رسوم رجال القلم
شبلي الملاط
أمين تقي الدين
فليكس فارس
بشارة الخوري
راجي الراعي
إلياس فياض
حبيب جاماتي
كرم ملحم كرم
عصبة العشرة
ميشال أبو شهلا
خليل تقي الدين
فؤاد حبيش
رسوم رجال السياسة
شارل دباس
محمد الجسر
أوغست أديب
إميل إده
حسين الأحدب
بشارة الخوري
موسى نمور
جبران التويني
سليم تقلا
رشاد أديب
عمر الداعوق
حبيب طراد
عمر بيهم
موسى مبارك
إميل ثابت
ميشال زكور
شبل دموس
ميشال شيحا
هنري فرعون
عز الدين العمري
جبرائيل نصار
يوسف السودا
باترو طراد
حسين قزعون
يوسف البريدي
عبد الله نوفل
فريد الخازن
الدكتور أيوب ثابت
يوسف الخازن
إبراهيم حيدر
رسوم رجال القلم
شبلي الملاط
أمين تقي الدين
فليكس فارس
بشارة الخوري
راجي الراعي
إلياس فياض
حبيب جاماتي
كرم ملحم كرم
عصبة العشرة
ميشال أبو شهلا
خليل تقي الدين
فؤاد حبيش
رسوم رجال السياسة
شارل دباس
محمد الجسر
أوغست أديب
إميل إده
حسين الأحدب
بشارة الخوري
موسى نمور
جبران التويني
سليم تقلا
رشاد أديب
عمر الداعوق
حبيب طراد
عمر بيهم
موسى مبارك
إميل ثابت
ميشال زكور
شبل دموس
ميشال شيحا
هنري فرعون
عز الدين العمري
جبرائيل نصار
يوسف السودا
باترو طراد
حسين قزعون
يوسف البريدي
عبد الله نوفل
فريد الخازن
الدكتور أيوب ثابت
يوسف الخازن
إبراهيم حيدر
الرسوم
الرسوم
تأليف
إلياس أبو شبكة
مجموعة تحتوي على صور أدبية لرجال القلم والسياسة في لبنان، نشرت في المعرض بإمضاء رسام.
رسوم رجال القلم
شبلي الملاط
منتصب انتصاب الجذع، في مقلتيه تموجات تجيش في الحدقتين، فما تعلم أتموجات غضب هي أم تموجات ألم!
بين غريزته ومشيته نسب وقربى؛ فهو يمشي ساخطا على من حوله، ويستمد غريزته من السخط أيضا، وهو في كلتيهما أعظم الساخطين.
تقلبت أعطافه في ترف الأتراك؛ فهو تركي الخلق، وقد يكون هذا الاستتراك سجية في نفسه؛ لأنه نجم من بيت نال قسطه من الوظائف في العهد الحميدي وبعده.
سهل الفناء واسعه إلا مع الشعراء، فهو لا يستمرئ قصيدة من قصائد معاصريه، وقد يتقذر جميع ما يقرأ من أبواب الأدب في هذا العصر.
أحرق «عمرو بن العاص» مكتبة الإسكندرية لاعتقاده أن في القرآن الكريم ما يتغنى به الناس عن سواه، ولو قيض «للملاط» أن يحرق قصائد الشعراء في عصره لحذا حذو بطل العرب في ذلك.
فصيح الديباجة «عنتريها» عربي الأسلوب، لم تذله العجمة بلهاثها، يجلي العبارة حتى يبرزها في حلية من البلاغة تذكرك بعهد «الرشيد»، وهو في ذلك لا يحتاج إلى التكلف قط.
لا تكبري فتح الشآم وخالد
وأبو عبيدة أكبر القواد
يتراوحان ملاءة الفتح الذي
أعلى به الإسلام أي عماد
إذا جلس إلى النظم خب في مجاله خبا، فهو لا ينفض يده من القلم حتى يأتي على القصيدة كلها، وقد لا تسلخ «المعلقة» من وقته أكثر من ساعتين.
أخاذ، قد تجد في قصائده جميع شعراء العرب من «عنترة» إلى «المتنبي» إلى «ابن هانئ الأندلسي». أما «عنترة» فهو الشاعر الذي لا يزايله فترة، وقد يكون أحب الشعراء إليه.
قال «عنترة» مخاطبا «عبلة»:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
طب بأخذ الفارس المستلئم
وقال «الملاط» في قصيدته «خولة بنت الأزور وأخوها ضرار»:
لفتت نواظره بسالة «فارس»
متلثم متوشح بسواد «مستلئم» حسن الشمائل ضارب
بحسامه في الهام والأكباد
فكأن الشاعر عندما رنت كلمة «فارس» في «خانة» الصدر الأول تذكر «مستلئم» «عنترة»، فأخذ يحتال عليها حتى راض صعابها فغللها في مطلع الصدر الثاني.
حلال عليه حتى معاني القدماء وصورهم، يستبيح منها لنفسه ما يراه حسنا، إلا أنه لا يعييه الفن عن أن يطبعها بطابع من روحه.
كساه الحماس حلته فهو شاعر الحماس. يحفظ صدرا عظيما من متخير أقوال العرب، فهو يتحكم في شأنها تحكم المالك بملكه، وقد يترقى بها في مدارج البلاغة حتى يملك عليك إعجابك، وقصاراه في ذلك أن يملكه عليك.
شاعر تطرب له وهو على المنبر، وقد يرتفع بك حتى ليوشك أن يقودك إلى ثورة، يتضح لك من هنا أن ل «عنترة» يدا عليه.
قال «عنترة»:
سلي يا عبلة الجبلين عنا
وما لاقت بنو الأعجام منا
وقال «الملاط» في القصيدة نفسها: ... فسلي كماة الحرب يا ابنة حمير
والبيض قد سلت من الأغماد
ينبئك من شهد الوقيعة أنني
شبح الحمام وليث بطن الوادي
ففي قوله: «سلي كماة الحرب ... والبيض قد سلت ... وينبئك من شهد الوقيعة ...» روح عنترية، بل ألفاظ عنترية تشيع فيك هزة الحماس، وتمضي بك قدما في الذاكرة إلى أربعة عشر قرنا سلفت، ومهما جهد «الملاط» ليخوض بطن عصره في قوافيه لا يستطيع أن يطوي من أجيال البادية ليصل إلينا إلا نزرا قليلا، فهو يعيش هناك. إن «الملاط» طلل من أطلال العرب ولكنه غير بال.
قد يكون شاعر الحماس أجدر من سواه بوضع ألفاظه الصوانية في أفواه الأبطال القدماء؛ فلم أعرف شاعرا من شعراء اليوم يستطيع أن يبرز لك شبحا ناطقا من هؤلاء الفرسان على لوحة العصر كما يستطيع «الملاط».
لا تنحط على قصيدة من قصائد هذا الشاعر إلا رأيت للسيف جولة فيها، كما أنك لا تقع على قصيدة من قصائد «الأخطل الصغير» إلا رأيت فيها جولة للقلب، حتى إنك لتتبين في شعر «الملاط» بريق السيف خلل الدموع.
تمكن «الملاط» من أدبه ولم يتمكن من دنياه، فلقد شاء القدر أو الحظ العاثر أن يقمره حقه، وشاء إخوانه أن يطووا عنه كشحا.
كان الشاعر لخمس سنوات خلت مديرا لإحدى نواحي الجبل، فدخلت عليه في بيته ذات مساء فألفيته يدخن النارجيلة وسحابة الألم منتشرة على أديم وجهه، كأن ساعة الغروب شاءت - في ذلك اليوم - أن تحدر عنه لثام الغبطة لتظهر الكآبة وراءه، بحيث يراها لأول بادرة كل من ينظر إليه، وكأنه شعر باستغرابي فلم يتركني في حيرة أحتاج معها إلى استفهام، فنشر من فمه شفافة من الدخان وأخذ يردد أبيات «الطغرائي»:
تقدمتني أناس كان شوطهم
وراء خطوي إذ أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا
من قبله فتمنى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبر لها غير محتاج ولا ضجر
في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
فأدركت ما يجول في خاطره وأية فكرة كدرت عليه صفاء الغروب في ذلك اليوم من ربيع 1925، فلم أجد كلمة أعينه بها على ما به أفضل من قول «الطغرائي»: اصبر لها.
فهز رأسه وصمت ... وصمت! وإني لأعرف به اكتئابا حتى انصرفت عنه.
أمين تقي الدين
حسن الأمة، تغشى وجهه شحوب جميل يتحير بين لوني الفجر والصباح، وتملت مقلتيه العربيتين عذوبة صوفية تبتلت إليه ملاوة من الدهر ولما تزل.
حمل من عسف الزمن أوزارا ثقالا، وقد يكون سبب ذلك أنه آوى إليه صدق الضمير فلم يتمن يوما ولم يدهن. جبل من صعيد طيب، فهو صورة الله في خلقه، وقليلا ما يقع الصديق في خلائف الأرض على صديق مثله.
تجلس إليه فترى على أديمه الجميل ظلا من جمال النفس، فكأن جسده ونفسه نجما من سلالة واحدة، أما حديثه فلا تغشاه غبرة من التكلف، فهو حديث النفس المرسلة على فطرتها، وما أجمل الفطرة التي لا تستغشي في نفس الأديب غير ثوبها.
وتجلس إليه - وقد لا يقدر لك أن تجلس إليه إلا إذا اتسق لك جانب من الأدب - فلا تلبث أن تحس في نفسك بميل إلى عذوبة فيه لا تعلم أيا من عروقه أوعاها في دمه، على أنك لا تجدك إلا وقد أخذت بما يسلكه فيك من سحر الكلام في مساغه، ولا تشعر بصوتك إلا وقد خشع له وسكرت أبصارك إلا عليه.
علت به السن إلى الخمسين، إلا أنه ما برح يمسك بعصم الشباب وطلاقته. ندي الكف، يستوي الكرم مع يده في أعالي مجاليه، وقد يكون الكرم شر ما به، وهو القائل في شعره:
شر ما بنا الكرم
دونك هذه النادرة: كنت أملك حقا في شركة مياه بيروت، وكان هذا الحق يسح علي نزرا من المال كل سنة، وشاء سوء الطالع يوما أن تتمرد علي الشركة فتضرب عن دفع ما حق لي في ذمتها طوال ثماني سنوات، فهرولت إلى الشيخ «أمين» في مكتبه والغضب يجهم أسارير وجهي، وبعد أن عرضت له أمري مرسلا نفسي على استمطار ألوان التهديد على كل من يترني حقي أو تؤديه الجسارة إلى هضمه - وأنا إذ ذاك في الواحدة والعشرين، في نزق الحداثة وكبريائها - عملت له وكالة دفع أجرها من جيبه؛ لأن جيبي في تلك الآونة كان خاويا يصفر صفير العقل الطائش، وانكفأت عنه مطمئنا إلى القضية.
ومر أسبوع، فإذا نحن من عيد الفصح على ثلاثة أيام، وإذا المرض لا يزال ملازما جيبي، وقد دلاني ببلية أنقضت ظهري وأسقطتني في يدي، فهمت على نفسي أسأل الله الفرج، إلا أن الله في ذلك الحين أبى أن يردئني على ما بي، حتى كدت أقنط قنوط الكافر المنذور لحطب جهنم، لو لم تفتح الصدف في وجهي كوة سعيدة برز لي منها جيب الشيخ أمين. - أسعد الله صباح أستاذي الشيخ. - أهلا ... أهلا ...
ولما أحلني المكان وآذنتني الحاجة أن السيكارة في يدي تكاد تنتصف ولم أفتح منقاري بعد، تنحنحت، وقلت: جئت أراود محفظتك على نفسها.
فانتبذ الشيخ من دعوى كان يدرسها، وصغى إلي بوجهه وصدره، وقال مستفهما: ماذا تعني؟
قلت: جئت أسترفدك بعض ليرات قد أكون أحوج منك إليها.
فضحك ضحكة لم يقصد فيها، وقال لي: على الشركة أن تدفع لك، وليس علي!
فقلت: لقد حدث انقلاب في جيبي بوأك منزلها، فأصبحت الشركة أنت وأنت الشركة، ومحفظة الشيخ «أمين» لا تحتاج إلى حجة أدلى من هذه لترغي وتجفئ بزبدها، فما هي إلا خمس ثوان حتى رأيتها تمج من شفتيها ست عشرة ورقة سورية وليرة عثمانية، احتنكت ذريتها كما يحتنك الجراد الزرع، كأني حلفت ألا أبقي منها ما يخبر عنها، وكأني آليت على نفسي أن أغادر جيب الشاعر المحامي أعجف طاويا كما كان جيبي، وأن أعكس الآية عكسا، فبدل أن أدفع له أنا يدفع لي هو.
سمعته ليلة، وقد ظهر المنبر في الحفلة التذكارية للمرحوم «سليم سركيس»، يلقي قصيدة أطيب من العافية، فحبست نفسي عليه حتى أتمها .
بالله تراه وهو يلقي فقد تظنه وهو يترجح كالمبخرة أحد الشعراء في شيع الأولين. أشرب في قلبه البلاغة في الكلام، فإنك لترى على شعره صبغة العروبة الصافية، وإنك لترى أبيات قصيدته غرفا من فوقها غرف.
يكره التفريط في لغة الأجداد، ويزعم أن الأدب الجديد إنما هو متاع إلى حين، فهو لا ينحط على قصيدة من قصائد اليوم إلا ويراها خاوية على عروشها، بالغة من الهزال النهاية، ذلك أنه لا يريد شعرا عرفه الخيال وطيبته الرموز، ولو قدر له أن يرد على اللغة فطرتها لأعادها سيرتها الأولى.
قال لي يوما إنه دخل متحف اللوفر في فرنسا ليشهد روائع الفن، فأعيته سليقته القحطانية عن تفهم الرموز في تلك الأشباح، فرد على عقبه.
ومعظم أدب اليوم يغني فيه الخيال والرمز إلى جانب السليقة والعاطفة والفن، فلا غرابة إذا ضربت عليه المسكنة في عرف الشيخ «أمين».
ولكن الأمر الذي يدهشنا في عقيدة الشيخ الشاعر هو أنها لا تمت بصلة إلى شعره الذي يرين عليه الخيال وتجمح فيه العاطفة الرمزية، إذن فلقد كان عليه وهو الذي فتح في الخيال والصورة فتحا أمكنه من ناصية الشاعرية الخالدة، الشاعرية التي تمشي وشاعرية اليوم في حلبة واحدة، بدليل هذين البيتين المثقفين:
زعموها حربا يصان بها الحق
وأخفوا حقيقة في الفؤاد
مثلما تنثر الزهور على النعش
لتخفي ما تحته من فساد
كان عليه ألا ينظر إلى الأدب الحديث نظرته هذه، وأن ينزل رجاله العاملين المنزلة التي يسرتها لهم الثقافة، والتي لم يترقوا في قمتها إلا على مسالك دامية أكلت من أفلاذهم، وشربت من دموعهم.
إن الشيخ «أمين تقي الدين» يعرف هذه الحقيقة، ويعرف أن نبوه عنها إنما هو متاع إلى حين.
فليكس فارس
على وجهه قطرة جمال تأخذها العيون، وفي مقلتيه يواقيت من الألم لها في تموجات الحدقتين خفقان النجوم على أديم المياه.
هو من الخامسة والأربعين على سنة أو سنتين، إلا أن نزوات الشقاء خلعت على هيكله غبار الشيوخ، فهو فتى مسن. على جبينه خيال فكرة نارية، يحاول أن يتجسد فتعترضه الغضون، كأن هذه الآثار - وهي بقايا الهيكل الروحي الذي بناه العهد الحميدي للإصلاح وأبى العسف إلا أن يهدمه - آثرت البقاء على عفائها فاستعدت على ثورته ذكريات الماضي الأليم.
راض بما قسم له، لم يستعجز نفسه في يوم من الأيام، ولكنه عجم عود بلاده فرآه صلبا على الأحرار - ولا يعرف العود كالعاجم - فوقف بحيث لا تراه بلاده، وقد تكون وقفته هذه وقفة الليث المتحفز للوثوب.
لم أره مرة رخي الصدر؛ فهو في يد العذاب أنى التقيته، وقد يكون هذا الشيطان سجية فيه أو ظلا له.
لا أهم به إلا ويبادرني بقوله: «بي ألم ... وتعب ويأس ...» ثم يقبض على كتفي بجمعه ويستطرد قائلا: «أخاف عليك من جهودك، فلا تسرع بحلب جبينك وقلبك؛ لئلا تجف أثداؤهما وأنت بكر الآمال فتصير إلى ما صرت إليه»، وقد تكون هذه الكلمات إكسير تشاؤمه المستمر؛ ف «فليكس فارس» أمير المتشائمين.
إذا جلست إليه وآنس فيك قلبا وشعورا أخلد إليك، وإلا نبا عنك بلطف وأدب يعميان عليك مجلبة نبوه.
فليكس فارس قلب يتأثر بجميع القلوب؛ لأنه مزيج من جميعها، ودماغ لا يتأثر بأحد؛ لأنه مستقل عن جميع الأدمغة. فإذا حاورته في العاطفة كلمك من جنس كلامك، فإذا أنتما نظيران، أما إذا انتجعت في حديثك جوانب الحجة، فإنه ليظل يدارجك فيها حتى يملكها عليك، فتنبثق عند ذاك عارضة المحامي من بين شفتي الخطيب.
أبغض في أدبه؛ لأنه جلى فيه، وأبغض في بلاده؛ لأنه أحبها، وأبغض في سياسته؛ لأنه أخلص فيها، ولكن هذا البغض المثلث يقود إلى الخلود.
وقد لا توطئ لك هذه الأيام أن تتعرف إلى نفسية «فليكس فارس» إن كنت لا تعرفها؛ لأن هذا الخطيب الشاعر إنما هو رجل الأيام العصيبة، لا تراه إلا في الساعات السوداء وليالي الهول والاضطرابات.
إذا رغبت أن تعرف من هو «فليكس فارس» فلن يقدر لك ذلك في بيته، ولا في الشارع، ولا في المجتمعات، فهو هناك كسائر الناس.
إذا رغبت أن تعرف من هو هذا الرجل، فينبغي لك أن ترى مقلتيه وقد اختلج فيهما بريق نفسه وجبينه، وقد تدلت على أحد صدغيه ذؤابة مشعثة من شعره كأنما هي - عندما انحدرت إليه - استمدت منه بعض ثورته، وفمه الجميل وقد تدفقت منه عقائق من النور جميلة كأن بين شفتيه وما يتدفق منهما نسبا من أنساب الجمال.
إذا شئت أن تعرف من هو هذا الرجل، فانظر إليه على قمة جماله، فقمة هذا الرجل هي المنبر، أما اليوم وقد أقوت المنابر إلا من الدجالين ونفي الأحرار من قممهم، فلن يقدر لك أن تتعرف إلى «فليكس فارس»!
في سنة 1910 - بعد إعلان الدستور العثماني - ارتفعت الأصوات لتوحيد العنصرين الإسلامي والمسيحي في الشرق، فكان أقدس هذه الأصوات وأشدها مضاء في النفوس صوت «ولي الدين يكن» في مصر وصوت «فليكس فارس» في سوريا ولبنان.
