبل إجراء التخدير العام المطلوب له لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي.
قلت بداهة: «لم يطلب أحد مني ذلك. وعلى أي حال، اختفت نفخة قلبه منذ سنوات، وهي غير موجودة فعليا.»
قالت: «ما زلت أحتاج إلى تقرير حديث.» «ولكنه كان هنا منذ شهر لتنظيف أسنانه، وقاموا بتخديره في ذلك الوقت؛ بإمكانك البحث عن ذلك في سجله.» «هذا غير كاف.» «بإمكانك الاتصال بطبيب الأسنان، فهو طبيب هنا في المستشفى، وأنا متأكد أنه سيوضح الأمر.» «لا أستطيع الاتصال بطبيب الأسنان.»
لذا ذهبنا إلى البيت، وانتظرنا خمسة أو ستة أو سبعة أسابيع لتحديد موعد آخر لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي، وفي هذه الأثناء حصلت على نسخة من استمارة موجودة بالفعل في ملفه، وهي استمارة دون فيها طبيب القلب كل ما كنت أعرفه بالفعل، ويعرفه كل طبيب آخر أيضا، أن نفخة قلب ووكر لا تأثير لها، وحينئذ توصلت إلى نتيجة مفادها أن طبيبة التخدير الشابة أخافها مجرد النظر إلى ابني الصغير غريب الشكل؛ أفزعها ولم تدر إلى أي درجة هو غير طبيعي.
انتظرنا ثلاث ساعات مرة أخرى، وحجرة الانتظار كانت أكثر ازدحاما هذه المرة، وأكثر لفتا للنظر: تقرأ بنت كفيفة تبلغ من العمر خمس سنوات بصوت عال من نسخة مكتوبة بطريقة برايل من الإنجيل، من سفر الأمثال. وفي النهاية، أدخلتنا ممرضة أنا وووكر إلى حجرة أخرى، ثم إلى حجرة أخرى، ثم إلى حجرة أخرى، وفي النهاية خدروه وأجروا له أشعة الرنين المغناطيسي.
بعد ثلاثة أسابيع تمكنت من إقناع طبيب أشعة وأعصاب بأن يخبرني ماذا وجد، كان اسمه رايبود، وهو رجل فرنسي، بشرته مسمرة وأنيق ودقيق، وكانت من عاداته إجمال معلومات كثيرة في كلمات قليلة، وهي عادة تربك غير المتخصص في علم الأعصاب مثلي، لدرجة أني بدأت أفكر تدريجيا أنني بحاجة أيضا إلى إجراء أشعة رنين مغناطيسي.
لم يكن ووكر مصابا بورم ليفي عصبي، وكان لديه غمد مياليني كاف لخلاياه العصبية، وقال الطبيب: «توجد مشكلاته على المستوى الوظيفي، وليس الفسيولوجي.» تكمن المشكلة في أنه بينما يعلم أطباء الأعصاب الكثير عن فسيولوجيا المخ (يرجع هذا إلى حد كبير إلى أشعة الرنين المغناطيسي)، فإنهم لا يزالون يعرفون القليل جدا عن كيفية عمل المخ من الناحية العصبية الكيميائية.
سألت: «هل هناك أي أمور غير طبيعية في مخه؟» «نعم، الكثير.» «هل تعرف ما تأثير هذا؟» «لا، فأنت إما لديك مخ طبيعي أو مخ غير طبيعي، وقد يعني المخ غير الطبيعي موهبة كبيرة أو تأخرا شديدا.»
قلت: «هل ووكر موهوب بشدة؟» أقر أني قلت هذا من باب السخرية.
رد علي الدكتور رايبود بجدية: «لا.»
