مقدمة المترجم (1)
مقدمة المترجم (2)
مقدمة المؤلف (1)
مقدمة المؤلف (2)
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول: صفات الثورات
1 - الثورات العلمية والثورات السياسية
2 - الثورات الدينية
3 - شأن الحكومات في الثورات
4 - شأن الأمة في الثورات
الباب الثاني: النفسية التي تسود الثورات
1 - تقلبات الخلق أيام الثورات
2 - النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
3 - النفسية الثورية والنفسية المجرمة
4 - روح الجماعات الثورية
5 - روح المجالس الثورية
الجزء الثاني: الثورة الفرنسية
الباب الأول: مآخذ الثورة الفرنسية
1 - آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية
2 - مبادئ النظام السابق النفسية
3 - الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
4 - الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
الباب الثاني: تأثير العقل والعاطفة والتدين والاجتماع أيام الثورة الفرنسية
1 - روح المجلس التأسيسي
2 - روح المجلس الاشتراعي
3 - روح مجلس العهد
4 - حكومة مجلس العهد
5 - مظالم الثورة الفرنسية
6 - جيوش الثورة الفرنسية
7 - روح زعماء الثورة الفرنسية
الباب الثالث: النزاع بين المؤثرات الوراثية والمبادئ الثورية
1 - تقلص الفوضى - حكومة الديركتوار
2 - إعادة النظام - الجمهورية القنصلية
3 - النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ الثورية
الجزء الثالث: نشوء المبادئ الثورية في الوقت الحاضر
1 - تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
2 - نتائج النشوء الديموقراطي
3 - الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
الخلاصة
مقدمة المترجم (1)
مقدمة المترجم (2)
مقدمة المؤلف (1)
مقدمة المؤلف (2)
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول: صفات الثورات
1 - الثورات العلمية والثورات السياسية
2 - الثورات الدينية
3 - شأن الحكومات في الثورات
4 - شأن الأمة في الثورات
الباب الثاني: النفسية التي تسود الثورات
1 - تقلبات الخلق أيام الثورات
2 - النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
3 - النفسية الثورية والنفسية المجرمة
4 - روح الجماعات الثورية
5 - روح المجالس الثورية
الجزء الثاني: الثورة الفرنسية
الباب الأول: مآخذ الثورة الفرنسية
1 - آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية
2 - مبادئ النظام السابق النفسية
3 - الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
4 - الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
الباب الثاني: تأثير العقل والعاطفة والتدين والاجتماع أيام الثورة الفرنسية
1 - روح المجلس التأسيسي
2 - روح المجلس الاشتراعي
3 - روح مجلس العهد
4 - حكومة مجلس العهد
5 - مظالم الثورة الفرنسية
6 - جيوش الثورة الفرنسية
7 - روح زعماء الثورة الفرنسية
الباب الثالث: النزاع بين المؤثرات الوراثية والمبادئ الثورية
1 - تقلص الفوضى - حكومة الديركتوار
2 - إعادة النظام - الجمهورية القنصلية
3 - النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ الثورية
الجزء الثالث: نشوء المبادئ الثورية في الوقت الحاضر
1 - تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
2 - نتائج النشوء الديموقراطي
3 - الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
الخلاصة
روح الثورات والثورة الفرنسية
روح الثورات والثورة الفرنسية
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم (1)
أقدم الطبعة الثالثة لترجمة كتاب «الثورة الفرنسية وروح الثورات»، وذلك على وجه يكاد يكون جديدا في العبارة والمظهر ...
لقد نفدت نسخ الطبعة الثانية منذ زمن غير قصير، وما وجدناه من إلحاف ذوي الفضل لإعادة الطبع جعلنا نقدم على تقديمه في هذه المرة؛ لما رأينا من تقدير القارئ العربي لفلسفة الثورات، ولا سيما الثورة الفرنسية، ولما نعلم من أنه لم يظهر في الموضوع مؤلف يقوم مقام هذا الكتاب، وقد اعتقد واضعه الفيلسوف العلامة الدكتور غوستاڤ لوبون أنه يصعب بعد إخراجه أن يكتب تاريخ للثورة الفرنسية وروح الثورات من غير أن ينظر إلى ما اشتمل عليه من آراء ومبادئ وتحليلات لم يسبقه إليها أحد كما يظهر.
ومن رأي لوبون أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من التخريب في أثناء الثورة الفرنسية لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا كبير عناء، أي إن لوبون يقول بمبدأ التطور التدريجي للفوز بما قد لا يؤدي إليه العنف، وإن ما تنتهي إليه الثورات من النتائج يكون قد نضج نضجا غير شعوري في الماضي فتكون الثورات طورا أخيرا لهذا النضج يمكن حدوثه بلا عنف وجور.
ولهذا فإن لوبون يطلق اسم الثورات على الانقلابات السياسية والدينية والعلمية، كما يحدد شأن الحكومات والأمة في الثورات، وهو لا يغفل عن تقديم بيان كاشف عما يسود الثورات من خلق وحقد وخوف وحرص وحسد وزهو وحماسة، كما يبحث في روح الجماعات والمجالس الثورية.
فأرى، والحالة هذه، أن المؤرخ إذا ما سلك مثل هذا السبيل أظهر مؤلفه صورة ناطقة عن الماضي مع الإمتاع العلمي والفوائد الفلسفية والنفسية التي لا تحصى.
نابلس
مقدمة المترجم (2)
إن علم الاجتماع من العلوم التي عني العلماء في الوقت الحاضر باستجلاء قواعدها، ومن أكابر هؤلاء العلماء مؤلف «حضارة العرب»: الدكتور غوستاڤ لوبون.
ألف هذا العلامة، بعد سياحات كثيرة قام بها في أقطار الأرض، كتبا ذات قيمة في مدنيات بعض الأمم، ثم وضع ثلاثة كتب بسط فيها ما استنبطه في تلك الأثناء من العبر وما ظهر له من سنن الاجتماع وهي: «السنن النفسية لتطور الأمم» و«روح الجماعات» و«الآراء والمعتقدات»، ثم عرض ما جاء في هذه الكتب من الآراء الكلية على مسائل أخرى فأخرج للناس «روح الاشتراكية» و«روح الثورات والثورة الفرنسية»، وقد نقلت هذين المؤلفين إلى العربية، فقدمت طبع الثاني لصغر حجمه، وسأطبع الأول بعده إن شاء الله تعالى.
نقل المرحوم فتحي باشا زغلول كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» بعنوان «سر تطور الأمم» وكتاب «روح الجماعات» إلى العربية، فأرجو أن أعرض على القراء، عما قليل، ترجمة كتاب «الآراء والمعتقدات» فتكون قد اجتمعت عندهم كتب غوستاڤ لوبون الثلاثة الأساسية وكتابان من كتبه التحليلية.
ولا أرى أن أشير إلى ما في مؤلفات الكاتب المشار إليه، ولا سيما «روح الثورات والثورة الفرنسية»، من الفوائد العلمية والحقائق التاريخية، فالأمر أصبح مشهورا لا يحتاج إلى بيان، وإنما أنقل العبارات الآتية على سبيل الذكر:
قال العضو في المجمع العلمي الفرنسي، إميل فاغه، وهو من أشهر كتاب فرنسة:
قد أثرت أفكار غوستاڤ لوبون السياسية الصائبة في نفسي تأثيرا جعلني في الوقت الحاضر أعتمد عليها، فالفصل الذي بحث فيه عن أوهام رجال الثورة الفرنسية حسن من كل الوجوه، وهذه الأوهام هي اعتقاد صلاح الإنسان، وأن من الممكن فصل الأمم عن ماضيها، وتحويل المجتمع بوضع القوانين، ولا يخفى ما أدت إليه هذه الأغاليط الكبيرة من النتائج.
أشارك غوستاڤ لوبون في ما ذكره عن علل نجاح ناپليون بوناپارت، فالنصر وحده، وهو الذي دل على ناپليون، لم يجعله سنة 1795 معبود فرنسة، وإنما الذي سهل نجاحه هو نفور الناس من الظلم والاضطهاد والأزمة المالية والطمع في الأملاك العامة.
أعجب بغوستاڤ لوبون كخصم للقدر التاريخي الذي شب على اعتقاده أبناء جيلي، فهذا القدر من الأمور المختلة.
وجاء في مجلة العالمين:
إن ما أتى به غوستاڤ لوبون من البحث الدقيق في مؤلفاته في الفلسفة وعلم الحياة والتاريخ مكنه من إيضاح بعض الأمور العظيمة التي ظلت غامضة حتى الآن، وقد استطاع أن يوضح قواعد الحركات الثورية في كتاب مبتكر جديد بحث فيه عن روح الثورات والثورة الفرنسية.
أوضح في هذا الكتاب وجه الشبه بين السنن النفسية للحوادث الكبيرة التي حولت مصير الأمم كثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية، كما أنه أوضح فيه شأن الشعوب الضعيف في الحركات الثورية ومناقضة عزائم أعضاء المجالس وهم منفردون لعزائمهم وهم مجتمعون والتأثير الكبير للعاطفة والدين في سير أبطال الثورة الفرنسية.
باريس في 6 من يناير سنة 1934
مقدمة المؤلف (1)
مختلف الآراء في الثورة الفرنسية
لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».
ومع أن الغاية التي توخيتها تجعلني لا أبالي بالآراء التي قيلت في الماضي فإنني رأيت الاطلاع عليها مفيدا، فخصصت فصلا لبيان ما أتى به المؤرخون من مختلف الأفكار في الثورة الفرنسية.
لا تعبر الكتب إلا عن آراء أصبحت قديمة، وهي - وإن أمكن أن تهيئ الأفكار المستقبلة - قلما تعرب عن الأفكار الحاضرة، والمجلات والجرائد وحدها هي التي تعبر عن الوقت الحاضر تعبيرا صادقا، ولهذا فإن ما يجيء فيها من النقد مفيد جدا.
يمكن أن نستخرج من المقالات التي نشرت حول هذا الكتاب ثلاثة آراء دالة على ما يدور الآن حول الثورة الفرنسية من الأفكار:
فالرأي الأول: يعد الثورة الفرنسية معتقدا يجب قبوله أو رفضه بأسره، والرأي الثاني: يعتبرها سرا غامضا، والرأي الثالث: يعدها حادثة لا يجوز الحكم فيها قبل نشر كثير من الوثائق الرسمية التي لم تطبع بعد، ولا يخلو البحث بإيجاز عن قيمة هذه الآراء الثلاثة من فائدة.
تعتبر الأكثرية في فرنسة تلك الثورة من المعتقدات، ولذلك تظهر لهذه الأكثرية حادثا ميمونا قد أخرجها من طور الهمجية وحررها من ظلم الأشراف، ولا يزال يعتقد كثير من رجال السياسة أنه لولا نشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أجراء عند الأمراء الإقطاعيين.
