ماذا تكون الحياة بغير إرادة تعزم، وعمل ينفذ؟ وإن الناس لتتفاوت أقدارهم بتفاوتهم في العزيمة وقوتها من ناحية، وفي تفاوتهم في دنيا الكفاح والعمل من ناحية أخرى، إنهم ليتفاوتون في هذا وفي ذلك تفاوت الماء وهو عند صفر التجمد أو ما دونه من درجات، ثم وهو عند مائة الغليان، وعند أسفل الدرجات ترى صغائر الصغار، وعند عليا الدرجات ترى عظمة الإنسان كيف تكون، ولكن ما كل إرادة تستوي مع كل إرادة، حتى لو تكافأتا في قوة التصميم، فقد تتعلق إرادة إنسان بمال يجمعه حتى يعد بالملايين، وقد تتعلق إرادة إنسان آخر بمناصب النفوذ النافذ الذي يخترق صلابة القوانين فلا يحاسبه أحد ، أو تتعلق بمظاهر الجاه ذي الهيل والهيلمان الذي تنخلع له القلوب من بطش سطوته، لكن لا هذه ولا تلك هي التي عنيناها عندما تحدثنا عن تفاوت الأقدار في ناحية الإرادة وفي ناحية الجهاد من أجل تحويلها إلى عمل، وإلا فهل رأيت صحائف التاريخ قد شغلت بسطر واحد من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إنه كان ذا ثراء ثم لا شيء بعد الثراء؟ أو رأيتها شغلت بسطر واحد من صفحة واحدة، برجل لتقول عنه إن كل بضاعته هالة من هيلمان؟ وحتى هي إذا قالت ذلك عن إنسان مضى، فإنما تقوله بحروف في مدادها قطرة من ازدراء، لا، إنما نعني إذ نتحدث عن تفاوت الناس في ناحية الإرادة وفي ناحية تنفيذها، أن يكون معيار التفاوت هو مقدار الجوهر الإنساني في الإنسان، فليس الناس - صغارهم وكبارهم - كلهم سواء في الصفات الأساسية التي تجعل من الإنسان إنسانا، ومن هنا كان أبو الطيب موفقا توفيق شاعر عبقري، حين جعل التقابل - في البيت الأول من قصيدته - بين «العزائم» و«المكارم»؛ فبالعزائم تمضي الإرادة نحو العمل، وليس أي عمل، بل العمل الذي يجيء مكرمة، فيبني للناس جزءا من صرح الحياة ويعلي البناء، وفي أمثال هذه الإضافات الحقيقية الحيوية يتفاوت الناس، تفاوتا يسفل به الصغير بصغائره ويعلو العظيم بعظائمه، فحقا: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم ...
وإذا ما انتهت عزائم الناس - في تفاوت درجاتها - إلى دنيا العمل، اختلف نزلاء الدرجات السفلى عن نزلاء الدرجات العليا في شيئين: أولهما نوع الهموم التي تشغل حياتهم، فأصحاب الحظ القليل من العزيمة ينشغلون بتوافه الأمور التي لا تغني أحدا عن فقر، ولا تضيء لأحد طريقا من ظلام، في حين ينشغل أصحاب الحظ الموفور من العزيمة، بما يترك أثرا على وجه الحياة المحيطة بهم، لا تمحوه الأيام، بل يصمد حتى يجيء ذو عزيمة قوية آخر فيضيف إليه ذلك جانب، وأما الجانب الآخر في اختلاف الفريقين، فهو أن الصغير يستعظم صغائره حتى ليحسبها مما يخلد به الرجال، وأما العظيم فهو من علو النفس وشرف الطموح، لا ترضيه الإضافة العظيمة التي يضيفها، فيسعى نحو ما هو أعظم وأسمى، فتبعد مسافة الخلف بينه وبين الصغير، بعدا فوق بعدها، فالصغير يلهو على الأرض بتوافهه، والعظيم ماض، يعلي البناء طابقا على طوابقه، وهكذا تعظم في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم ...
ولما أردت الانتقال مع نفسي إلى البيتين الثالث والرابع من قصيدة أبي الطيب، ووجدتهما تتحدثان عن سيف الدولة، قلت: هل نتخطى هذين البيتين يا نفس؟ فأجابتني في غضب: لا ... في مستطاعنا أن نسقط «سيف» فتبقى لنا «الدولة» وبذلك ربما وجدنا الموقف قد تحول بهذا الحذف، فأصبح وكأنها مصر تخاطب أبناءها في أيامنا هذه، وما نخوضه فيها من صعاب، فاقرأ ...
وقرأت أول البيتين، فوجدت وكأن الدولة حين أثقلتها همومها الجسام، توجهت إلى أبنائها ليحملوا عنها همومها، بيد أننا كما رأينا كم يتفاوت الناس في عزائمهم، ما بين صغير فاتر العزيمة، لا يحتمل إلا أوهن الأعباء، ورأينا الناس يتفاوتون كذلك في مكارمهم، ما بين التافه الذي يكفيه من الأعمال صغائرها، والجليل الذي لا يرضيه إلا أن يزحزح الجبل، إذا رأى الجبل يسد على الناس طريق التقدم، ثم رأينا - في البيت الثاني - كيف تتسع المسافة بين الصغير الذي تعظم في عينه الصغائر، والعظيم الذي تصغر في عينه العظائم، فكذلك نحن الآن - في البيت الثالث - أمام تفاوت من نوع ثالث، هو تفاوت الناس في أنواع الهموم التي يهتمون لها، فلقد باتت الهوة واسعة وسحيقة، بين هموم «الدولة» وكانت في القصيدة «سيف الدولة» من جهة، وهموم أبنائها من جهة أخرى، وكأنها ليست هي الأم، وكأنهما ليسوا هم الأبناء! لكن «الدولة» إذ تستمد عظمة طموحها، من عظمة تاريخها، تهيب بالأبناء أن يطاولوها همة وهموما ...