استمرت المحادثة على هذا النحو. فرايبود كان رجلا لطيفا، ومتعاونا كذلك، ولكن كانت هناك أوقات كنت أريد فيها فتح مخه الذي كان يلتزم بالحرفية الشديدة، ربما بفأس صغيرة. بالطبع لم يكن هذا خطأه؛ فهو كان يريد فقط الالتزام بما كان يعلم، ولا يريد أن يلجأ إلى التخمين، بيد أنه دون التخمين، كان يصعب سبر غور مخ ووكر.
ثم عرض علي صورة لأشعة الرنين المغناطيسي الخاصة بابني.
وهي صورة أبيض وأسود للجسم الثفني؛ وهو شبكة من مادة بيضاء تربط بين النصفين الأيسر والأيمن للمخ، ويعرف أطباء الأعصاب - هذه عبارة نسمعها كثيرا من أطباء الأعصاب، وهم علماء يتسمون بالشجاعة - القليل نسبيا عن الجسم الثفني، ويمكن أن تعيش الجرابيات من دون هذا الجزء، وقد ثبت أن البشر يعيشون بطريقة طبيعية مع وجود تلف كبير في تركيبه، ولكن بصفة عامة الثدييات تحتاج إليه. وأضاف رايبود: «هو يتكون من محاور عصبية - تكون حزم من المحاور العصبية الألياف العصبية التي توصل النبضات الكهربية بعيدا عن جسم الخلية العصبية - مائة مليار محور عصبي، ويرتبط بكل جزء من أجزاء المخ، ما عدا الجزأين الخاصين بالرؤية وأطراف الأصابع.» في البداية عرض أمامي الطبيب منظرا جانبيا لقطاع عرضي لجسم ثفني طبيعي؛ بدا فيه الجزء الذي استطعت رؤيته مثل بحيرة هلالية الشكل، أو بالون طويل على شكل حيوان في سهل أبيض.
ثم عرض علي صورة أشعة لووكر مشيرا للجسم الثفني، والذي لم يكن يبدو مثل بحيرة أو بالون على شكل كلب دشهند، بل كان يشبه مجرى رفيعا لتيار به بركة صغيرة في نهايته، أو محلاقا، أو برعما وحيدا من نبات البازلاء. إنه جزء من عرض الجسم الثفني الطبيعي.
من الصعب وصف تأثيرها السيئ والسريع علي، وأدركت أني ألهث قليلا. «إذن هذا يعني أن هناك نقصا في الاتصال في مخ ابنك ، على وجه التحديد يؤثر هذا في تنسيق الوظائف بين نصفي المخ.» والجسم الثفني هو إنترنت المخ؛ فمخ ووكر مشترك في خدمة إنترنت رديئة دائما ما تتعطل، وتخطئ في توصيل الرسائل، فعقله غير منظم على نحو لا أمل في إصلاحه.
استطعت رؤية كل شيء في أشعة الرنين المغناطيسي؛ لسانه واللوزتين والحلق والفقرات وجمجمته الصغيرة وظلال مخه الضعيف غير المكتمل. كانت هذه هي صورته تماما؛ إذ أراني حالة عقله، كما كانت، ولكن بصورة غير مباشرة، بالاستنتاج والاستدلال، موضحا لي الأشياء المفقودة فيه، الظلال المتبقية لما حجب الضوء. ولد أستطيع رؤيته في الغالب في حالة هدوء، أرى فيه ما تبقى منه فقط. مثل الحب أحيانا، ومثل كل شيء يتضح للمرء بعد فترة لدهشته أنه مهم، ومثل النظر إلى خريطة، خريطة قديمة غريبة من حقبة أخرى، أو حتى أبعد من ذلك؛ من فترة زمنية أخرى. لا يوجد كنز للأسف، فقط تساؤلات، في أشعة رنين مغناطيسي لمخ.
