اللهم هب لنا حكمة نرى في نورها أين تلتقي اختلافات الرأي والرؤية، قبل أن نرى أين تختلف.
عالم عابد في مركبة الفضاء
قل إنه خيال شارد جموح، أو قل إنه حلم رأيته في النوم، وجئت لأرويه للناس في الصحو، أو قل ما شئت عن هذه النعمة الكبرى، التي أنعم الله بها على بني آدم وبناته فوق هذه الأرض الدوارة في الفضاء، وهي أن تكون لهم القدرة على تحطيم حدود المكان وقيود الزمن، إنه هنا بجسده، لكنه هناك مع أقصى النجوم والسدم بخياله، وإنه حبيس اللحظة التي نسميها بكلمة الآن، لكنه حبيس فيها بسمعه وبصره وسائر حواسه، أما نعمة الخيال فقادرة على الطيران به إلى ما شاء من خط الزمان فيما مضى به إلى الأزل، وفيما هو آت منه إلى الأبد، ولولا تلك النعمة لما استطاع أن يتابع بكل وعيه ما يقال له عن أول الخلق كيف كان، وعن يوم البعث كيف سيكون، إنها نعمة انفرد بها دون سائر خلق الله من حجر وحيوان، ولست في الحق أدري إن كان يختلف بها كذلك عن الملائكة والجن؛ لأن هؤلاء كائنات بغير تاريخ.
وبهذه النعمة الكبرى تخيلت عالما حملته مركبة الفضاء، فاخترق بها ما وسع مركبته أن تجتازه من أجواز السماء، حتى جاوز بها دنيا المجموعة الشمسية بأسرها إلى حيث لا أدري من سدم الفضاء، نعم إن الصواريخ والمركبات التي أطلعتنا الإذاعات والصحف على أخبارها، كانت دائما تحمل في أجوافها ضروبا من ربابنة الفضاء، يعرفون كيف يوجهون مركباتهم وصواريخهم، وكيف يفكون الأجهزة المعقدة ويركبونها، لكنهم جميعا لم يكونوا أشباها للعالم الذي طيرته بخيالي بمركبته؛ لأنه ينفرد وحده دونهم بالتأمل في الماوراء، فإذا كان هذا هو ما يراه، وذلك هو ما يسمعه في رحلة فضائه، فهو فوق ذلك تواق أن يستدل بعقله ماذا عسى أن يكون هنالك وراء ما يرى ويسمع؟
ولقد جعلت ذلك العالم المغامر، يدون في مذكراته كل ما يعن له مما قد تأمله واستدله، فكانت فاتحة تلك المذكرات خاطرة خطرت له حتى وهو ما يزال رابضا في مركبته على أرضنا قبيل انطلاقها، وهي خاطرة تقول فيها ما معناه: ليست هذه أول مرة أسبح فيها عبر الفضاء في مركبة، إذ ماذا يكون الكوكب الأرضي الذي نسكنه والذي ما ينفك دائرا بنا حول نفسه مرة كل يوم وحول الشمس مرة كل عام، ماذا يكون هذا الكوكب الدوار إلا مركبة ركبناها لتدور بنا في الفضاء الفسيح دوران الأرجوحة الدوارة براكبيها من صغار الأطفال؟ لكن الفرق الكبير بين مركبة الأرض في سبحها، وهذه المركبة في طيرانها، هو أن كوكب الأرض تشده الشمس إليها بحبال خفية يسمونها الجاذبية، كأنما الشمس أم من أمهات الطير فرشت جناحيها لفراخها تحتمي بهما حتى لا تضل بها السبل، فكذلك فعلت شمسنا بأرضنا تشدها شدا إليها حتى تنحصر حركتها في الدوران حولها، لتأمن عليها من الضياع في ذلك التيه الذي لا تحده الحدود.
