تأليف
مي زيادة
الفصل الأول
كان مساء 8 أكتوبر باردا والجو ملبدا بالغيوم، وعندما أقبل أول الليل أخذت مساكن شارع رامبران تتوارى عن النظر شيئا فشيئا وراء حجب أستار ذلك الظلام الحالك، وكان الهدوء محيطا بالمكان والسكينة محدقة بجهاته الأربع كأنه روضة في قفر.
وإذا بامرأة حديثة السن، حسنة الهيئة، جميلة المنظر، ملتحفة برداء واسع تعبر تلك الطريق بسرعة، وهي تذهب وتأتي، وتصعد وتنزل ناحية الرصيف بين شارع لسبون وشارع كوسل، إلى أن وقفت أخيرا أمام أحد بيوت الشارع الثاني، ونظرت مليا واجهته المشرفة على السكة. لو صادفها أحد من المارين وقتئذ على تلك الحال لما شك في أنها تنتظر شخصا ما، وأن ذلك المكان هو موعد للقائهما، غير أنه لم يكن من سبب لمجيئها سوى مراقبة خيال، خيال فتاة ولدت في ذلك البيت منذ إحدى عشرة سنة، إلا أنها كانت منذ حين رقدت رقادها الأبدي تحت المرمر المحاط بشجيرات الورد الأبيض.
هذا وقد هجم الظلام الحالك بخيله ورجله، حتى إن كثرة المصابيح المتلألئة لم تكن تغني شيئا، فجلست تلك المرأة بالقرب من باب إحدى الحدائق وغاصت في بحر من الأفكار المزعجة، وبعد هنيهة بدأت دموعها الكثيرة تنهل على وجناتها وهي تتأوه وتصعد الزفرات من قلب مجروح، وفي غضون ذلك أرادت أن تترك تلك البقعة التي كثيرا ما تذكرتها أيام سعادتها، وإذ عزمت على مفارقة ذلك المكان سمعت بغتة صوت مركبة في أول شارع كوسل؛ فاستولى عليها رعب شديد واكتنفتها الحيرة من كل جانب، وأخذت ترتجف وهي لا تدري ماذا تعمل من شدة انفعالها، وأوشكت أن تقع على الحضيض، لكن يدا قوية أمسكتها بغتة وهي مطبقة الجفنين كمغمى عليها، واضعة رأسها على تلك الكتف التي تسندها، وفي أثناء ذلك سمعت صوتا كان قد غاب عنها منذ خمس سنوات. - مرغريت!
ففتحت عينيها ونظرت في وجه من ناداها ثم أطبقتهما، وبعد لحظة سمع صوتا من بين شفتيها المصفرتين: ألبير! - مرغريت. مرغريت. أنت هنا؟ ألم تزالي تتذكرين وقد أتيت إلى هنا لتنظري البيت الذي ولدت فيه؟ ثم جعل ألبير يضغط على ساعد مرغريت بشدة، ولم تستطع الجواب، بل كان يصعب عليها التنفس، وبعد هنيهة أجابت بالجهد: نعم جئت، ولكن لا تكلمني بل دعني وشأني.
فدنا منها وهو ممسك بيدها، وهمس في أذنها: من إحدى عشرة سنة يا مرغريت، لو عاشت ابنتنا لكانت بلغت إلى هذا العمر. قال ذلك والزفير يقطع صوته، وكاد يتقطع قلب تلك المسكينة التي بدأت عبراتها تجري على وجنتيها كسيل مدرار. - ابكي يا مرغريت، اندبي ابنتك واندبي حظ أبيها التعس. نعم، أنا هو ذلك الأب السيئ الحظ والد إيڤون، أليف صباك، وشريك حياتك سابقا، وقد نسيت ذلك.
فقاطعته بجرأة قائلة: لا، أنا لم أنس. ثم ظهر على محياها أنها تتذكر كل ما قاسته من العذاب مع ذلك الرجل في غابر الزمان، على أن ألبير تظاهر بأنه لم يسمع كلامها، ثم قال: تعالي نذهب إلى الحديقة؛ إذ إنها خالية في مثل هذه الساعة، ولنأخذ معنا كالسابق ابنتنا إيڤون.
فأذعنت مرغريت طائعة؛ لأنها كانت قد اعتادت الطاعة لهذا الصوت، ولكن في الدقيقة عينها خطر لفكرها كوميض البرق أنها زوجة رجل آخر؛ بيد أنها ظنت ذلك حلما: نعم، هذا هو الشارع، وهذا هو البيت بعينه، وهذه الحديقة نفسها، وألبير بجانبها حسب سابق عهده.
ناپیژندل شوی مخ