وقد ظهرت هذه الحالة النفسية في بحث مهم خصصه السياسي الشهير، مسيو إميل أوليڤيه لمناهضة كتابي، فبعد أن ذكر هذا العضو الفاضل في المجمع العلمي النظرية التي تعد الثورة الفرنسية حادثة غير نافعة قال:
تناول غوستاڤ لوبون هذا الموضوع فجاء في كتاب حديث بحث فيه عن روح الثورة الفرنسية، وتجلت فيه قوة تأليفه وبيانه «أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا عناء.
لم يرض أوليڤيه بهذا الرأي، فالثورة الفرنسية عنده ضربة لازب، وقد ختم كلامه بما يأتي:
هل يأسف على وقوع الثورة الفرنسية من لا يريد أن يكون مسخرا لصيد الضفادع في الغدران لكيلا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه؟ وهل ينوح على حدوثها من لا يريد أن يري كلاب شاب عات تخرب حقله؟ وهل يحزن على نشوبها من لا يريد أن يسجن في البستيل لولع رجل من بطانة الملك بزوجته أو لانتقاده أحد الوجوه؟ وهل يأسى على اشتعالها من لا يريد أن يبغي عليه وزير أو موظف وأن يكون تحت رحمة أحد من الناس، وأن يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وأن يهينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح؟ - لذلك أشكر، وأنا من الطبقة الوسطى، أولئك الذين أنقذوني، بعد عناء شديد، من هذه القيود التي لولاهم لظلت تقيدني، وأهنئهم على الرغم من زلاتهم.
فالمعتقد الذي تجلى في مثل هذه الكلمات قد ساعد - مع قصة ناپليون - على جعل الثورة مرضيا عنها في فرنسة، ومصدر هذا الوهم الشائع، حتى بين كثير من أقطاب السياسة، هو المبدأ القائل: إن طرق الحياة عند الأمة تكون وفق نظمها، والواقع أن تلك الطرق تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في مساواة الناس غير تأثير المقصلة، ولا ريب في نيلنا، منذ زمن طول، ما بلغناه وبلغته أمم كثيرة من المساواة والحرية سواء علينا أشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.
ويؤدي الرأي الثاني، القائل إن الثورة الفرنسية سر غامض، إلى محافظة هذه الثورة على نفوذها أيضا، فإليك ما جاء في مقالة خصصها مدير إحدى الجرائد الكبيرة في باريس، مسيو دورمون، للبحث في كتابي:
لم تزل الحوادث المدهشة التي زعزعت أركان العالم لغزا من الألغاز، ولم تكتشف مباحث علم النفس سر تلك الأزمة العجيبة التي ستبقى معدودة من حوادث التاريخ الخارقة.
وينشأ عن تلقي الثورة الفرنسية على هذا الوجه ظن الناس أنها سلسلة وقائع نشأت عن عوامل خفية، وتدل الكلمات التي أوردناها على درجة الشكوك والريب التي تزيد البحث في الثورة المذكورة إبهاما وتسوغ حكمة العلماء الذين يقتصرون على نشر الوثائق.
إذن، يرى المنصف، الذي يود أن يكون ذا رأي صائب في الثورة، نفسه الآن أمام عقائد عمياء، أو أمام مزاعم قائلة إن هذا الحادث العظيم يتعذر إيضاحه بالمعارف الحاضرة.
وقد لاح لي، عندما شرعت في درس الثورة الفرنسية مستعينا بطريقتي في علم النفس، أن شكوك المؤرخين في هذه الأزمة الكبيرة ناشئ عن شرحهم بالمعقول ما صدر عن روح التدين والعاطفة والجماعات من الحوادث.
وفي كل صفحة من صفحات تلك الثورة برهان على ذلك، فمنطق الجماعات، لا المنطق العقلي، هو الذي يكشف لنا سبب استحسان المجالس الثورية التدابير المخالفة لرأي كل عضو من أعضائها، ولا يوضح لنا العقل لماذا تنزل نواب الأشراف في ليلة شهيرة عن امتيازات كانوا شديدي التمسك بها مع أنهم لو كانوا قد أقلعوا عنها في وقت آخر لاجتنب نشوب الثورة الفرنسية على ما يحتمل، وكيف يمكننا أن ندرك علة كون الأذكياء المسالمين من أبناء الطبقة الوسطى، الذين كانوا، وهم في بعض اللجان يضعون المقياس المتري ويأمرون بإنشاء المدارس الكبيرة، قد استصوبوا أفعالا وحشية كقتل لاڤوازيه والشاعر شينيه وهدم قبور سان دني الفخمة إذا لم نطلع على تقلبات الذات باختلاف الأحوال؟ ثم كيف يمكننا إدراك السبب في انتشار الحركات الثورية إذا لم نكن عارفين سنن الإقناع الحقيقية التي تخالف ما تدل عليه الكتب من الطرق مخالفة تامة.
وقد تأصلت قواعد المنطق العقلي في فرنسة تأصلا جعل الناس لا يتصورون معه إمكان وقوع حوادث التاريخ بعيدة من العقل مع أنه يجب علينا لتفهم ما يعجز المنطق العقلي عن إيضاحه من الحوادث أن نغير الطرق التي نوضح بها وقائع التاريخ.
أرى الأفكار التي بينتها في هذا المؤلف ستشيع سريعا، وما نشر من المقالات الكثيرة يثبت لنا أنها أثرت في كثير من العلماء المدققين، جاء في جريدة التايمس، التي هي أهم صحف إنكلترة، ما يأتي:
يجب على رجال السياسة كلهم أن يطالعوا كتاب غوستاڤ لوبون الذي لم يبال فيه بما قيل في تفسير الثورة الفرنسية من النظريات المدرسية؛ فأوضح ما للشعب من الشأن الضئيل في الحركات الثورية، وما في عزائم أعضاء المجالس وهم مجتمعون من المناقضة المطلقة لعزائمهم وهم منفردون، وما سير أبطال هذه الثورة من الروح الدينية، وما للعقل من التأثير القليل فيهم، فلولا هذه الثورة لصعب إثبات أن العقل لا يحول الرجال وأن المجتمعات لا تتجدد كما يريد المشترعون ذوو السلطان العظيم.
حقا إن تاريخ الثورة الفرنسية سلسلة من الحوادث التي وقعت في الغالب مستقلا بعضها عن بعض كقصة النظام الملكي الذي نقض لعدم وجود من يدافع عنه، وقصة المجالس الثورية، وقصة الفتن الشعبية وزعمائها، وقصة الجيوش، وقصة النظم الجديدة ... وغير ذلك من القصص الدالة في الغالب على قوى نفسية متصادمة يجب درسها وفق طرق علم النفس.
نعم، قد يجادل في قيمة ما أتينا به من الشروح، ولكنني أعتقد أنه يصعب بعد الآن أن يكتب تاريخ الثورة الفرنسية من غير أن ينظر إلى ذلك.
مقدمة المؤلف (2)
إعادة النظر في التاريخ
ليس الدور الحاضر دور اكتشاف فقط، بل يبحث فيه ثانية عن مختلف المعارف، فبعد أن قال العلم بعدم وجود حادث يسهل الاطلاع على علته الأولى أخذ يفحص قواعده حديثا فبدت له مختلة، وهو يشاهد الآن دخول مبادئه القديمة، واحدا بعد الآخر، في خبر كان، فعلم الآلات يخسر قواعده، وصار الناس يرون أن المادة، التي كانت معدودة في الماضي جوهر الكائنات الأزلي، قوى فانية تكاثفت لأجل قصير.
ولم يشذ التاريخ عن ذلك على رغم ما فيه من الحدس الذي ينقذه من النقد الشديد، فلا يستطيع أحد أن يقول الآن إنه يعرف صفحة منه معرفة تامة، وما كان يلوح أنه علم يقينا من الوقائع أعيد البحث فيه مرة ثانية.
والثورة الفرنسية من الوقائع التي كان يظهر أن درسها تم، فهي بعد أن بحث فيها كثير من المؤلفين، وعم القول بأنها أوضحت إيضاحا كاملا، وأنه لم يبق سوى تعديل بعض تفاصلها، أخذ يتردد أشد المدافعين عنها في أحكامهم فيها، وهكذا أصبح كثير من الحقائق القديمة موضعا للأخذ والرد، وصار الإيمان بعدد كبير من المذاهب المقدسة مزعزعا، وما كتب أخيرا عن الثورة الفرنسية قد كشف القناع عن تلك الشكوك، والريب.
ولم يكتف العلماء بالمماراة في قيمة أبطال تلك الفاجعة العظمى، بل أخذوا يسألون هل كانت دعائم النظام الحديث، الذي حل محل النظام القديم، تتوطد من غير عنف بتأثير مبتكرات الحضارة بعد أن رأوا أن عواقب تلك الثورة لا تساوي أعباءها.
هنالك أسباب كثيرة أوجبت إعادة النظر في ذلك التاريخ المحزن، ومنها أن الزمان سكن ثوران النفوس، وأن كثيرا من الوثائق أخذ يخرج من الخزائن، وأن الناس صاروا يعلمون كيف يشرحونها بحرية تامة.
ولعل علم النفس الحديث هو الذي سيؤثر أكثر من كل شيء في أفكارنا، معينا إيانا على العلم بروح الرجال وعوامل سيرهم، ونخص بالذكر من اكتشافاته، التي يمكن أن يستعين بها التاريخ، المؤثرات الإرثية، والسنن المسيرة للجماعات، والعدوى النفسية، وكيفية نشوء المعتقدات نشوءا غير شعوري وتمييز أنواع المنطق المختلفة.
والحق أن هذه التطبيقات العلمية التي اتخذناها في هذا المؤلف لم ينتفع بها حتى الآن، فلا يزال المؤرخون مكتفين بدرس الوثائق، على أن ما ذكرناه يكفي لإلقاء ما أشرت إليه من الشكوك والشبهات في نفوسهم. •••
قد يكون تفسير الحوادث العظيمة التي تحول مصير الأمم من الصعوبة بحيث يضطر الإنسان إلى الاقتصار على ملاحظة هذه الحوادث.
وقد أثر في نفسي، منذ مباحثي التاريخية الأولى، تعذر اكتناه بعض الحوادث الجوهرية، ولا سيما نشوء المعتقدات، فشعرت بأن أمورا أساسية ضرورية لإيضاحها تفوتنا، وبأنه لا يجوز أن ننتظر شيئا من العقل الذي قال ما أمكنه، ويتحتم علينا أن نبحث عن وسائل أخرى للوقوف على ما عجز العقل عن تفسيره.
بقي أمر هذه المسائل الكبيرة غامضا في نظري، وما أتيت به من السياحات للبحث عن أنقاض المدنيات المنقرضة لم يقلل من هذا الغموض شيئا يذكر.
إلا أن كثرة التأمل والتفكير ساقتني إلى الإقرار بأن هذه المعضلة مركبة من معضلات أخرى يجب البحث عن كل واحدة منها على حدة، وهذا ما فعلته في عشرين سنة، فأوردت نتائج مباحثي في سلسلة من المؤلفات.