ندرج هنا كلمة ل «ولي الدين» اختتم بها مقاله الخالد الذي نشره في «المقطم» تحت عنوان «الشرق الأدنى» وأنحى فيه باللائمة على الأقباط والمسلمين لتفرق كلمتهم، قال: «يا شرق يا مستهل النسب الآدمي ومهبط الحكم، ويا منبع الفتن ... وددت أن يكون الساعة معي الرجل الحر ذو النفس الطاهرة «فليكس فارس» فنندب الشرق معا ونرثي عزه ونبكي حريته، هو يبكي مع رفاقه ببيروت، وأنا أبكي مع رفاقي بمصر. فهل تتلاقى نوحات ونوحات إذا انتهت إلى العالم الأعلى؟»
فأجابه «فليكس فارس» بمقال طويل نشره في جريدته «لسان الاتحاد» جاء فيه:
ليلعنك قومك وليلعني قومي! إن بين غيرتينا وأنانيتهم مجال الخلود.
أجل، وبين روح «ولي الدين» وروح «فليكس فارس» قرابة مقدسة، هي قرابة النبوغ. •••
و«فليكس فارس» شاعر في صدره نفس من روح الله، فلا ينسج أبياتا إلا ويبطنها بخيوط من السماء. «فليكس فارس» قصيدة في نفسه، فمقلتاه بيت من الشعر، وجبينه بيت من الشعر، وفمه بيت من الشعر، وانحناء رأسه بيت من الشعر، وكل ما فيه بيوت من الشعر الجميل، فكأن الله رغب يوما في نظم قصيدة فنظمها فإذا هي «فليكس فارس». إلا أن شعر «فليكس» وإن يكن قد ارتفع إلى مستوى الشاعرية الخالدة، فهو ينحط في جماله عن القصيدة الفانية التي نظمها الله، إذن فالله أشعر من «فليكس».
شعر «فليكس فارس» خالد؛ لأنه روحي النشء، صادق العنصر، فهو لا ينسلخ عن قلبه إلا ويسلخ معه فلذة وقطرة.
من مرجع حبي إلى قلبها
وما بهذا القلب غير المجون
من يبعث التذكار في فكرها
من يرجع الحب لتلك العيون
وليس في التذكار غير العفا
وليس في الأحداق غير الجنون •••
يخالني الناس أمشي في ربوعهم
وما أنا غير طيف بين أرماس
فإن جلست إلى الإخوان مؤتنسا
لمحت ذاتي وهما بين جلاسي
أرادوا الكأس عن سكر تجود به
فلا أرى غير وهم السكر في الكاس
في كل بيت من هذه البيوت قطرة من الدم يراها كل من سبر مجلبة الدموع، وشرب صبابة الألم، و«فليكس فارس» شاعر يحس بقلبه ودماغه، فإذا انتفض شعره من الدم، فلا ينتفض من الفكرة، من الفكرة الإنسانية الصادقة. قال يخاطب الروح:
أنت رمز الكمال حق خفي
تتجلين في الضلال الصريح
صورة الصدق في فؤاد كذوب
لمحة الحسن في المحيا القبيح
قد تجليت لي بشكل صريح
قبلما جئت عالم التلميح
وقال:
لا تغمضي جفنيك إن تنظري
إلى جبين قد عراه الشحوب
ولا تميلي عن زفيري فما
الأنفاس إلا نبضات القلوب ... فما عيون الزهر فتاكة
إلا بنور الشمس عند الغروب
وما بها عطرا سوى ما استقت
من زفرات الريح بعد الهبوب
ستمر القرون طاوية في نسائج هبواتها أحلام كثيرين من الشعراء وقلوب مواكب من المتألمين، ستمر مخرسة بدوي مراكبها وصهيل أفراسها طوائف لا تحصى من الأناشيد، ولهذه الأنات الثائرة صداها البعيد في مسامع الأجيال وسماعها الشجي في أبواق الخلود! وستمر القرون وتعقبها القرون، وأعقاب البشر يرددون ما قاله «فليكس فارس» في القرن العشرين:
وطني الدنيا وديني خالقي
وأخي كل شقي في البشر
بشارة الخوري
وجه عصبي، يتقاسمه الحنان والتعب - وقد يكونان تراث إحساسه وثورته - وعينان وقادتان أقوت حدقتاهما إلا من البريق، فكأنهما لكثرة ما أراق ماء شبابه في عهد الحب والشباب تولدت فيهما إيماضة من الكهرباء.
جبين منفرج الصدغين، نافر الأعراق، كأنما هو صفحة من الشعر حفرت على صفيحة من النحاس ولم تنشر بعد، إلا أنها لا تمشي في حلبة «المسلول» أو «عروة وعفراء».
أما هيكله - وقد جربه الدهر في زمني رخائه وبؤسه - فقد رق كثيرا حتى لتخاله بيتا من قصيدة «المسلول»، وحتى إذا عثرت به الأبصار من بعيد وقفت عليه، وقد اختلط عليها شكله، فلم يفسح لها أن تجزم في أمره، أيكون جسدا من لحم ودم، أم وتدا متمايلا من تلك الأوتاد التي يلبسها الناطور بعض الأقمشة ويركزها في وسط الكرمة فتتطير بها الثعالب وتفر مذعورة؟
نفض جملة قصائده وهو في الخامسة والثلاثين من سنيه؛ أي: في عهد الاضطرابات والهول، يوم كلب عليه الزمان وحالفته القلة، أما اليوم فهو يطلع على السابعة والأربعين، وقد ورم كيسه، فلم يبق يحفل بالشعر، إلا أن ريقه لم يزل يتحلب لبعض المقاطع في بعض الأحايين.
غريب الأطوار، يجمع بين نبالة الكرم ومعزة البخل، فتراه حينا يسلخ من جيبه عشر ليرات ينقدها ثمن ليلة خمر ويراها حلالا على الرفاق، وحينا يخفي «علبة السكاير» في دهاليز الصحف المنتشرة على أديم منضدته؛ لكيلا يترك لجليسه سبيلا إلى خطف لفافة منها.
متسع الصيت في عالم الشعر، مبسوط العلم بمداخل البيان، إلا أنك لا تقع على قصيدة من قصائده برئت من قصائد الفرنج ك «موسه» و«لامرتين» و«بول فرلين»، فهو من هذه الناحية أكبر مقتبس عرفته العرب.
إن للنفوس مزايا مستقلا بعضها عن بعض، ولكل مزية طابع يميزها عن أختها، وفي كل شاعر مزايا متباينة قد يستوي لبعضها ما لا يستوي للبعض الآخر، فلا ينبغي لنا مثلا أن نجزم بين عنصرين قويين فنقول هذا أعظم من ذاك، ونكتفي بأداء هذا الرأي، بل يجب على من يترسم قوى العناصر أن يتخير واحدا من جنس الآخر ليحق له أن يكون حكما بين الاثنين.
هناك من يزعم أن «المتنبي» أشعر شعراء العربية على الإطلاق! وهذا خطأ مبين؛ فقد يكون «أبو تمام» أشعر من «المتنبي» في العاطفة، كما أن «البحتري» أشعر من الاثنين في الوصف، وكما أن «المتنبي» أسبق الشعراء حلبة في الحكمة.
لم أقرأ «للمتنبي» ولا لشاعر من شعراء القرن الرابع للهجرة أبياتا في العاطفة أمدتها الشاعرية بمثل ما أمدت به أبيات «أبي تمام» التي قالها في رثاء أخيه وهي:
يا يومه لم تدع حسنا ولا أدبا
إلا حكمت به للحد والكفن
لله مقلته والموت يكسرها
كأن أجفانه سكرى من الوسن
يرد أنفاسه كرها وتعطفها
يد المنية عطف الريح للغصن
يا هول ما أبصرت عيني وما سمعت
أذني فلا أبصرت عيني ولا أذني
لم يبق من بدني جزء علمت به
إلا وقد حله جزء من الحزن
كان اللحاق به أهنا وأحسن بي
من أن أعيش سقيم الروح والبدن
كما أني لم أقرأ ل «أبي تمام» ولا لشاعر من شعراء القرن الرابع للهجرة أبياتا في الحكمة نجمت من المعدن الذي نجمت منه أبيات «المتنبي» التي قالها في «سيف الدولة» والتي نكتفي بذكر هذا البيت منها وهو:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ولم أقرأ لشاعر من شعراء هذا العصر أبياتا في العاطفة مبتلة كلماتها بدم القلب كهذه الأبيات التي قالها «بشارة الخوري» في وصف المسلول وهي: ... ويمج أحيانا دما فعلى
منديله قطع من الكبد
قطع تآبين مفجعة
مكتوبة بدم بغير يد
قطع تقول له تموت غدا
وإذا ترق تقول بعد غد
كما أني لم أقرأ لشاعر من شعراء هذا العصر أبياتا في الوصف دقت ولطفت كهذه الأبيات التي قالها «خليل مطران» في وصف الليل، وهي: ... فرأيت الظلام يلطف منحلا
ويلقي علي ظلا دقيقا
ورأيت الظل الدقيق محيطا
بي كما يحضن الشقيق شقيقا
ثم لاحت ذكاء لي فتولى
حلك الليل بالضياء مسوقا
وكما أني لم أقرأ لشاعر من شعراء هذا العصر أبياتا في القوميات فتح لها في الجلال والحكمة ما فتح لهذه الأبيات التي خاطب بها «شوقي» «النبي» الفاتح، وهي:
يا فاتح القدس خل السيف ناحية
ليس الصليب حديدا كان بل خشبا
إذا نظرت إلى أين انتهت يده
وكيف جاوز في سلطانه القطبا
علمت أن وراء الضعف مقدرة
وأن للحق لا للقوة الغلبا
إذن فعنصر «بشارة الخوري» هو العنصر العاطفي الذي يشرع صاحبه به على مورد الشاعرية المتألمة، ولكن هذه الشاعرية الحقة في قصائد «بشارة الخوري» ليست ملكه وحده، فلقد يقاسمه إياها كثير من شعراء الفرنج الذين سقوه وأطعموه وكانوا السبب في شهرته.
قد لا تصادف شاعرا يغضب لكلمة نقد ترسل في شعره ك «بشارة الخوري»، فهو من هذه الناحية أضعف خلائق الله، ولقد يحدره الغضب على من يتعرض له إلى استمطار ألوان الشتائم عليه وعلى عياله.
ولقد تبلغ به الحدة أحيانا إلى الزوغ عن حده وعن الحق الذي قسمه له الله؛ فيزعم أن شعر المعاصرين إنما هو تريكة شعره، وأن كل قصيدة تخرج من مخيلة الشباب الذين ألفوه إنما هي دولة من بنات أفكاره بين الشعراء فيهم.
راجي الراعي
شرارة من دماغ النبوغ، وقطرة من ندى العبقرية، ذلك هو راجي الراعي. بالله تراه وهو يمشي، فهو غريب الشكل، مترهل الهيكل في أعصاب، تحيط به هالة من العيون، إذ لا يقع مثله إلا في الندر.
تلتقيه في الطريق فتحييه: مرحبا يا أستاذ.
فلا يأبه لتحيتك أو لا يسمعها، فهو في يد التفكير أيان وجد وأيان وجدته، وهو قد يكون عالقا بأذيال «قطرة» يجمعها إلى بحره فتحييه: مرحبا يا أستاذ.
فلا يسلخ عينيه عن الأرض، إذ توقف مجاري الهواء صوتك بينك وبينه؛ لئلا ينبهه صفاء باله فيضيع عليه قطرته، أما إذا أنزل بك البخت حظا موفورا فحملت درجات الهواء صوتك إليه، فإنك لتسمع من حنجرته عنة ضعيفة هي جواب تحيتك، وكثيرا ما تظل هذه التحية تتزحف مع الأثير وتتسلق تياره حتى تصير إليه وهو منك على عشرين خطوة فيلتفت فإذا أنت قد ضعت بين حشد من الناس وإذا عنته قد ضاعت عليك.
لا يتردى بثوب غير ثوبه، ولا يذهب بنفسه ذهاب المتكبرين، فهو مفطور على سجية الصدق، لا يعمد في أمر إلى التكلف: ربي كما خلقتني.
أكل جبينه نصف وجهه، ولو قدر له أن يطعمه النصف الآخر لما تردد أن يضحي بأنفه ومقلتيه وفمه لهذه الوليمة، فهو يذهب إلى أن الوجه الحقيقي إنما هو الجبين.
عينان عميقتان مستديرتان مئونتان بالذكاء والنار، تغدقان على الحياة نظرات السخرية والبراكين؛ تانك عيناه، وفم تحير بين الجمال والقبح، إلا أنه تمنع من قبحه وجماله بحصن من قوة الكلام؛ ذاك فمه.
يدخن النارجيلة ويضمر لها كلفا راسخا، فلقد كانت سميرته في ليالي العزوبة ولما تزل، ويشرب الخمرة الحمراء من غير أن يجد مضضا في إتباع الكأس بالكأس، ولقد ارتفعت الكلفة بين خمرته ونارجيلته، فلا تخف إليه هذه حتى تلحق بها تلك، وقد يكون أطيب أوقاته الوقت الذي يأنس فيه «بالخمر والجمر».
إذا علق نظرك برجل في نحو الخامسة والثلاثين، يدلف في سيره دلف الضفدع، وعيناه مثبتتان لا تعلم في أي شيء على الأرض، وعلى رأسه قبعة فرنجية تفرد بلبسها بين جميع الرجال، وفي يده اليسرى حقيبة «دوسييه» مورمة الجوانب، أو إذا أحلك أحد المقاهي، وقد حشرج النهار، فأصاب نظرك رجلا منزويا، تألبت عليه صحف بيروت ومصر، وجاوره كرسي استعمرته قبعة من الجوخ، فقل هذا «راجي الراعي».
لم يتناول الأدب بحسب ما تناوله الكثيرون من أدباء عصره، فمن يلق عصا التجوال في «قطرات ندى» أو «خمر وجمر» لا يبق في مخيلته فضل للشك في أن ل «راجي الراعي» طريقة في الأدب هو فيها نسيج وحده.
لا تعلم بأي سماء يناط خياله، فهو عال على اللحظ، ولقد يظن من تعييه الثقافة الصحيحة عن تفهم ما انطبع في قطراته من حقائق الخيال وألوان الصور أن معظم عباراته لا يستوي لها معنى، ف «راجي الراعي» لا يكتب للسوقي، فمائدة خياله مبسوطة لناضجي العقول؛ إذن فلا يضيره أنه لم يفتح في سذاجة الفكرة وبساطة القول فتحا يمكنه من نواصي العامة.
إذا ظمئت إلى الفكرة النبيلة والخيال المهذب والأدب الخالد، فبالله لا استرفدت إلا «قطراته»، فقد تقع فيها على قصيدة في سطرين وعلى حكمة رائعة في ثلاث كلمات، وعلى صورة ملونة في كلمتين.
إليك هذه القصيدة:
لا يجوز أن يكون تمثال الحرية من حديد، فالحديد يذكرك بالقيود التي من أجل تحطيمها يقام ذلك التمثال.
وإليك هذه الحكمة: «إذا أفرغت المعد امتلأت السجون.»
وإليك هذه الصورة: «الخلود إرادة ثائرة على الموت.»
ألقت إليه الأفكار مقاليدها، فهو لا يتحين فرص القريحة ليكتب، بل هي تتحين فرص فراغه لتهرول إليه.
إذا جلس إلى القلم تحفلت حوله طوائف من الصور في ألوان شتى، فيرمقها بخاطر سريع وفي عبارات لاسلكية، وقد تتبادره الأفكار فلا يبقى في قوسها منزع ظفر، أما إذا استوى على فكرة قديمة رثة فيأخذ يعالجها بريشته الساحرة ويذر عليها كبريت الجمال من عبقرية فنه حتى يجدها.
1
قال «ألفرد ده موسه»: «إن طرفة الفن يجب أن تعيش من ناحيتين؛ الأولى: أن يستسيغها الخبيرون، والأخرى: أن يستسيغها الجمهور، وفي كل عمل يقدر له أن يبلغ إحدى هاتين الناحيتين موهبة ناقصة، أما الموهبة الكاملة فينبغي لها أن تبلغ الاثنتين معا.»
إذا صح هذا الزعم فإن الخلود لسوف ينضو عنه «قطرات» «الراعي»؛ لأن هذا الشاعر الحكيم تحمل بخياله الرحب عن رجال عصره أو عن معظمهم، ومعظم هؤلاء يصدفون عن العالي من الكلام ولا ينتحون إلا على ما أتاحت لهم الثقافة الضئيلة أن يتناولوا منه.
وحتى يصح هذا الزعم كان حريا بالخلود أن يشيح بوجهه عن الشاعر «ألفرد ده فينيي» ويقمره حقه، فلقد صرف هذا الشاعر العظيم بياض أيامه وسواد لياليه في إراقة ماء شاعريته على صحائف أنكرتها غباوة الأغبياء في زمنه، وما أكثر هؤلاء في كل زمن، إلا أن الأجيال نقادة تختار لها الجياد.
يدهشك في قطرات هذا الرجل أنها بجملتها في مستوى واحد، فلا تقع على قطرة منها تنحط في حلبة الجمال عن أختها، ولقد جبت جيوب «قطرات الندى» وقطعت المسافة التي تبتدئ ب «كيف أكتب؟» وتنتهي ب «إنني لأتساءل: في ذمة من ذهب الذين قضوا في سبيل الجهل قبل أن بلغ العلم شأوه الحالي؟» فاختلط علي؛ أية فكرة أنضج من الأخرى؟، فكأن هذه الروح قد طبعت من يوم مدرجها على عنصر سليم، وكأن الخيال السامي آلى على نفسه ألا يحول معها عن عهده ساعة واحدة.
و«راجي الراعي» محام حساس، ينظر إلى القضاء من الوجهة الإنسانية، وكثيرا ما يمزج الشريعة بالخيال؛ ليوفق بين اصطلاحات الناس وضمائرهم.
قال: «يجب أن يكون القاضي مع رصانته ممثلا، وتمثيله قائم بأن يكون له شخصيتان: الشخصية التي يظهر بها بين الناس، والشخصية التي يتجلى بها على منصة القضاء.»
وقال: «ولا يعيب مهن المحاماة والطب والهندسة إلا أمر واحد، وهو أنها لا تبني بناءها إلا على الأنقاض؛ المحامي يطلب قتيلا أو جريحا، والطبيب يطلب عليلا، والمهندس يطلب جسرا يتداعى.»
إذن ف «راجي الراعي» حكيم وشاعر حتى في مهنته، ولو قدر له أن يطلي القوانين بصباغ الشاعرية أو أن يلقحها بلقاح الحكمة لاستبدل بشرائع البشر «سفر سليمان» وبقوانينهم «إلياذة هوميروس».
ستسقط الأجيال رعاية الكثيرين من أدباء هذا العصر، وتظل فكرة «راجي الراعي» - على حد قول «البحتري» - أبقى على الزمن الباقي من الزمن.
إلياس فياض
تردى من رأس الكهولة إلى الشيخوخة، فهو في الستين أو أعلى سنة منها. دخل جسده في وقب، إلا أن بريقا من كوكب الشباب ما يزال يعصم مقلتيه من ظلمة العمر، وقد يكون هذا البريق صبغة الشاعرية التي لم يبرح لها في قلبه مشعلها الحي.
تدلى إلى كرسي في الوزارة اللبنانية وانحط على خشبة في مجلس النواب، ولكنه لم يرتفع بهما عن مستوى الشاعر «إلياس فياض»، فهو من المحافظين على مقامهم الحقيقي، لا يحادد فطرته أو يتآمر على تلثيمها بلثام المراكز شأن الذين لا يحفظون في نفوسهم حرمة لنفوسهم.
إن الشاعر الصادق ليتغنى بمقامه عن أي مقام، ويعلم حق العلم أنه ما من قمة في العالم ترتفع على القمة التي بوأته السماء ذروتها.
إذا أخلد إليك يحدثك عرفت أنك في حضرة رجل من وجوه الثناء، لا يتزيد في كلامه ولا يغالي، وإذا حدثك عن ماضيه نفض جملة كنائنه فلم يبق سهما في كنانة .
