ولا سبيل إلى تغيير رأيه، ولعله الوحيد - أو أحد اثنين - في شلتنا كلها الذي قبع في قوقعة محكمة من الأمية العقلية، فلم ينظر طوال حياته في كتاب أو مجلة - عدا المقررات المدرسية، ولم يستطع أن يفرق بين العقاد المفكر والعقاد التاجر بالسكة الحديد - واكتشفنا في زمن متأخر نسبيا أنه يعتقد أن النيل مرادف للنهر، فيوجد نيل في إنجلترا ونيل في العراق ... إلخ. وكان يغلب عليه الوجوم والكآبة فلا يضحك، ويغني ويرقص وينبسط إلا إذا سكر. وجرى الزمن حتى أقبلنا على الأربعين من عمرنا، وعند ذاك فاجأنا الجيش بانقلابه في يوليو 1952. ورحنا نضرب أخماسا في أسداس كما يقولون، وإذا بعبد الخالق يقول: أي حركة خير من الكرب الذي نعانيه.
وسرعان ما تبين له أن ابن أخته الباقي من ضباط الصف الثاني المقربين، وكاد يطير من الفرح، واهتم بالسياسة لأول مرة في حياته، وراح يقول لنا ضاحكا بغير سكر: إذا لم يقسم لنا أن نكون من الأمراء فنحن من النبلاء!
وآمن عبد الخالق بأن ورقة يانصيبه قد ربحت أخيرا، وأن الدنيا مقبلة على أجنحة الملائكة، وسألته: متى تجيء الترقية؟
فقال بحبور: قال لي - ابن أخته - إن الترقية في الوزارة كثيرة الصخب قليلة الثمرة، ولكنه سيبحث لي عن وظيفة في شركة وبمرتب خيالي .. ولم أعد أرى الضابط الشاب في شارعنا، ربما لانغماسه في واجباته الجديدة، وكان يزور خاليه أحيانا مستترا بالليل فيطمئن عليهما ويعدهما خيرا ثم يذهب دون أن يدري به أحد. وقد صادفته ذات صباح وأنا ذاهب إلى عملي وكان يغادر دار الإذاعة بشارع الشريفين إلى سيارة عسكرية تنتظره. هممت بالسلام ولكنه مضى وكأنما لم يرني، اندلق علي جردل ماء بارد. لا يمكن أن يتجاهلني، إنه في شغل شاغل بأفكاره فلم يرني، ولكن لشد ما تغير في أيام معدودة؛ تلبسته هيئة عظمة لا أدري من أين جاءته، ومضى وكأنه صاحب الأرض ومن عليها. وتذكرت بذهول تواضعه وبساطته وعذوبته وسذاجته الثقافية. وخطر لي خاطر أن أولئك الضباط في ثورتهم يمثلون مصر المقهورة في معاناة مشاعرها بالنقص، ولكن يخشى أن ينقلب الأمر في ذواتهم إلى مركب عظمة، ولا يجدوا من يمارسونه عليه إلا المصريين التعساء! المهم أن عبد الخالق كان يعيش في سراب. وبدأت المأساة بصداع متقطع ينتاب الضابط الشاب في رأسه، ثم يشتد ويستفحل، وينجلي الفحص عن اكتشاف ورم بالمخ. وسرعان ما حملته طائرة إلى إنجلترا لإجراء جراحة عاجلة وخطيرة، وبسرعة غير متوقعة أسلم الشاب الروح. أما الحزن الذي حاق بعبد الخالق فمما لا ينسى أبد الدهر، بكى ولطم كالنساء، وأغمي عليه مرتين في منظرة بيته ونحن نقدم له واجب العزاء. والحق أننا قدرنا حزنه وحاله فشاركناه ألمه من صميم قلوبنا. ومضى وقت طويل وهو عائش في مأساته، وكان يقول: أي حظ هذا؟! حدثت معجزة من أجلي فانظروا كيف انتهت!
ويشرد طويلا، ثم يواصل: انظروا إلى حظ الآخرين!