بحثت في أحد مؤلفاتي الأولى عن السنن النفسية لتطور الأمم، فبعد أن بينت فيه أن الأمم التاريخية، أي الأمم التي نشأت على حسب مصادفات التاريخ، نالت في آخر الأمر صفات نفسية ثابتة ثبات أوصافها التشريحية أوضحت الكيفية التي تحول بها هذه الأمم نظمها ولغاتها وفنونها، ثم شرحت فيه لماذا يحتمل أن تنفك عرى النفس عند تبدل البيئة فجأة.
ولكن يوجد، عدا هذه المجتمعات البشرية المؤلفة من الأمم، مجتمعات بشرية متقلبة تسمى الجماعات، ولهذه الجماعات التي تمت على يدها أكبر الفتن التاريخية صفات تختلف عن صفات الأفراد الذين تتألف منهم اختلافا تاما، وقد بحثت عن هذه الصفات وعن كيفية نشوئها في كتاب سميته «روح الجماعات».
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أبصرت بين عوامل التاريخ المهمة عاملا قويا، أي المعتقدات، وقد بحثت عن هذه المسألة الصعبة في كتابي الأخير الذي سميته «الآراء والمعتقدات» فبينت فيه كيف تنشأ المعتقدات وهل تكون عقلية إرادية، كما عرفت، أو تكون غير شعورية مستقلة عن كل عقل.
يبقى إيضاح المعتقدات أمرا متعذرا إن عدت إرادية عقلية، وقد تمكنت، بعد أن أثبت أنها غير عقلية في الغالب وغير إرادية على الدوام، من حل المعضلة العظيمة الآتية وهي: كيف يستصوب أرباب العقول النيرة في كل جيل معتقدات لا يسوغها العقل؟
سيظهر حل المعضلات التاريخية التي بحثت فيها منذ سنين كثيرة ظهورا واضحا بعد الآن، فقد توصلت إلى نتيجة دالة على أنه يوجد بجانب المنطق العقلي الذي يربط الأفكار بعضها ببعض منطق الجماعات والمنطق الديني اللذان يستحوذان في الغالب على عقولنا ويسيراننا.
وبعد أن حققت ذلك علمت أن إدراك كثير من الحوادث التاريخية يظل ممتنعا عن إيضاح هذه الحوادث بنور المنطق العقلي القليل التأثير في تكوينها.
وقد اقتضى الوصول إلى القواعد التي لخصناها هنا في بضع صفحات سعي سنين كثيرة، وذلك بعد أن يئست من إتمامها ورجعت غير مرة إلى الجد في المختبرات التي يثق الإنسان بأنه يقرب فيها من الحقيقة وينال شيئا من العلم اليقين.
إن سبر غور الرجال مفيد كالتنقيب في الحوادث المادية، وهذا يجعلني أرجع إلى علم النفس على الدوام.
ولما ظهر لي أن بعض النتائج التي استنبطتها من مباحثي واسعة المدى نويت أن أعرضها على بعض الحوادث، وهكذا تناولت درس روح الثورات، ولا سيما الثورة الفرنسية.
وكلما كنت أتوغل في تحليل هذه الثورة الكبرى كانت أكثر الآراء التي اقتبستها من الكتب، وكنت أظنها متينة، تنهار انهيارا متتابعا.
يجب، لإيضاح هذا الدور، ألا يعد حادثا واحدا كما فعل كثير من المؤرخين، فهو مؤلف من حوادث مستقلة وقعت في آن واحد، وقد نشأ عن كل واحدة منها أمور وقعت حسبما تقتضيه سنن النفس، ويظهر أن ممثلي تلك الفاجعة الكبرى ساروا كمثلي الروايات التي وضعت سابقا، فقال كل واحد منهم ما يجب أن يقول، وعمل ما يجب أن يعمل.
لا شك في اختلاف أولئك الممثلين الثوريين عن ممثلي الرواية المكتوبة لكونهم لم يدرسوا أدوارهم، ولكن قوى خفية كانت تمليها عليهم، فكانوا يقومون بها كأنهم من الحافظين لها، وقد أوجب اتباعهم منطقا لم يدركوا من أمره شيئا اتباعا مقدرا، تعجبهم مثلنا من الحوادث التي كانوا أبطالها، فالقوى الخفية التي كانت تسيرهم لم تخطر ببالهم قط، ولم يكن أمر شدتهم وضعفهم في يدهم، فهم، وإن كانوا يتكلمون باسم العقل ويدعون أنهم مسيرون به، لم يكن العقل رائدهم بالحقيقة، قال بيوفارين :
كنا لا نريد أن نأتي ما نلام عليه من الأفعال، ولكن الأزمة كان تدفعنا إليه.
ولا يستدلن القارئ بهذا الكلام على أن الحوادث الثورية خاضعة لمقادير مهيمنة مطلقة، فالمطلع على ما وضعناه من الكتب يعلم أننا نعترف بما لأرباب التأثير والنفوذ من القدرة على إبطال عمل المقادير، غير أنهم لا يقدرون إلا على إبطال شيء قليل منها، وكثيرا ما يعجزون عن وقف الحوادث التي لم يتسلطوا على سيرها منذ البداءة، فالعالم الذي يقدر على استئصال المكروبات قبل فعلها يعترف بعجزه عن ذلك عند استفحال المرض. •••
افترق المعتقدون الذين أتوا أحكاما في الثورة الفرنسية، التي هي من عمل المعتقدين أيضا، إلى فرقتين: إحداهما تلعن هذه الثورة والأخرى تعجب بها، ولذلك ظلت هذه الثورة من جنس المعتقدات التي تقبل أو ترفض جملة من غير أن يتدخل منطق عقلي في هذا الاختيار، فالثورة الدينية أو السياسية، وإن جاز أن تستند إلى العقل في بداءتها، لا تنتشر إلا معتمدة على عوامل الدين والعاطفة التي لا صلة بينها وبين العقل مطلقا.
لم يستطع المؤرخون الذين بحثوا في حوادث الثورة الفرنسية على نور المنطق العقلي أن يدركوا سرها، فبما أن هذا المنطق لم يكن محدثا لها، وبما أن القائمين بها أنفسهم كانوا غير مطلعين على كنهها، لا نخطئ إذا قلنا إن تلك الثورة أمر لم يفقهه من أتاه ومن قصه، ولم يكن في أدوار التاريخ دور أدرك فيه الحال إدراكا قليلا وجهل فيه الماضي جهلا تاما وكشف فيه المستقبل كشفا ناقصا كذلك الدور.
لم يقم سلطان الثورة الفرنسية على ما كانت تنشره من المبادئ، ولا على ما كانت تضعه من الأنظمة؛ إذ الأمم لا تبالي بالمبادئ والأنظمة إلا قليلا، وإنما السبب في قوة هذه الثورة وفي رضى فرنسة بما أتته من المذابح والهدم والهول وسائر المظالم وفي مدافعتها ظافرة حيال أوربة المدججة بالسلاح هو إقامتها ديانة جديدة، لا نظاما جديدا، ولقد أثبت التاريخ ما للمعتقد القوي من القوة التي لا تقاوم، فقد خضعت قوة الرومان المنيعة الجانب لجيوش من رعاة البدو الذين أضاء قلوبهم ما جاء به محمد من الإيمان، ولمثل هذه العلة لم يقدر ملوك أوربة على مقاومة جنود العهد الرثة الثياب، فكان هؤلاء الجنود مستعدين، كجميع الدعاة، للتضحية بأنفسهم في سبيل نشر عقائدهم التي كانوا يظنون أنها ستجدد العالم. •••
لا نعد الثورة الفرنسية - خلافا لما ظن دعاتها - قد قطعت كل علاقة بالتاريخ، وإن أحدث هؤلاء لإظهار مقصدهم تقويما جديدا وزعموا أنهما قضوا على الروابط التي تربطهم بالماضي الذي لن يموت والذي هو متأصل في النفوس أكثر من كل شيء، فقد كان المصلحون أيام الثورة الفرنسية مشبعين بالماضي من غير أن يشعروا، وهم لم يفعلوا سوى مواصلة التقاليد الملكية مسماة بأسماء أخرى، والسير على نحو مركزية العهد السابق مع الإفراط في الاستبداد.
والثورة الفرنسية - وإن لم تنقض بالحقيقة سوى شيء يسير من مقومات الماضي - أعانت على انكشاف بعض المبادئ التي استمرت على النمو، ومن هذه المبادئ: مبدأ المساواة الذي أصبح إنجيل الأمم، أي صار قطب الاشتراكية والديموقراطية في الوقت الحاضر، وبهذا نقصد أن نقول إن تلك الثورة، التي لم تنته بظهور الإمبراطورية ولا بالأنظمة التي ظهرت بعد الإمبراطورية، انتشرت بالتدريج مع الزمن، ولا تزال ذات سلطان على النفوس. •••
ربما ينزع بحثنا في الثورة الفرنسية كثيرا من أوهام القارئ، فسيرى القارئ أن الكتب التي بحثت فيها تحتوي كثيرا من الأقاصيص البعيدة من الحقيقة، وستبقى هذه الأقاصيص مسطورة في كتب التاريخ من غير أن نأسف على ذلك، فمع أن الاطلاع على الحقيقة يفيد بعض الفلاسفة نرى أن تغلب الأوهام على الشعوب أنفع، فمن مجموع تلك الأوهام تنشأ مثل الشعوب العليا المسيرة لها، قال فونتنيل: «لولا الأفكار الباطلة لضاعت الشجاعة».
حقا إن قصص جان دارك وغيلان العهد والإمبراطورية تورث النفوس آمالا بعد الهزيمة، وأن لهذا التراث الوهمي الذي ورثناه من الآباء سلطانا أشد من سلطان الحقائق في بعض الأحيان، فالأوهام والخيالات والأساطير هي التي تقود التاريخ .
الجزء الأول: روح الثورات
الباب الأول
صفات الثورات
الفصل الأول
الثورات العلمية والثورات السياسية
(1) تقسيم الثورات
يعبرون عادة عن الانقلابات السياسية بالثورة. مع أنه يقتضي أن تعرب هذه الكلمة عن جميع التحولات الفجائية للمعتقدات والأفكار والمذاهب.
وقد بحثنا في كتاب آخر عما لعناصر العقل والمشاعر والتدين من الشأن في تكوين الأفكار والمعتقدات التي يتوقف عليها سير الإنسان، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة أخرى.
قد ينتج عن الثورة في نهاية الأمر معتقد، ولكنها تنشأ في الغالب عن عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف، فإذا أمكن بالفعل إظهار ما يجب هدمه من المظالم وجب لتحريك الجماعات إفعام قلوبها بالآمال، وهذا أمر لا ينال إلا إذا استعين بعناصر العاطفة والتدين التي تجعل الإنسان قادرا على السير، خذ الثورة الفرنسية مثلا تر أن المنطق العقلي الذي تذرع به فلاسفة ذلك العصر أظهر للملأ مساوئ النظام القديم وجعل في القلوب ميلا إلى تبديله، وأن المنطق الديني ألقى في النفوس إيمانا بفضائل مجتمع قائم على بعض المبادئ، وأن المنطق العاطفي أطلق النفوس من عقالها القديم وشد قواها، وأن منطق الجماعات استحوذ على الأندية والمجالس ودفع أعضاءها إلى اقتراف أعمال لم يدفعهم المنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني إلى اقترف مثلها.