علي وعلى أعدائي يا رب!
لا يتحيف من حق أحد؛ لأنه لا يريد أن يتحيف أحد من حقه، وإذا وقع على شيء جميل يقول: هذا جميل، ويجهر بقوله، فلا يتزحف إلى ستر الحقيقة بستار من الحسد شأن الكثيرين من الشعراء الذين لم ينض بيدهم إلا مجاجة من الشعر، فلا يستوون على حسنة من حسنات القريب إلا وترهف الغيرة أعصابهم فيلوون بها ألسنتهم.
خلص في شعره إلى بعض غايات الأدب، وهذا فتح من الله ونصر مبين!
خبط ورق الشعر الإفرنجي فركم منه كوما مهر بها ديوانه العربي، ولكنه أخرج بعضها في بز جميل أنساك فن النساج الأول، وهذا لعمري بعض الفتح والنصر.
إذا قرأت شعره استمرأت مرعاه الخصيب، إذ إنك لتقع فيه على سهولة في اللفظ ووضوح في التعبير وسمو في المعنى. فمثل شعره مثل غدير صاف لا تشقى العين في رؤية الحصيات الآمنة في قعره.
وقد يخيل إليك أن هذه الصنعة السائغة في جعل الكلام قريب التناول إنما هي من المسائل الهينات، ولكن ما أهون الحرب على النظارة!
وإذا جلست إليه جلست إلى قصيدة من قصائده، فحديثه يأخذ إخذ شعره في الطلاوة، إلا أن هذا يربي على ذاك بجمال الألوان.
يساور المعاني مهما تناءت، فيكبح جماحها، ويأتي منها بخلاق وافر، فلا تدمدم عليه كتائبها ولا تثني صدرها عليه؛ إذ تعرف أنها لن تكون داخرة في قصره السحري، ولن يلبسها في خدره غير ما تعودت أن تلبسه من تحف الخز والديباج.
وللنخيل منظر مهيب
تراع في جماله القلوب
فوق الضفاف ظلها رهيب
صفا بصف زانها الترتيب
من كل جبار عظيم القدر
تحسبها مردة طوالا
تحت مظلات زهت جمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا
سحرها النيل فلن تزالا
واقفة هنا بفعل السحر
وكانت الأكوان في هجوع
من حولنا بادية الخشوع
والزهر في السماء كالشموع
قد أوقدت لعرسنا البديع
والليل قسيسا لعقد السر
ثلاثة مقاطع من قصيدته الساحرة «ليالي النيل» أراها على فقري أغلى ثمنا من جواهر شاه العجم، وأرفع رأسا من ناطحات السحاب في مدينة العجائب!
إلا أن المقطع الأخير جنى على الشاعر فحرمه لذة الأبوة، والحكاية أن إكسير الزواج سرى يوما في عروق الأستاذ «فياض»، فصحت عزيمته عليه، وإذ هو يبحث عن عروس من لحم ودم عثرت مقلتاه بهذا المقطع، فانتبه إلى أنه لم يبق أعزب، وأن ليلا من ليالي النيل المقدسة عقد له السر على غزال من بني الإفرنج، فحال عن فكرته عملا بالآية الكريمة هذه:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .
ولكن هذا الإكسير ما لبث أن دار دورته الثانية في عروق الشاعر فملكها، على أن القسيس الذي عقد له في هذه المرة لم يكن من نسل الليالي، ولم تكن الشموع التي أوقدت له من هيكل السماء، ولم تصمت القصور والدور في عرسه، ولم تهتز موجات النيل سرورا به، ولم يتنهد الماء وترجع الشواطئ وتترجرج «الذهبيات»، ولم يغضب «فياض» في هذه المرة على الصباح الغادر كما غضب عليه في عرسه الأول، ولم يعرض عليه شاعر «مفلس» خمسمائة جنيه جزاء زواجه كما عرضها عليه «خليل مطران» في المرة الأولى.
حبيب جاماتي
درج في لبنان وتدرج في مصر، فهو يناصي بخلقه أعنان إباء الأرز، ويجاري بسباطة قلمه سباطة ماء النيل.
خلعت عليه الأيام خمسا وثلاثين حجة.
على جبينه الأسمر طيف من الكآبة، وفي مقلتيه المنفرجتين لمع من الذكاء، وعلى مرشفيه الجميلين عذوبة تفرط في الحنين والحنان.
ملي الحب في تباين ألوانه، وانتحت عليه النساء انتحاء الظباء على معين، ولو وفق في مشتهيات أدبه كما وفق في مشتهيات قلبه لعلا في المال على لحظ المترفين.
عصبي المزاج إلى حد الجنون، سريع في غضبه، سريع في رضاه، وقد تكون هاتان الخلتان دليلا على سلامة طويته.
أحب لبنان حبا تدلف به إلى الغرام، فلذلك تسمع من صرير قلمه أنة الغريب وحنة المشتاق.
زواه التطرف عن جوانب الحكمة والتعقل، فهو متطرف في سياسته، متطرف في أدبه، ولقد أداه خلقه الغريب إلى طلب الجنرال «سرايل» للبراز عندما أطلق هذا مدافعه على دمشق، وذلك على يد جمعية الصحافة بباريس، فرفض.
نجم من بيت وجاهة وفضل، فهو كريم النبعة، مفطور على خلق صقل بما تهيأ له من أسباب التهذيب، وما تناهى إليه من عزة النفس.
ملم بأطراف العلوم التي يحيط بها زمانه والتي لم يفتح على كثيرين أن يبسطوا بمداخلها، إلا أنه آثر الأدب حرفة له وإن يكن سود اليد البيضاء ما بينه وبين دهره.
هو اليوم في جريدة «البلاغ» المصري لسان حال الوفد، وله تحرير «روز اليوسف» ضلع صليب، وفي «مصر الحديثة» جولات خطرة.
أما حياته فهي حياة كل أديب يستشعر الأدب فوق كل شيء، لا يسير في طرق معيشته على نظام، فهو ينام ساعة يحلو له النوم، وينهض من فراشه ساعة يستطيب النهوض، ويتناول الطعام ساعة يجوع، أو ساعة يفيق من سبات الخيال فينتبه إلى أن هناك جوعا وهناك غذاء، إذن فهو عدو بطنه، يأكل اليوم في الساعة الثانية عشرة، وغدا في الساعة الثالثة، وبعد غد في الساعة العشرين، وقد لا يتناول ما يسميه الناس طعاما، وهكذا في النوم، وهكذا في النهوض.
ضعيف اليقين في الناس إلى حد اليأس، وقد يكون ضعف يقينه فيهم سببا لاستعدائه النفس على الجامعة البشرية وعلى المرأة بوجه خاص، فهو يحب النساء ويمقت الزواج.
إذا ضمه مجلس آدمي يخلد إلى الصمت حتى ينتفض المجلس إلا من المخلصين، فيزجي عنه الموقف الأول، وينطلق في أداء النكتة إثر النكتة حتى يرد على القوم الزهو والغبطة. يشرب الكونياك، وقد يدمن في شربه، ويدخن كثيرا. أما القهوة فهو يستحن إليها إذا جلس إلى قلم، فتراه يتبع الفنجان بالفنجان.
يتقصى حوادث التاريخ ولا فرق عنده أكان أمينا في سردها أم غير أمين، فمن يقرأ «تاريخ ما أهمله التاريخ» يتضح له أن المؤلف إنما هو روائي أكثر منه مؤرخا.
يكتب ليعيش، ويعيش ليكتب، فهو في أدبه رجلان: تاجر وأديب، أديب في قصصه التي حذا بها حذو الكاتب الفرنسي «ده موباسان»، وفي أبحاثه التاريخية التي ضمنها فكرة تمت إلى الهدم والبناء، وتاجر في رواياته التمثيلية أو في بعضها.
لقد عرب ما ينيف عن ثلاثين رواية أخرجتها فرق رمسيس، وجورج أبيض، وفاطمة رشدي، وعمر بك سري، وألف خمس روايات: «عبد الرحمن الداخل»، «إبراهيم باشا وفتح سوريا»، «الثورة»، «غادة أنقره»، و«عنتر».
أما «عنتر» فهي الرواية التي مثلتها فرقة رمسيس في بيروت، ولو لم تظهر ممسوخة على مسرح التياترو الكبير لجرت في النجاح شأوا بعيدا وكان لها من الشهرة ما كان لرواية «شكري غانم» في باريس، ومتى علمنا أن شركة ألمانية اشترت هذه الرواية لترجمتها إلى اللغة الألمانية اتضح لنا أن مؤلفها إنما كان فيها أديبا لا تاجرا.
في سنة 1924م فتح «المقطم» بابا جديدا في عالم الصحافة دعاه «النقد المسرحي» وعهد به إلى «حبيب جاماتي»، فكتب فيه سلسلة طويلة كانت فاتحة عهد جديد في الصحافة؛ إذ إن كثيرا من الجرائد المصرية شأت شأو «المقطم» وفتحت هذا الباب في أعمدتها.
تمكن من اللغة الفرنسية وله فيها جولات في صحف باريس، وفي «الاجبت نوفل» و«الاسبوار». أما جولاته في هاتين الصحيفتين فقد نفض فيها كنائن سياسته المتطرفة التي أدت الحكومة إلى منع الصحيفتين من دخول سوريا ولبنان، وكان بعض هذه الجولات سببا لإحالته إلى النيابة.
إذا انتجعت داره في شارع الملكة نازلي لا ينحط نظرك إلا على قليل من الرياش، ولا تقع إلا على أهرام من الصحف والكتب والمجلات، نذر لحراستها طوائف من اللعب، فهناك عبد أحمر الشفتين قرفلي الشعر، يضحك لك ضحك البرق في ليلة قاتمة، وهناك آنسة مبطنة أحشاؤها بمندوف من القطن، تجيل فيك عينين زرقاوين ساخرتين، وهنالك دب سفوح الجفن يتخفى لك وراء صحيفة «البلاغ» أو «روز اليوسف»، فكأن هذا الأديب الغريب الأطوار أراد أن يجمع بين خيال الأدب وحقيقته، بين أحلام الأديب ويقظته، فأشار إلى سخريات الحياة بأن تجاور نتاج الأفكار.
كرم ملحم كرم
في السابعة والعشرين. معدل القامة، حدرت إليه الطبيعة بغدق من السمن فنال منه ما أيقن بطيب وجوهه وخلع الباقي.
عريض الجبين، منفرج الحاجبين، منحدر الأنف، نسيق الأسنان، متناسب الوجه، كأنما فمه وأنفه وذقنه وخداه وجمجمته من نسل واحد. أما لونه فلون السحاب المتقطع في شفق الربيع قبل غروب الشمس بدقيقتين.
يزف في سيره زفيف القطار الكهربائي، أما إذا وقف في مكان فيمكث طويلا.
إذا وقع نظرك على فتى يمشي في الناس مشية الناسك في عزلته، فلا يصرف النظر عن وجهته، ولا يصرف من أعضائه إلا قدميه، كأنما هو قطار كهربائي لا يتحرك فيه إلا الدواليب؛ فقل هذا «كرم ملحم كرم».
يغضب بسرعة ويرضى بسرعة، فإذا غضب لا تحتاج إلى أكثر من أداء نكتة لترد عليه صفاءه وزهوه، فهو في غضبه كالطفل المدلل الغنج، إذا مونع في شيء أو عورض فيه اشتعل في وجه معارضه كالقش اليابس فقذفه بأسباب من الشتائم لا تعلم من أين هبت، وتناول رأسه بلعبه وقبعته وحذائه وطربوش والده وكحل أمه، وأقام عليه القيامة. فإذا كوفئ على عمله بشعوذة مضحكة سكن لها على غرارة وقابلها بضحكة ساذجة أنسته هياجه وغضبه.
من رأى كرما في سورة الغضب ولم يضحك؟ من رآه يعالج وجه أحد المنضدين في مطبعة مجلته «ألف ليلة وليلة» بطائفة من الكتب والأقلام والصحائف، بطربوشه وطوقه وسترته، وبجميع ما يكون في متناول يده، ورأى المنضد يثني الضحك ويثلثه ويجن في فنون الحيل ليرده إلى نفسه؛ ولم تأخذه هزة الضحك ونشوته؟
إذا دخلت على «كرم ملحم» في مكتبه وانحط نظرك على كتائب من الأقلام والقواميس والدفاتر والقراطيس وجمهرة من أعداد «ألف ليلة وليلة» مطروحة على الأرض كحطام السلاح بعد المعركة؛ فأيقن أن حربا «ملحمية» جرت منذ هنيهة في مكتب «كرم».
لا يدعي لنفسه ما ليس في نفسه، فهو إذا استنسبته قال لك: أنا من نسل الصحافة.
إلا أنه صاهر الفن الروائي منذ أربع سنوات، فأربى بعدد رواياته على المائتين، وهو في أكثرها صناع اليدين، ولو جئنا نحصي ما أنتجه خلال العهد الأخير لوجدناه في مؤلفاته أخصب أدباء هذا الزمن، غير أنا - إذا استثنينا بعضا من هذه المواليد، وهي أروع ما أنتجه - نجد الباقي منقولا عن الفرنجة، فالأستاذ «كرم ملحم» يأخذ في رواياته إخذ فقيد الأدب المرحوم «طانيوس عبده».
قد لا تبدأ بقراءة رواية ل «كرم» إلا ويستدرجك أسلوبها الرائع إلى القراءة حتى تأتي عليها كلها، في إنشاء هذا الكتاب جمال ينسيك الوقت.
لو استنشق «كرم ملحم» عرف الثروة من وراء التأليف لمهر الأدب العربي من رواياته بروائع يغبطه عليها أدباء الغرب أنفسهم، فهو كلف بالوضع ومضطر إلى الترجمة.
أما من قبيل الصحافة فهو معها كالماء الراح، وهي معه على ما يشاء، إلا أنه قليلا ما يدمث القول في حقولها ما يجعلك تتفاءل شرا في مصيره معها، فعفة الطمعة ستخرجه منها خميصا.
قليلا ما تقع بين أقلام الصحفيين على قصبة بريئة ناصعة كالقصبة الجريئة التي في أنامل «كرم».
وترته الطبيعة حقا من حقوقه، ففي لسانه لثغة لا يرى فيها إلا عيبا من عيوب الأديب، وهو إذا سمع خطيبا قلب كفيه على ليت، ورد يده في فيه كأنه يقول: «أواه على وقفة في الناس!» وقد يكون حنقه على الخطباء ونفوره عن منابرهم ناجمين عن تلك الآفة في لسانه. أما أنا فأعتقد أن الله لم يتحف لسان «كرم» بتلك اللثغة إلا عن حكمة؛ إذ إن وقفة واحدة يقفها منشئ «ألف ليلة وليلة» على المنبر تكفي لأن تطمح به إلى المشنقة أو تخف به إلى السجن.
كان الأستاذ «كرم ملحم» قبل سنوات خلت ينزل في أمره على الإذعان لبعض غلبات الهوى، فلقد كلف منذ صباه بالخرد البيض ذوات الكهرباء القاتل في الجفن المريض، إلا أن الزواج حمله من العفة على محضها، فهو اليوم - وقد أقلع عن فتن الدنيا - بطيء القيام، ينحل إليه عفة الناسك وتقى القسيس.
عصبة العشرة
هل غشيت مرة حانوتا عرضت على حيطانه صور ملونة بأزرق وأخضر وأحمر وأصفر وأبيض وأسود، فتناول نظرك صورة منها تمثل طبقة من طبقات الجحيم استوى «لوسيفورس» في وسطها على عرش من اللهيب ترف به طائفة من الأبالسة الحمر؟ إذا انتحيت إدارة التحرير في جريدة «المعرض» بين الساعة الثانية عشرة والثالثة ظهرا، فإنك ليقف بصرك على مشهد يذكرك بصورة الحانوت.
فناجين من القهوة أعجفت بطنها حناجر «أبي شهلا» و«بشار» و«حبيش» وغيرهم، تقيل في زاوية من المكتب، فاغرة الأفواه، تضرب عليها الذلة والمسكنة. فناجين من القهوة تحلب ريقها الأسود على شفاهها البيض كأنها لا تزال في لاعج من الشوق إلى الملامظ، تنبطح على أقدامها عشائر من الصحون فكت الأشداق رقبة أدمها فلا تجد فيها لماظة لمتلمظ، وفتائت من الخبز تنتشر على أوراق سالت عليها جداول من السمنة والزيت فغطت ما أمدتها به قرائح الشعراء، ولم يقدر لها كفل من النشر، كما تغطي المياه الزرقاء الضفادع في المستنقعات، وقبيلة من الكتب جمعت إلى جمال التجليد وتحف القماش غوالي من متناول الكلام، تغط على المقاعد وفي زوايا المكتب غطيط من نهكه الجهد سحابة يومه.
فهذا «ابن الرومي» - وقد فضت الألسن بكارة حفل من قصائده - تطيب له القيلولة على مقعد وثير، وهذا «ضرير معرة النعمان» - وقد هتك عرض فلسفته فلاسفة العصبة - يرين عليه النعاس في سرير «ابن الرومي»، وهناك «شارل روايه» - رسول العري في فرنسا - ينام على مكتب زميله «حبيش»، والهواء العليل يمرد صفحاته ثنيا بعد ثني، فيرفعها إلى الفضاء كما ترفع الريح تنورة القرويات، وهناك «شكسبير» و«غوت» و«ملتون» يشخرون بين الصحف المصورة على مكتب «أبي شهلا»، هذا يحلم بالفردوس المفقود، وذاك يحلم ب «مفيستوفليس» وقد أزعجته رؤية الدم المتقطر من ذراع «فوست»، وذيالك يحلم ب «عطيل المغربي» وقد راعه مشهد المنديل الذي قدمه «عطيل» لزوجته «ديدمونة» مطروحا في غرفة الضابط «كاسيو».
وفتيان العصبة العشرة وقد أترفهم الدخان والقهوة، فأنستهم القهوة والدخان حرمة المكان، يهش بعضهم على بعض بأساليب من متباين الظرف والنكات ومن مجانة اللسان بفلتات.
فهذا - لا نسميه - وقد ملأت الخمرة فراغ بطنه، فنضح بريقها من مقلتيه الكستنائيتين، فهو من الصحو والسكر في ريبتين، أو إذا خفنا ألا نعدل فبين بين. يستعمر المكتب استعمارا دونه استعمار القاسطين، وإلى جنبه حفيدة «طهماز الفارسي»
1
تتفاءل شرا في مصيرها.
وهذا «بشار» - عفريت العصبة - منبطح على المقعد، وقد ملكه من جميع نواحيه؛ فرجله اليمنى معكوفة كاللام على إحدى عارضتيه، واليسرى على العارضة الأخرى، ولقد أتاحت له فخذاه الجبارتان أن يحتل عارضتي المقعد على بعد ما بينهما، فهو هناك كأنه في سريره، ولنارجيلته المحمومة وجه غريب تحيط بجبينه هالة من النار كوجه إبليس، ولها كركرة رجيمة ككركرة الزفت في مراجل جهنم.
وهذا «حبيش» - أحد عفاريت العصبة - يرقب الحين بعد الحين ليمهر الحلقة بألفاظ زيغ وطيش، لا هي في لغة فارس ولا في لغة قريش، وإذا انحط الأتباع على كتيبة منها انحط هو على جيش.
وهذا «أبو شهلا» - وقد أمره الرفاق فاحتل صدر المكان - يظهر كرسيه كأنه مغشي عليه؛ لكثرة ما ضحك.