لا بد أني تهت في صور الأشعة، وبالتدريج أدركت أن رايبود كان يتحدث، وأسماء أجزاء المخ التي كانت تبدو أنها ترجع إلى العصور الوسطى كانت تنساب بيسر من فمه بينما كان يعرض صورا أخرى لرأس ووكر، فلووكر تجاويف دماغية نخاعية كبيرة، ولكنها داخل النطاق الطبيعي. «خمسون في المائة من المخ مادة بيضاء، وليس لديه أكثر من ذلك، ويمكن أن أقول: إن المخ الأمامي صغير إلى حد ما.» وللحصين، ولا سيما الفص الصدغي الإنسي، أخاديد أو تجاعيد قليلة للغاية. إن المادة الرمادية للمخ هذه، السطح المجعد، هو المكان الذي ينشأ فيه محتوى أفكارنا والارتباطات التي نقوم بها (مثل الذكرى الخاصة برائحة مسحوق اللبن الصناعي، والصورة الذهنية لوجه ووكر وهو يبكي)، وتوصل المادة البيضاء المحتوى هنا وهناك (تجعلني رائحة مسحوق اللبن الصناعي أرى ووكر في مخيلتي). علاوة على ذلك، أوضح رايبود أن لدى ووكر مادة رمادية أقل من معظم الناس؛ لذا فحتى لو كان نظام توصيل المعلومات سليما عنده، فمن المرجح جدا أن يكون محتواه بدائيا من الأساس. «فالمخ - اعترف رايبود أنه قال عنه «المخ» لكي تكون هناك مسافة بينه وبين الطفل الذي كان يصفه - صغير للغاية.» وفيما عدا ذلك، كان من الصعب وصف المشكلة؛ فرغم كل المشكلات الفسيولوجية التي أظهرتها أشعة الرنين المغناطيسي، فالمشكلة الوظيفية في مخ ووكر ونشاطه الكهربائي المهدر، كانا غير مرئيين.
أجلت فحص مخ ووكر إلى النهاية، على أمل أنه قد يكشف ووكر لي، ولكن لم يكن لدى مخه ما يقوله لي عمن هو ووكر وكيف يبدو له العالم، أكثر مما عرفته بنفسي. وأفصحت لي صور الأشعة المتقدمة أقل مما أستطيع معرفته في عشر دقائق في صحبته، ولم تعطنا هذه الصور أي معرفة متقدمة أو تبين تفاصيل دقيقة. فهي تقرير فني واف عن أجزاء المخ، وليس منبع عدم فائدتها لنا أنها غير معمقة بما يكفي. قال رايبود، على سبيل القياس: «يمكن لمشكلة واحدة فقط أن تتسبب في إيقاف شبكة الإنترنت بالكامل.» وقارن الصور الموجودة على شاشة الكمبيوتر - أنا لا أختلق هذا - بصور مخ كلب. «للكلب نفس الذاكرة ونفس الذكاء الانفعالي اللذان لديك، ولكنه لا يستطيع تشغيل كمبيوتر، ولا يمكنه إجراء العمليات الحسابية أو فهم السياق جيدا؛ فليس للكلاب هذه الفصوص الجبهية الأمامية.»
قلت له: «ولكن ووكر لديه تلك الفصوص.» «ولكنها قد لا تكون متصلة معا اتصالا جيدا.» ويحتمل أن يكون السبب هو مسار
RAS ، الذي يؤدي إلى نقل أجزاء صغيرة من المخ إلى أماكن لم يكن من المفترض أن تنقل إليها، فتفرط في بناء الخلايا في أماكن ما بلا داع، وتقلل البناء في أماكن أخرى بلا طائل. وهذا أمر غير مرتبط باكتمال الأعضاء؛ فعند ووكر كل الأجزاء: الجهاز الحوفي، والأجزاء الحسية الجسدية، ولديه الأجزاء الثانوية، وأجزاء المعالجة والتوقع، ولديه حتى الأجزاء التي تقوم بعمليات الارتباط الخاصة بالمخ، بالرغم من ضعفها بعض الشيء، وأطباق الرادار المرتبطة عادة بالذكاء. «ولكن لكي تعرف ماذا تفعل بكل هذا - لكي تضع الأشكال في الوقت والمكان الصحيحين - تحتاج إلى طبقة ثالثة من الوظائف، وهو لديه كل تلك الوظائف، ولكنها لا تعمل بالشكل المناسب .»
