الفصل الرابع والثلاثون
وكان نور حياته ينطفئ شيئا فشيئا، ومرغريت جاثية بقربه في هيئة تفتت الأكباد، وماسكة يده بين كفيها وهي تردد على مسمعيه من وقت لآخر: أنا هنا. وتبكي بكاء مرا ليس على ما تراه في الحال فقط، بل على الماضي؛ إذ انفصلت عنه بمجرد إرادتها، وبذلك رفضت حبه وسعادتها معا. وحينما عادت أمها جلست في الغرفة المجاورة؛ لأن مرغريت تريد أن تكون منفردة في حجرة العليل، وبما أن النافذة بها تطل على البستان، أجالت النظر في تلك الحديقة الغناء المحتوية على أنواع الأزهار والرياحين، ثم حولت عينيها إلى جدران الغرفة حيث رسم مرغريت وإيڤون، فتبادر إلى ذهنها حالا أن ابنتها ذات زوجين، فلو أن هذا المنازع يعود إلى الحياة ماذا يحدث يا ترى؟ وهل تنفصل عنه مرغريت لتعود إلى روجر؟ إن الأمارات لا تدل على شيء من هذا! وهي بدون شك تبقى عنده، كيف لا وهو زوجها؟! ولكن الحمد لله؛ فإن الرجل مائت لا محالة. وكانت الساعة تمر ببطء لدى مدام موستل هذه؛ فضاق صدرها، وعندما سألت عن حال المريض قيل لها: إنه لا يزال على ما كان عليه من الضعف والانحطاط، وقد عاده الطبيب وخرج من غير أن يقول شيئا. فخابرت روجر بالآلة الناقلة الصوت «التلفون» وسألته عن حالة مكسيم فأجابها أنه يهتم به وألح عليها بألا تترك مرغريت.
في أول هجمات الليل ابتدأ النزاع، فشعرت مرغريت إذ ذاك بخوف هذه الوحشة الهائلة وحدها، وعند انتصاف الليل استدعت والدتها وأجلستها في ركن من الغرفة، وبقيت هي بجانب السرير الذي كان لم يزل يحتوي على آثار تلك الروح الراحلة إلى عالم الأبدية، ولم تكن تجد من تعزية وتسلية سوى البكاء والنحيب، ثم جثت على ركبتيها ساكبة الدموع الحارة، دموع ندم وحب وحزن.
ولم تكن الساعة الثانية بعد نصف الليل إلا سمعت مدام موستل صوتا زعزع أركان ذلك البيت: وا مصيبتاه! وا لوعتاه! لمن تتركني:
يا راحلا ودموع الحزن تصحبه
هل من سبيل إلى لقياك يتفق
نعم، مات ولم يبق لها أن تراه، وعما قليل ينحل في قبره ويعود إلى التراب الذي أخذ منه الإنسان. كانت مرغريت تسمع كلام أمها وتفهمه ولا تستطيع أن تعمل بموجبه، بل كانت تغمض عينيها وتأبى أن تجيب عليه بكلمة حتى حارت أمها في أمرها، وفي غضون ذلك وصلت مدام فارز وهي مصفرة الوجه، ممتقعة اللون، خائرة القوى، فنهضت للقائها مرغريت بسرعة وتعانقتا وهما تعولان وتنتحبان حتى جرت دموعهما على الحضيض، وما من معز يفثأ لوعتهما، ولا تزدادان إلا صياحا ونواحا بنوع يرق له الصخر، ثم سألتها مرغريت: وكيف بلغك خبر نعيه؟ أجابتها: كان كتب لي ليلة مجيئك إلى هنا، أشار أن يرسل لي كتابة بعد موته، وهكذا وصلني في هذا الصباح. فتجدد بكاء مرغريت وقتا طويلا وهي تندبه وترثيه وتودعه الوداع الأخير بألفاظ تزحزح الجبال الرواسي، ثم قالت لها مدام فارز: هل تريدين أن تأتي إلي حيث تبقين يوما أو يومين؟ - نعم، بكل اختيار. قالت أمها: وزوجك يا مرغريت؟! - لا أقدر أن أراه الآن؛ فأنا أريد الذهاب معها لا محالة! •••
جثت الاثنتان أمام جثة ألبير الهامدة زمانا غير يسير، وهما تصليان وتضرعان إلى الله بأن يرحمه ويمتع تلك الروح براحة في فسيح جنانه، ثم زودتاه بنظرات الوداع الأخيرة وخرجتا وفي كل قلب جراح عميقة.
نعم، إن نيران الحزن المتقدة في الأحشاء تخمد شيئا فشيئا، ثم يستدعي الصغير أمه، فتعود هذه إليه بشوق وحنين والعود أحمد، وذاك الذي كان حليما غفورا يصبح في آخر الأمر محبوبا أبد الدهر.
ناپیژندل شوی مخ