وهذا رسام - أحد العفاريت - يصرخ بملء شدقيه: «هاتوا نارجيلة!» فلا يأبه أحد لصراخه، ويرى النراجيل من حوله كإطلاء من حول غدير، فيتميز غيظا وتربد خلقته من الغضب، فيقطع على العصبة الحوار بصراخه: «هاتوا نارجيلة! دقوا الجرس! ألست من العفاريت؟ هاتوا نارجيلة بحق قصائدي ومقالاتي وآرائي وشهرتي ...!» فيستمرون في حوارهم غير آبهين.
إذا انتحيت إدارة التحرير في جريدة «المعرض» بين الساعة الثانية عشرة والثالثة ظهرا، فإنك ليقف بصرك على هذا المشهد، ولكن هيهات يقيض لك ذلك والإدارة في ذلك الحين حرم منيع محظور دخوله حتى على نائب الشباب.
ميشال أبو شهلا
يطلع على الثانية والثلاثين.
أشهل المقلتين، بعيد ما بين العنق والترائب، ذو جبين عريض كأنه قطعة من صدره ينحدر منه أنف مستقيم كأنه صبابة من الثلج تجمدت في سفح جبل أجرد، أو نعجة تردت من قمة الجبل إلى منحدر من منحدراته فوقفت هناك تجيل طرفا حائرا في المهوى السحيق.
عذب الفم والمبسم على تصلب القسمات في أديم وجهه.
ترى عليه ظلين من اللين والشدة، فلا تستبين موضع الأول ولا الأخرى، ولا تعلم فيم مذهبهما وأين يقعان؛ إذ لا تنحط على هذه حتى ترتفع إلى ذاك، كأن بين لينه وشدته خصاما قديما يظل بين مد وجزر، وكأن بين عنصري شدته ولينه نسبا وقربى، فلا شك أن شدته تتحدر من سلالة تصلبه ، ولينه من سلالة الجمال فيه، وقد يكون عنصرا شاعريته يمتان إلى هذين العنصرين بسبب؛ فلقد تقاسم شاعريته جمال وقبح، فتدلى هذا وعلا ذاك إلى أقصى مراتبه وأنبل مستوياته.
قال - ويا ليته لم يقل:
قد حلت شرعة الحياة لقوم
وأمرت لسائر الأقوام
وقال - لا فض فوه:
ولدي! يا ما أحيلاه ولد
ناعم الخدين
قمري الوجه عطري الجسد
أزرق العينين
حسنه باللطف والأنس اتحد
وهو في الشهرين
إنه والملك السامي أحد
بدين الجثة عاليها، واسع فناء الصدر، نافر الثديين، يمشي دفعة دفعة كأن على صدره رحى.
تألبت اللحوم على ساقيه فالتفت إحداهما بالأخرى، إلا أن هذا الالتفاف لم يمسح عنهما جمال التركيب، فلقد سكبتهما الطبيعة في أكمل قوالبها، ولقد يرى عليهما الخبير في سبر قرارة الفن بيتا من أشعاره، فبعض أشعار هذا الأديب الفتى تمزج ألوان الصور بمتانة النسيج. قال يصف وادي حمانا:
يا حبذا الوادي الظليل تشابكت
في حبه الأغصان بالأغصان
يمشي النسيم خلاله واهي الخطى
بندى الصباح مبلل الأردان ... صفت إلى الجنبين منه أرائك
خضر قوائمها على الأزمان
تيجانها درر السحائب أفلتت
فهوت على هام هناك حواني
صور جميلة نجمت من بيت غنى لا نسب، فقد لا يكون للبيت الأخير جد، إذ لا ينتسب إلى سلالة من سلالات المعاني، فهو من صلب دماغه، وفي أدمغة الشعراء أصلاب وأرحام.
والأستاذ «أبو شهلا» كاتب قوي الحجة، يصقل العبارة في مخيلته ثم يرسلها في ديباجة عربية طاهرة.
ترفه الله أو الحظ، وقد يكون لهذا الترف يد أثيمة على شعره، فلقد شاء سوء الطالع ألا تحصن المخيلات وتلد إلا إذا حالفت القلة جيوب أربابها، فما على جيب «أبي شهلا» إذا حالفته مغذية الشعراء وتملته؟
صغت إليه فئة من أدباء هذا البلد، وختمت قلوبها عليه، وإذا بها تؤلف عصبة في كنفه سيكون لها في تحرير وجه الأدب شأن جليل، هي عصبة العشرة.
عشرة من النمرة، لم يتقطعوا أمرهم بينهم، يترسمون خطى الأدب خطوة خطوة، فإن وقعوا على درن كنسوه، وإن واجهوا معترضا وجهوه، وإن استووا على أدب صحيح قدسوه، فهم سلم إن شئت، وحرب إن أردت.
لن تقف عينك على مشهد ألطف وأكمل من مشهد هؤلاء الجنود الروحيين وقد أغري بينهم الجدل والحوار حول فكرة يتخطفونها بأبحاثهم، ولن يقدر لك أن تستنشق روحا أخف من روحهم، وقد رفوا بها في مكتب جريدة «المعرض»، وحلقوا في سماء الأدب تحليق النسور في مذهب الجو. أما العصبة هذه فهي دائرة معارف حية، «ميشال أبو شهلا» أحد أجزائها.
الأستاذ «أبو شهلا» شاعر علم، إلا أنه مقل، قد لا يتجمع لك من قصائده ما يربي على العشرين.
على أن هناك قصيدة ستخرق حرمة الأيام وتعيش طويلا، هي «ظلمة العين». جاء في هذا الطرفة الشعرية:
ولزمت آلامي تمر بها
صور الشباب ومذهب الحلم
متغلغل الإحساس في لجج
زخارة باليأس والسأم
مات الرجاء بمهجتي فأنا
حي بلا أمل ولا همم
وتساقطت حولي المنى قطعا
ما بين منثلم ومنهدم
ألله في ألم فرشت له
عيني فنام مخضبا بدمي
لم ينشد الشاعر بعد أغنيته الخالدة، فلندعه يمهد لها عدة الروح، فهو لم يبرح فتى ويعلم أن الوثبة الكبرى التي عليه أن يثبها إنما هي لزام في عنقه.
خليل تقي الدين
عملاق! يوشك الربعة في القامة - لو رمى ببصره نحو قمة رأسه - أن لا يتصفح بجلاء دقة تكوينها؛ لبعد ما بين رأس هذا وبصر ذاك.
وقد يكون طول لسانه من سلالة أمته الطويلة، فهو لا ينحط على معوج إلا ويعالجه بهذا الحسام الممشوق، على أنه لا يرمي بذلك إلى هدف مدخول كما شاء بعضهم أن يتزحف إلى هذا الزعم، بل إلى الإصلاح المنشود الذي أخذ به من يوم مدرجه، ومن مظاهر الإصلاح الذي فطر عليه وقوفه عند ما ينهى عنه وانتصاحه بنصائح المخلصين.
أخرج إليه الجمال من حقه فجر وراءه ذرية من رباته كما كانت تجر الإماء عند شرائها في أيام العرب، وإنك لتستنشق في شعره من هذا الجمال عرفا طيبا ما يثبت لك أن للقوافي - في هيكل الحسن - طبعا طيعا كطبع الحسان، واستسلاما روحيا كاستسلامهن .
قال:
ومري على الأرض مر النسيم
ورفي على جفني المسهد
وألقي برأسك فوق ضلوعي
تداعب شعر حبيبي يدي
سأرنو لعينيك حتى أرى
خيالي على هدبك الأسود
مها! لا تقولي غدا سأجيء
إليك فإني أخاف غدي
فيم خوفه من غده؟ أتراه يخشى من القدر أن يستفرد رسولا إليه من رسل الجمال فيقمره مهاه؟ لا أعلم؛ فالأحلام المضطربة تفرغ في نفوس الشعراء أوهاما من جنسها تخرج على ألسنتهم توسلات وجهشات. •••
لئن يكن الأستاذ «أبو شهلا» رأس عصبة العشرة وعمدها، فالشيخ «خليل تقي الدين» روحها ولولبها.
إلا أنه يغب
1
الإدارة إغبابا، فلا ينتجعها إلا ليعاجل وثبة على دعي في الأدب، أو ليصد غارة شهرت عليه أو على الأدب الحديث؛ فهو أحد الأركان الذين تقمع بهم عصبة العشرة نخوة المتهجمين. لا يحمل على أحد في نقده ولا يستشعر التحيف من أحد، على أن الأدباء في هذا البلد لم يتعودوا الصراحة في القول والجرأة عليه، ولو تعودوهما لما حق لأحد منهم أن يتناول إخلاص «خليل تقي الدين» بفلتة من فلتات اللسان أو ينظر إليه نظرة الريبة والشك، وسيجيء يوم - وهذا اليوم قريب - يتضح فيه للناس أن الجرأة التي يقحمها هذا الكاتب الشاب لم تكن إلا فضيلة.
ألم تقرأه غاضبا؟ بالله تقرأه! فهو يمثل بخصمه تمثيلا تفرد به، ولا يخشى نقاش الحساب فيخلط الشدة بضغث من اللين شأن الكثيرين من النقاد الذين يحفظون خط الرجوع.
إذا دخلت، أو إذا قيض لك أن تدخل إدارة المعرض فوقع نظرك على فتى لا يبلغ الطرف آخره، مفترشا مقعدا شرقيا ومتوسدا كفه، وإلى جنبه نارجيلة يستظهر بدخانها على استلهام النكات. أو إذا قدر لك في الساعة الواحدة ظهرا أن تدس أبصارك في شق باب الإدارة فأصابت جمهرة تكترش من الطعام، ووقفت فيها على عمود بشري لا تنابذ معدته لونا من ألوان المأدبة، ولا تهبط يده على جفنة إلا ويأخذ منها بقسط وافر، فقل هذا «خليل تقي الدين».
في مقلتيه اللوزيتين حوة كحوة الشفق عند انحطاط الشمس، تفيض على ضفاف أجفانه بشيء من الكسل، وأرى في شعره العذب مجة من هذا اللون الجميل.
شاعر حساس اهتدى الطريق إلى مصفى اللفظ ولباب الخيال، ولكنه لم يعلف قلبه لمدى الشعر ككثير من الشعراء؛ إذ لم يغرب عنه أن هذا الشيطان مشغلة عن غيره.
له في عالم الشعر هيكل خاص يمشي فيه مشي المرح الفخور، إذ اشتراه بدم قلبه وآلام لياليه. قال:
طلبت مني شعرا
لبيك لبيك إنا
أصحابه فجميل
منا وقيس المعنى
والشعر يوحى إلينا
وحيا ويؤثر عنا
إن خان كل البرايا
شيطانه لم يخنا
ونحن في كل أمر
إلى الخيال سكنا
نهوى الحقيقة لكن
لولا الخيال جننا
قصورنا شاهقات
في عالم الوهم تبنى
لا نستطيب سواها
مأوى وظلا وسكنى
وقال:
كل بيت أرمي به في قصيد
قطعة من صميم قلبي الدامي
بعثته نفسي صدى لأمانيها
وجادت به يد الإلهام
وسواء أشاع في الناس أم ظل
بصدري يشع في أحلامي
أنا أحنو عليه ما همني منه
سوى أنه وليد هيامي
يريد الشاعر أن يقول للناس إنه لا يستفسر شعره بينهم، ولا يزيع به لتحله الأجيال، وإن قصاراه فيه أن يكون وليد هيامه، وهذا لعمري شأن الشاعر الذي ينظر إلى روحه بعين روحه، ويعلم حق العلم أن رضى الإنسان عنه حقيقة تنفر منها أذواق البشر، ولكنها أصدق الحقائق.
لا يزال الأستاذ «تقي الدين» في الخامسة والعشرين من عمره يرى المستقبل الجميل يبسم له في شفق أحلامه وأمانيه ... أخذ الله بيده وحقق أمانيه وأحلامه.
فؤاد حبيش
مقبل العمر، ربعة القامة، منتصبها، أسود المقلتين، منفرج الجبين، أسمر البشرة في حمرة شفافة الأديم، منفتل الأعضاء صليبها.
يدف في سيره دفيف الطائر، فلا توشك رجله أن تلمس الأرض حتى تنبو عنها، كأنما الأرض من تحته أسلاك من الكهرباء، أو كأنه يرى الجماهير من حوله أثقالا تزعجه في طريقه؛ فيمشي فيها مشية المخف الذي ليس لطبعه الدقيق صبر على الناس.
تحسر من قبعته صيفا وشتاء، ولو قدر له أن يتكشف من جميع ثيابه لفعل، فهو يذهب مذهب العراة ويأخذ بآرائهم؛ اعتقادا منه أن مذهبهم هذا إنما هو المذهب الصحي المهذب.
لا يعدل بمذهبه الجديد مذهبا على الإطلاق، ولا يريد أن يجاوز مبدأه إلى غيره، فهو يدعي له الإصلاح، ويلجأ إلى الحجة في ما يدعي، والويل لمن يناقضه شهوته فيه؛ فإنه ليضمر وراء شفتيه لسانا جموحا ضرسته ألوان الجدل.
قال «علي بن أبي طالب»: «إن الناس رجلان: متبع شرعة، ومبتدع بدعة.» والشيخ «فؤاد» هو الرجل الأول؛ إذ إنه لم يبتدع مذهب العري بل اتبعه، فما كتابه «رسول العري» - الذي أوقع الواقعة عند صدوره - إلا بوق من أبواق الغرب تكلم فيه برجع قول قد قاله بعض أدباء الغرب من قبله، إلا أن القول هذا في بلاد تخزن أخلاقها وعاداتها وتتمسك بمبادئها ونزعاتها هبط به على مستوى الرجل الثاني، فهو إذن متبع شرعة ومبتدع بدعة في آن واحد.
أما أنا فلا أتحيز للكاتب «حبيش» في ميوله ولا أناقضه إياها، فقد يكون مدعوا فيها إلى أمر واضح صحيح، وقد لا يكون، إلا أني أحب ستر عورة الإنسان ولو نقص في جسمه، ولو أتيح لي ستر عورة الوجه البشري لأقدمت عليه، فكم في الناس من أعوروا أخلاقهم على وجوههم، فهم في حاجة معها إلى ستار كثيف ...
يخبط العشواء في بعض أفكار يبنيها على دعائم مشبوهة، فهو يلوي بها لسانه في وجود الخالق، ويزعم أن البشر إنما هم تريكة الصدف، والويل لمن يقرعه بالحجة وينهنهه عن زعمه.
أخذ الله بقلبه إلى الحق!
قال «علي بن أبي طالب»: «الويل لمن جحد المقدر، وأنكر المدبر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع!»
لا يستدل أحدا على السراط القويم ولا يتعظ بكلام أحد، فهو يسير على هواه، ويستحمد خطاه، ولئن نزل على آراء «أندره جيد» وتأثر به، إنه لفتح عظيم فتحه هذا الأديب الفرنسي في أخلاق هذا الأديب العربي.
ما يحث الناس على اتباع مذهب إلا ويسبقهم إليه، ما يثبت لك أن هذا الكاتب صادق في مبادئه، قانع بها عن عقيدة راسخة، وإن تكن مدخولة .
مفكر، ترى في كتاباته روحا جديدا، وآراء صائبة، لا يتلون في معاقدها، ويحسب أنه يأخذ فيها بالخير والإصلاح، ولكني ضعيف اليقين في نجاحه إلا إذا مهدت المدارس أخلاق الناشئة لقبول مثل هذه الأفكار وتشربها.
قال الأستاذ «حبيش» في معرض حديثه عن الحب: «أعتقد أن على المحب أن يبدأ حبه في الجسد لينفذ من خلاله إلى النفس، وربما استغرق ارتياد مجاهل شعور حبيب واحد الحياة كلها.»
وقال في معرض حديثه عن الفتاة والزوجة: «إن الفتاة العفيفة والزوجة الفاضلة من تحافظ على فضيلتها بنفسها، لا خوفا من زوجها والناس، ومن تصون عفافها بيدها، لا على يد أبيها وأمها والجيران ... وإنه لأحب إلي أن تستشهد مئات الفتيات والزوجات في سبيل تقوية فتاة واحدة وتحصين زوجة واحدة من أن تحيا المئات مستضعفات يقدمن رجلا ويؤخرن أخرى، وبين الإقدام والإحجام أقدام تعثر فتهوي بصاحبتها، وعفاف يتردد فيهتك، وفضيلة تضطرب فتستدرج. أما إذا استبيحت الأعراض فلتستبح عن قوة لا عن ضعف، فذلك أفضل لها وأجل.»
فكرة جليلة، إلا أن المرأة إذا لم تقرن هذه الفكرة بالثقافة السامية، تزل بها قدمها فتصبح وبالا عليها.
لا يزال الأستاذ «حبيش» في ريق العمر، فهو لم يستوف منه أكثر من ست وعشرين سنة، وسيكون له في عالم الفكرة الاجتماعية شأن خطر، ولكنك لا تعلم أيان يومه، فلندعه يلغم الصخور التي تعترض طريقه، فلعله يصل فيها إلى هدف جليل.
رسوم رجال السياسة
شارل دباس
وجه نفور تلطفه نفس عذبة وخلق كريم، يطفوان على قسماته في كثير من الاستقامة والجدارة.
جبين هادئ كأديم السماء في فجر أيلول، يخيل للناظر إليه أنه لم يألف التفكير لولا بعض سحابات كخيوط من الحرير أو كغشاء نعجة تبطن صفحته فتعيره خيال فكرة عميقة.
مقلتان كئيبتان هما مقلتا رجل عرف الآلام وسبر غورها، وفم عذب دقيق يمد على ضفتي شفتيه ابتسامة غريبة لن تستطيع أن تصفها بسوى ابتسامة «الدباس»، يعلوه شاربان نسيقان هبطا قليلا فتركا فناء عاريا بينهما وبين الأنف.
قامة بدينة تتحير بين الاعتدال والقصر ، وكأن اتساع صدره وما دونه دليل على ما تبطنه ذلك الجسم من أسرار السياسة اللبنانية.
أما مجمل هيكله من قمته إلى أسفله، مع نواتئ شعره، وانحدار جبينه، ونور فمه وغموض ابتسامته؛ فشبيه بهيكل «تيير» رئيس الأمة الفرنسية الأول، إلا أن هذا كان يحمل أنفا مستقيما دقيقا.
درج في عالم الصحافة فكان صحفيا، وصاهر القانون فكان محاميا، ومشى معه الحظ إلى جانب الأهلية والجدارة، فزجى عنه المحاماة بعد أن زجى الصحافة، أو زجى هذه بعد أن زجى تلك، وإذا هو ناظر للعدلية، وإذا هو رأس الأمة الناشئة.
لم يزل «الدباس» في مرح الغلواء على ما في قمته من البياض، سوى أن هذا المرح المترف لم يدلف به إلى الزهو بالنفس كبعض من أترفتهم الحظوظ في هذه البلاد، فهو وإن أمرع إلا أنه لم ينزل منزل الأجلاف، وهذا لعمري شيمة الرجل الذي يحترم رجولته فيحترم الرجال.
يتلثم بالصمت، فهو قارورة أسرار، وقد يكون صمته وصمت العميد السامي من منجم واحد.
على أن إمعانه في حجب مخبآته لا يدلج به في ظلمة الشبهة والشك، ولا ينفي عنه الإخلاص لشعبه، ف «الدباس» يسعى للقضية اللبنانية بسلامة فطرة مقرونة إلى علم راسخ وعزم صادق، ويعمل إلى جنب الانتداب قصارى ما يستطيعه رجل يحب وطنه ويخدم بلاده.
أما إن تفته الغاية أحيانا، فيصدف عنها مضطرا ويستشعر الصمت، فذلك لأن الأيام لم تقدر لبلاده أن تركب في صهوة سيادتها القومية، وذلك لأن الأيام لم تقيض لها جناحا تنهض به.