وعند هذه العبارة الأخيرة انطلقت المركبة بالعالم، فكانت مذكرته الثانية خاطرة استوحاها من تلك العبارة نفسها، فها هو ذا في سماء لم يعد يعرف لها حدودا تحدها، إنها اللانهائية في أروع مثال لها، فتأمل هذه الكلمة جيدا، تجدك وقد أوشكت على وقفة تشبه وقفات الصوفية التي قالوا عنها إنهم كانوا عندها في حالة شهود؛ أي أنهم أحسوا إحساسا قويا بأنهم تمكنوا من شهود الله - جل وعلا - وليس عندي، هكذا كتب العالم في مذكرته، ليس عندي ما يدعوني إلى تكذيب أولئك المتصوفة المؤمنين العابدين فيما كتبوه عما أحسوه بقلوبهم، لكنني لست الآن في مثل حالتهم الصوفية أركن إلى قلبي وما أحسه، بل إني أنظر نظرة العلماء وبمنهج العلماء، حين أقف وحين أدعوك لتقف معي عند هذه اللانهاية الكونية متأملا إياها تأمل العالم، لا تأمل الصوفي، وأعني أن تتأملها بعقلك ومنطقه، لا بقلبك في نبضه، فنحن لا نعرف اللانهاية في علومنا إلا من حيث هي مصطلح رياضي، وككل التصورات الرياضية البحت (أي التي ليست رياضة تطبيقية) لا يكون للتصور الرياضي وجود في الواقع الحسي، فأنت بالعقل الرياضي تتصور الصفر في الحساب وتتصور النقطة في الهندسة، تتصورهما وتقيم عليهما عملياتك الرياضية في ذهنك دون أن يكون لأي منهما وجود فعلي في الوجود الحسي، فالصفر هو اللاشيء وكل ما في عالم المحسوسات أشياء، والنقطة في الهندسة هو ما ليس له أبعاد لا طولا ولا عرضا ولا عمقا وكل ما في عالم المحسوسات ذو أبعاد، إنك لا تذهب إلى السوق لتشتري صفرا من القماش أو صفرا من الفاكهة، وما نسميه نقطة في عالم الحس ليس إلا مجازا منا لسهولة التفاهم لا لمراعاة الدقة الرياضية؛ لأنه مهما صغر حجم النقطة التي نرسمها على الورق فهي ذات أبعاد، بدليل أننا نستطيع أن نتصور أداة للرسم أدق من الأداة التي استخدمناها في رسم النقطة، فنحصل بالأداة الأدق على نقطة أصغر، وهذا الذي نقوله ينطبق على التصورات الرياضية جميعا، وبينها فكرة اللانهاية؛ وذلك لأن التصور الرياضي أيا كان إنما هو تعريف عقلي لما ينبغي أن يكون في الحالة المعنية التي نشير إليها بتصور رياضي معين، فنحن إذن نتصور تلك الحالة وهي في كمالها المطلق، لكن الأشياء التي نمارس حياتنا العملية بها، لا كمال فيها. إن الواقع المحسوس في جميع حالاته فيه خشونة وعدم استواء بدرجات تكبر وتصغر إلا أنها لا تنعدم، إذا قلنا عن قطعة أرض مثلا إنها دائرية الشكل، أو إن مساحتها خمسون مترا مربعا، فذلك كله على سبيل التقريب، لا على سبيل الدقة الرياضية المتضمنة في تعريفنا لأي مفهوم في العلوم الرياضية.
ولا يشذ عن هذا التعميم فكرة اللانهاية، فهي فكرة نعرفها في الرياضة، لكننا لا نعرفها قط في حياتنا العملية بين كائنات الدنيا وأشيائها ، فحبات الرمل في صحراوات الأرض، قد لا نستطيع عدها، لكننا مع ذلك نتصور أن لها عددا ما يعلمه من في مقدوره أن يقوم بعملية العد بوسيلة من وسائل العد والإحصاء، أما اللانهاية، فتصور آخر ليس هو التصور الذي نتصور به أعدادا ضخمة لا نستطيع أن نحصيها، وإنما اللانهاية بحكم تعريفها: ما لا يعد، ففي أي خط ترسمه نقط لا نهائية، وذلك مجرد تصور رياضي، إذ النقطة كما يتصورها الفكر الرياضي لا وجود لها في الواقع الحسي، وها أنا ذا - هكذا قال عالم المركبة الفضائية في مذكرته الثانية - ها أنا ذا أسبح بمركبتي في لا نهاية سواء نظرت إليها من ناحية التصور الرياضي أم نظرت إليها من ناحية إحساسي بحقيقة الواقع، فمن الناحية الأولى، نقاط المكان لا متناهية ولحظات الزمن كذلك لا متناهية سواء نظرت إلى ما مضى منها، أو إلى ما هو آت، فماضيها يمتد إلى أزل وآتيها يمتد إلى أبد، وأما من الناحية الثانية، فالكون الذي أسبح فيه هو كون بلا حدود، بمعنى أنه - كما يقول العلماء عنه - كون يمتد امتدادا لا ينقطع، فهو إذن بالنسبة لي كالأفق بالنسبة للمسافر على سطح الأرض؛ لأنه يتسع ويتراجع أمام المسافر حتى لكأن ذلك المسافر لم يتقدم من نقطة ابتدائه شبرا واحدا.