والثورة - مهما كان مصدرها - لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعات، فالجماعة تتم الثورة ولا تكون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئا إن لم يكن عليها رئيس يقودها، ولا تلبث الجماعات أن تجاوز الحد الذي حرضت عليه، وإن كان التحريض لا ينشأ عنها أبدا.
وإن الثورات السياسية الفجائية التي تعجب المؤرخين هي أقل أهمية من غيرها في بعض الأحيان، فالثورات الكبيرة هي ثورات الطبائع والأفكار.
وفي الغالب تتم الثورات الحقيقية التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يلقون مصاعب في تعيين بداءتها، ولذلك نرى كلمة التطور أصح في التعبير عن المقصود من كلمة الثورة.
لا تصح العناصر المختلفة، التي ذكرنا عملها في تكوين أكثر الثورات، أن تكون أصلا لتقسيمها، ولكننا إذا نظرنا إلى الثورة من حيث غايتها فقط أمكننا تقسيمها إلى ثورات علمية وثورات سياسية وثورات دينية. (2) الثورات العلمية
الثورات العلمية من أكبر الثورات أهمية، ومع أنها لا تستوقف النظر كثيرا هي، في الغالب، ذات نتائج بعيدة لا تأتي بمثلها الثورات السياسية.
فسر تحول الصورة التي ننظر بها إلى الكون منذ عصر النهضة هو أن الاكتشافات الفلكية والطرق القائمة على التجربة والاختبار أورثت نفوسنا ثورة بإثباتها أن الحوادث تصدر عن سنن ثابتة لا تتبدل، لا عن أهواء الآلهة.
والأجدر أن تدعى هذه الثورات بالتطور لبطء وقوعها، بيد أنه يوجد من نوعها ثورات أخرى تقع بسرعة وتستحق أن تدعى بالثورات، مثال ذلك آراء داروين التي قلبت علم الحياة في بضع سنين رأسا على عقب، واكتشافات پاستور التي حولت علم الطب في أيام صاحبها، والرأي في انحلال المادة الذي أثبت أن الذرة لا تشذ عن السنن القاضية على جميع عناصر الكون بالزوال والفناء خلافا لما كان يظن.
وبما أن مجال هذه الثورات هو عالم الأفكار فإنه ليس للمشاعر والمعتقدات سلطان عليها، وعلى المرء أن يعانيها من غير أن يجادل فيها. (3) الثورات السياسية
نذكر - بعد الثورات العلمية التي هي سر تقدم الحضارة - الثورات الدينية والثورات السياسية وإن كانت بعيدة منها ولا تربطها بها رابطة، فالثورة العلمية لا تشتق إلا من العقل مع أن المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسية والدينية، ولا يكون للعقل سوى شأن ضئيل في تكوينها.
لقد أثبت في كتاب «الآراء والمعتقدات» أن المعتقد السياسي والديني هو إيمان أينع في عالم اللاشعور من غير أن يكون للعقل سلطان عليه، وبينت فيه أن المعتقد قد يكون أحيانا من القوة بحيث لا يقوم في وجهه شيء، وأن المرء الذي استحوذ عليه إيمانه يصبح رسولا مستعدا للتضحية بمنافعه وسعادته وحياته في سبيل نصره ، وأنه لا أهمية لمخالفة هذا الإيمان للعقل والصواب بعد أن يكون حقيقة في نظر صاحبه، فالحق أن للعقائد الدينية قوة عجيبة في تغلبها على الأفكار، وفي أنها لا تتبدل إلا بتبدل الأزمان.
واعتبار المؤمنين المعتقد حقيقة مطلقة يجعلهم غير متسامحين بحكم الضرورة، وهذا يوضح لنا سر قسوتهم وأحقادهم ومظالمهم أيام الثورات السياسية والدينية الكبيرة، ولا سيما أيام ثورة الإصلاح الديني والثورة الفرنسية.
وتظل بعض أدوارنا التاريخية سرا إن جهلنا منشأ المعتقدات العاطفي والديني وعدم تسامحها الضروري واستحالة التوفيق بينها، ثم ما تنعم به المعتقدات الدينية على المشاعر المسخرة لخدمتها من القوة.
وتلك المبادئ حديثة العهد بعيدة من تغيير عقلية المؤرخين الذين سوف يستمرون على اعتبار كثير من الحوادث صادرا عن المنطق العقلي، فمع أن الإصلاح الديني الذي قلب فرنسة مدة خمسين سنة وما ماثله من الحوادث لم ينشأ عن عوامل عقلية لا يزال أكثر المتأخرين من العلماء يعزون هذه الوقائع إلى العقل، مثال ذلك الإيضاح الذي أوضح به مسيو لاڤيس ومسيو رانبو ثورة الإصلاح الديني في كتابهما «التاريخ العام»، إذ قالا:
إن ثورة الإصلاح الديني حركة غريزية تولدت في نفوس القوم من مطالعة الإنجيل ومن تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مقدام.
فالحقيقة هي غير ما زعم هذان المؤرخان، فهذه الثورة لم تنشأ عن الغريزة ولم يكن للعقل تأثير في نضجها، وإنما خرجت - كغيرها من المعتقدات السياسية والدينية التي قلبت العالم - من المشاعر وخلق التدين.
حقا إن مصدر المعتقدات - سياسية كانت أو دينية - لمشترك، وهي خاضعة لسنن واحدة، أي أنها لا تتكون بالعقل، وكثيرا ما تتكون خلافا لما يقتضيه العقل، فالبدهية (البوذية) والإسلام والإصلاح الديني واليعقوبية والاشتراكية، وإن لاحت على شكل فكري ظاهر، هي بالحقيقة قائمة على عواطف وتدينات متماثلة، وتخضع لمنطق لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي أبدا.
تنشأ الثورات السياسية عن معتقدات تأصلت في النفوس، ولكنها قد تنشأ عن أسباب أخرى تجمعها كلمة الاستياء، فمتى عم هذا الاستياء تألف حزب قادر على مكافحة الحكومة.
ويقتضي أن يتراكم الاستياء ليكون ذا نتائج، ولهذا لا تكون الثورة في الغالب حادثة لم تلبث أن تنتهي حتى تعقبها ثورة أخرى، بل هي حادثة مستمرة أسرعت في نشوئها قليلا.
وعندنا أن الأمم الكثيرة المحافظة هي التي تأتي بأشد الثورات خلافا لما يظن بعض الناس؛ لأنها إذ كانت محافظة غير متحولة ببطء لتلائم تقلب البيئات تكره على ملاءمتها بغتة بالثورة حينما تصبح الشقة بين الطرفين عظيمة جدا.
ولا مفر للأمم التي تلائم تقلب البيئة بالتدريج من الوقوع في الثورات، فلم ينجح الإنكليز، سنة 1688، في ختم النزاع الذي استمر قرنا بين العرش الذي كان يرغب أن يكون مطلقا وبين الشعب الذي كان يسعى أن يكون محكوما من نوابه إلا بالثورة، وخاصة الأمة، لا عامتها، هم الذين يبدأون بالثورات في الغالب، ولكن الثورات تستمد قوتها من الشعب عندما يهيج، وقد لا تتم الثورات إلا إذا دعمها فريق كبير من الجيش، فلم تأفل الملكية في فرنسة يوم قطع رأس لويس السادس عشر، بل يوم امتنع جنده عن الدفاع عنه.
وقد تزول المحبة بالعدوى النفسية من الجيوش التي لا تكترث لسير الأمور إلا قليلا، فعندما استطاع بضعة ضباط أن يقلبوا الحكومة التركية فكر ضباط اليونان في تقليدهم بتغيير الحكومة، مع أنه لم يكن شبه بين النظامين.
وقد يمكن تغيير الحكومة بحركة عسكرية، وذلك كما يقع في الجمهوريات الإسبانية، ولكن مثل هذه الثورات لا تكون ذات نتائج مهمة إلا إذا صدرت عن استياء عام وآمال كبيرة، والاستياء، إذا لم يكن عاما شديدا، لم يكف لإحداث الثورات المجدية، فمن الأمور السهلة أن تحرض شرذمة من الناس على النهب والهدم والقتل، ولكنه يجب لتحريك الأمة كلها أو معظمها أن يبالغ الزعماء في تجسيم الاستياء وأن يحملوا الساخطين على اتهام الحكومة بأنها سبب الحوادث السيئة، ولا سيما الفاقة والغلاء، وأن يجعلوا الجمهور يعتقد أن عصر السعادة سينبثق على الناس من النظام الجديد الذي يقترحونه، فمتى تأصلت هذه الأمور في النفوس وانتشرت بالتلقين والعدوى قرب الوقت الذي تنضج فيه الثورة.
فعلى هذا الوجه نشأت الثورة المسيحية والثورة الفرنسية، وإذا كانت الأخيرة قد وقعت في سنين قليلة ، وتطلب وقوع الأولى كثيرا من السنين، فلأن الثورة الفرنسية لم تلبث أن دعمها الجيش مع أن الثورة المسيحية لم تنل قوة مادية إلا بعد انقضاء زمن طويل، فالأصاغر والسفلة والعبدان هم الذين كانوا أنصار المسيحية في البداءة، ومنهم سرت عدواها إلى الخاصة، ولما كمل انتشارها بين هؤلاء أيضا رأى أحد الأباطرة اتخاذها دينا رسميا للدولة، وهذا كله لم يتم إلا في وقت طويل. (4) نتائج الثورات السياسية
بعدما يتم النصر لحزب ينظم هذا الحزب المجتمع كما تقتضيه مصالحه، فيسن القوانين، ويضع الأنظمة على حسب منافعه ومنافع الطبقات التي ساعدته على الغلبة، كطبقة الإكليروس مثلا، وإذا تم النصر للغالبين بعد مصارعات عنيفة، كما وقع أيام الثورة الفرنسية، فإنهم يقوضون دعائم الحقوق القديمة مع اضطهادهم أنصار النظام الساقط وإخراجهم من ديارهم وإبادتهم.
ويبلغ التعذيب غايته حينما يدافع الحزب الغالب عن معتقد، عدا دفاعه عن منافعه المادية، فلا يعامل الحزب المغلوب بالرحمة، بل يطرده من البلاد كما طرد العرب من الأندلس، ويقضي عليه كما قضت محكمة التفتيش على الخوارج بالإحراق، ويمعن في قتله كما حدث في دور العهد، ويسن القوانين ضده كالقوانين الحديثة التي وضعت ضد اليسوعيين.