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه
وهل ينهض البازي بغير جناح
محمد الجسر
جبل من صعيد العمالقة، فهو رفيع النجاد، منتصب كالأسطوانة، أشمط الناصية، نحاسي البشرة، مزمل الرأس بعمامة كأنها غيمة على هضبة.
حذت جبينه قارصه السياسة في اصطكاكها، فطلت أديمه بخيال من لونها الناري.
في مقلتيه الصارمتين بريق صناعة تلقف أسرارها، وعلم بمهب ريحها، هي صناعة السياسة.
أما طلعته فتوحي الوقار في جميع صورها!
ليس بين الذين يحترفون السياسة من قدر له أن يعمر طويلا في مطرح واحد كالأستاذ «الدباس» والشيخ «محمد الجسر». فلقد أوشك الشيخ «محمد» أن يحتل رئاسة المجلس احتلالا لم يسبق لرجل من قبل؛ ذلك لأنه عرف أن يعالج بدهائه وحنكته جميع العمد التي تدعم كرسي الرئاسة.
صلب! قد يهي منبر الرئاسة تحت صلابة رأيه! فلو كان الشيخ «محمد» نائبا لاستطاع أن يخدم بلاده بما أوتيه من الحزم والجرأة أكثر من خدمته إياها وهو رئيس، إلا أنك لا تعلم أي سر من أسرار الطبيعة ينطوي عليه هيكل هذا الرجل فيجعله جديرا بأن يكون قمة.
إذا وقع نظرك على سيارة تقل رجلا كأنه من أصلاب المردة، على جسده قفطان، وفي وجهه شعور جزها المقص فأبقى منها في مغرسها آثارا خفيفة كسيقان السنابل التي يبقيها المنجل بعد الحصاد؛ فقل هذا الشيخ «محمد الجسر».
عرف الشيخ «محمد» أن يتسلل إلى مداخل السياسيين في هذا البلد، وأن يستل منهم ذاتيتهم من غير أن يدع أحدا يستل ذاتيته منه، وهذا لعمري ضرب من السياسة الرشيدة المقرونة إلى كثير من الحكمة.
ولقد عرف أخلاق الفرنسيين المسودين، وهو رجل تقلبت أعطافه في مختلف الوظائف، وعرف أن الوقوف في وجه القادر ضرب من الجهل، فوسط حكمته وتعقله بينه وبين الانتداب، ولو كان الشيخ «محمد الجسر» مبسوط العلم - بلغة «راسين» - مع ما هو عليه من النضوج في الفكر والدهاء في السياسة؛ لكان في هذا البلد علما لا يخفق في مستواه علم.
أوغست أديب
طلعة يتقاسمها البأس والإرادة، وتستنشق التشبث من الجبين العنيد إلى الذقن الصلبة.
جمجمة تاجر من تجار اليهود ضنين بذهبه حريص على كنوزه، تعلوها من الشعر موجتان خفيفتان مستبقيتان من الشقرة في بياضهما ظلا ضئيلا، ترى الأولى في مد والأخرى في جزر.
جبين لم يعرف الخيال، أو أنه طرد الخيال ليحل المادة، فهو سرادق مقوس، أوتاده الحساب، وأثاثه المداولات المالية.
حاجبان منبطحان، منفرجان، يعبس بينهما غضن مربد، ينتشران على وقبين نافرين، تجثم في قعريهما مقلتان مكفهرتان كأنهما ضبعان كامنتان في كهفين ملاصقين، إذا أمعنت النظر فيهما تخالهما يتهددانك فيقولان: سأريك ماذا أصنع بك!
خدان ناعمان، منكمشان كأنهما خدا راهبة عجوز، ينخفضان في سفح الأنف ليفسحا ميدانا واسعا لشاربين لم يبق منهما إلا بعض شعرات مستطيلة لا يقدر الهواء أن يعبث بصلابتها، فكأنها - على دقتها - استمدت الصلابة من رأسه الحسابي؛ وفم رقيق الشفتين، ممتدهما، تأثر بالمقلتين فسار معهما في حلبة واحدة.
ذاك هو رأس «أوغست باشا أديب».
لم يتزحف «أوغست باشا» في يوم من الأيام إلى استنداء مركز، ولم يكن في عهد من العهود صنيعة أحد، وقد يكون هذا الخلق الأنوف مدعاة إلى تنحيه عن المناصب زمنا طويلا.
يستشعر اللين والشدة في سياسته، ويؤخذ بالمحض من الطرفين، إلا أن جرثومة من التشبث في الرأي تذر على لينه كبريتا من الشبهة.
نزيه، فهو يذهب في مذهب «لاروشفوكو» إلى أن الفضائل تضيع في مسارب الفائدة الشخصية كما تضيع الأنهر في البحر، وقد يصبح هذا المذهب خطرا عليه، فيسقطه عن رئاسة الوزارة ليقول له إن الإباء والتجرد مرقاة إلى محض الثقة، ولكن في بلد غير هذا البلد وفي سياسة غير هذه السياسة، وإن الرجل من يستشعر الأثرة في كل شيء وينقاد إلى أهوائه في كل حين.
ليس «أوغست باشا» بالسياسي الخطير؛ لأن الأيام لم تر عليه سمة الدهاء، ولم تخلع على منكبيه بردة الحيل.
إذا سبرت قرارة هذا الرجل عرفت فيه عناصر متباينة يستعدي بعضها على البعض الآخر: الشدة واللين، التشبث والعناد في سياسة هزيلة، والإخلاص والأنفة في نفس حرة مقهورة.
إميل إده
بركان من الذكاء ينفجر في هيكل بشري.
وجه محام خطيب ضائع في مجاهل السياسة.
جبين فسيح الأرجاء، بعيد ما بين الصدغين، تنفتح في أسفله عينان سوداوان مرتعشتان يندلق منهما نور غريب كأنه فلذة من عنصر العبقرية، وتتجمد في منحدري محجريهما خميرة بنية قد تكون صبابة من إكسير التعب أو السهر.
أنف ينفر قليلا إلى الجهة اليمنى.
وفم منغلق في صلابة تتدلف إلى العناد، يخيل إليك أنه شيد على كلمة: أريد!
وخدان مزردان في سمنة، يطمئنان تحت مغارتي الأنف فيمهدان مطرحا هلالي الشكل لشاربين حالكين، مقصوصي الجناحين كأنهما فراشة سوداء محنطة.
أما جسده فقد استوى على اعتدال جميل في القامة، فلا هو قصير ولا طويل، ولا ضخم ولا هزيل.
إذا غشيت إحدى «فبارك» السياسة في هذا البلد فسمعت صوتا كأنه جملة أصوات، يرتفع وحده بنبرات «جازبندية» فخمة تتقاسمها لهجة الخطيب الواثق وتصلب الرجل القوي؛ فقل هذا صوت الأستاذ «إده».
دهاء من غير مكر.
لو اتفقت عناصر الحزم لتختار لها رجلا تسكن إليه، فيدعمها بثقافة ناضجة وعلم صحيح، ولا يسود اليد البيضاء بينها وبين ما تريد؛ لما ختمت قلبها على غير الأستاذ «إده».
درج في بيت كبير، ففي صدره خلق نجم من أطيب معادن النفس. يستشعر الإخلاص لوطنه ولأصدقائه، ويعكس الآية مع خصومه، فهو يبغض بقدر ما يحب، وقد يكون هذا الخلق مبنيا على استئثاره بحب نفسه، فالأستاذ «إده» رجل أثرة قبل كل شيء، إلا أن هذه المزية لا تقمره شيئا من خلقه النبيل، فهي لون من ألوان السياسة لا تتزحف بصاحبها إلى حطة.
ضئيل في لغة العرب، ولو قيض له في لبنان أن يضجعها للذبح كما تضجع الشاة لما تردد، ولو أراد أن يقنع بأن لغة الضاد هامة على بدن البلاد لأحلها من «برنامجه» محلا موفور الكرامة، فظفرت المعارف بمكانها الخطر وأخذته بحقها.
أما مجمل القول فهو أن هذا الرجل ينطوي على نزعات غريبة متباينة في خلق غريب متباين.
كان الأستاذ «إده» على عهد «ويغان» و«جوفنيل» رجل الانتداب في لبنان، ينزل الانتداب على معظم رغباته، ولم يحل عن عهده معه إلا في أيام «سرايل»، وقد تكون الحملة العنيفة التي شهرتها جريدة «الأوريان» على «سرايل» في ذلك الزمن شعلة إكليريكية نفخها «الجزويت» وأضرمها الأستاذ «إده».
الأستاذ «إده» يحلم اليوم حلما جميلا، وقد يكون مزعجا، فهو يشخص إلى رئاسة الجمهورية وقد ينالها؛ قد ينالها بعلمه، ودهائه، وغليانه، وكل ما في صدره من حياة وإخلاص، وما في دماغه من نبوغ. وقد لا ينالها؛ قد لا ينالها بتسرعه، وعناده، وتشبثه، واستقلاله برأيه. وللظروف في الحالين حكمها وقضاؤها .
حسين الأحدب
وجه مزارع من نواصي الجبليين القدماء يبذل في إحياء ملكه جهد الحريص.
عينان رحيبتان، يتقاسمهما العدل والصلابة، تنظران بهدوء وخبرة مشاهد أعمال خطيرة تسلم زمامها.
حاجبان أسودان ينسلخ بينهما أنف ذو شمم كأنه أكمة جرداء تنحدر تحت طريقين معبدين، وتنتهي عند ناشئة غابة من الشعر ممتدة الأطراف، جللتها ثلوج الأيام ببياض يراوح بين المهابة والجمال.
إذا تفقدت في وجهه الغضون والأسارير خلت نفسك أمام رجل قد من صلب الطبيعة في لبنان؛ ففي جبينه عنصر يمت إلى الصخور بقرابة، وفي مقلتيه مياه عذبة وقاسية، كأنما هي صبابة من مياه نبع العسل، وفي هيكله عضلات متينة يعمى عليك أمرها، فلا تعلم أمن سلالة الإنسان هي أم من سلالة الأدواح.
نجم من بيت علم، فهو ابن «الأحدب الكبير» صاحب المؤلفات القيمة.
ترب لسانه فقصر، ولكنه يستعدي على ضعف لسانه ذكاءه الحاد وبعد نظره في المسائل العلمية المنتجة.
تجرد من عرض الصغار والخوف، ولم يمدر جدارته بحمأة التزلف، شأن الكثيرين من رجال السياسة في هذا البلد، إلا أنه ما يزال يطوي نفسه على قسط من الكبرياء ينتسب إلى خلق تركي.
لم يكدر الماء يوما بينه وبين الفرنسيين، فهو رجل وظيفة يعرف أن يدعمها بحكمة وتعقل.
ضنين بوقاره، فقد لا يصمد إلى مكان إلا وشرطي على أثره، وقد لا يستطيع نائب أن يخرجه عن حشمته بعرض من أعراض المزح.
لم تحدثه النفس يوما بأن يخاصم من هو أشد منه مراسا سوى أنه لم يحف لقوي بمديح أو بذم.
مخلص لأصدقائه.
خلف «أبا صوان» في متصرفية بيروت، وإذا هو في الوقت نفسه رئيس بلديتها، وقد لا أخطئ إذا قلت: إن بلدية بيروت لم تنل من العمران ما نالته حتى عهد «حسين بك الأحدب»، وهكذا قل عن وزارة الأشغال العامة اليوم.
بشارة الخوري
وجه «تراجيكي» لا أثر للعذوبة على قسمة من قسماته، إلا إذا ابتسم.
جبين يتصل بجمجمة صلعاء، فيظهر للناظر أنه رحب الفناء واسعه.
عينان كأنهما أمام فاجعة أو رؤية طيف مخيف في ليلة عصيبة ينسل بينهما أنف «نابوليوني» يخيم على شاربين ضئيلين أصاب منهما المقص حتى اكتفى، كأنهما نتفة من ذقن الشيخ «محمد الجسر».
وفم مقوس تصدر عنه لمحة من السخرية يطفو ظلها على ذقن صغيرة تنعقد في سلخ الوجه، ويندلق نصفها على جانبي خديه كأنما هي ذقن كردينال من كرادلة روما.
تولى رئاسة الوزارة أربع مرات فكان شأنه فيها شأن الرجل الهادئ الذي لا يصدر عنه ما يسيء أو يسر، وهذا لعمري أسلم عاقبة وأضمن سلاما.
ولكن السياسي البارز في هذه البلاد هو من يخلق المشاكل ولو قص معها ذنب الكلب.
مبسوط العلم في المعارف، ولكن طبيعته لم تتعرف الصلابة، وإرادته تتردد كثيرا أمام مواقف الحزم.
عرف السياسة ولم يعرف دور الدهاء فيها، وهو إلى هذا نزيه لا تجد الرشوة سبيلا إليه.
يصادق الرجل لمأرب في نفسه، فهو إذا أنس في أحد ميلا إلى خدمته أخلد إليه فاستحلبه تلك الخدمة، وإلا تخفى له فلم يوشكه.
محارب، ولكنه لا يشترك بنفسه في المعمعة إلا في الندر، فهو يلقي الحملة على أركان جيشه.
كلما ذكرت رئاسة الجمهورية خلل الشيخ «بشارة الخوري» فروج الشعر المتجمع على مرتفعات عنقه كما يخلل الكاهن الطامح عذاريه لدى ذكرى الأسقفية.
لا يزال الناس يذكرون للشيخ «بشارة» تلك الوقفة الباسلة التي وقفها على شفار وزارة الدكتور «أيوب تابت» والتي بينت للانتداب أن في لبنان وزارة حقيقية.
موسى نمور
طلعة جذابة تتقاسمها مسحتان من الكبر والكبرياء.
جبين عادي، عريت قمته من الشعر، تمتد فوقه جمجمة منبطحة عليها من الشعور غيمة خفيفة محجلة الجانبين، كأنما هي حرش من الشجرات اشتاء فيه الماعز فلم يبق من أغراسه إلا الجذوع.
حاجبان معكوفان كسيوف بني قحطان، يخفران حدقتين كأنهما حبتان من عنب زحلة يجولان في مياه عسلية.
أنف فيه شمم وكبرياء، تلتصق تحته بعض شعرات تعهدها الزي الحديث بمقراضه؛ وفم رقيق المرشفين منغلقهما، يشير إلى صلابة في الرأي وقوة لا تجابه، يعرف عند الضرورة أن يخرج معهما من عهدة ما يؤخذ عليه.
قامة معتدلة .
إذا توسمت رجلا في مكتمل العقد الخامس من العمر، جالسا في صدر جماعة من القوم، يجيل في الداخلين والخارجين نظرات ملأها الذكاء والفراسة، وهو محتجر يده ومنتصب الصدر في أنفة وشموخ شأن الرجل الواثق من نفسه؛ فقل هذا الأستاذ «موسى نمور».
خطيب، يمتد به نفس الكلام إذا تعهده قبل حين، أما إذا ابتدهه فيتعثر به.
قد يكون الأستاذ «نمور» أدق نواب المجلس استبطانا لدخائل القوانين الإدارية والمالية، فهو إذا درس ميزانية الدولة تفرد بدرسه دون سائر النواب فأعطى فيه الرأي الوجيه المحكم، وقد يكون أحرى رجال المجلس بأن يناقش الحكومة في أي مشروع من مشاريعها.
لم يكن الأستاذ «نمور» ليحلم يوما بأن ستحطه الأيام على أظهر مراكز الدولة، إلا أن للمذاهب في هذه البلاد شأنا عجبا؛ فهي تجني أحيانا على الجدارة والأهلية ونادرا ما تنصفهما، إلا أنها لعبت مع «موسى نمور» دورها الشريف عندما أخرجته من ظلمته.
رقي على مطية الطائفية والأهلية، إلا أنه لا يمت بعقيدته إلى مذهب من المذاهب، وقد يكون لشاعريته يد في ذلك.
تستطيع أن تدرج «نمورا» في عداد السياسيين الذين سخت عليهم مهنة السياسة، فهو في ذلك غير الشاعر المنشد في صدره.
لا أعلم فيم لم يعهد إليه رئيس الجمهورية أن يؤلف الوزارة في عهد من العهود.
جبران التويني
إذا جلست إليه - وقد أصبح بعد أن تسنم عرش الأحرار، واستلم الوزارة كالأمير النائي - تسمع حديثا يملأ الأذن، وترى هيكلا يملأ العين.
في صوته غنة عذبة تشد بها أوتار حنجرته حينا بعد آخر، فتستحيل إلى نبرات صارمة.
رأس ضخم فشت طلائع الجمال في أسارير وجهه، إلا أن عبوسا كالحا ينتشر عليه بعض الأحيان، كأنما هو في المرارة من غيظ روحه ومطامع نفسه، فيصبح وليس في بريق النجوم أن ينير ظلمة هذا العبوس.
تطربك في حديثه ملح من النوادر لا تخرج واحدة منها عن طبع النكتة.
قد تمقته وهو كالح الوجه بقدر ما تحبه وهو باسم.
لا يشير عبوسه إلى شيء من الكبرياء، وهذا ما يشفع به ، فكأن الأستاذ «التويني» قد عرف هذه الآية القائلة: «داء المتكبر لا دواء له؛ لأن جرثومة الشر قد تأصلت فيه.»
منته الطبيعة بقلم واثق من شقه، فهو يلجأ إليه في الأوقات العصيبة، ويغذو صحيفته «الأحرار» بمداده على ما تشاء جرأته.
درج في عالم الصحافة منذ نشأته، فكان له فيها جولات ملأ بها كأس الجرأة إلى حفافها، وأخذ مدة بناصية الأدب، فلم يجل بها كما جلى في الصحافة، حتى استخار الله أخيرا في القفول عن الأدب إلى الصحافة ورسخ فيها.
لقد عرف - عهد تسلمه رئاسة التحرير في جريدة «الأحرار» - أن يمحص المشاكل السياسية في لبنان وغير لبنان بلباقة أخفت لون «الأحرار»، حتى التبس أمرها على الناس.
لا أريد هنا أن أقول إن عهده في الصحافة لم يحدره يوما إلى سراديب الخطأ؛ فكل إنسان يعرض إلى ضميره شأن خطير يتعثر به الضمير أحيانا. قال «الحكيم»: «عند هز الغربال يبقى الزبل، كذلك كساحة الإنسان عند تفكره.»
وقصارى القول أن في هيكل الأستاذ «التويني» - ذلك الهيكل المبني على عضائد جبارة من اللحم والعظم - روحا جبارة بنيت على عمد من الذكاء والجرأة.
سليم تقلا
مفخرة من مفاخر الشباب في لبنان، مترامي الذكر في جميع الآذان وبعض القلوب.
صلت الوجه، تعصبه جبهة وسعى، خلعت عليها الطبيعة أنصاع الذكاء، فتفرقت أذيالها إلى ما يليها من قسماته.
عينان جميلتان يفيض السحر على ضفاف أجفانهما، وتطفو منه ماءة عذبة قاسية ينعقد بخارها على حاجبيه.
أنف فخور يستنشق اللذة والكبرياء معا، تلجم مغرسه نظارتان متصلتان بجسر من الذهب تشفان عن ناظرين ثاقبين كأنهما نجمتان تحدقان إليك في جو صافي الأديم.
فم أثقلت الشهوة شفته السفلى، فأحنتها قليلا، يخيم عليه سرادق من الشعر جميم الجناحين، وتصلب تحته ذقن سمينة منيت من الطبيعة بغمزة في صدرها.
أما شعور رأسه فهي تغث وتضأل من يوم إلى يوم، وقد انفرجت في وسطها عن هالة من جلدة المخ.
