ولا تنفع هذه الدروس المؤتمرين الكثيرين في الوقت الحاضر، والذين لا يزالون يجهلون أن الفتن التي أثارتها أطماعهم تنذرهم بالويل والثبور، والذين بذروا في نفوس الجماعات آمالا يتعذر تحقيقها، وحركوا شهواتها، وقوضوا الروادع التي أقيمت في قرون كثيرة لزجر أمثالهم.
وإن مقاتلة الجماعات العمي لصفوة الرجال من الأمور التي جرت سنة التاريخ عليها، وما أكثر المدنيات التي قضى عليها انتصار الحكومات الشعبية! فالخواص يبنون، والعوام يهدمون، ومتى ضعف أولئك ظهر تأثير هؤلاء المفسد.
ولم تتقدم الحضارات العظيمة إلا بالتغلب على العوام، ولم ينشأ عن الاستبداد الديموقراطي فوضى فحكم مطلق فغارات أجنبية ففقد استقلال في بلاد اليونان وحدها؛ بل إن الاستبداد الفردي عقب استبداد الجماعات في كل زمن، وهو الذي زعزع عظمة رومة، وأدى إلى قضاء البرابرة عليها.
الخلاصة
بحثنا في هذا المؤلف عن الثورات المهمة التي زلزلت بنيان التاريخ، ولكننا فصلنا - على الخصوص - أمر الثورة الفرنسية التي هي أهمها؛ لقلبها أوربة مدة عشرين سنة، ولأن صداها لا يزال يرن.
وهذه الثورة مصدر وثائق نفسية لا ينضب معينها، ولا نعلم دورا تاريخيا جمع تجارب كثيرة في وقت قصير مثل دورها.
وقد وجدنا في كل صفحة من صفحات هذه الفاجعة مجالا لتطبيق ما بيناه في مؤلفاتنا المختلفة من المبادئ الدالة على ما عند الجماعات من الروح الموقتة، وعلى ما عند الشعوب من الروح الثابتة، وعلى تأثير المعتقدات، وشأن المؤثرات الدينية والعاطفية والاجتماعية، وعلى تصادم أنواع المنطق.
وأحوال المجالس الثورية تنبئنا بصحة نواميس روح الجماعات، فالمسير لهذه المجالس في حالة الاندفاع وحالة الخوف عدد صغير من الزعماء، وكثيرا ما تأتي هذه المجالس أعمالا مخالفة لعزائم كل عضو من أعضائها وهو منفرد، فمع أن المجلس التأسيسي كان ملكيا فقد قضى على الملكية، ومع أن الجمعية الاشتراعية كانت مشبعة من روح الإنسانية فقد سمحت بوقوع مذابح سبتمبر، ومع أنها كانت مسالمة فقد دفعت فرنسة إلى القيام بحرب هائلة، ثم وقع مجلس العهد في مثل ذلك التناقض مع أن أكثريته كانت مؤلفة من فلاسفة ذوي عواطف رقيقة، فمع أن أعضاء مجلس العهد كانوا يمجدون المساواة والإخاء والحرية ويمقتون الاضطهاد فقد اقترفوا أشد المظالم، وقد وجد مثل هذا التناقض في عهد الديركتوار أيضا، فمع أن مجالسه كانت معتدلة في أمانيها سفكت الدماء بغيا وعدوانا، ومع أنها أرادت توطيد دعائم السلم الدينية فقد نفت ألوف الكهنة، ومع أنها ودت تعمير فرنسة فقد زادتها خرابا.
إذن، الاختلاف تام بين عزائم رجال الثورة الفرنسية وهم منفردون وعزائمهم وهم مجتمعون، وعلة ذلك إطاعتهم قوى خفية لا سلطان لهم عليها، فهم، وإن اعتقدوا أنهم خاضعون لسلطان العقل المطلق، كانوا يعانون ما لم يدركوا أمره من المؤثرات الدينية والعاطفية والاجتماعية. •••
تقدم الذكاء مع تعاقب الأجيال ففتح للإنسان آفاقا عجيبة، وأما الخلق الذي هو أساس روح الإنسان والمحرك الحقيقي لأعماله فلم يتبدل منه شيء، وإذا تنكر الخلق قليلا فإنه لا يلبث أن يظهر كما كان؛ ولذلك وجب النظر إلى الطبيعة البشرية كأمر واقع لا يتغير.
ناپیژندل شوی مخ