علمت بعد عدة أسابيع من الدكتور روبرت مان ، طبيب الأعصاب الذي كان يعالج ووكر، أن العيوب العقلية لووكر كانت موجودة في الغالب في الخلايا العصبية، على المستوى العصبي الكيميائي؛ أي المستوى الذي لم يستطع العلم التوصل إليه، ناهيك عن فهمه. وقال مان: إن هناك بعض الأدلة الجديدة التي تشير إلى أن بعض الأطفال الذين لديهم وجوه مشوهة لديهم جذوع مخية غير طبيعية، مما ينتج عنه حدوث مشكلة في آلية امتصاص السيروتونين؛ مما يصعب عليهم الشعور بالسعادة، وربما يصعب عليهم عملية التعلم. وقال مان: «لكننا لا نعلم الكثير عن المخ - تكررت هذه العبارة مرة أخرى - فلا نستطيع رؤية المسارات العصبية بسهولة. وهناك أنواع كثيرة من التغيرات العصبية الكيميائية في مخ ووكر، وهذا هو المسار التالي الذي علينا أن نسلكه.» إن طبيعة المخ تعوق الأبحاث العلمية التي تجرى حوله. أوضح مان أن مادة المخ لزجة جدا مثل الجيلي بحيث يستحيل تشريحه في حالته الطبيعية، كما أن المواد الكيميائية التي تجعله قابلا للتجزئة تغير المواد العصبية الكيميائية داخله. وبسبب الحاجز المخي الدموي للجسم، لا تظهر هذه المواد العصبية الكيميائية في عينات الدم. وحتى سائل النخاع الشوكي، وهو طريقة أخرى محتملة لدراسة المواد العصبية الكيميائية في المخ، يغيره التخدير الضروري لسحب السائل في المقام الأول. يبدو الأمر كما لو أن مخ ووكر لا يريد أن يخضع للدراسة.
كان دكتور مان رجلا تبدو عليه علامات الشباب في الأربعينيات من عمره، وكان يرتدي ملابس غير رسمية، ولديه مكتب على حافة المدينة، لم يكن بعيدا جدا عن دار الرعاية التي كان يعيش فيها ووكر، وكثيرا ما كان يستدعى إلى تلك الدار؛ فقد كان كثير من النزلاء يعانون من نوبات. في الغالب لم يكن يعاني ووكر من هذه النوبات، ولكن إيذاءه لنفسه كان يمثل لغزا. قال مان: «في رأيي إنه يمثل حاجة ملحة لإحداث شعور ما، سواء أكان سارا أم غير سار، أرى أن هناك علامات على شعوره بالإحباط.» ولكن كان هذا تخمينا.
قلت: «يبدو أنه حالة ميئوس منها.»
قال مان: «لا توجد حالة ميئوس منها بالنسبة إلي؛ فإذا قابلت طفلا يسير بكرسي متحرك وجعلته يبتسم، فأنت قد قمت بعمل رائع. وليس مطلوبا منك أن تكون بطلا.»
كانت زوجته قد ماتت بالسرطان في بداية زواجهما، وقد كرس نفسه الآن لدراسة مخ الأطفال المعاقين. فانتقلت حياته من مسألة لا حل لها إلى أخرى. ***
من دون مخ يمكن فهمه، هل كان ووكر ولدا يمكن فهمه؟ وإذا لم يكن بالإمكان فهمه، فما قيمته؟ كنت أتحدث عن ذلك طوال الوقت في البيت، ولكن جوانا لم تلحظ ما أقصده. كان ووكر على ما هو عليه وحسب، وكانت هي أمه. ومن دون وجود ووكر في البيت طوال الوقت، يستنفد كل دقيقة من حياتها، بدأت جوانا الكتابة مرة أخرى، والاهتمام أكثر بهايلي، وممارسة الرياضة؛ لذا كنت أتساءل عن التأثير الذي تركه الولد المفتقد في عقلها، وفي جسدها. لجأت اضطراريا إلى الكلمات المتقاطعة، والسودوكو، وبرين إيدج، وأحجية الصور المقطوعة الضخمة المكونة من ألفي قطعة للوحة مونخ «الصرخة»، أي تسلية تتطلب انتباها شديدا. وحاولت أنا قراءة كتاب فوكو «تاريخ الجنون»، وكنت أشاهدها خفية من الغرفة المقابلة، وأتساءل في نفسي هل كانت تشعر بالملل.