إذا خفت بك الخمرة أو النارجيلة إلى «الرستوران الفرنساوي» في الليل - والليل أخفى للخمرة - فوقع نظرك عليه يتلهن قبل العشاء إلى رهط من رجال الصحافة والسياسة؛ فلا تدرك أن من تراه أمامك يقبض بيده على ناصية العاصمة.
إداري ثقف وسياسي يتحامى دهاؤه.
لقد أفضى به إخلاصه للبنان وللانتداب، وتبسطه في اللغة الفرنسية، وتأديته حق وظيفته؛ إلى صميم ولاة الأمور، فاستعملوا الرخصة في رغباته أو رغبات مريديه، وابتدروه في سوانح الفرص بأرقى وظائف الدولة.
عرف أن يصاحب النقيضين: «فندنبرغ» و«كيلا»، وهذا لعمري ضرب من ضروب السياسة الملقة.
خلع عليه الصحفيون لقب «بك» في قلب الجمهورية - يا لها من أريستوقراطية متمردة! - فهو لا يوالي إلا الصحفيين والأغنياء.
يطوي دماغه على خبرة في مداخل الإدارة والعدلية.
يسند أعماله إلى ضمير حي، ولا يتجانف في سياسته على كثرة المتجانفين في هذه البلاد.
تناوله داء الصلف، فظهرت على طلعته جرثومة منه، إلا أن مسحة من الكبر والأنفة الرصينة تمتزج بتلك الجرثومة فتنكرها.
مبسوط اليد إلى أقصى درجات الكرم.
ولو أراد الأستاذ «تقلا» أن يرم كيسه لما عي عن ذلك، فخطط الثروة متوفرة لديه، ولكنه فطر على خلق أبي يربأ به عن المنكر.
رشاد أديب
بصير بالأساليب المالية، فهو لا يلج السياسة في المجلس إلا من أبواب الاقتصاد، وهذا لعمري أصدق موالج الفكر العامل في أية بلاد كانت، ولا سيما في بلاد كهذه هي في فاقة حتى إلى الخبز.
هو من جرثومة
1
الأسر الطرابلسية.
أيقن الناس بطيب وجهه فختموا القلوب على انتخابه نائبا، ولم يقم أحد في سبيله.
بدين الجثة، يمد به طول ظفر بهيبة الرجال، وسلم له جمال يفيض على بشرة سمراء مئونة بسناء الكبر.
وجه صريح لا تنكره سحابة من غيوم النفس، يتسنمه جبين رحيب لم تحفر عليه الأيام تلما مشبوها، وتعلوه شعور متسقة لا يزال الشباب يمرح في سوادها.
حاجبان منفصلان - دليل الصراحة والصدق - ينعكفان على مقلتين جميلتين تفيض عليهما ماءة من الذكاء والجرأة.
وفم منطبق - دليل الإرادة القاهرة والعزم الراسخ - يرتكز على ذقن متينة يشد بها عنق أغلب بعيد ما بين الرأس والصدر.
جمع بين أصالة الرأي وبحبوحة العيش ، فإن غناه لا ينحصر بصناديقه ولا يلبس المال بيته، بل يستفزه إلى المشاريع المفيدة، فهو أحد مؤسسي بنك مصر سوريا لبنان، وقد جهد جهده لإنشاء هذا الفرع فى بيروت.
لا يصرف طرفه عن أي مشروع كان، يتنسم منه فائدة له ولبلاده، أما من قبيل المكانة فلقد جاز ذكره أنحاء لبنان إلى وادي النيل، حيث تتربع له حرمة في صدور الأحرار الدستوريين.
يجن من فنون الجهاد في سبيل طرابلس أولا وسائر البلاد أخيرا، ولا غرابة في أن تنزع نفس المرء إلى مسقط رأسه، بل الغرابة كلها في أن تصطفي البلاد رجالا لا يطمع منهم بذبالة.
لقد دافع كثيرا عن مشروع الطيران في طرابلس؛ إذ كان لهذا المشروع أكثر من معارض في المجلس.
كان «رشاد بك» من الوطنيين الأشداء منذ مطلع عهد الاحتلال، ولما يبرح ... ولكن مع التؤدة.
له في «بخعون» - إحدى قرى الاصطياف الجميلة - «فيللا» سحرية.
في هذا القصر الفتان القائم على مطل أحد الأودية الفتانة يصطاف «رشاد أديب» النائب العامل وإحدى دعائم أسرة الشعب في هذا البلد.
عمر الداعوق
لا يأبه لرهرهة الأزياء، وإن يكن قد أذن في صناديقه بمال تسخر له من أقاصي الثراء.
لا يدين ولا يستدين؛ خشية أن يهدر على إثمه، فذهبه موقوف على التجارة والبناء، وقد تكون هذه الخلة هي التي حفظت له ماله وضاعفته.
عندما يذر الصبح يتدثر بالقنباز، ولا يخلعه عنه ليرتدي «الطقم» إلا ساعة يئين له أن يسلك طريق السوق.
أكبر ملاكي المسلمين في بيروت على الإطلاق، وماله من عرق الجبين.
قني سيارة «لانسيا» من عهد بعيد، وظلت على جدتها وردائها إلى آخر عهدها عنده.
أما هدفه الأسمى في سياسته فهو الشخوص إلى إنجاح مرفأ بيروت والعمل في سبيله.
هل غشيت داره فوقع نظرك أو قدماك على أمتن سجاد في المدينة؟ وهل زرت محله في «سوق الطويلة» فبهرتك لألأة الجواهر واليواقيت؟ إنك لن تزور هذا المحل إلا إذا مليت من المال قسطا وافرا، وإلا إذا دفعك الفضول إلى التمتع بمشاهدة متاع المترفين.
تلقى دروسه في مدرسة «عينطورا»، فهو يجيد العربية والفرنسية، إلا أنه يربي عليهما بفن التجارة، فهو رئيس غرفتها في بيروت.
رشح نفسه للنيابة في العام 1925، فانتخب، ولما انقضت مدة المجلس بعد أن استوفت سنواتها الأربع صور له أن هناك عثرة في سبيله، فلم يشأ أن يتعرض لها ...
في العام 1920 عينته السلطة عضوا في اللجنة الإدارية، ولما جلس على كرسي الشعب أظهر خبرة في جميع القوانين المالية ك «الويركو» والتمتع وغير ذلك، وقد أرسل - بصفته رئيسا للغرفة التجارية - برقيات عديدة إلى وزارة الخارجية في فرنسا يطالبها فيها بأن تسعى لتجعل زيوت الموصل تنصب في طرابلس.
صادق «عزمي بك» في مدة الحرب، وكان لصداقته إياه أثر طيب في بيروت؛ إذ إن الصداقة أتاحت له أن يعين رئيسا للإعاشة، ومن يكن ك «الداعوق» متخلقا بأخلاق نزيهة مدعومة «بدين صحيح»، وقدر له أن يقبض بيده على مقدر حيوي؛ فلا غرابة في أن يخدم أبناء بلاده الخدمة التي تنتظرها بلاده منه.
حبيب طراد
ترجمه الأزهار بالأحداق، وتهش إليه المدينة هشاشة الورد للصباح؛ لفرط ترفهه وتأنقه.
تلهج به ألسنة العذارى وقلوبهن، إلا أنه كلما ذكر الزواج استهل وجهه بالقطوب، فهو «الأعزب الدائم».
إذا وقع نظرك على صدره أبصرت زهرة جميلة تغنج عليه، وقد تكون هذه الزهرة نسيج وحدها بين الأزهار، ولقد سمي ب «الرجل ذي الزهرة».
حبته الطبيعة شكلا حسنا وقامة رجل لم يحذف الله منها لونا من ألوان الجمال.
طلعة أريستقراطية وطنت نفسها على استشعار المبدأ الديموقراطي في بعض نواحيه.
يضحي بذهل من وقته ونزر من ماله في سبيل المساكين من أبناء الحياة، فهو رأس جمعيات عديدة أخذت على عاتقها مؤاساة المرضى والبائسين.
وهو كذلك رئيس نادي الطيران في بيروت، إلا أن هذا النادي صفر من الطيارات، ولكنه مجتمع الطبقة العليا من أبناء العاصمة، تجد فيه ملهى لتطيير الوقت ومطبخا أريستقراطيا شرقيا.
جمع إلى الثروة خلقا نبيلا وعاطفة صادقة، هو معهما حري بثناء الناس وتقديرهم.
أولع بالكلاب الأصيلة، في حوزته طائفة منها تعدل بجميع كلاب المدينة .
ولكي يكمل حلقات سلسلة «الفانتزي» قني سيارة لا يقع الطرف على ندها في بيروت.
عرف دور الأشراف في فرنسا، فهو سابغ الذيل في الكبر، يطوي نفسه من الوقار على مسحة جميلة.
دفعت إليه النيابة في الدورة الأخيرة، إذ باء له رئيس الجمهورية بحق فيها، فرفض اعتناقها إلا على شرط، وهو أن تنزل الحكومة عند «بروغرام» له، نشره في صحف العاصمة، وضمنه تصغير حجم الحكومة وإنقاص نفقاتها.
على أن الحكومة تنسمت في شروطه هذه حيفا عليها وهي جمهورية، فأبت.
أزمع الشخوص إلى رئاسة الجمهورية في عهد «جوفنيل» الذي كان زعيما له بها، ولقد كادت تثني إليه عنانها لو لم تنقلب الأمور فجأة على عقبها.
عمر بيهم
ضريب الشيخ «يوسف الخازن» في الهزل والنكتة، فهو لا يني عن كسر شكيمة الكلام في معرض الحديث، إلا أن في هزله طبيعة جذابة لا تكلف فيها.
طويل ممدود كلهجته «البسطاوية»، فإذا تكلم خيل إليك أنك تسمع غناء متقضبا صادرا من قمة اسطوانة.
1
ظهر في الماضي رئاسة البلدية في بيروت يوم كان حاكم المدينة منفصلا عن رئيس بلديتها، فاتخذه المسلمون عمدة لهم، وما يزالون يستنفذونه ويقفونه إلى حيث يريد، فهو إذا شاء أن ينتخب فلان انتخبوه، وإذا شاء أن يخذل خذلوه.
ترى في عقر وجهه شاربين صغيرين مفتلين عليهما سمة من سمات «القبضايات»، وعلى صدغيه المقنطرين شعورا مجزوزة تنتهي إلى الرقبة في حلبة واحدة كشعور تلاميذ المدارس.
زعيم أسرة بيهم.
قد يكون كلفه بالخيل راجعا إلى سكناه في «محلة الحرج» - على كثب من ميدان السباق - فله هناك «فيللا» فتانة تأخذها عيون الأغنياء.
يغذي في مخيلته حلما إمبراطوريا جميلا، فهو يحلم بالوحدة العربية الكبرى (؟)
لا يتكلف التعصب للدين، إلا أنه يريد أن يرجع هذه البلاد سيرتها الأولى، إذ يصور له أنها بلاد عربية محضة، وأنها للعرب.
في العام 1925 رشح نفسه لكرسي في مجلس الأمة و«عمر الداعوق»، فأجمعت الأصوات على انتخابهما، ولو شاء «بيهم» أن يعود إلى المجلس في دورة 1929 لما أعياه أمر، ولكن الكلمة التي ودع بها زملاءه النواب وهي: «لقد أكلنا مال الأمة طوال أربع سنوات، ولم نبرهن إلا على ضعف»؛ جاءت دليلا على مقته للكرسي وتنكبه عنها.
أخلص الناس لأصحابه وأصدقهم جرأة وأكثرهم وفاء، وليس أدل على صراحته من قوله علنا عندما دخل إلى المجلس: «أنا ضد لبنان، وضد الانتداب.»
موسى مبارك
لوحته شمس الحياة في صباحها، فاسمر اسمرارا حادقا.
وجه أنيس تشرق على رحبه ابتسامة غريبة تراوح بين الهزء والذكاء.
جبين ضيق مستطيل، ابتكر إليه حصير من الشعر لا يفيض كثيرا عن منبته.
عينان أعطيتا ما تستحقان من النور، تنبعث منهما روح ذكية متحذرة، تشير إلى عنصر سليم، إلا أنه يعرف أن لا يتخطى بين الفخاخ.
وفم مندلق الشفة السفلى، انهزم عنه ظل الجمال ليفسح مجالا لظل السخرية، يعلوه أنف مستقيم حساس، وتنحدر تحته ذقن عريضة صلبة.
مقتبل الشباب، أولجه العمر في التاسعة والعشرين، طويل القامة، رقيقها، منتصبها، كأنما هو سعفة من النخيل.
إذا صغى إليك يحدثك تنسمت منه أصالة الرأي في كلام الشيوخ، فعلمت أنه على بينة من كل ما يقول، واتضح لك أن محدثك إنما يستطيع أن يرتفع بدماغه إلى ذروة أهل الدماغ في هذا البلد.
أما إذا حاورته في قضية، فيجادلك مجادلة الأكفاء، وقد تتزيل ألفاظه بنكات لا تقع واحدة منها في غير مكانها.
حاق بجميع ألوان السياسة اللبناينة، فهو يسردها على مسمعك بأسرع من رجع الأنفاس، وتبطن حالات النواب والشعب، فهو يعرفها جميعا عن ظهر قلبه كما يعرف النصراني «الأبانا» والمسلم «الفاتحة».
أما الفضل في ذلك فراجع إلى المسيو «سلومياك» الذي اختاره في عهده أمينا لسره ودارسه فنون السياسة على جميع وجوهها.
وليس أدل على إخلاصه لبلاده من ملكه ثقة السلطات المنتدبة ورؤسائها اللبنانيين.
إن في روح الأستاذ «مبارك» عاطفة أكيدة ما تزال محافظة على فطرتها اللبنانية القحة، وإن في صدره قلبا كبيرا يفيض على عينيه في كثير من العذوبة وكثير من سلامة الطوية.
لم يتزي الأستاذ «مبارك» في يوم من الأيام بزي الكبرياء الممقوت شأن الكثيرين من كبار الموظفين ، فهو يسلك دائما في رسوم أولي الدعة والإيناس، وتراه كلما مدت الظروف في ابتسامة حظه مد الخلق في اتضاعه.
لا تقع في سراي الحكومة إلا في الندر على رجل كالأستاذ «مبارك»، جمع إلى الإخلاص الصحيح المجرد من الميول تجردا مطلقا خلقا أنوفا، وعلما ناضجا مقرونا إلى الذكاء الحاد والمقدرة الغريبة في تمهيد المسائل المتعلقة بوظيفته.
ترى بعض النواب يتبادرونه في الأيام العصيبة، وقد يحتاج إليه بعضهم كما يحتاجون إلى معاشهم في آخر الشهر.
حذف التدخين والشرب من سفر بسطه، إلا أنه قد يعطف أحيانا على زجاجة من «بيرا أمستل» فيكرع نصفها.
لا يزال الأستاذ «مبارك» في سحرة عمره، وسيفسح له المستقبل القريب مجالا لبلوغ مشتهياته، فإن في ذكائه وعلمه قوة ستكفلها الأيام ويبسم لها الحظ.
إميل ثابت
أوفض «إميل ثابت» ذات يوم إلى الشيخ «يوسف الخازن»، إذ كان هذا شاردا في أروقة السراي، وقال له مستغربا في الغضب: «كلما أخذت في تقليب رأيي وانحططت على فكرة قيمة سبقني «شبل دموس» إلى طرحها في المجلس، كأنه تعود أن يمد يده إلى دماغي وينتزع أفكاري منه!»
فأحفظت هذه الحقيقة الشيخ «يوسف» فدلف إلى «شبل دموس» وقال له: «كان عليك يا «شبل» بدل أن تمد يدك إلى دماغه فتقبض على الماء أن تمد يدك إلى جيبه فتقبض على المال.»
كان ذلك إذ الوجيه «ثابت» نائب في المجلس.
هل سمعت مرة ب «كريزوس» أغنى أغنياء الرومان؟ إذا لم تسمع به فسرح نظرك في «إميل ثابت» تجده، فهذا الرجل يدعى بحق «كريزوس سوريا ولبنان»، إلا أنه أحرص من نملة، وقد لا يتخلى المال عن رقه إلا في إبان المواسم النيابية، فتراه يقفي بنقد المبالغ ثمنا لعضو ثانوي تعود أن يند من حظيرة الضمير!
سلك طريق السياسة في أيام «سرايل»، وقد تكون خطة انتخابه في المجلس ما تزال مستبهمة في عقول الناس، على أنهم لو سبروا غور الحدث لاتضح لهم أن انتخابه كان لوثة في جبين بعض موظفي عهد «سرايل».
عندما تندى صفاة الغني تفجر المعجزات من الصخور!
رجل «البروغرامات»؟
ألم تسمعه مرة وقد أنغض إصبعه الوسطى في لمة الرئيس مستأذنا بالكلام، يقول بلسان ذرب: «هذا بروغرامي يا سماحة الرئيس ... هذا فكري. كان بودي أن أقول ذلك فسبقني إليه حضرة النائب!»
تجد مشاريع الإصلاح مبثوثة في معظم جمله، فلقد راض لسانه عليها، إلا أنك لا تستنبت منها إلا فصولا مضحكة.
لقد مثل «إميل ثابت» طوال عهده في النيابة رواية اعتقدها هو جدية بحتة، واعتقدها البعض هزلية تضحك الثكلى.
ميشال زكور
طلعة أريستوقراطية في وجه جبلي أنوف يتقاسمه عنصران من الرقة والعنف.
شعور كهل في رأس فتى، البياض في الشعر سمة الجلال في الشيوخ، ولكنه نبت دخيل على دمن الشباب.
جبين صريح، عليه من الذكاء مسحة جميلة.
عينان منتبهتان تستنشقان الإرادة والحزم، وفم صلب رصين عليه موجة من الغزل تغمسه في خيال من الشبهة، فما تدري بأي النقيضين تصفه؛ أبقنبلة تتحين الفرص لتنفجر أم بزهرة حمراء ملتهبة بحرارة الشمس ترقب سقيط المساء لتنتعش؟
قامة رومنطيكية، أنيق اللباس إلى حد قصي، ترى في الناحية اليسرى من صدره منديلا رومنطيكيا يطل من جيب سترته بزواياه الأربع إطلالا متكلفا لا أستطيبه، وقد يكون كرهي إياه ناجما عن كرهي لكل ما يعد من كماليات الزي الحديث.
ديمقراطي في المبدأ، أريستوقراطي في العشرة، فهو يستنشق بأنف الكبرياء من غير زهو بالنفس، ولو لم تذر الطبيعة على صلفه بعض الجاذب لنفر منه الكثيرون من أصدقائه ومحبيه.
انزع الصلف من الأستاذ «زكور» فيستقيم أمره، فهو عمد من عمد السياسة الرشيدة في هذه البلاد، ومخلص إلى أقصى حدود الإخلاص، يرتفع فوق جميع الأحزاب مهما كانت ألوانها، ولا تنطوي نفسه على شيء من الحقد الذي ينفخ الميول والأهواء ويعطيها شكلا ممقوتا. يتطير من مجالسة من هو دونه مقاما، فهو يتقي بذلك شماتة أشباه الرجال، ويتحاشى أن يسيء إلى اسمه أو يحط من قدر مستواه. قد يكون عنصر كبريائه صادرا عن هذه الحشرة في خلقه.
مبسوط اليد، فلقد نشأ كرمه من أعز الأرومات، وقد يكون هذا الكرم سجية في نفسه؛ إذ إنه لا يتكلف فيه أو يبغي من ورائه لبانة.