وقد يتمادى الغالب في الظلم فيأمر أن يقوم الورق مقام الذهب، وأن تباع السلع بأثمان بعينها كما يهوى، إلا أنه لا يلبث أن تصدمه الضرورات التي تحول الرأي العام ضد استبداده، وذلك كما حدث في أواخر الثورة الفرنسية، وكما وقع لوزارة اشتراكية أسترالية مؤلفة من العمال، فقد وضعت هذه الوزارة قوانين عقيمة ومنحت المنتسبين إلى النقابات امتيازات كثيرة فسخط الرأي العام عليها فسقطت في ثلاثة أشهر.
والأحوال المذكورة استثنائية، فأكثر الثورات قد وقع ليجلس على العرش ملك جديد، فليعلم هذا الملك أن استمرار حكمه لا يكون بتفضيله طبقة على أخرى، بل باستمالته الطبقات كلها إليه، وهو لا ينال ذلك إلا إذا وازنها موازنة مانعة من تغلب إحداها عليه، فإذا ساعد على تفوق طبقة دون أخرى لم تلبث هذه الطبقة أن تصبح سيدته، وهذه سنة من أصح سنن السياسة، وقد علمها ملوك فرنسة عندما كانوا يكافحون تطاول الأشراف في البداءة ثم الإكليروس من بعدهم، ولولا ذلك لكان نصيبهم مثل نصيب أباطرة الألمان في القرون الوسطى حين كانوا يضطرون - كما فعل الإمبراطور هنري الرابع - إلى زيارة البابوات ليطلبوا العفو عنهم بتذلل.
وقد ثبتت صحة هذه السنة في جميع أدوار التاريخ، فلما تفوقت طبقة الجند في أواخر الدولة الرومانية أصبح الأباطرة تحت إمرة جنودهم فصار هؤلاء يرفعونهم على العرش أو يخلعونهم كما يشتهون.
إذن، إن من حسن حظ فرنسة أن ظل على رأسها زمنا طويلا ملوك مطلقون مدعون أن سلطانهم مستمد من الله، فلولا ذلك ما استطاعوا أن يقبضوا على زمام الأشراف والإكليروس والبرلمان معا، ولو كان على رأس پولونية في أواخر القرن السادس عشر ملوك مطلقون محترمون مثل ملوك فرنسة ما هبطت إلى منحدر الانقراض الذي أوجب محوها من خريطة أوربة.
بينا في هذا الفصل أنه يمكن أن ينشأ عن الثورات السياسية انقلابات اجتماعية عظيمة الشأن، وسنرى أن هذه الانقلابات تظهر ضعيفة عندما تقاس بالانقلابات التي تنشأ عن الثورة الدينية.
الفصل الثاني
الثورات الدينية
(1) البحث في الثورات الدينية ينفع للوقوف على الثورات السياسية الكبرى
سنخصص جزءا من هذا الكتاب للبحث في الثورة الفرنسية الحافلة بالمظالم الناشئة عن عوامل نفسية.
هذه الثورة الشاذة تفعم القلوب حيرة، ويلوح للناظرة غموض أمرها مع أن سرها يتجلى عند اعتبارها دينا جديدا تابعا لنواميس انتشار المعتقدات.
فسوف نرى، عندما نبحث في ثورة الإصلاح الديني الكبرى، أن ما شوهد في أيامها من الأحوال النفسية شوهد مثله أيام الثورة الفرنسية، فقد رئي في هاتين الثورتين أن شأن العقل ضئيل في انتشار المعتقد، وأن الاضطهادات فاقدة التأثير، وأن تسامح المعتقدات المتباينة مستحيل، وأن أشد المظالم والملاحم يصدر عن تصادم العقائد المختلفة، وأنه يستحيل تبديل عقيدة الناس قبل تبديل كيانهم.
فبعد أن يثبت عندنا ذلك كله ندرك السبب في انتشار إنجيل الثورة الفرنسية وفق الطرق التي انتشرت بها الأناجيل الدينية الأخرى، ولا سيما إنجيل كالڤن.
وإذا وجد شبه شديد بين تكوين الثورات الدينية، كثورة الإصلاح الديني، وتكوين الثورات السياسية، كالثورة الفرنسية، فإن هنالك فرقا ظاهرا بين نتائجهما، وهذا الفرق يوضح لنا السر في تفاوت دوامهما، وبيان ذلك: أنه ليس في الثورات الدينية تجربة تثبت للمؤمنين ضلالهم؛ لأن ذلك يستدعي اطلاعهم على ما في اللوح المحفوظ، وأما الثورات السياسية فإن تجربتها لم تلبث أن تثبت ما في المذاهب السياسية من الخطأ والضلال فيضطر الناس - إذ ذاك - إلى تركها، فعلى هذا الوجه اضطر أشد اليعاقبة تعصبا إلى العدول عن طريقتهم عندما رأوا في أواخر عهد الديركتوار أن تطبيق المعتقدات اليعقوبية أوجب إشراف فرنسة على الخراب والشقاء، ولم يدم من نظرياتهم سوى بضعة مبادئ يصعب تحقيق أمرها، كمبدأ السعادة القائل: إن المساواة أساس سعادة الناس. (2) أنصار الإصلاح الديني الأولون
انتهت ثورة الإصلاح الديني بعدما اشتد تأثيرها في عواطف الناس ومبادئهم الأدبية، وهذه الثورة الصغيرة الشأن في بداءتها كانت تتجلى في انتقاد تصرف الإكليروس الممقوت وفي دعوة الناس إلى العمل بنصوص الإنجيل، لا في دعوتهم إلى حرية الفكر، فقد كان كالڤن غير متسامح كروبسپير، وكان رجال النظر يقولون إنه يجب على الرعية أن تكون على دين ملوكها، وهذا ما وقع فعلا، ففي البلاد التي عمها الإصلاح الديني حل الملوك محل البابا حقوقا وسلطانا.
وقد انتشر الإيمان الجديد ببطء في فرنسة في بدء الأمر؛ لعدم علانيته وفقدان وسائل إذاعته، فلم ينضم إلى لوثر، سنة 1520، سوى بضعة أشخاص، ولكن لما كثر أنصاره، سنة 1535، رئي أن إحراقهم أمر ضروري.
وسهل الاضطهاد انتشار الإصلاح الديني تبعا للسنة النفسية المعروفة، وكان أول المؤمنين به القساوسة والقضاة وأهل الحرف، وقد تم إقبالهم عليه بالعدوى النفسية والتلقين.
ومن المشهود أنه عندما يشيع معتقد جديد بين الناس يلتف حوله رجال لا يهمهم من أمره سوى أنهم يرون فيه وسيلة لإرواء شهواتهم وأطماعهم، وقد وقع ذلك أيام الإصلاح الديني في بلدان كثيرة، ولا سيما في ألمانية وإنكلترة، فلما قال لوثر إنه لا حاجة للإكليروس بالمال وجد أمراء ألمانية الدين الذي يعدهم بالاستيلاء على أموال الكنيسة دينا طيبا نافعا. (3) قيمة ثورة الإصلاح الديني العقلية
قلبت ثورة الإصلاح الديني أوربة، وكادت تدمر فرنسة بتحويلها إياها مدة خمسين سنة إلى ساحة حرب، وما أتته من النتائج العظيمة لم تأت مثله أية حادثة تعدلها من حيث قلة قيمتها العقلية.
والأدلة على أن المعتقدات تنتشر بعيدة من العقل كثيرة، وما أقام النفوس وأقعدها من المذاهب اللاهوتية أيام ثورة الإصلاح الديني، ولا سيما مذهب كالڤن، لا يستحق أن يبحث عنه من جهة المنطق العقلي.
فلوثر الذي همه أمر سعادته الأبدية وخاف من الشيطان خوفا لم يقدر كاهنه على إزالته كان يبحث عن أقوى الوسائل التي يرضي بها الله ليتقي جحيمه، وبعد أن شرع في إنكار حق البابا في بيع المغفرة رفض ما له ولكنيسته من السلطان رفضا تاما، وأنحى باللائمة على الطقوس الدينية والاعتراف وعبادة القديسين وصرح بأنه لا يجوز للنصارى أن يتبعوا غير ما جاء في الكتاب المقدس، ثم قال إن النجاة الأبدية لا تكون إلا بفضل الله وكرمه، ولم يحدد لوثر «نظرية المشيئة الأزلية» هذه تحديدا تاما، وقد عرفها كالڤن بأوضح من ذلك فجعلها أساس مذهب لا يزال أكثر الپروتستان تابعين له، فعند كالڤن «أن الله اختار من الأزل أناسا للنار وآخرين للجنة» وكان جوابه وقتما سئل عن علة هذا الظلم «أن الله أراد ذلك»، وهكذا رأى كالڤن، الذي لم يفعل سوى إيضاح زعم القديس أوغوستن، أن الله القادر على كل شيء يعنى بخلق أناس ليكونوا خالدين في النار غير مبال بأفعالهم وفضائلهم، ومما يستوقف النظر أن تستولي هذه الغباوة الفكرية على النفوس زمنا طويلا، وأن تظل مستحوذة على كثير من الناس حتى الآن.
وهنالك شبه بين نفسية كالڤن روبسپير، فكان الأول كالثاني أستاذا غير متردد في قتل من لم يكن على مذهبه، وكان يقول: «إن الله يريد أن تطرح الرأفة والإنسانية جانبا عند الجهاد في سبيله».
ونستدل من حالة كالڤن وأنصاره على أن المتناقضات تلتئم في أدمغة المؤمنين، فيستحيل من حيث المنطق العقلي أن نثبت أخلاق على مبدأ «المشيئة الأزلية» القائل إن بعض الناس ناجون وبعضهم معذبون، مهما كانت أفعالهم، ومع ذلك لم يلق كالڤن صعوبة في إبداع أخلاق قوية قائمة على أساس غير منطقي. (4) انتشار الإصلاح الديني
لم ينتشر هذا الإيمان بالخطب والبراهين العقلية، بل بالعناصر التي بحثنا عنها في كتابنا السابق، أي بالتوكيد والتكرار والعدوى النفسية والنفوذ، وقد انتشرت الأفكار الثورية بعد ذلك في فرنسة على هذه الطريقة أيضا.
وساعد الاضطهاد على هذا الانتشار، إذ نشأ عن كل حادثة قتل دخول أناس في المذهب الجديد، فلما سيق القاضي المحكوم عليه بالإحراق، إندنبرغ، إلى النار سار إليها وهو يحث الجماعة على اعتناق مذهبه، وقد قال أحد الرواة إن عدد الپروتستان زاد بين طلاب المدارس بفعل جلده وصبره أكثر مما بكتب كالڤن.
وكانوا يقطعون ألسنة المحكوم عليهم بالإحراق خوفا من أن يخاطبوا القوم، وقد زاد التعذيب هولا تقييد الضحايا بسلاسل من حديد؛ لإدخالهم في النار وإخراجهم منها مرات كثيرة.
كل ذلك لم يثن الپروتستان عن مذهبهم الجديد مع أنهم كانوا يوعدون بالعفو بعد أن تمسهم النار.