هل كانت هناك جدوى من مساعدة ووكر في طفولته للبقاء على قيد الحياة حين أدرك الأطباء مدى صعوبة حياته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإنهم لم يذكروا ذلك قط. على العكس من ذلك تماما؛ ففي واقع الأمر، في الأيام الأولى من حياة ووكر، حين كان يجاهد من أجل زيادة وزنه والبقاء على قيد الحياة، لم أتلق من الأطباء سوى التشجيع على بذل المزيد من الجهد، وما زالت كلمات طبيب الأطفال، نورمان ساوندرز، ترن في آذاني: «نريد فعلا لهذا الولد أن يعيش، أليس كذلك؟» واتضح أننا فعلا نريد ذلك، على الرغم من أنني لم أكن متأكدا من ذلك في ذلك الوقت.
دكتور بروس بلومبرج، عضو فريق أطباء الوراثة أول من شخصوا حالة متلازمة القلب والوجه والجلد، يقدم استشارات إلى الآباء بشأن مشكلات وراثية مشابهة على مدار ثلاثين عاما، معظمهم في مستشفى كايزر بيرمننت في أوكلاند بكاليفورنيا، ويقر بأن التفاؤل هو الموقف الافتراضي لمهنته. تصور معي المشهد كالآتي: الوالد شديد الجزع لطفل معاق إعاقة شديدة، أنهكه البحث في شبكة الإنترنت طوال الليل وتملك منه الخوف، وحياة الطفل الصغير غير مستقرة ومعلقة لم يتحدد مصيرها بعد. قال لي بلومبرج: «في أغلب الأحيان، لكي أحقق نقطة توازن، أحتاج إلى نقل نظرة متفائلة إلى الآباء، وأن يكون الآباء في الوقت نفسه متعلقين بالأمل. وأيسر لك أن تنقل تلك النظرة، وأيسر لك أن تبتسم. ومرت علي هذه الأمور مع المرضى. فهذا أمر صعب؛ لذا في رأيي يختار الأطباء سياسة الهروب من المصارحة بالحقيقة أحيانا.» فإذا لم يستطع الطبيب حل المشكلة، فعلى الأقل يهون الأمر على الآباء ويطمئنهم. لكن إذا حث بلومبرج الآباء على الاستمرار مع مثل هذا الطفل، فإنه يخاطر بالحكم عليهم بالعيش الدائم في جحيم.
لكن هذه المعضلة مصطنعة أيضا. قال لي بلومبرج في ذلك الصباح في مكتبه في أوكلاند: إن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم استعدادنا لقبول أن حياة الطفل المعاق لها قيمة حقيقية كما هي؛ لا سيما إذا تطلبت هذه القيمة أن تبحث عنها بشتى الطرق. وأضاف: «كثيرا ما تجد الأسر تربية طفل معاق نعمة، على الرغم من الصعوبات التي تلاقيها. فهي تنشئ علاقات جديدة، وتظهر قدرات جديدة، المهم أن تتخلى عن فكرة الطفل المفترض وتقبل بالطفل الحالي.»