عزيز النفس، وإنك لتتلمس هذه الميزة من خلال أسطره، ففي سياسياته التي تقرأها في صدر «المعرض» عرف طاهر النشر ينفثه أطهر قلم يحمله صحافي في هذا البلد.
لبناني بحت.
قد يكون الأستاذ «زكور» الصحافي الوحيد الذي ختم «الشعب» على حبه الضمائر والقلوب، وانتخبه نائبا عن حب أكيد وإعجاب صادق.
ليس «ميشال زكور» من هؤلاء الذين يتكالبون على جيفة أو يتحلب ريقهم لضحكة الدرهم، فنخشى عليه تصريف الأخلاق وضياع ثقة الشعب فيه.
فإن في العشرة الأعوام الشريفة التي خدم بها القضية اللبنانية في صحيفته «المعرض» والتي لم يلوث خلالها بخطأ تبقى عليه تبعته؛ لأوضح برهان على أن نائب الشباب لن يحيد عن الطريق التي سلكها من قبل، وسيؤدي إلى الشعب ما يحق له عليه.
أما إذا كان هناك من يلوي لسانه بالحق الصراح فيخرج من شفتيه مجة الثعبان بدل الكلمة الحرة ولا يتقي سكرات النعمة في نعمته، فلينظر قليلا إلى «ميشال زكور».
إذا صادق رجلا لبسه، أولا تراه وصديقه اللبناني البحت «أسعد عقل»؟ فهو يعتنقه اعتناق اللام للألف، وقد يضحي كل منهما في سبيل الآخر بأعز شيء لديه، وكلاهما يضحيان في سبيل المبدأ اللبناني، كأن كلا منهما «كعب بن مامة»
1
ولبنان «النمري»، إلا أنهما لن يموتا عطشا.
إذا أحلك مسرح للتمثيل فوقع نظرك في أحد الألواج على شاب أو إذا شئت على كهيل - إذا ذهبنا إلى أن الشباب لا يجاوز الثلاثين من العمر - يرمي بالنظر نحو جميع الجهات، فلا يثنيه ويثلثه ويربعه ويخمسه إلا إذا أصاب ناحية تبطنها من الحسان سرب يرف، ولفت نظرك شاب أو كهيل متكئ على حافة «اللوج» بالقرب منه، عميق سمرة البشرة، حاد النظرات، مكفهر الجبين، هازئ الفم، ذكي اللفتات، بدين الجثة قصيرها؛ فقل هذا «أسعد عقل»، وذاك «ميشال زكور».
نادرا ما تسهر ليلة أريستوقراطية ولا تجد «زكورا»، ففي «الرستوران الفرنساوي» تجده، وفي «الميرامار» تجده، وفي «التياترو الكبير» تجده، وفي «الأمبير» تجده. تجده في كل ليلة من ليالي «سسيل سوريل»، و«ألكسندر وروبين»، و«ماري بل»، و«رمسيس»، و«فاطمة رشدي»، وتجده أحيانا في الأماكن الديمقراطية، ففي «قهوة النجار» تجده، وفي «مغارة شقير» تجده، وفي جريدة «البيرق» تجده، أما في جريدته «المعرض» فقد لا تجده.
شبل دموس
وجه مغشي عليه، أو نصف مغف، نقيض ما في صدره من البراكين.
عينان ساهيتان، كأنما لجت السنة بمعاقدهما.
جبين فيلسوف سامه الدهر أوزار السياسة.
إذا أثر يخطب في حلقة من الجلاس أو السمار ظهر فيه الحكيم على السياسي.
قصير القامة، أنقضت ظهره أوزار السياسة وتجانف الناس فأحنته.
أما جملة وجهه فتشير إلى عراف نجم من سلالة السحرة ومن كهان حيدحور،
1
وقد يكون في سياسته أثر من تكهنه وسحره.
سلك في البدء جدد السياسة العربية والإنكليزية، فكان يناصر فيصل والإنكليز في صحف دمشق، ودارت الأيام دورتها فإذا هو يتنكب سياسته الأولى ويقفو السياسة الفرنسية في لبنان، وإذا هو قد ظهر فيه متن النيابة على يد الفرنسيين.
صرف بضعا من سنوات شبابه في «نيويورك»، فهو راسخ القدم في الإنكليزية السكسونية.
خطيب طويل النفس، جميل العارضة.
قد لا يلزم المنطق في كل ما يقول، ولكن في ما يقول قوة كافية لتلبس الحقيقة بالمجاز، وتنزل السامعين في أمرهم على الإذعان لما يريد.
هو للنيابة وهي له. يدرس جميع المشاريع التي تلقى على المجلس، ويخص مسائل الشركات بالتساهل ...
ذكي ولكنه «فاجر» بالمعنى العامي فقط، والفاجر يأكل مال التاجر.
كان في البدء ينتسب بحزبيته إلى «نمور»، ثم حال عن عهده معه إلى حزب «حيدر»، وقد كان الثلاثة في الماضي حزبا واحدا، فهل تدور الأيام دورتها عن جديد ويعود الثلاثة سيرتهم الأولى؟
فيم لم تفض به الأهلية إلى مطرح في الوزارة؟ ذلك لأن هناك حكماء يخشون على الكرسي أن يستولي عليه الأستاذ «دموس» فيمتلكه، ومتى تم له ذلك أصبح من الصعب خلعه عنه؛ لأن للكرسي حقا في أن يتشبث بمن يجده أهلا له.
ميشال شيحا
لينت التقوى صلابة وجهه، فهو يحب العدل، ويعتقد في الرب خيرا، ويلتمسه بقلب سليم.
قال «يشوع بن سيراخ»: «ومخافة الرب أول محبته، والإيمان أول الاتصال به» (25 : 16). فهذه الآية تنطبق على روح الأستاذ «شيحا» الذي نجم من بيت تقى وفضيلة، وترسم في الفضيلة خطى آبائه.
قال «يشوع بن سيراخ»: «لا تعتد بأموالك ولا تقل لي بها كفاية» (5 : 1)، وعلى هذه الآية أيضا يسير الأستاذ «شيحا»، فهو - على ما هو عليه من الغنى - لا يهيم في متايه المال، ولا تنسيه الثروة قلبه الإنساني.
قال «يشوع بن سيراخ»: «لا تنقلب مع كل ريح ولا تسر في كل طريق، فإنه كذلك يفعل الخاطئ ذو اللسانين» (5 : 11).
خبر السياسة البرلمانية طوال أربع سنوات، فسئم وجوهها وأخذه الغضب على تلونها، ولما ألح عليه أصدقاؤه وألحفت عليه السلطة في ترشيحه لدورة 1929 أبى عليه ضميره أن يرضى، قائلا إنه لا يستطيع أن يغالب مجرى النهر، ولا يريد أن ينقلب مع كل ريح ويسير في كل طريق.
يمت بالنسب إلى غرة عيال بيروت.
هو في الثامنة والثلاثين من العمر.
فتح له في اللغة الفرنسية ما لم يفتح لسواه من أبناء هذا البلد، أما في الأدب الفرنسي، فهو يوشك أن يكون نسيج وحده.
محاضر ممتاز، له في عالم الأدب الفرنسي محاضرات نفيسة قيمة، قد لا يوفق الفرنسيون أنفسهم إلى إعطاء مثلها، والأستاذ «شيحا» على تضلعه في العلوم يعد أقدر رجل مالي اقتصادي في هذه البلاد.
نال شهادة المحاماة، ولكنه لم يتعاط هذه الحرفة. يشد بغرز دينه من غير أن يلوث ضميره بجرثومة التعصب.
لو سبرت قرارة نفسه لاتضح لك أنه أميل إلى الانصراف للأدب والفن منه إلى السياسة، ولكن ظروفا خطيرة أهمها رغبة معارضي الجنرال «سرايل» في مصادمة الدكتور «أيوب ثابت» أوجبت عليه أن ينزل في انتخابات العام 1925 التي ظهر فيها على الكرسي وعلى معارضة السلطة له.
مبسوط العلم بمداخل الأمور المالية والاقتصادية، ولقد كان وما يزال من الداعين إلى تأليف الشركات الوطنية في البلاد، وهو واضع أساس الشركة العقارية الأولى ذات الرأس المال اللبناني في بيروت.
لاتيني المذهب، قيل : إن الأنظار شاخصة إليه في الانتخاب المقبل لرئاسة الجمهورية، إلا أنه قد يصرف طرفه حتى عن هذا المنصب الجليل.
هنري فرعون
ملء بردتيه الشباب، يتلون بأجمل ألوانه.
قيل إنه من الفرسان الثلاثة في المجلس، وإنه لكذلك؛ ففي اندفاعه ومغامراته، وحوادث لياليه وأحلامه، وتعشقه الجياد المطهمة، ونبل نفسه وخلقه، وسعة يده وانبساطها؛ أجل، في كل ذلك نفحة طيبة من أحد أبطال «اسكندر ديماس الكبير»، أما إذا كان لا بد من أن يلقب فلا ينطبق عليه غير «دارتانيان».
ولكنه لم يجئنا حتى الآن بالجوهرة المفقودة ولم يجئنا بها أحد غيره! إلا أنه يجيد إطلاق «الراكيت» إجادة «دارتانيان» إطلاق السيف، والفرق بينهما ضئيل.
قامة رشيقة، لا تستقر من العصبية على حال، كأن في داخلها لولبا كهربائيا ينتفض بين فترة وأخرى.
إذا وقع نظرك عليه في «البارك» وشاهدته يسرف في التحمس لجياده خلته أحد أبناء «روتشيلد»، وإنك لتستطيع أن تشبهه ب «موريس روتشيلد» «شامبيون الجياد» الذي انتخب عضوا للمجلس النيابي في فرنسا.
لا يزال الأستاذ «فرعون» أعزب.
إذا تسللت إلى قلوب الحوريات في بيروت، وسبرت قرارتها، وجدت معظمها المراوح بين العاشرة والعشرين من العمر يكتم في أعماقه صورة جذابة كالحلم هي: «هنري فرعون».
غني وسياسي معا، فهو في سياسته يجمع الصلابة إلى النزاهة والاندفاع، إلا أن هذه تربي على تلك بما يتناوله من الفن والخبرة والمال.
إذا وقعت أبصارك على فتى في نحو الثلاثين من العمر، عصبي المزاج، يتحير لونه بين السمرة والحنطة، على وجهه شهوة حمراء منبطحة عليه بشكل بطن الكف كأنما هي قمر شديد الاحمرار يضحك في أديم تشنجت صفحته؛ فقل هذا «هنري فرعون».
عز الدين العمري
نجم من أسرة بغدادية شريفة.
تقلبت أعطافه في وظائف العدل بين طرابلس وعكا أيام كان الترك أسياد هذه البلاد.
عين في مطلع الاحتلال رئيسا لمحكمة طرابلس فوفى للانتداب حق الإخلاص.
وترقى في مديرية الشرطة عهد الدكتور «أيوب ثابت»، فكان رجلا حازما، ما تزال دوائر تلك المديرية تذكره باحترام وإجلال.
ذكي، مستقيم. إلا أن عصبيته التي تمت بقرابة إلى عصبية الدكتور «أيوب» تؤدي به أحيانا إلى الجرأة المتطرفة.
حاذق! يعالج وظيفته بيد من حديد من غير أن يقسط على مأمور، ولكنه يخضع أمام من له حق السيادة عليه، شأن الموظف وشأن جميع الموظفين حتى النواب، فينفذ الأمر من غير أن يجادل فيه، وحسبه في تنفيذه أنه صادر عن سلطة فوق سلطته.
قد تكون صداقته للدكتور «أيوب» هي التي أسرت عليه في البدء غضب «جورج ثابت» و«موسى نمور» وألبسته هذين الخصمين، إلا أن التفاهم ما فتئ أن افتر بينهم؛ إذ اتضح ل «نمور» أن «عز الدين العمري» لم يستشعر التحزب في يوم من الأيام.
يزعم البعض أن الخمرة نافذته إلى دوائر الأمن العام، إذ كان مديرا للشرطة، فقل إلى العدلية، ولكنهم افتروا عليه هذا الحديث افتراء، فالحقيقة لا تؤيدهم في هذا الزعم الغثيث ... وربما يكون السبب في قرارة نفوس بعض الفرنسيين!
قاض نزيه، طويل الباع في القانون العثماني.
طويل النجاد، تجثم على أمته هامة ضخمة تنبث على أديمها ابتسامة لطيفة تذر عليها السمرة كثيرا من حلاوتها.
جبهة فسيحة ادلهم عليها ليل من الشعر تكالبت أسداله بعضها على بعض، واعترض سفحها بحاجبين عريضين هبطا قليلا على مقلتين تنظران نظرة يتقاسمها الكبر ومسحة ضئيلة من الكآبة.
أنف يناسب الوجه، يلثم شاربين معافين يشدان بغرز الشفة العليا فتنكفئ السفلى منفتحة نصف انفتاحة.
أما جملة الوجه فتشير إلى صفحة رقمت عليها سطور متباينة المعاني، بعضها صارم وبعضها عذب.
جبرائيل نصار
أقمر وجهه وتهلل، فتيمنت أشفار عينيه بمجاجة من نوره، كأنما هي رشاش من كحل براق كان باقيا في ميل الطبيعة.
جبين جميل يطفو على أديمه لعاب الذكاء، وأنف مستقيم حساس، تجاوره عينان صغيرتان وقادتان تجهزتا لامتلاك القضاة والحور معا، فلقد أشرب إكسيرهما حب الكهرباء في القانون كما أشرب حب الكهرباء في القلوب والمهج.
خدان مخمران يتلونان بلون الجمر، كأن كئوس الليالي استودعتهما سورة الخمر.
وفم صفر إلا من العذوبة، يستريح على ذقن صلبة متينة كأنها قطعة قدت من رأيه وخلقه . متسع الصيت في عالم القانون.
في الندر ما يتناول قضية ولا يظهر فيها على خصمه، كأن القانون خلع عليه مطرفه القشيب، ولو فتح له في القانون الفرنسي كما فتح له في القانون العثماني لعدل فيه بألف محام.
يتقي الشر في أمر أصدقائه، فهو الصديق الأخص، يستأمن في الملمات على عاطفة من يحب، وقد يتدلف به الإحساس أحيانا إلى أن يستأمن فيها على عاطفة من لا يحب أيضا. ضيق الخلق على الخمرة.
إذا قيض لك أن تجلس في أحد مجالسه الليلية وأتيت بنادرة كدرت عليه صفاء كأسه، فإنك لتظل تشرب من مقته ما دمت حلا بمكانك، هذا إذا لم ينب عن جلاسه أجمعين ويعف خمرته.
طاه من طهاة الوعود في السياسة يطهي لك منها ما شئت، إلا أنه قد يبر بها أحيانا فيخرج ببره عن حلبة الكثيرين من النواب الذين يستشعرون الإسراف في الوعود الكاذبة، ويعتقدونها من فنون السياسة.
وفي سياسة الأستاذ «نصار» ثميلة من سياسة قديمة درج صباها وبدلتها سياسة اليوم، إلا أنها تخرج على الضمير في لون من ألوانها ولا تزيفها المحاباة والتمليق. يتزيد في تكريم صديقه أمام الغريب ويغالي فيه مغالاة شديدة، وهذه خلة جميلة يندر أن تجدها في غير الأستاذ «نصار».
إذا وقع نظرك على رجل غض العود منتح في «مغارة شقير» ناحية عميقة تعود أن يصرف فيها بضعا من ساعات الليل وقد تكأكأ عليه رهط من الناس مختلف المشارب يجاريه في اتباع الكأس بالكأس، وسمعته ينثل كنائن النكات فرادى ومثنى بمعاجيل من الكلام ورقة فطرية؛ فقل هذا الأستاذ «جبرائيل نصار».
يوسف السودا
جبين كجبين «فيكتور هيغو»، انحفرت على محيطه الرحب غضون التفكير.
عينان جميلتان تقلقهما الأخيلة، كأن رؤى المردة علقت في أهدابهما بأسلاك من الكآبة، أو كأنهما يطويان حزنا عميقا على شعب ذراه الضعف والقدر لكل ريح.
وفم صلب أكل من الألفاظ الصوانية شبعه، فكأن العبارات الصارمة التي كثيرا ما أطلقها من فيه قنابل لا يزال صداها يتردد في بطون الجبال، قد لصقت من حممها صلابة في شفتيه.
لبناني حتى الخيال، حتى لينافذ القدر إلى الأجيال في سبيل لبنانه، وهو يسلك في رسوم شيوخ إسرائيل أو أنبياء يهوذا فيطوف أرض لبنان من أقصاها إلى أقصاها، مهيبا بالشعب أن صونوا الأرض التي أعطاكم الرب إله آبائكم، وحماها فخر الدين.
يتغنى بمجد لبنان في كل سانحة، وهو في تغنيه شاعر يستوحي الجبابرة وأساطير التوراة، وكما أن الأستاذ «راجي الراعي» يعطف على الميثولوجيا في «قطراته» فيستوحي «أبولون» و«عشتروت» و«أدونيس»، هكذا الأستاذ «السودا» فهو يعطف على التوراة فيستوحي «داود» و«سليمان» و«حزقيال».
وإذ يقف «وقفته» ليخطب في الشعب تخاله «سليمان»، وتخال عباراته نجمت من معدن سفر الحكمة أو نشيد الأناشيد، فهي في جلالها وروعة شاعريتها تنتسب إلى مثل هذه الآيات: «هلمي معي من لبنان أيتها العروس معي من لبنان، انظري من رأس أمانة، من رأس سنير وحرمون، من مرابض الأسود، من جبال النمور. هو ذا سرير سليمان حوله ستون جبارا من جبابرة إسرائيل، جميعهم قابضون على السيوف مروضون في الحرب، كل منهم سيفه على فخذه لأهوال الليل. اخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه.»
ويقسم وقفاته إلى أيام، فإذا خطب في إهدن مثلا يقول: «يوم إهدن»، وفي جونية يقول: «يوم جونية»، وفي بكفيا يقول: «يوم بكفيا»، إذ يخيل إليه أن هذه الوقفات إنما هي خالدة في صفحة الدهر مسجلة في تاريخ لبنان؛ إذ من شأنها أن تقلع الضعف من بين أبنائه وتعيد إليهم بسالة الأجداد.
باترو طراد
قطب في المحاماة، أوتي فيها شهرة ذائعة وفصل الخطاب إلا أن حب المال قوي منه، فهو لا يمج قضية من القضايا كيف كانت وأيان جاءت، ولقد تناول قضية «الجمال هيلانة» فجال بها جولة وضح فيها نبوغه.
أحصى لغتي الفرنجة والعرب، إلا أنه أربى في الأولى على الأخرى باستطلاع ما غرب من دقائقها.
يجيد الوشي في الكلام، فلقد درس في فرنسا وعرف دور الغربة، حيث صقل خلقه وخبر مراتب النفوس .
شطر إلى الانتداب من أول عهد الفرنسيس في هذه الديار، ولما يزل.
دفع إلى السياسة في أبرك يوم من أيامه، فعين عضوا في اللجنة الإدارية الأولى، ولما خلعت الحياة النيابية على هذه البلاد صمد لها، إلا أنه لم يجد بدا من النزول على رغبة الكثيرين في العدول عن مزاحمة المرحوم «نخله التويني».
إلى أن تألف البرلمان اللبناني فانتخب الأستاذ «طراد» نائبا وعين المرحوم «نخله التويني» عضوا في مجلس الشيوخ.
له لسان أجرى من الخيل، نادرا ما يلجمه في المجلس، وقد لا يلفظ خطابا لا يستهله بهذه الكلمات: «إخواني ... أصدقائي ... لي كلمة ... نحن من بلاد واحدة، ليس فينا إلا منا ... نحن إخوان.»
