حماسة مؤسسي الثورة الفرنسية تعدل حماسة ناشري دين محمد، فقد كانت تلك الثورة ديانة اعتقد رجال الطبقة الوسطى في المجلس الاشتراعي الأول أنهم أسسوها وقضوا بها على المجتمع القديم، وأقاموا بها حضارة أخرى على أنقاضه، وما وجد خيال فاتن شغل قلب الإنسان أكثر من ذلك الخيال، فكان أولئك الرجال يقولون إن مبدأ الإخاء ومبدأ المساواة اللذين أعلنوهما يمنحان الأمم سعادة أبدية، وإنه لما قطعت العلائق بالماضي المظلم المتوحش أصبح المجتمع الجديد سائرا على نور العقل المطلق.
وإذا كان العنف قد قام حالا مقام هذه الحماسة فذلك لأن انتباه الناس كان سريعا، ويسهل علينا إدراك السر في أن رسل الثورة الفرنسية وقفوا أشداء غاضبين في وجه العوائق اليومية المانعة من تحقيق أحلامهم، فهم لما أرادوا نبذ الماضي ونسيان التقاليد وتجديد البشر، وكان الماضي يظهر من غير انقطاع، والبشر يأبي أن يتغير، اضطروا إلى التوقف عن سيرهم غير مريدين الخضوع، فأخذوا يكرهون الناس على الانقياد لأوامرهم بضغط أعادوا به - في النهاية - النظام السابق المقضي عليه، والذي لم يلبث أن أسف الناس عليه.
ومما يستحق الذكر أن حماسة الأيام الأولى التي لم تدم كثيرا في المجالس الثورية بقيت في الجيوش، فكانت سر قوتها، فجيوش الثورة الفرنسية، التي كانت تميل إلى الجمهورية قبل أن تصبح فرنسة جمهورية، استمرت على نزعتها زمنا طويلا بعد أن صارت فرنسة غير جمهورية.
تتبع تقلبات الخلق، التي بحثنا فيها آنفا، بعض الأماني وتحولات البيئة، وهي ترد إلى أربع نفسيات: النفسية اليعقوبية، والنفسية الدينية، والنفسية الثورية، والنفسية المجرمة.
الفصل الثاني
النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
(1) تقسيم النفسيات التي تسود الثورة
تؤدي التقسيمات - التي يستحيل البحث العلمي بغيرها - إلى قطع ما هو متصل، ولا مفر من ذلك، فالمتصل لا يدرك إلا بعد تحويله إلى أجزاء.
ولم يكن التفريق بين مختلف النفسيات التي تسود الثورة سوى فصل عناصر متداخلة، ويجب ترك قليل من الضبط والصحة لنيل ما يقابل ذلك من الوضوح، فالعناصر الأساسية التي أشرنا إليها في آخر الفصل السابق لا يمكن تفصيلها عند البحث فيها مشتبكة الأجزاء.
بينا أن الإنسان تسيره أنواع المنطق الكثيرة المتقاربة التي لا يؤثر بعضها في بعض في الأوقات العادية، وتتنازع هذه الأنواع بتأثير الحوادث، فيبدو الفرق بينها للعيان فيؤدي ذلك إلى اضطرابات فردية وانقلابات اجتماعية عظيمة. (2) النفسية الدينية
ناپیژندل شوی مخ