بلومبرج على علم بالمأساة الطبية؛ فلقد أصيبت إحدى عينيه بالعمى وهو ولد صغير، بينما كان يساعد والده في رش الأسمدة، وكافح لكي يصبح طبيبا ويحصل على أعلى الدرجات العلمية من بعض أفضل الجامعات في العالم. قال: «إنه لتكبر منا أن نفترض أن هذه الحالات أدنى من الحالة الطبيعية. فإذا كان معامل ذكائك 60، فهذه تعد إعاقة كبيرة في مجتمعنا، ولكن إذا كنت عامل مزرعة من المهاجرين، فهذا لا بأس به، بل هذا كثير أيضا. من يقول إذن بأن حالة النشوة غير اللفظية التي تصفها في ابنك، هي حالة أدنى من الحالة الطبيعية؟ من يقول هذا؟ إنه لتكبر منا كبير أن نرى أن القدرة على الوعي بما حولنا هي أهم شيء؛ فليست هي كل ما يهم، فشجرة السكويا ليست قادرة على الإحساس بما حولها، ولكن لها أهميتها، وليس هناك أروع من هذا، ولا يتطلب الأمر مني التفكير فيها حتى أقف مشدوها أمامها. أنا لا أريد أن أقلل من صعوبة تربية الطفل المعاق، لكن هذا يشير إلى الوضع الذي وصلنا إليه كمجتمع، حيث يخلق تصرفنا على هذا النحو إعاقة خطيرة في هذه المواقف. ولكن من الخطأ تماما التفكير فيهم على أنهم «أقل» منا، فليس هناك أحد أقل أهمية من الآخر. هم فقط مختلفون عنا، فليس الأمر يتعلق بالعقول الكبيرة فقط، ولكن بالأرواح العظيمة أيضا.» ***
يعتقد جان فانيه أننا في كل مرة نقابل شخصا ما مصابا بإعاقة شديدة، فإنه يسألنا سؤالين: هل تراني إنسانا؟ هل تحبني؟ ويرى فانيه أننا كلما قابلنا المعاقين في أماكنهم، تتطور إجاباتنا. في البداية نخاف من مظهرهم وسلوكهم، ثم نتحول إلى الشفقة بشأنهم، ثم ننتقل إلى مرحلة مساعدتهم واحترامهم، ولكننا لا نزال نراهم أقل منا؛ حتى نمر في النهاية بخبرة «التعجب والشكر»، و«نكتشف، من خلال الاقتراب من المعاقين وإقامة علاقة حقيقية معهم، أنهم يغيروننا.»
في المرحلة الأخيرة والعليا للوعي التي يصفها فانيه، «نرى وجه الرب داخل المعاق؛ فوجودهم علامة من علامات الرب، الذي اختار «الحمقى ليخزي الأقوياء والمتكبرين ومن يسمون أنفسهم حكماء عالمنا». ومن نراهم ضعفاء ومهمشين هم في الواقع الأكثر قيمة وقوة بيننا؛ فهم يقربوننا أكثر من الرب.»