وننتقل إلى البيت الرابع، فنجد «سيف الدولة» أعني أننا (في حالتنا نحن) نجد «الدولة» أو قل إننا نجد مصر، تطلب عند الناس ما عند نفسها، شأن كل عظيم عندما يتوقع مثل عظمته من أوساط الناس، فلأنه يفيض عظمة بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، يحسب أن تلك هي فطرة الإنسان - كل إنسان - وهو ضرب من الطموح لا يعرفه بين كائنات الدنيا إلا الإنسان ... وأما في عالم الحيوان، فالليوث تدرك بغريزتها أنها من قوتها وسطوتها، في منعة لا ترتقي إليها الغزلان والحملان، فالقوة التي رآها المتنبي في سيف الدولة، والتي نريد أن نرى شبها لها في مصر اليوم، وهي القوة التي يراد لها أن تنتقل من الدولة إلى أبنائها، ليست قوة الغابة، وإنما هي قوة الحضارة، قوة الدين، قوة العلم، قوة الفن، إنها قوة الريادة، والقيادة «ويطلب عند الناس ما عند نفسه، وذلك ما لا تدعيه الضراغم.»
قالت لي نفسي: هيه يا رفيقي ... في حلو أيامي ومرها، امض فيما أنت قارئ، ولنجعل مصر نصب أعيننا فيما نقرؤه، اقرأ، قلت لنفسي: إن أروع ما يستوقف النظر، هو أن أبا الطيب، في هذه القصيدة، لا يفوته قط أن عظمة الإنسان الحقيقية، إنما هي في البناء، فإذا أقام إعجابه بشجاعة أميره في ذلك القتال الذي واجه فيه «الدمستق» وفرسانه في عشرات ألوفهم، فهو سرعان ما يشفع ذلك بالهدف البعيد الذي من أجله لجأ سيف الدولة إلى الحرب، وذلك الهدف البعيد، هو بناء المدينة التي كانت عامرة فدمروها، فانظري - يا نفسي - كيف بدأ هذا البيت بعبارة: «بناها فأعلى» قبل أن يذكر ما كان يحيط بذلك الجهد في عملية البناء: «بناها فأعلى، والقنا تقرع القنا، وموج المنايا حولها يتلاطم»، فإذا نحن عدنا مرة أخرى إلى اسم «سيف الدولة» فأسقطنا عنه السيف، لتبقى لنا الدولة، التي هي مصر، وجدنا الصورة التي نريدها فيما نخوضه اليوم مع العالم الذي نعيش فيه، فهو عالم يضطرنا اضطرارا، حين نمضي في جهود البناء الحضاري، الذي عرف بنا وعرفنا به آلاف السنين، أن ندجج أنفسنا بأقوى السلاح، الذي نريد له أن يكون من صنعنا، وابتكارنا، ومؤسسا على علمنا؛ لكي نواصل عملية البناء، حتى ولو كان «موج المنايا حولها متلاطم»، نعم، فسماء الدنيا امتلأت بجوارح الطير، «أحداثها والقشاعم» وهو طير لا يخشى شعوبا خلقت بغير مخالب ... أتذكرين يا نفسي - ذلك الشاعر الإنجليزي، الذي أدار البصر في «الطبيعة» فهاله أن يراها «ملطخة بالدماء نابا ومخلبا»؟ فقد فاته أن مجتمع البشر، في يومنا هذا على الأقل، قد بات ينافس الطبيعة ولوغا في الدماء!
إننا - يا نفس - نقرأ هذا الذي نقرؤه لأبي الطيب المتنبي، لنستمد منه روح الشجاعة، والهمة، والطموح، والأمل، والثقة بالنفس، لعلنا نبرأ مما أصابنا من شعور باليأس، والقصور، والهزيمة، ونبرأ قبل هذا كله من التفاهة، والصغار، والعبث اللاهي في ظروف تقتضي الجد والجهد وقوة البأس، والتسامي إلى أوج نحن به جديرون، لقد هزأ الشاعر بذلك «الدمستق» الذي اجترأ على مواجهة الأسد، فعجب كيف لم تسعفه حواسه فتنبئه بالهول الذي هو مقدم عليه، مع أن ريح الليث تشم من بعيد: «أينكر ريح الليث حتى يذوقه؟ وقد عرفت ريح الليوث البهائم»، ولنختم - يا نفس - لقاءنا مع المتنبي، بهذه اللوحة الرائعة، التي جلس فيها الظافر، ينظر إلى الأسرى من أبطال عدوه، موصيا - يا نفس - بأن توجهي انتباهك إلى أن الظافر في جلسته تلك، كان في جلاله متكافئا مع نصره، وجهه وضاح، وثغره باسم:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ناپیژندل شوی مخ