لا يزال الأستاذ «طراد» أعزب على الخامسة والأربعين التي ذرف عليها.
حسن الطلعة، جميل البزة، فهو يستحضر العقد الملونة عشار، أما منديل صدره فأطول من منديل «زكور».
يلبس في الصيف قبعات من القش، وفي الشتاء قبعات «ملون» كأشراف أوروبا أو كعظمائها أو كراهب أورثوذكسي.
يحمل في يده عصا جميلة، ويتأبط ... ليس شرا، بل «دوسييه».
يتقلد في مخه ذكاء حادا، وعلى صدره وسام جوقة الشرف.
حسين قزعون
«قزعون»؟! ... ومن في البلاد لم يسمع ب «قزعون»؟! «قزعون» النائب، «قزعون» الرئيس، «قزعون» الصامت، «حسين سلومياك»؟ «حسين سلومياك»! هكذا يريد «قزعون»، فهو يحب «سلومياك» حبا تدلف به إلى الغرام، وأداه إلى خلع اسم أسرته عنه واستبداله به اسم «سلومياك»، إذن فهو «حسين سلومياك».
وهذا اللقب الجديد الذي يجهر به ويفخر أصبح اليوم أشهر من نار على علم، أو أشهر من «صمت قزعون» في المجلس وفي السراي!
شيخ النواب في المجلس من حيث الشيخوخة، ولقد جرت العادة أو السنة البرلمانية في كل سنة عند انتخاب رئيس المجلس أن يعين أكبر النواب سنا رئيسا موقتا، ومن يكون هذا الرئيس غير «قزعون» النائب؟!
من لم يقيض له أن يشاهد «قزعون» في موسمه هذا فقد خسر في حياته.
يهرول «قزعون» صباح ذلك اليوم المشهود إلى منزل «سعد الدين خالد» في ظاهر البسطا، ويدعو حريمه ليواكبه إلى السراي .
وفيم يذهب إلى آخر بيت في البسطا؟ ليطول تطواف الموكب وتمتد المسافة.
يفتتح الجلسة بهاتين الكلمتين: «ممنوع التدخين»، وهاتان الكلمتان نسيج دماغه وصلة منطقه، أما الخطاب الذي يليهما فيحيكه له الشيخ «خليل تقي الدين».
طريء الأخلاق، ساذج المقلتين والقلب.
يملك في «قب الياس» أرضا مترامية الأطراف، هو معها من الأغنياء الموسرين، وتملك سيدة فاضلة أرضا واسعة في «قب الياس» هي معها من الغنيات الموسرات، وشاءت الظروف أن يستمر الخصام بينهما على الماء، وإلى من يتنافذان؟ فكان كلام أحد العقلاء إلى «قزعون» النائب قائلا: «خذها لك زوجة فيستوي لك ولها ما تريدان وينحل المشكل.» إلا أن «قزعون» متوالي و«لويزة» مسيحية، فلا حول ولا ...
نائب مخلص للانتداب، يمهر صوته في المجلس للسلطة دون سواها، ولكن هبه لا أحسن ولا أساء، فلا يقل شأنه في المجلس عمن نخاله يحسن أو يسيء.
يوسف البريدي
قناة مستقيمة لم يحرف الجلال والهيبة حقها عليها، يظهرها رأس معبس القسمات، مرتفع الجبين في أنفة وكبر، يستبطنه من الماضي أثر طيب ومن الحاضر كرامة وإجلال.
ذلك هو الزعيم الزحلي المعشوق «يوسف بك البريدي».
إذا تصفحت أديم وجهه وقف نظرك على أجفان متهدلة يندلق القسم الأعلى منها على مقلتين عميقتين أعارهما تهدل الأجفان صبغة أمر جلل، واستشففت خلل غضونه البارزة بروز الألياف في الجذوع المعضلة روحا عاملة لا تستقر من التفكير على هدف واحد.
وقد يكون استغرابه في التفكير لأرب في النفس ما برح يقتفر لأجله سنة العمل المقرون إلى الإخلاص والتضحية، وقد أنجز بعضه وأوفى على البعض الآخر، ولن يحجره السعي عن إتمامه ولو أداه الطواف الناهك إلى دلج الليل، فهذا الرجل - وقد ترسمه بعث من الناس ما يزال يختم عليه القلوب والضمائر - يؤدي لبلاده وهو ناء عن كراسيها ما لا يؤديه نواب الأمة ذادة الشعب ... وعندي، وعند كل من يسبر أغوار النفوس الصادقة ويأخذ من خلقه لا من طموحه؛ أن نائب الأمة وبوقها الجميل إنما هو العامل في حقلها وشعابها، لا الراقد في مضاجعها وأخاديرها.
جاء في سفر الأمثال: «فإنهم لا ينامون إذا لم يسيئوا، ويسلبون النوم إذا لم يسقطوا. لقد أكلوا خبز النفاق وشربوا خمر المظالم.»
إنه ليضحكك ويبكيك أن ترى رجلا ك «البريدي» في ظاهر مجلس الشعب ... ولكن هناك سياسات مطروفة العين لا تبصر أحرى بالصادقين من الرجال أن يجعلوها دبر آذانهم ويستمروا في سبلهم غير آبهين. •••
لزم الكرسي ثماني عشرة سنة في مجلس إدارة لبنان، لا يعطي عينيه وسنا ولا أجفانه نوما، وكان شأنه في ذلك العهد شأن أبرز رجل في هذا، وليس أدل على إخلاصه وإبائه وعلو نفسه وشممه من إجماع النفوس على حبه على تباين أغراضها ومشاربها. فشخصية «البريدي» ما تزال تتمتع باحترام أصدقائها وخصومها معا.
قال «يشوع بن سيراخ»: «إذا جعلوك رئيسا فلا تتكبر، بل كن بينهم كواحد منهم؛ لكي تفرح بهم وتأخذ الإكليل زينة وتكرم بهداياهم.»
لقد أحدث «البريدي» في زحلة الحدث الذي لم يسبق إليه؛ فمهرها بالكهرباء، وغمر بيوتها بالماء، وأعطى بذلك المثل الجميل لمن سدت الشهوات مسامعهم، فباعدوا بينها وبين الضمير، فكان أن المهاجرين شعروا بفضله دون المقيمين، فعصبوا رأسه بإكليل جميلهم، وصدره بوسام شعورهم، وأكرموه بهداياهم.
إن الرجل الذي ننشده ونريده ليس كالذي قال عنه «ابن سيراخ»: «يرى بعينيه ويتنهد، كالخصي الذي يعانق عذراء ثم يتنهد.»
عبد الله نوفل
وجه عذب تطفو عليه سحابة من التصوف المعجون بخميرة الخيال.
إذا جلست إليه ولم يكلمك خلته أحد المتصوفين في شيع الأولين، ففي ابتسامته الجميلة الجذابة معنى من معاني الرقة، وفي سكوته المفكر معنى من معاني الجلال. أما إذا تكلم فتحسبه من هؤلاء الفلاسفة الأقدمين، وإن لم تخرج على لسانه بادرة من بوادر الفلسفة، ففي إغماضة عينيه جمال تصغى إليه - وقد يغمض عينيه عندما يتكلم - وفي رفرفة أجفانه سذاجة حلوة رقيقة.
انتشرت على بشرته الرقيقة قماشة مرقشة بألوان حمراء مبيضة وزرقاء شاحبة، تعلوها شعور شهباء غار عليها الشيب غارة حكيمة، فترك منها خيوطا رمادية تكاد تبهت.
لا تظهر على جسده الرقيق لمحة من الهزال، فهو رقيق وحسب.
حسن القامة رفيعها من غير عوج، يعرف أن يكرمها بلباس أنيق ويخلع عليها من مقلتيه هيبة الحكيم.
شاربان صغيران أكل المقص منهما شبعه فلم يترك منهما زاوية تتعدى فتحة الأنف.
من يمعن النظر في وجهه يتبين آثار بثور قديمة - قد تكون بثور الجدري - تحتجب وراء احمرار بشرته.
يضع طربوشه على مؤخرة رأسه كما تضعه أشياع القبضايات؛ إلا أني أرى في ذلك جاذبية قد لا يراها غيري.
صوت خافت في حنجرة حساسة.
يقال: إنه من مؤيدي الحكومة والانتداب في جميع شئونه وشئونهما ... قد يكون عاقلا في منهجه هذا وقد يكون مصيبا؛ إذ لا يرى من الحكمة أن يكلف نفسه أخذ الطريق من ناحيتها الطويلة.
لهدوئه وسكينته ظاهرة في المجلس لا تخفى.
أما من يريد أن يعرف مكانته في عالم الأدب، فليقرأ كتابه «تراجم علماء طرابلس الفيحاء وأدبائها».
فريد الخازن
نبتت أغراس الجمال في جنة وجهه فهي فردوس جميل، وبالغت العذوبة في عينيه حتى كحلتهما برشاش السحر وما فيهما كحل.
جبين بض كجبين النساء، إلا أنه أسهم في متاع الرجولة فهو جبين رجل.
أنف قويم شمست منه الكبرياء ولم يشمس الكبر، فهو في أديم وجهه كحمامة بيضاء تهم بها الدعة ويثنى عنها الغرور.
خدان يانعان تخضبهما حمرة كحمرة الورد في أول عهده، وتتموج على صقالتهما عروق زهرية مخمرة كخطوط الفجر في الشفق قبيل بزوغ الغزالة.
إذا تصفحت قسماته قسمة قسمة فزويت عينيه عن جبينه وفمه عن أنفه وخديه عن ذقنه، ثم حصرت بصرك في كل صورة من هذه الصور على حدة؛ وقعت على وجه صدفت عنه القوة تحت تأثير الحسن. أما إذا نظرت إليه دفعة واحدة فأعلقت عينيك بجملة وجهه فإنك لترى البأس والنشاط مجسمين في هيكله.
هيكل من هياكل العمالقة، ليس من الناس في كسروان إلا من يلحظه إعجابا، وبعضهم يلحظه حبا، فهو زعيم للطبقة الوسطى، تستن بسننه، ويلوي الطرب أعناقها لدى ذكره. نطقه الإخلاص بفاضل ذيله، وحفزه خلق أبي، فهو ينزل نفسه على إقالة الضعيف عثرته في كل حين ولو كان حزبا عليه.
شخص إلى النيابة في الدورة الأخيرة 1929 فلم يأنس بكرسيها على ما بذل من الجهود والليالي في سبيله، ولقد وقف به الكرسي عند صوت واحد يزعم البعض أنه ذهب ضحية تلاعب سياسي غمض حتى عن أوهام الكهان.
إن الشيخ «فريد الخازن» ذروة أهل العمل في نظر الكثيرين من الكسروانيين، فقد لا يتم مشروع في كسروان إلا ويكون لولبه ومحوره.
الدكتور أيوب ثابت
أعصاب مشنجة التف بعضها ببعض، فعملت رجلا هو الدكتور «أيوب ثابت».
وجه نحاسي رشح له ببلالة من التصوف، ورقمت عليه هذه الآية:
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .
عينان غلب الذكاء على رقتهما فإذا هما موقدان ملتهبان.
نادرا ما تجده مشرق الوجه، ففي معدته جنة تعبث بها فتسد مجاريها وتعكر عليه صفاء باله، أما إذا ضحك لك يوما فأيقن أن أنبوبا قد انفتح في معدته، فمزاج هذا الرجل يتوقف على حالة الأنابيب في بطنه.
داهية من دهاة السياسة، إلا أن سياسته عنصر سام قد يكون استقاه من ينابيع «شكسبير».
يقرن شدة الحزم إلى سمو الأخلاق. عصبي إلى حد الجنون، يستعين على عصبيته بأقداح «الوسكي» فتزداد.
قد لا تجد في لبنان من هو أجدر منه بمعالجة القضايا الخطرة، فإذا عقبت بالتذكار إلى عهد القضية العربية اللامركزية قبل سنوات الحرب علمت أنه كان من أشد أركانها، وإذا سبرت غور الحدث الذي أوجده برنامج الأستاذ «إده» في هذه الأيام، اتضح لك أن حسناته إنما هي أصلاب من برنامج كان في خاطر الدكتور «أيوب».
يحب من فرنسا ناحيتها المجيدة، إلا أنه يأبى على الانتداب أن يكون له ضلع في جميع شئون بلاده، فهو من هذه الجهة انتدابي ضئيل.
عري المبدأ من المذاهب، فهو يدين في سياسته بدين الديمقراطية الصحيحة.
برلماني نزيه، يجمع إلى تضلعه من أصول السياسة إخلاصا أكيدا واستقامة بكرا.
يمت بهوسه إلى هوس الأستاذ «إده».
تصور له الثقة بالنفس أنه إذا عالج أمرا ملكه من جميع أقطاره، وأنه جدير بأن يتبوأ في البلاد أظهر مراكزها، وقد يكون مصيبا، فجميع خلق الله في لبنان - من أقطابهم إلى زعانفهم - يعرفون في الدكتور «أيوب ثابت» جميع ألوان الرجل الرجل.
ولكن الحكومات المستعبدة لا تنظر إلى أحرارها نظرة الحكومات الحرة لهم، فإذا فكرت في الدكتور «ثابت» فقل معي: «إذا استنسر البغاث تطوي النسور أجنحتها.»
يوسف الخازن
وجه نبيل يدعو إلى الاحترام، طفت عليه كآبة التمرد المقهور، فمسحته بخيال من التردد والحيرة.
شعر مشعث الحلقات؛ يكاد ينبو عن مغرسه، فهو في سفح طربوشه الأحمر كسحب من الدخان الأشهب الرمادي حول عمود من اللهيب.
عينان لاهثتان في وقبيهما كسنورين مزجيين قعدا يستريحان بعد أين.
وجبين لا هو بالعريض ولا الضيق، تكالبت عليه الغضون فلا ينفض عنه الوجيب ولا يسرو جلباب التفكير إلا ساعة تعرج إليه خاطرة من النكات في لهو الحديث.
أما نكاته فتخرج من أطيب معادن المزح منبتا.
يمشي مشية التائه الحامل على كاهله تبعة أمر مريب، ما يؤكد لك أنه حدر عن وجهه لثاما كان يظهره بمظهر القوي أمام من يستدل ببصر ضعيف.
ذهبت قامته في مذاهب الجو وانتصبت مستقيمة كساق النخلة، ولقد استوى لها من روعة الجلال ما لم يستو لكثير من زملائه النواب.
إذا وقع نظرك على سيارة تقل رجلا فردا متقوسا على عصاه وقد تجمع بعضه إلى بعض كمن به قفة المقرور، أو إذا سمعت رجلا يتحدث في حلقة من الناس تتخطفه بأبصارها وتترامى بالنظرات عندما تسمعه منه فيخلط العامية الكسروانية بما علق في ذاكرته من العامية المصرية، وهو بين الآخذ بأذيال عدم الاكتراث بمن حوله، أو إذا جلت جولة في أروقة «بكركي» فوقع نظرك على رجل يهش بعصاه على الهواء كدولاب الناعورة، ورأيته يقرع بابا فلا يفتح، فيسأل أحد الخدم: فين فلان؟ فيجيبه هذا: خرج من ساعة يا سيدنا الشيخ. فيقرع بابا آخر، ثم ينقض على آخر، فعلى آخر، ولا يبرح يخوض بطن الأروقة قارعا الأبواب كأنما هي له طلقا حتى يفتح الجولان في وجهه؛ فقل هذا الشيخ «يوسف الخازن». •••
كان الشيخ «يوسف الخازن» في نظر الكسروانيين رأس إخوانه النواب ، فأداله صمته عن ذلك المقام العالي حتى في نظر هؤلاء.
لقد عرف فيه الشعب اللبناني رجل المجلس في وقفات كان له فيها الكلام الفصل، إلا أنه ما لبث أن ركد جانبا وأمسى في المجلس كأنما هو في منزل قلعة.
لقد رأيت النواب في شتى مواقفهم فما أرى أحدا منهم يشبهه؛ كان يطأ عقب المشاكل ليحلها، وهو من أهل العلم بمواقع الحق، فأمسى يطأ عقب الأموات ليرثيها، وقد يكون له في ذلك مآرب أخرى. كان يصرف بين الشعب والحكومة فأصبح يصرف بين الأرواح والله.
سمعت الشيخ «يوسف» منذ سنة يضرب في أرض لبنان خطيبا، فيحث الناس على انتخابه بألوان من الكلام، فجمعت عاطفتي لهذا الرجل إلى ما اتصف به من ماض شريف، وإذ كبر في صدري أن يزجى هذا الرجل عن كرسيه، أرسلت فيه أبياتا من الشعر، جاء فيها:
قد ينكر المندوب يا سيدي
والشعب إن الشعب قد يعثر
قد تنكر الأسماع ما قد وعت
وتنكر الأعين ما تبصر
قد ينكر الإنسان في جهله
لكن ذرى لبنان لا تنكر
ولكن عدت اليوم فاستخرت الحق في القفول عن عقيدتي فيه، وقلت في نفسي: «لم يكن على المندوب من غضاضة في أن ينكر، وعلى الشعب في أن يعثر!»
لم نكن نأخذ على الشيخ «يوسف» مأخذا لو لم يكن يربي على كثيرين من زملائه النواب في فنون السياسة والعلم، فهو راسخ في الصحافة والأدب، إذا عالج أمرا أحاط به من جميع أطرافه.
ويعز علينا أن لا يذكر الناس من روائع الشيخ إلا نكاته، وأن يقولوا: «لقد زرناه في المواقف الحرجة، فلم نجده ذلك الرجل!»
وإني لأرى الحق في جانب من قال: «لقد كان مثل غليان الشيخ يوسف في المجلس مثل نشيش الماء في القدر لا ترفع عن النار حتى يخمد الماء في جوفها.»
إبراهيم حيدر
لسان عملاق في جسد قزمة.
عينان وقادتان، لا تعلم من أي المعادن نارهما، أمن معادن الجحيم أم من معادن الأرض؟
رحب الجبين، بارزه، عاليه.
إذا وقع نظرك على غلام في نحو الأربعين من عمره، تراوح مشيته بين الإسراع والعدو، وهو لا يجاوز في طوله عصا الحطاب، وفي يده سبحة يستوفي طولها ربع قامته، أو إذا ولجت مسرحا للتمثيل فتدلى نظرك أو ارتفع إلى «لوج» استعمرته عصابة من رجال السياسة، ووقفت أبصارك على رأس صغير مؤونة مقلتاه بالذكاء وفمه بسحابة من الهزء يطل ثنيا بعد ثني من بين أكتاف جلسائه ليختلس بعض مشاهد الرواية، أو إذا أبصرت وأنت في الطريق بقطعة صغيرة من اللحم البشري يخيم عليها «صبحي حيدر» بقبعته الفرنجية؛ فقل هذا «إبراهيم حيدر».
زعيم «آل حيدر» في بعلبك، أما لونه السياسي فهو لون القهوة في الحليب.
يقال إنه «مطبق» من أول طبقة في هذا الفن إلا أنه يتناول في «تطبيقه» الكلام الطيب والخبيث بعد أن يمج عليه صبابة من حلاوة الحمة في لسانه.
وفي لسانه دماثة ظاهرة وراء مأرب خفي، ومن يسبر غور هذا الرجل يتضح له أن الطبيعة عندما جبلته شطرته إلى شطرين، فعملت من الأول جسدا ومن الآخر لسانا.
ناقم على أية وزارة ليس هو منها، وهو لا يزال يرعى الوزارات بطرف خفي، وكأني به كلما فكر في الوزارة تشرئب أمته ويصيح مع الشاعر العربي:
يا لك من قبرة بمعمر
لا بد من صيدك يوما فاصبري
ناپیژندل شوی مخ