ليتني أومن برب فانيه. بيد أن الحقيقة أني لا أرى وجه الرب القادر في ووكر، بل أرى وجه ولدي، أرى ما هو بشري، جميلا ومشوها في الوقت نفسه. فليس ووكر قديسا ولا أنا كذلك، ولا أتحمل أن أراه يضرب نفسه كل يوم، ولكن يمكنني أن أحاول أن أفهم لماذا يفعل ذلك. وكلما اجتهدت في مواجهة قصوري بوصفي أبا، قلت رغبتي في التفريط فيه، ليس فقط لأن بيننا رابطة مادية، وهي شيء بسيط ولكنه مهم، وليس فقط لأنه علمني الفرق بين المشكلة الحقيقية ومجرد الشكوى، وليس فقط لأنه يجعلني آخذ الأمور بجدية، ويجعلني أقدر الوقت وهايلي وزوجتي وأصدقائي، وكل الأشياء الجميلة التي ستزول يوما ما. لقد بدأت أحبه فقط كما هو؛ لأني اكتشفت أني قادر على ذلك، ولأننا يمكننا أن نكون كما نحن: أبا متعبا وابنا معاقا، دون تغيير أو اعتذار، في الوقت الحاضر. وما زال الشعور بالارتياح الذي ينتج عن مثل هذه العلاقة يدهشني، فلا يوجد تخطيط مع هذا الولد، فأنا أذهب معه أينما ذهب. وقد يكون هو أثرا مشوها لعملية التطور من وجهة نظر عالم الوراثة، ولكن له أقرانا قليلين بحيث لا يستطيع تطوير ما أطلق عليه داروين نفسه في كتابه «أصل الإنسان» الميزات التطورية ل «الغرائز الاجتماعية ... والحب، وعاطفة التعاطف المهمة.» أشار معارضو داروين إلى أن الإنسان أضعف من القرود، وبالتالي ليست هناك طريقة منطقية تقول إنه من الممكن أن يكون نتيجة البقاء للأصلح، بيد أن داروين رد عليهم بأن عملية التطور تتجاوز ذلك. قال: «علينا ... أن نتذكر أن الحيوان ذا الحجم والقوة والشراسة الكبيرة، الذي - مثل الغوريلا - يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام كل الأعداء، ربما لن يكون اجتماعيا: كان يمكن أن يضمن هذا فعليا اكتساب القدرات العقلية العليا في الغالب، مثل التعاطف وحب الأقران؛ لذا قد تعد ميزة كبيرة للإنسان أن ينشأ من مخلوق ضعيف نسبيا.»
آمالي متواضعة: أن أدخل إلى عالم ووكر من حين لآخر وأحاول أن أفهمه، وأن أتعرف على عدد قليل من المعاقين عقليا (بدلا من الاكتفاء بالسماح لهم باقتحام حياتي)، وأن أواجه خوفي من المعاقين الذين يمثلون لي «الآخرين»؛ ليس لعلاجهم أو حتى إنقاذهم، ولكن لمجرد أن أكون معهم حتى أتوقف عن رغبتي في تركهم والهروب خوفا منهم. وبناء على رؤيتي المتفائلة والواثقة هذه، آمل أن تمثل هذه الأمور خطوات قليلة نحو ما تصوره عالم الأحياء التطورية جوليان هاكسلي حين كتب مقاله المشهور «الأخلاقيات التطورية» في عام 1943؛ حيث كتب هاكسلي يقول: إن الرؤية الأخلاقية الجلية لنا بوصفنا بشرا لن «تمنعنا من المعاناة بما نشعر أنه ظلم على يد الكون؛ كالتشوه الخلقي، والمعاناة غير المبررة، والكوارث المادية، والموت المبكر للأحباب، ويمثل مثل هذا الظلم الكوني عناد الحظ وعدم أخلاقيته في الحياة البشرية؛ فنحن قد نقلل بالتدريج مقداره ولكنا لن نلغيه بالتأكيد، فالإنسان هو وريث التطور، ولكنه أيضا شهيده.
لكن ليس الإنسان فقط وريث الماضي وضحية الحاضر؛ فهو أيضا العامل الذي من خلاله قد يكشف لنا التطور عن احتمالاته الأخرى ... فيمكنه وضع أخلاقه في قلب التطور.»
وجه الرب! آسف، لا بل ووكر أكثر شبها بمرآة، تعكس الكثير، بما في ذلك خياراتي. بالنسبة إلي - يمثل هذا أعظم طريقة ومع ذلك أكثرها اتساقا يمكن أن أراه بها، من بين الطرق الأخرى كلها: كضارب الرأس، وكلب البيجل، والمجنون مفرط الحركة الذي يسيل لعابه مع صوت بقبقة، والولد الفضولي لفترات متقطعة، والولد الجميل الحزين - ووكر مثل البرطمان الذي كتب عنه والاس ستيفنز:
وضعت برطمانا في تينيسي،
والذي كان مستديرا، أعلى تل.