ولما عدل فرنسوا الأول عن تسامحه سنة 1535 أمر بإضرام الوقيد في ستة مواقد في باريس، وقد اكتفى رجال العهد بمقصلة واحدة فيها كما هو معلوم، وقد ظهر أن العذاب لم يكن أليما عند المؤمنين، حتى إنه شوهد قبل ذلك عدم شعور شهداء المسيحية بالعذاب لتنويمه إياهم، ومن المسائل المعروفة في الوقت الحاضر أن بعض طرق التنويم تبطل الحس تماما.
والخلاصة: أن انتشار ذلك المذهب كان سريعا، ففي سنة 1560 أصلحت ألفا كنيسة في فرنسة وانتحله كثير من الأمراء الذين كانوا لا يبالون به إلا قليلا في بدء الأمر. (5) تصادم المعتقدات الدينية واستحالة التسامح
ذكرت غير مرة أن عدم التسامح يلازم المعتقدات القوية، والثورات الدينية والسياسية الدالة على ذلك كثيرة، وقد أثبتت هذه الثورات أن عدم التسامح بين أنصار المعتقدات المتقاربة يكون أشد مما بين أنصار المعتقدات المتباعدة كالإسلام والنصرانية مثلا، فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطرت فرنسة زمنا طويلا رأيناها لا تختلف إلا في الأمور الثانوية، فالكوثوليكي والپروتستاني إلههما واحد ولا يختلفان إلا في كيفية عبادته، ولو كان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أن الله لا يبالي بالصورة التي يعبد عليها.
ولما كان العقل غير مؤثر في دماغ المؤمنين استمر البروتستان والكاثوليك على الاقتتال بقسوة، وما سعى فيه الملوك للتأليف بين الفرقتين ذهب أدراج الرياح، وقد ذهب عن بال كاترينا دومديسيس أن التسامح - وإن أمكن بين الأفراد - لا يكون بين الجماعات، فعندما جمعت علماء اللاهوت خاضوا غمار المناقشة والشتم من غير أن يحيد واحد منهم عن عقيدته، ثم رأت، سنة 1562، أن نشرها مرسوما تمنح فيه الپروتستان حق الاجتماع والعبادة جهرا أقرب إلى النجاح.
وهذا التسامح، الحسن نظريا والسيئ عمليا، لم ينشأ عنه غير إيغار صدور رجال الحزبين، فاضطهد الپروتستان الأقوياء في جنوب فرنسة الكاثوليك لكي يترك هؤلاء عقيدتهم، وكانوا يذبحونهم وينهبون كنائسهم عندما يحبط عملهم، وقد أصاب الپروتستان نظير ذلك في الأمكنة التي كانت الأكثرية فيها للكاثوليك.
وقد نشأ عن مثل هذه الأحقاد حروب دينية ضرجت فرنسة بالدم زمنا طويلا، فمدنها دمرت والدماء سفكت، ولسرعان ما اتصف هذا النزاع بالقسوة الوحشية الخاصة بالوقائع الدينية والسياسية.
أبيد الشيوخ والنساء والأطفال، وصار رئيس پرلمان إكس البارون دوبيد مثالا يقتدى به لقتله في عشرة أيام ثلاثة آلاف شخص وتدميره ثلاث مدن واثنتين وعشرين قرية، وكان مونلوك يطرح أتباع كالڤن في الآبار حتى تمتلئ، ولم يفعل الپروتستان أقل من ذلك فكانوا يعتدون على الكنائس الكاثوليكية ويتطاولون على القبور والهياكل كتطاول رجال العهد من بعدهم على قبور الملوك.
أخذت تلك الحوادث تفكك عرى فرنسة، فأصبحت في أواخر عهد هنري الثالث جمهوريات صغيرة مستقلة متشاكسة، وقد تضاءلت سلطة الملوك فكانت بلوا تملي على هنري الثالث الذي فر من عاصمته مطاليبها، وقد شاهد السائح ليبومانو، سنة 1577، في فرنسة مدنا كبيرة، مثل أورليان وبلوا وتور وپواتيه، عمها الخراب، وكنائس متداعية وقبورا مهدمة.
والواقعة التي تركت من بين وقائع ذلك الوقت أسوأ ذكر هي مذبحة سان بارتلمي التي أمر بها، سنة 1572، شارل التاسع وكاترينا دوميديسيس.
لا يتطلب الجزم بأنه لم يوجد ملك قادر على الأمر بوقوع مثل ذلك الحادث بحثا نفسيا دقيقا، فلم تكن واقعة سان بارتلمي جرما اقترفه الملك، بل جرما شعبيا، فلما قتلت كاترين دوميديسيس في باريس خمسة من زعماء الپروتستان الذين ظنت أنهم يأتمرون بها وبالملك وشاع ذلك في باريس انقض أشراف الكاثوليك والحرس الملكي والجمهور على الخوارج فقتلوا منهم ألفي نفس، وقد حذا سكان الولايات حذو أهل باريس في ذلك بعامل العدوى فسفكوا دماء ما يقرب من ثمانية آلاف نفس.
ولما سكن الزمان الحمية الدينية قليلا أنحى المؤرخون من كاثوليك وغيرهم على مذبحة سان بارتلمي باللائمة فأثبتوا لنا بذلك أن الوقوف على نفسية عصر من خلال نفسية عصر آخر أمر متعذر.
لم يوجه إلى حادثة سان بارتلمي أيام وقوعها شيء من الانتقاد في أوربة الكاثوليكية، وقد أوجبت حماسة لا توصف، فكاد فيليب الثاني يصبح مجنونا لشدة فرحه عندما بلغه وقوعها، وتساقطت أنواع التهنئة على ملك فرنسة أكثر مما كانت تتساقط عليه لو نال نصرا عزيزا في ساحة الحرب، ولم يبد السرور على أحد كما بدا على البابا غريغوار الثالث عشر، فقد أمر بضرب أوسمة خاصة تخليدا لذكراها،
1
وبإيقاد نيران الفرح، وبإطلاق المدافع، وبإقامة قداديس كثيرة، وبجعل الرسام فازاري يصور على جدران الڤاتيكان مناظرها، ثم أرسل إلى ملك فرنسة سفيرا ليهنئه بعمله المجيد، فهذه الأنباء التاريخية تدلنا على نفسية المؤمنين في كل دور.
ومن الأمور الطبيعية ألا يبقى الپروتستان مكتوفي الأيدي إزاء هذه الملحمة، فقد بلغ امتعاضهم مبلغا جعل هنري الثالث يمنحهم في مرسوم يوليو، الذي نشره سنة 1576، حرية دينية تامة وثمانية أماكن حصينة وأن يكون عددهم في بعض البرلمانات مساويا لعدد الكاثوليك.
ولم ينشأ عن هذه الامتيازات القهرية ارتياح في النفوس، فقد تألب الكاثوليك وعلى رأسهم دوك دو غيز، وأوقدوا نيران حرب لم يطفئها هنري الرابع إلا بارتداده سنة 1593 وبوضعه مرسوم نانت.
نعم، إنه أضعف جذوتها، ولكنه لم يقض عليها، إذ رفع الپروتستان راية العصيان أيام لويس الثالث عشر فاضطر ريشليو، سنة 1627، إلى محاصرة لاروشيل حيث هلك 15000 من الپروتستان، ولما كان هذا الكردينال الشهير ذا روح سياسية عالية عاملهم بالتسامح.
ولم يدم هذا التسامح طويلا، فالعقائد المتناقضة لا تظل متقابلة من غير أن تتصادم عندما تشعر إحداها بقدرتها على قهر الأخرى، فلما ضعف الپروتستان في أيام لويس الرابع عشر عدلوا عن القيام بأية حركة عدائية وأصبحوا مسالمين، وقد كان عددهم 1200000 نفس وكان لهم 600 كنيسة لها 700 قسيس، وبما أن بقاءهم في فرنسة مما لم يصبر عليه كهنة الكاثوليك أخذوا في اضطهادهم فاعتمد لويس الرابع عشر، سنة 1685، على فرسانه في قتل أناس كثيرين منهم، وبما أن ذلك لم يجد نفعا ضغطه الإكليروس، ولا سيما بوسويه، فألغى مرسوم نانت وخير الپروتستان بين ترك مذهبهم وبين هجرة بلاد فرنسة.
استمرت تلك الهجرة طويلا، وقد خسرت فرنسة من أجلها أربعمئة ألف رجل كريم أصغوا إلى نداء ضمائرهم أكثر مما إلى مصالحهم الذاتية. (6) نتائج الثورات الدينية
لم تكن الثورات الدينية كلها سيئة مثل ثورة الإصلاح الديني، بل كان تأثير الكثير منها في تقويم الناس وتهذيب نفوسهم عظيما جدا. فهي بمنحها الشعب وحدة أدبية تزيد قوته المادية كثيرا، وقد شوهد ذلك لما حول محمد - بما جاء به من الإيمان - قبائل العرب الضعيفة إلى أمة عزيزة.
ولا يقتصر المعتقد الديني الجديد على جعل الأمة متجانسة، بل يأتي بما يتعذر على أي فيلسوف أو قانون أن يأتي بمثله، أي إنه يغير عواطف الأمة الثابتة.
وقد لوحظ ذلك وقتما قضت أكبر ثورة تاريخية على الوثنية وأقامت مقامها عبادة إله جاء من سهول بلاد الجليل، فقد دعا هذا الدين الجديد الناس إلى العدول عن كل نعيم في هذه الحياة؛ ليكونوا خالدين في ملكوت السموات، وهذا الدين الذي أقبل عليه الأرقاء والبائسون والمحرومون طيب العيش أيما إقبال؛ لوعده إياهم نعيما دائما بدلا من حياة لا أمل فيها، قد هان أمره على الأغنياء أيضا، وهذا يثبت لنا ما للإيمان الجديد من السلطان على النفوس.
لم تقتصر الثورة النصرانية على تحويل العادات، بل أثرت تأثيرا كبيرا في سير الحضارة مدة ألفي سنة، فمتى يتم النصر لمعتقد ديني تلائمه عناصر الحضارة ملاءمة تتحول بها، ولا يفعل الكتاب ورجال الأدب والفن والفلاسفة وقتئذ غير الإشارة إلى ذلك المعتقد الجديد في تآليفهم.
وعندما ينتصر الإيمان سواء أدينيا كان أم سياسيا لا يؤثر فيه العقل، وإنما يجد هذا العقل مسوغات يزكيه بها، وربما كان أيام ملك خطباء ولاهوتيون كثيرون يثبتون ما في القرابين البشرية من الفوائد كعدد من ظهر في الأزمنة الأخرى من الخطباء وعلماء اللاهوت الذين مجدوا محاكم التفتيش وملحمة سان بارتلمي ومذابح دور العهد.
ولا تعرف الأمم ذات المعتقدات القوية شيئا من التسامح، فالأمم المشركة هي التي كانت متسامحة في القرون القديمة، والأمم المتسامحة في القرون الأخيرة هي التي يمكن نعتها بأمم ذات أرباب كثيرين، فهي، مثل الإنكليز والأمريكان، مفترقة على فرق دينية كثيرة وتعبد آلهة مختلفة بأسماء واحدة، غير أن تعدد المعتقدات الذي يجعلها متسامحة يضعفها في نهاية الأمر، وهنا نرى أنفسنا إزاء معضلة نفسية لم تحل حتى الآن، وهي: حيازة معتقد قوي ومتسامح معا.