ومن ذا الذي يذكر هذه اللانهاية التي أسبح في رحابها، ولا يذكر معها الواحد الأحد الحي القيوم الله جل جلاله، واحد في ذاته، واحد في خلقه لا تحده حدود مكانا أو زمانا، وقد يختلط الأمر عند المبتدئ الصغير بين الواحد في هذا المعنى، والواحد في سلسلة الأعداد التي حفظها وعرفها في علم الحساب، لكن واحد الحساب بداية لسلسلة أعداد تأتي بعده في خط واحد، أما واحدية الله وواحدية الكون فمعنى آخر، هو المعنى الذي يجعل الواحد لا يجيء إلى جانبه اثنان لتضم واحدين في مجموعة، ولا ثلاثة لتضم ثلاثة في مجموعة ... الله واحد في ذاته، موحد في صفاته على كثرة هذه الصفات، ولقد تعب المفكرون الإسلاميون الأقدمون في التماس التصور الذي يجعل من كثرة الصفات وحدة لا تعدد فيها للذات الموصوفة بها، فهل كانوا - يا ترى - يقعون في الحيرة نفسها، إذا كانوا قد استعانوا على الفهم بنظرة ينظرون بها إلى هذا الكون اللانهائي، الذي هو كثير بكائناته وشموسه وسدمه ونجومه، لكنها كثرة ترتبط كلها برباط يجعل منها كونا واحدا يتصل كل ما فيه، بكل ما فيه حتى ليستحيل على عقل أن يتصور جزءا من تلك الأجزاء الكثيرة اللامتناهية في كثرتها، وقد انفصل وحده أين ينفصل؟ وكيف ينفصل؟ ومتى ينفصل؟
وانتقل عالم المركبة الفضائية بعد ذلك إلى مذكرته الثالثة، فبدأ بذكر جاجارين الروسي؛ الذي كان أول من شق الفضاء بصاروخ ثم عاد إلى الأرض، ليسأله سائل: هل رأيت الله؟ فأجابه بما معناه أنه بحث عنه فيما صعد إليه من السماء فلم يجده، ذكر ذلك عالم مركبتنا ليأخذه العجب من جاجارين هذا، وما الذي كان جاجارين يتوقع أن يراه ولم يجده؟ إن الصاروخ الذي صعد به، ما كان ليقام، وما كان ليطير به إلى حيث طار، ثم ليعود به إلى الأرض سالما، إلا إذا كان العلماء أقاموا حسابهم على افتراض متين مكين بأن الكون بكل ما فيه يسلك كما يسلك وفق قوانين محسوبة بدقة ليس بعدها دقة، ومن هنا طار الصاروخ سالما وعاد سالما، وليست القوانين التي تمسك أجزاء الكون مفرقة بعضها من بعض، ولا هي مستقلة بعضها عن بعض؛ وذلك لأنه كون واحد، له كيان عضوي واحد، وقوانينه، وإن تكن كثيرة، فهذه قوانين للضوء ومساره، وتلك قوانين للجاذبية، وثالثة قوانين للكهرباء وللمغناطيسية إلخ، إلا أنها حسبت كلها على نحو يجعلها موحدة برغم كثرتها، وإذا كان هنالك منها ما لم يستطع العلماء بعد أن يسلكوه في تلك الوحدة فهم في طريقهم إلى هذا الهدف، فحتى لو كان ذلك الجاجارين ممن لا يؤمنون بوجود الذات الإلهية، أفلم يكن في مستطاعه أن يرى الألوهية في ذلك الكون الموحد بقوانينه؟
ولقد رأى الفلاسفة الأقدمون - من اليونان ومن المسلمين على حد سواء - شبها دقيقا في بنية التكوين، بين الكون في كليته وفي توحده، وبين الفرد الإنساني في كليته وفي توحده، حتى لقد أطلق اليونان والمسلمون اسم الكون الكبير على العالم، واسم الكون الصغير على الإنسان، فكل منهما موحد الكيان برغم كثرة الأجزاء وكثرة ما يحكم تلك الأجزاء من قوانين.
ناپیژندل شوی مخ