وقد جعلت البرية الفوضوية
تحيط بهذا التل.
انتقلت البرية إليه،
وامتدت حوله، ولم يعد مقفرا.
وكان البرطمان مستديرا موضوعا على الأرض،
وطويلا وبفتحة للهواء،
وهيمن على المكان كله.
كان البرطمان رماديا وفارغا،
ولم يرو طائرا أو شجيرة،
لا مثيل له في تينيسي.
أدرك أنه لم يعد هناك الكثير، لم يعد هناك كثير من الضوء ينير لنا. بدأ يخفت بوضوح، ولكن هذا أقصى ما في وسعي. ***
انتظرنا لساعات مرة أخرى حين عدنا للجولة الثانية لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي لمخ ووكر، ومرة أخرى آخذ ووكر في عربة الأطفال الحمراء الفاخرة صعودا وهبوطا عبر الردهات، صعودا وهبوطا وخارج الباب إلى الردهة الأطول وأعود، وأذهب إلى طاولة القهوة وأعود، ومرت ثلاث ساعات.
وفي النهاية تركت عربة الأطفال، وجلست ساندا ظهري إلى الحائط الطوبي المصقول في الردهة المجاورة لغرفة الانتظار. وكان ووكر يقف على بعد قدمين مني، حيث يتحول الحائط إلى ركن، وكانت أولجا في مكان ما خلفه.
فجأة أغمي عليه ووقع بين ذراعي مثل كومة الأطباق المنزلقة، ورأيته ينظر ويحاول ضرب نفسه. لا يوجد شك فيما كان يحدث؛ كان يعاني من نوبة، لقد سمعت قصصا عن نوبات أصيب بها أطفال آخرون مصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وقد ظن المساعدون في دار الرعاية التي كان يقيم بها في مرتين أنه ربما يكون قد تعرض لنوبة بسيطة، ولكني لم أر شيئا مثل هذا قط، فيما يخص ووكر. بدأت عيناه ترتعشان وتتحركان ذهابا وإيابا مثل بندول الإيقاع، وبدأ ذراعاه في التشنج قليلا، وقلبه الذي كنت أستطيع أن أشعر به عبر أرجلي، كان ينبض بسرعة مثل قلب طائر أبي الحناء، وكان يحاول النظر إلى عيني، بدا مرعوبا.
عرض علي أحد الآباء من الرواق المساعدة قائلا: «هل تحتاج إلى مساعدة؟» ولكني أومأت برأسي بالرفض. كنت أعرف كيف أتصرف، كان علي هدهدة جسمه الضعيف داخل جسمي القوي، والانتظار معه حتى تمر الرعشة، وأن أكون معه حين تجدني عيناه القلقتان مرة أخرى. ومرت دقيقتان، لم يحدث هذا من قبل. انطلاق عشوائي ومطلق للخلايا العصبية: هذا هو التفسير الطبي للنوبة.
لكن لم يكن هذا ما كان يشغل بالي، حملته بين ذراعي بهدوء قدر ما استطعت، وفكرت أن الوضع سيكون على هذا النحو إذا مات، سيكون الوضع على هذا النحو. لم يكن هناك شيء يمكن أن أفعله، ولم أكن أخشى ذلك؛ فقد كنت قريبا بالفعل منه بقدر المستطاع؛ لا يوجد فاصل بيني وبين ابني، لا فجوة ولا هواء، ولا توقع أو خيبة أمل، ولا فشل أو نجاح، فقط هو، الولد المغمى عليه، ورفيقي الصامت الضاحك أحيانا، وابني. كنت أعرف أني أحبه، وكنت أعرف أنه كان يعلم هذا. كنت أحمل هذا الجمال بين ذراعي، وانتظرت أي شيء يمكن أن يحدث بعد ذلك. انتظرنا معا.
الهوامش
الفصل الرابع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ناپیژندل شوی مخ