ظهر لنا من البيان الوجيز السابق ما للثورات الدينية من الشأن الأعظم وما للمعتقدات من السلطان الأكبر، فهي التي تقود التاريخ على الرغم من قيمتها العقلية القليلة، وهي التي تقي الأمم من أن تكون أشخاصا ضعفاء لا تربطهم رابطة، وقد احتاج الإنسان إليها في كل عصر ليوجه أفكاره نحو مطلب، وما استطاعت أية فلسفة أن تقوم مقامها حتى الآن.
الفصل الثالث
شأن الحكومات في الثورات
(1) ضعف مقاومة الحكومات في الثورات
عانى كثير من الأمم الحديثة، كفرنسة وإسبانية وبلجيكة واليابان وتركية والپرتغال، أمر الثورات، وتوصف هذه الثورات في الغالب بحدوثها بغتة وبسهولة قلبها للحكومات.
وسبب حدوثها بغتة هو سرعة العدوى النفسية الناشئة عن طرق النشر والإذاعة في الوقت الحاضر، ومما يقضي بالعجب ضعف مقاومة الحكومات لها، فذلك يدل على عجزها عن الاطلاع على حقائق الأمور وكشف عواقبها.
لم يكن إسقاط الحكومات بسهولة أمرا حديثا، فقد شوهدت غير مرة حكومات قلبت بسهولة، ومنها حكومة استبدادية أسقطتها مؤامرات البلاط، ومنها حكومات مطلعة على الرأي العام بواسطة الصحافة وبواسطة موظفيها.
ومن أمثلة ذلك السقوط الفجائي: خلع شارل العاشر بعد نشر مراسيمه بأربعة أيام، فهذا الملك، الذي لم يتخذ وزيره بولينياك وسيلة للدفاع عنه، بلغ من اعتقاده سكون باريس ما ذهب معه إلى الصيد، وقد تشتت شمل جيشه، لسوء قيادته أمام هجمات عصاة قليلين.
وخلع لويس فيليپ بثورة صغيرة يقضي بالعجب، فهذا الخلع لم ينشأ عن استبداده، وإنما نشأ عن عجز قواده عن الدفاع عنه، وذلك خلافا لما قاله المؤرخون الذين لا يعتقدون إمكان سقوط حكومة منظمة يؤيدها جيش كبير على يد نفر من العصاة، والذين يعزون خلع لويس فيليپ إلى أسباب بعيدة من الحقيقة.
حقا وجد في باريس جيش مؤلف من 36000 جندي لم ينتفع به لعجز قادته وضعفهم، فلما أكثر هؤلاء القادة من إعطاء الأوامر المتناقضة ونهوا الجيش عن ضرب القوم اختلطت الجماعات بالجنود فتم النصر للثورة من غير كفاح واضطر الملك إلى التنزل عن العرش.
وقد أشار الجنرال بونال - مستعينا بمباحثنا في روح الجماعات - إلى أن إخماد الفتنة التي أدت إلى خلع لويس فيليپ كان ممكنا، فبين أنه لو بقي شي في رؤوس القواد من العقل لاستطاعت ثلة من الجيش أن تردع العصاة عن الاستيلاء على مجلس النواب، ولنادى هؤلاء النواب الذين كانوا من أنصار الملكية بكونت دو پاري ملكا وأنابوا أمه عنه.
يثبت لنا ذلك ما للعوارض الصغيرة الثانوية من الشأن في تكوين الحوادث العظيمة، ويغنينا عن الإسهاب في بيان سنن التاريخ العامة، فلولا الفتنة الصغيرة التي أوجبت خلع لويس فيليپ ما قامت الجمهورية سنة 1848 وما ظهرت الإمبراطورية الثانية وما حدثت واقعة سيدان وما أغار الأجنبي علينا وما أضعنا الألزاس على ما يحتمل.
ولم يمد الجيش في الثورات التي ذكرتها يد المعونة إلى الحكومات، ولم يثر عليها، وقد يقع عكس ذلك، فالجيش هو الذي قام بالثورات في الپرتغال وتركية، وعلى يده تتم الثورات الكثيرة في الجمهوريات اللاتينية الأمريكية، وإذا قام الجيش بالثورة أصبح القائمون بأمور الدولة تحت إمرته، وقد وقع ذلك في أواخر الدولة الرومانية عندما كان الجنود هم الذين يخلعون الأباطرة.
ولا تتم الثورة بغير معاضدة الجيش أو بمحايدته على الأقل، بيد أنها تبدأ في الغالب من غير أن يتدخل، ذلك كما حدث في ثورة سنة 1830 وثورة سنة 1848 وثورة سنة 1870 التي قضت على الإمبراطورية حينما شعر الناس في فرنسة بالعار الذي أصابهم من استيلاء الألمان على مدينة سيدان.
وتقع أكثر الثورات في العواصم، ومنها تسري بالعدوى إلى البلاد جميعها، وليس ذلك قاعدة ثابتة، فقد ثار أهل ڤانده وبريتانية والجنوب على باريس أيام الثورة الفرنسية الكبرى كما هو معلوم. (2) كيف تؤدي مقاومة الحكومات إلى انتصارها على الثورات
ظهر لنا من أكثر الثورات التي ذكرناها أن الحكومات الضعيفة تنهار عندما تمس، غير أن الثورة الروسية السابقة أثبتت لنا إمكان انتصار الحكومة التي تعرف كيف تدافع عن نفسها.
لم تحدث ثورة أكثر خطرا على حكومة من هذه الثورة، فبعدما غلبت روسية في الشرق الأقصى وشعر الناس بشدة النظام الاستبدادي تمردت فيها الطبقات الاجتماعية، ومنها جزء من الجيش والأسطول، وأضرب موظفو الخطوط الحديدية والبريد والبرق عن العمل فانقطعت وسائل النقل والمراسلة في تلك الإمبراطورية العظمى.
ثم أخذت الدعوة الثورية تشيع بين طبقة الفلاحين الذين هم معظم الأمة الروسية، وقد كان هؤلاء يعيشون عيشة بؤس وشقاء لإكراههم - كما يقتضيه نظام مير - على الفلاحة من غير أن تكون الغلة لهم فعزمت الحكومة على استمالتهم بتحويلهم إلى ملاك، فوضعت قوانين أكرهت بها سادتهم على بيعهم جزءا من أراضيهم، ثم أنشأت مصارف لتقرضهم مالا يؤدون به ثمن ما يشترون على أن يدفعوا ديونهم إلى تلك المصارف أقساطا سنوية من المحاصيل.
وبعدما استمالت الحكومة الروسية الفلاحين على هذا الوجه استطاعت أن تقاتل - من غير رحمة - العصاة المتمردين الذين كانوا يحرقون المدن ويلقون القنابل بين الجماعات فأبادت من قبضت عليهم منهم سائرة على السنة الضرورية لحفظ المجتمع من الثائرين الذين يريدون نقضه.
ثم رأت الحكومة الروسية التي خرجت من هذه المعامع ظافرة أن تجيب فريق الأمة المهذب إلى مطاليبه الحقة فأنشأت مجلسا اشتراعيا يسن القوانين ويرقب النفقات.
يثبت لنا تاريخ الثورة الروسية كيف أن حكومة تداعت أركانها الطبيعية استطاعت أن تتغلب على أشد الصعوبات بثباتها ودرايتها، فلقد أصاب من قال: «إن الحكومات لا تقلب بل تنتحر». (3) ثورات الحكومات، مثال تركية والصين
الحكومات تقاوم الثورات عادة ولا تقوم بها، غير أن هنالك حكومات قامت بإصلاحات فجائية من فصيلة الثورات، وما اتصفت به الروح القومية في البلاد من الثبات أو التقلب يوضح لنا سر نجاح هذه الحكومات أو حبوطها في ذلك.
فالحكومة تنجح عندما تكون الأمة التي ترغب أن تكرهها على أنظمة جديدة مؤلفة من قبائل وحشية خالية من القوانين الثابتة والتقاليد الراسخة، أي من روح قومية قوية، ومن أمثلة ذلك روسية أيام بطرس الأكبر الذي حاول أن يفرنج الروس، واليابان مثال آخر للثورات التي قامت بها الحكومات، ولكن طرق اليابان الفنية هي التي تغيرت، لا روحها القومية.
ويتطلب النجاح في تلك المساعي وجود ملك عبقري مستبد قوي، وذلك لأن الملك المصلح يرى الأمة جمعاء قد وقفت في وجهه فيكون وقتئذ هو الثائر وهي المحافظة خلافا لما يقع عادة.
والحبوط في تلك الثورات هو الأصل، سواء أمن علية القوم كان القائمون بها أم من سفلتهم، فروح الأمة الراسخة منذ زمن طويل لا تتبدل وإنما الأمور التي أبلاها الزمان هي التي تتحول.
قامت الصين في الوقت الحاضر بتجربة دلتنا على أن من المستحيل أن تجدد حكومة نظم الأمة فجأة، فالثورة التي اشتعلت فيها ونشأ عنها سقوط الأسرة المالكة هي نتيجة استياء الشعب من الإصلاحات التي أرادت الحكومة الصينية أن تلزمه بها لتحسن حالة البلاد، وقد أوجب تحريم الأفيون والقمار وإصلاح الجيش وفتح المدارس فيها أن زيدت الضرائب زيادة أقلقت الرأي العام كالإصلاحات نفسها.
فاستفاد من هذا السخط بضعة صينيين درسوا في المدارس الأوربية فحرضوا الشعب على الثورة؛ ليعلن النظام الجمهوري الذي لا يفقه صيني من أمره شيئا.
ولا يدوم هذا النظام طويلا، فلم يكن الباعث الذي أحدثه باعث تقدم، بل باعثا رجعيا، فكلمة جمهورية عند الصيني، الذي تخرج على الطريقة الأوربية، مرادفة لكلمة التحرر من سلطان القوانين والأنظمة والتقاليد، وهو يظن أنه بقصه ضفيرته وبوضعه خوذة على رأسه وبإقامته الجمهورية يستطيع أن يرخي لشهوات نفسه أعنتها.
وسترى الصين قريبا ما يكون أمر بنيانها الجديد الذي لم يقم على دعائم الماضي، فالعلم لم يكتشف بعد عصا السحر القادرة على إبقاء مجتمع فوضى، فستضطر الصين بعد أن تغوص بضع سنين في بحار الفتن التي تسفك بها الدماء إلى الاعتصام بسلطة مستبدة أشد من السلطة التي قلبتها؛ إذ لا احتياج إلى إكراه الناس على النظام إذا كان وراثيا، وأما إذا هدمت الشهوات الأنظمة التي أقامها الأجداد فلا يتجدد بناؤها إلا باستبداد شديد.
