تحافظ المبادئ التي رسخت في النفوس على نفوذها أجيالا كثيرة، ولم تشذ المبادئ التي أعلنتها الثورة الفرنسية عن هذا الناموس، فمع أن دوام تلك الثورة، كحكومة، كان قصيرا جدا نرى تأثير مبادئها قد طال كثيرا، وعلة ذلك أن هذه المبادئ لما صارت معتقدا ذا صبغة دينية حولت وجهة مشاعر كثير من الأجيال وأفكارهم تحويلا أساسيا.
استمرت الثورة الفرنسية وقتا طويلا، ولا تزال مستمرة، وذلك مع ملاحظة بضع فترات وقعت، ولم يقتصر تأثير ناپليون على قلب العالم وتغيير خريطة أوربة وتجديد أعمال الإسكندر؛ بل كان لحقوق الشعب الجديدة، التي أعلنتها ثورتنا الكبرى وثبتها ناپليون في أناظيم وقوانين، تأثير عظيم في كل مكان، وقد عاشت هذه الحقوق الثورية، التي أعان ناپليون على انتشارها، بعد زوال ملكه.
وما وقع بعد الدور الإمبراطوري من الحوادث التي أدت إلى إقامة الملكية أنسى الناس شيئا من مبادئ الثورة الفرنسية في بدء الأمر، وقد تركت هذه المبادئ أثرا في نفوس عدد يسير من النظريين الوارثين لنظرية اليعاقبة البسيطة، والمعتقدين أن القوانين تجدد المجتمعات، فأراد هؤلاء استئناف العمل.
أخذوا يذيعون مبادئهم مما ينشرونه من مقالات وكتب، ونشأ عن تقليدهم رجال الثورة الفرنسية عدم بحثهم في مسألة ملاءمة خططهم الإصلاحية لطبيعة البشر، وهاهم أولاء قد أقاموا، مثل رجال الثورة الفرنسية، مجتمعا وهميا ظانين أن تحقيق أحلامهم فيه يجدد النوع الإنساني.
والنظريون في كل جيل - وإن لم يقدروا على البناء - أثبتوا أنهم قادرون على التخريب. قال ناپليون في جزيرة القديسة هيلانة: «لو قامت ملكية من صوان لاستطلاع النظريون أن يحولوها إلى غبار».
ومن بين أولئك الخياليين، الذين نذكر منهم سان سيمون وفوريه وپيارلير ولويس بلان وكينيه، نرى أن أوغست كونت وحده هو الذي أدرك وجوب نشوء الأفكار والعادات قبل التنظيم السياسي.
ولا تؤدي خطط النظريين الإصلاحية في الوقت الحاضر إلى انتشار المبادئ الديموقراطية بل تعوق سيرها، فالشيوعية تخوف أرباب المال والطبقات العاملة، وقد رأينا في الفصل السابق أن الخوف منها كان عاملا أساسيا في إعادة النظام الإمبراطوري.
ومع أن ما ألفه كتاب النصف الأول من القرن التاسع عشر لا يستحق أن يجادل فيه فإنه يثبت ما للمبادئ الدينية والأدبية المحتقرة الآن من الشأن في ذلك الزمن، فالمصلحون في كل زمن سعوا إلى إقامة المجتمعات الجديدة على ما لا تقوم بغيره من المعتقدات الدينية والأخلاقية.
وإلام يستند المصلحون في إيجاد تلك المعتقدات؟ يستندون إلى العقل، فما دام العقل هو الذي يصنع الآلات المعقدة فلم لا يستعينون به على إيجاد معتقدات دينية أو خلقية؟ لم يخطر على قلب أحد منهم أن المعتقدات المذكورة لا تقوم على أساس العقل أبدا، حتى إن ذلك خفي على أوغست كونت نفسه، فقد أسس دينا وضعيا لم ينتحله سوى بضعة أشخاص حتى الآن، ويأمر هذا الدين بتعيين كهنة يديرهم حبر جديد غير الحبر الأعظم للمذهب الكاثوليكي.
ولم ينشأ عن هذه الأفكار السياسية والدينية والخلقية غير تحويل الجماعات عن المبادئ الديموقراطية، أقول ذلك والمبادئ الديموقراطية آخذة في الانتشار السريع، وإنما يقع هذا الانتشار بتأثير طرق الحياة الجديدة، لا بتأثير النظريين، فقد أوجبت مبتكرات العلم تقدم الصناعة، وتأسيس مصانع عظيمة، وتغلب مقتضيات الاقتصاد على عزائم الحكومات والشعوب شيئا فشيئا، وفسح المجال في الوقت الحاضر للمذهب الاشتراكي والمذهب النقابي، أي لمظهري الأفكار الديموقراطية. (2) النصيب المتفاوت لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة
ناپیژندل شوی مخ