أما مرغريت فإنها قدرت محبته حق قدرها وزادت ثقتها به؛ ولهذا أرادت أن تطلعه على مكنونات فؤادها وكل ما حدث لها مع ألبير؛ ففي إحدى المرات بينما كان الحديث جاريا بينهما والموضوع موافقا، وجدت فرصة ملائمة لإخباره فقالت: أريد الآن أن أخبرك ... عندما لفظت هذه الكلمات ظهر على وجهه اضطراب عظيم وارتجف بدنه، ولم يقدر أن يضبط نفسه، وقال: بماذا تخبرينني؟ فعدلت عن عزمها الأول وغيرت معنى الجملة بشيء آخر، وعلمت منذ تلك الساعة أنه يصعب عليها جدا أن تخبر روجر باجتماعاتها بألبير، مع أنها كانت تود أن تكون له معرفة تامة بها؛ لأنه أدرى منها بحل المشاكل وتذليل الصعوبات، وكانت من حين زواجها به تشرح له أفكارها وسائر عواطفها؛ إذ إنها كانت متحققة حبه الثابت الذي لا يتزعزع، لكنها لم تجسر على التكلم في هذا الموضوع البتة.
إن روجر على أثر اقترانه بها لم يطلب منها حبا؛ لأنه كان عالما بهمومها وأحزانها، فلا معنى لتكليفها الحب حينئذ؛ لأن قلبها مشغول بغير شيء، ولكن كان في أثناء السفر يجتهد غاية الاجتهاد في اكتساب قلبها بكليته، واشتهى أن تحبه كما يحبها، وخلع عنه ثوب الارتباك وأظهر لها من الجرأة والقوة ما لم تكن تعهده فيه قبلا، فسلوكه هذا صدها عن المداخلة في مثل هذا الموضوع.
إن مرغريت كتبت مرارا إلى والدتها تخبرها بوفرة انشراحها وفرط سرورها، وما هي عليه من حسن الحال وصفاء البال ماديا وأدبيا، وذلك مما لا جدال فيه؛ فإن سرورها في تلك البقعة أنساها كل ما كان يزعجها ويقلقها، ناهيك عن بقعة قد اشتهرت بمناظرها الطبيعية الفتانة، فاعتدال الهواء، وصفاء السماء وزرقتها ونقائها وبهجتها، وجمال الأفق الذي يسحر الألباب ويسبيها، حيث تحته البحر المتوسط الذي تتكسر أمواجه على تلك الشواطئ التي تأخذ بالعقول كل مأخذ، هذا فضلا عن جمال مناظر ما يجاورها من الجبال والآكام الخضراء التي مجرد رؤيتها يحيي القلوب المنكسرة، وكانت مرغريت تشعر بأن قلبها يتسع وينفتح رويدا رويدا حتى يكاد يحتضن الفضاء وزرقة القبة الخضراء.
وكانت في صباح كل يوم تسير مع روجر على شاطئ البحر، حيث تصادف بائعات الأزهار المختلفة الألوان والأشكال، فتشتري منهن باقات ذات روائح عطرة تنعش القلب، وبعد سير ساعة من الزمان تعود إلى الفندق مستندة على ذراع زوجها، وكانت عندما يعرب لها عن شعائر حبه تصغي إلى كلامه باسمة وتميل بكليتها إليه، ثم تشكره شكرا جزيلا على هذه الإحساسات الشريفة.
وفي ذات يوم سمعت من بعض الجالسين نبأ المقامرة التي تجري في ملعب مونتي كارلو الشهير، فقالت على الفور لروجر: وأنا أيضا أرغب في الذهاب إلى هناك لأجل المقامرة - إذ إنها كانت تشعر من نفسها باحتياج إلى التنقل من مكان إلى آخر لتغيير المناظر الجديدة على توالي الأوقات، وفي أثناء ذلك اليوم كانت تحدث روجر بالمقامرة، ومونتي كارلو، والذهاب بأقرب وقت، والربح وما يتعلق بذلك، والخلاصة لم يدر في خلدها ذلك اليوم سوى المقامرة ومكانها. - أتظن أني أربح يا روجر. - إذا كان الربح غاية متمناك فليكن لك ما تشتهين! - لا أقول لك إن ذلك غاية مشتهاي، لكني أسالك ماذا تظن بذلك؟ لعلي أكون صاحبة بخت، فما هو اعتقادك؟ - اعلمي يا عزيزتي أني لسوء الحظ لست موسى ولا حزقيا ولا إيليا، فلا تكلفيني بأمر النبوءات، فإني عاجز عنها. - لكن يحلو لي أن أمتحن البخت والنصيب، ألا يلذ لك ذلك . - لا، إن ذلك ليس من رغبتي ولا يحلو لي. - بالحقيقة يا روجر، إن أخلاقك غريبة وطباعك عجيبة، أقول لك بكل حرية إنك لست من أهل هذا العصر!
فامتعض روجر من هذا الكلام ولم يحر جوابا، بل قال لها إنه آسف على هذه الأوقات العذبة التي بها لا يقدر أن يفارقها ولا دقيقة واحدة.
فأجابته مرغريت بمثل كلامه. - أصحيح ما تقولين؟ - وهل تستغرب ذلك أو تشك فيه؟
فاعتقد روجر إذ ذاك أنها تبادله الحب.
الفصل الثالث عشر
في صباح سفرهما إلى مونتي كارلو لم يتكلم روجر سوى كلمات قليلة دون تبسم، أما هي فكانت بعكس ذلك، غير أنها انقبضت فيما بعد عندما رأته لا يشاطرها انبساطها وابتهاجها؛ ولذلك فكرت في أثناء هذا السفر على رغمها في ألبير وهشاشته وبشاشته ومزاحه، وعند بلوغهما المكان المقصود قالت له: ها قد أفقت من نومك، فالحمد لله!
ناپیژندل شوی مخ