فيا أيها الدهر الخئون الغدار، لم جمعت قواك وبذلت جهدك في تفريق شمل الأحباب وتشتيت الأصحاب؟ لم هذا الجور أيها الزمان الظالم؟ بل كيف يسوغ لك أيتها الطبيعة إصدار هذا الحكم المخالف كل عدالة على خط مستقيم بتشتيت هذه الأسرة الصغيرة؟
وأما أنت أيها الحب القوي الجبار، ترى بأي عبارات أكلمك؟ وبأي لسان أخاطبك؟ بل أي ألفاظ أسوقها إليك!؟ لعمري إنك لأنت الملك العظيم الاقتدار، أنت المستبد بالحكم على شعبك الكثير، لم أيها الحب لا تصد هجمات الكون عن عبادك، وتمنع الإيذاء عن آلك والتابعين شرعك ومرادك؟
لم لم تدفع أيها الحب عن هؤلاء الثلاثة نقمات غضب العالم والدهر والزمان والسماء والأرض والعناصر؟ مع أنك أيها الحب على كل شيء قادر! لعمري إنه لم يكن من العدل أن تسمح للطبيعة والأحوال أن تكدر صفاء عيش من اتبعوا شريعتك. كيف يجوز أيها الحب أن تدع الموت والافتراق يدخلان بيوت من يعبدونك ويحافظون كل المحافظة على اتباع سننك؟
ظلت مرغريت جاثية زمنا طويلا وهي غائصة في بحر من التأملات المحزنة، لكنها تصورت على حين بغتة شخص إيڤون منتصبا أمامها، فهتفت: ابنتي المحبوبة، هلمي إلى داخل قلبي، تعالي أقيمي في حضن أمك الحزينة التي لا تنساك ولا يطيب لها عيش بعدك. سلام عليك وألف تحية يا ابنتي التي أذوب حبا لدى ذكر اسمك العذب المستحب، سلام على عينيك المطبقتين حتى يوم النشور، سلام على شفتيك الباردتين، أين أنت الآن يا ولدي إيڤون؟ عند من تسكنين؟ ومع من من الملائكة تلعبين؟
بل سلام على روحك الطاهرة التي لا شك أنها تتنعم بذلك الفرح الدائم! لكن أنى لجسمك المتنعم أن يحتمل السكنى مع الديدان، ويطيق ظلمة القبور؟ نعم نعم، قد تلاشى جمالك، واضمحل حسنك، وذبل ورد خديك، وأضحت أعضاؤك رمما بالية، وصرت أثرا بعد عين، فوا لوعتاه ووا حسرتاه! لم لا تسرع أيها الموت وتأخذني إلى فلذة كبدي إيڤون؟ تعال ولا تبطئ.
وفي غضون ذلك نظر روجر إلى مرغريت فكاد قلبه يتمزق، وخصوصا عندما رأى جسمها ملقى على الحضيض جثة لا حراك بها، فدنا منها ومسك يدها وأنهضها بحنو قائلا لها: انهضي أيتها الحبيبة الحزينة، فقد آن لنا أن نذهب. فوقفت وقد أودعت ذلك المكان التنهدات والزفرات التي يرق لها الجلمود، ثم سارت وهي مستندة إلى ذراعه. أما هو فعندما رأى أن الحزن آخذ منها مأخذه، شرع يعزيها ويقول لها: كفكفي دموعك، وافتكري بمكسيم ولدك الجميل المحبوب، تذكري كلماته اللطيفة، افطني في تلك القبلات الحلوة اللذيذة، فقالت بصوت خفي: نعم، نعم. بعد أن كادت تخنقها العبرات، ثم نشفت دموعها وهي صامتة. ذلك ولم يزل روجر يردد على مسامعها آيات حبه لها، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعلها تسلو إيڤون، ثم قال لها: إني أبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك يا عزيزتي؛ لأنسيك ذكر عذاباتك الماضية وما تقاسينه من فراق إيڤون. - لا أقدر أن أنساها. - أعرف ذلك، ولكن ما قولك إذا رزقت إيڤون أخرى؟
فابتسمت عند ذكر ذلك على ما بها من الحزن والغم.
الفصل الرابع
وعندما وصلا إلى سانت أوغستان قالت له: أشكرك يا روجر شكرا جزيلا. - بإذن الله سأشاهدك مساء في أتم صحة وأنعم بال.
قال هذا وذهب في طريق آخر لعيادة مرضاه، وكان النهار صحوا مع أن السحب تحجب السماء، وبينما كانت مرغريت سائرة تذكرت عندما سمعت الساعة تضرب أنها عاهدت ألبير بالمقابلة في مثل هذا الوقت بالحديقة المعلومة، فوقفت تناجي نفسها وقد حارت في أمرها ولم تدر ما تعمل، على أنها كانت متيقنة نيل عزاء عظيم بقربه لا سبيل للحصول عليه بسواه؛ لأن الحديث بينهما سيكون في إيڤون. ثم قالت في نفسها: لا مانع يصدني عن الذهاب إليه؛ فهو وحيد في هذه الدنيا لا أنيس له ولا تعزية، فلا يمكنني أن أخلف وعدي، بل لا بد من الذهاب إليه الآن على جناح السرعة، قالت هذا وسارت ووجهتها موعد اللقاء، ولما بلغت باب الحديقة رجعت القهقرى كأنها ندمت على مجيئها، ولم تزل على هذه الحال مترددة، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، إلى أن عزمت أخيرا على الدخول، فتوغلت بين تلك الأشجار الملتفة بقدم ثابتة وعزم أكيد، حتى انتهت إلى الموضع المقصود، فوجدته جالسا ينتظرها على أحر من نار الغضا، وعندما لاحت له خف لملاقاتها، ثم صافحها وقبل شعر رأسها، فاضطربت وتملصت من يده، فاعتذر وقال: لا بأس، سامحيني يا مرغريت؛ فإني تعيس! - يظهر لي ذلك.
ناپیژندل شوی مخ