وراح يحصي المحظوظين .. من ضموه إلى لجنة جرد القصور الملكية وما أدراك ما الجرد، من رقي في وزارته وفاق نفوذه وكيل الوزارة، ومن ... ومن ... - حتى جاء دوري فحصل انقلاب للانقلاب!
ونصحناه بأن يستشفع بزملاء ابن أخته من الضباط، ولكن لم يسفر المسعى إلا عن ترقيته إلى الدرجة السابعة. وواصل حياته التعيسة برفقة أخيه الأتعس. ولما مات أخوه في الستينيات باع البيت، وتزوج بنصيبه أرملة في منتصف الخمسين كانت أما لفتاتين متزوجتين، وأقام معها في السكاكيني ولم ينجب. وهدأت أعصابه بعض الشيء بتقدم العمر وسلم بالأمر الواقع، وازداد تدينا وأملا في الآخرة، ولم ينقطع عن المقهى وأصدقائه قط. وفي الثمانينيات توفي بفشل كلوي وهو ابن سبعين بعد حياة مفعمة باللهفة والحسرة والإحباط، طاوية ذكرياتها الجميلة في ماض بعيد لم يكد يبقى من معالمه شيء.
آل القربي
تقوم سراي آل القربي فيما يلي بيت آل مراد، سراي كبيرة مترامية، ينطلق النخيل متجاوزا أسوارها العالية، وتشغل مساحة واسعة بطول شارعنا، وفي العمق المفضي إلى شارع أبو خودة. تلوذ بعزلة صارمة عما حولها، وتغوص في غموض شامل كأنها تاريخ قديم بلا وثائق؛ فلا أحد يعرف شيئا عن الأصل أو الأقارب، وأهل السراي لا يزورون ولا يزارون بخلاف أغلبية السكان الملتحمة بالجيرة والتزاور والمودة. ولم نر من أهلها سوى ربها إحسان بك القربي وابنه الصبي عمرو. كما كنا نرى البواب والحوذي والطاهي ومديرة السراي أمام الباب في العصاري. وكان البك يغادر السراي مرة واحدة يوميا عند الأصيل، على قدميه غالبا، وفي الحنطور نادرا، ثم يعبر شارع العباسية متجها نحو الشرق لقضاء سهرة في أحد القصور. كان بدينا مع ميل إلى القصر، ضخم الخلفية مثل امرأة، طويل الطربوش، ريان الوجه، ثقيل الملامح، يرى العالم من خلال نظارة كحلية اللون ويقبض على مذبة عاجية. كان بطيء الحركة، بارد النظرة، كأنه ناهض من نوم أو ماض إلى نوم، ويمضي غير منتبه لما حوله. وكان عمرو من سننا، ولكنه لم يشجع أحدا على التعرف به ولم يسع إلى التعرف بأحد، وكان يظهر أمام الباب قليلا، وأغلب فراغه يقضيه في الحديقة، وكان صورة مصغرة من أبيه لولا جحوظ في عينيه. وكنا نفضل جمال بك إسماعيل على إحسان بك رغم تأديبه المتلاحق لنا؛ فهو مثير وباعث على الضحك، ولا وجه للمقارنة بينه وبين هذه الكتلة اللحمية الباردة الصامتة، فضلا عن المكانة المرموقة التي استحقها جمال بك لإنجابه مديحة وسامية. ورغم ذلك فقد رسمنا للأسرة صورة، أمدنا الخيال ببعض خطوطها وعم فرج بالبعض الآخر. قال صديقنا عبد الخالق: اسم القربي فيه الكفاية، هو نسبة إلى القربة؛ فجدهم كان - ولا شك - سقاء، وبشرتهم كما ترون لا تشي بأصل شركسي أو تركي أو حتى شامي!
أما عم فرج بياع الدندورمة والحلوى فقد اقتحم بحديثه أسوار السراي إلى الداخل، وقال: ليس في السراي امرأة سوى نفوسة كبيرة الخدم.
ناپیژندل شوی مخ