وقامت تركية أخيرا، كالصين، بتجربة قد تكون دليلا على صحة ما بيناه، فقد استطاع منذ بضع سنين شبان درسوا في مدارس أوربية أن يخلعوا السلطان الذي أصبح استبداده لا يطاق، وأعانهم على ذلك كثير من الضباط ظانين أنهم قادرون على تأسيس نظام نيابي في بلاد متأخرة ذات أديان مختلفة مثل بلادهم.
لم يأت هؤلاء حتى الآن عملا مشكورا، وقد رأوا - على الرغم من انتحالهم الحرية - أنهم مضطرون إلى حكم البلاد بأساليب قريبة من أساليب العهد الذي قضوا عليه.
ولا يجوز أن يلاموا على ذلك، فما يفعلون في تحويل أمة ذات تقاليد قديمة راسخة وذات عواطف دينية قوية؟ وكيف لا يبقى الإسلام دين الدولة في بلاد اتحد فيها الشرع المدني والشرع الديني وقام فيها المبدأ الوطني على الإيمان بالقرآن؟ يصعب هدم ذلك؛ ولذا رجعت تركية إلى نظام استبدادي ذي مسحة دستورية كنظامها السابق.
بتلك التجارب يستشهد في القول: إنه يتعذر على الأمة أن تختار نظمها قبل أن تغير روحها. (4) العناصر الاجتماعية التي تبقى بعد أن تقلب الثورات الحكومات
ما نقوله عن ثبات الروح القومية يدلنا على ما للنظم التي قامت منذ زمن بعيد من القوة، نعم، يقدر المؤتمرون على خلع الملك، ولكنهم يعجزون عن فعل شيء لا يلائم المبادئ التي يمثلها الملك ، فلما خلع ناپليون لم يخلفه وارثه الممثل لمبادئ غير ثابتة في النفوس، بل ورثه ابن الملوك الممثل لمبدأ قديم.
ومهما يكن الوزير ماهرا بارعا في خدمة بلاده فقد لا يقدر على خلع ملكه، ولو أراد بسمارك ذلك ما استطاع، مع أنه كفى لسقوط بسمارك، وهو الذي صنع الوحدة الألمانية وحده، إشارة صغيرة من سيده.
على أننا إذا فرضنا وجود أسباب مختلفة تلاشي الحكومة والمبدأ الذي تمثله، كما وقع أيام الثورة الفرنسية، فإن العناصر التي يتألف منها نظام المجتمع الحقيقي لا تزول كلها في الوقت نفسه، فلو اقتصر ما نعلمه عن فرنسة على ما وقع فيها من الانقلابات منذ عصر لقلنا إنها فوضى، والواقع أنها تبدو للناظر ذات حياة اقتصادية صناعية سياسية مستمرة بعيدة من الانقلابات والأنظمة.
فبجانب الحوادث العظيمة التي يهتم بها التاريخ أمور صغيرة تخص الحياة اليومية ولا تعبأ الكتب بذكرها، وهي تابعة لعوامل مهيمنة لا تقف أبدا، ويتألف من مجموعها لحمة حياة الأمة.
إذن من قادة الأمة الحقيقيون؟ لا ريب هم الملوك والوزراء في الأحوال العظيمة، ولكن لا شأن لهؤلاء الرجال في الأمور الصغيرة التي تتألف الحياة اليومية منها، فالقوى الحقيقية التي تسير البلاد هي عناصر الإدارة غير الشخصية التي لا يؤثر فيها ما يصيب نظام الحكم من التحولات، ولهذه الإدارة، ذات التقاليد المحافظة المنصفة بالدوام والخفاء، قوة تنحني أمامها القوى الأخرى، وقد بلغ تأثيرها مبلغا أوشك أن يكون لها به دولة خفية أقوى من الدولة الرسمية، وسيأتيك تفصيل ذلك.
الفصل الرابع
شأن الأمة في الثورات
(1) ثبات روح الأمة ومرونتها
يستلزم الاطلاع على أحوال إحدى الأمم الوقوف على بيئة تلك الأمة، ولا سيما ماضيها، فالماضي - وإن أمكن إنكاره نظريا، كما فعل رجال الثورة الفرنسية وكثير من رجال السياسة في الوقت الحاضر - لا يفنى تأثيره.
ففي الماضي الذي هو تعاقب الأجيال تتكون عناصر روح الأمم من أفكار ومشاعر وتقاليد وأوهام، ولولا هذه العناصر التي لا ارتقاء بغيرها لاضطر كل جيل إلى استئناف العمل.
ولا تتوطد عناصر روح الأمة إلا إذا كانت على شيء من الثبات الذي تسهل به مرونة تلك الروح، فالروح الوراثية بلا ثبات تكون مذبذبة غير مستقرة، وبلا مرونة تكون عاجزة عن ملاءمة تقلبات البيئة الناشئة عن تقدم الحضارة.
وشدة المرونة في روح الأمة تسوقها إلى القيام بثورات متوالية، وشدة الثبات تقودها إلى الانقراض، فذوات الحياة، ومنها الأنواع البشرية، تضمحل إن ظلت مستقرة على الرغم من تعاقب الزمن وعاجزة عن ملاءمة ما يطرأ على الحياة من الأحوال الجديدة.
والأمم التي وازنت بين هاتين الصفتين المتناقضتين - أي الثبات والمرونة - قليل عددها، ونذكر منها الرومان في القرون القديمة، والإنكليز في الوقت الحاضر.
حقا إن الأمم التي رسخت روحها كثيرا تأتي بأشد الثورات في الغالب، فهي لعجزها عن النشوء التدريجي تضطر إلى ملاءمة تقلبات البيئة بعنف عندما تصبح هذه الملاءمة أمرا ضروريا.
ولا تستقر روح الأمة إلا ببطء عظيم، فما التاريخ إلا أنباء مجهوداتها الكبيرة في سبيل توطيد روحها، وتظل هذه الأمم مذبذبة لا رابطة بين أجزائها ما دامت غير ناجحة في ذلك. وقد سعت فرنسة، بعد أن أغار البرابرة على الدولة الرومانية في أواخر عهدها، قرونا كثيرة لتنال روحا قومية.
نعم، إنها اكتسبتها في آخر الأمر، ولكن رسوخها لم يلبث أن صار شديدا، ولو اتصفت روحها بقليل من المرونة؛ لتطور نظامها الملكي القديم بالتدريج، ولتخلصت من ثورتها الكبرى ومن نتائجها ومن سعي شاق لتجديد روحها القومية.
تثبت لنا الملاحظات السابقة شأن العنصر في تكوين الانقلابات، وتوضح لنا لماذا تأتي الثورة الواحدة بنتائج تختلف باختلاف الأمم، كما توضح لنا سبب إقبال بعض الأمم بحماسة على مبادئ الثورة الفرنسية ومقاومة الأمم الأخرى لها.
لا ريب في أن إنكلترة المحافظة عانت أمر ثورتين وقضت على أحد ملوكها، ولكن مزاجها النفسي كان ثابتا ثباتا كافيا لحفظ تراث الماضي ومرنا مرونة كافية لنشوء هذا المزاج حسبما تقتضيه الضرورة ، وهي - على عكس رجال الثورة الفرنسية - لم تفكر قط في تقويض تراث الأجداد؛ لتقيم مجتمعا جديدا باسم العقل.
قال ألبير سورل: «بينما كان الفرنسي يحتقر حكومته ويمقت إكليروسه ويحقد على أشراف أمته ويتمرد على قوانين بلاده، كان الإنكليزي يفتخر بدينه وبدستوره وبأكابر أمته وبمجلس أعيانه، فكان كأنه يحكم أوربة ويستخف بها معتصما بأبراج ذلك الحصن المنيع».
ويتجلى لنا أيضا شأن العنصر في مصير الأمم عند البحث في تاريخ الثورات الأمريكية الإسبانية الدائمة، فالأمم الأمريكية الإسبانية مولدة، أي مؤلفة من أناس انحلت أخلاقهم بتأثير الوراثة المتباينة انحلالا حرمهم روحا قومية ثابتة وجعل حكمهم متعذرا.
ومن يرد أن يطلع على التباين بين استعداد الأمم السياسي الناشئ عن اختلاف العنصر فليبحث عن أمة واحدة حكمها جنسان.
ولم يكن ذلك نادرا في التاريخ، فقد تجلى حديثا في القطرين، كوبا والفلپين، اللذين استولت عليهما الولايات المتحدة بعد الحكم الإسباني، فكل يعلم درجة ما وصلت إليه كوبا أيام الحكم الإسباني من الفوضى وما وصلت إليه من العمران، في بضع سنين، أيام حكم الولايات المتحدة.
وكل يعلم أن الفلپين كانت أيام سلطان الإسبان الذي استمر قرونا كثيرة، مستنقعا واسعا تعيش فيه أمة بائسة عاطلة من التجارة والصناعة، وأنه بعد استيلاء الأمريكيين عليه أصبح خاليا من العفن والحمى والطاعون موصول الأجزاء بالسكك الحديدية مكتظا بالمصانع والمدارس متمتعا بأسباب الصحة والوقاية.
فإلى مثل هذه الأمثلة يجب رد رجال النظر الذين لم يدركوا ما في كلمة العنصر من المعاني، ولم يفقهوا أن روح الأمة الموروثة هي التي تسيطر على مصيرها. (2) كيف تتلقى الأمة الثورة
شأن الشعوب واحد في الثورات كلها، فهي لا تدرك مغزاها ولا تدبر أمرها، وإنما الزعماء هم الذين يحركونها.
ولا يخلع الطاعة فريق من الشعب بغريزته إلا إذا مس الضر منافعه الظاهرة، وذلك كما وقع في شنپانية حديثا، وتدعى هذه الحركة المحلية بالعصيان البسيط.
ويسهل وقوع الثورة إذا كان زعماؤها من ذوي النفوذ العظيم، وأما مبادئ الثورة فلا تدخل في قلب الشعب إلا بالتدريج، فالشعب يقوم بالثورة من غير أن يعلم سببها، ومتى ساقه الحظ إلى إدراك هذا السبب فإن الثورة تكون قد انتهت منذ زمن طويل.
ويقوم الشعب بالثورة مجيبا دعوة زعمائه ، وهو مع عدم إدراكه شيئا يستحق الذكر من أفكار هؤلاء الزعماء تتوارده هذه الأفكار حسبما يمليه عليه خياله.
خذ الثورة الفرنسية التي وقعت سنة 1789 مثلا تر غايتها أن يقبض على زمام الأمور أبناء الطبقة الوسطى بدلا من الأشراف.
ولم ينظر إلى مصلحة الشعب في بدء هذه الثورة إلا قليلا، والشعب - وإن أعلنت سيادته فيها - كانت هذه السيادة تضر بحقه في انتخاب نوابه فقط.
وبما أن الشعب كان جاهلا غير طامح إلى الارتقاء في السلم الاجتماعي كأبناء الطبقة الوسطى، وبما أنه كان شاعرا ببعده من درجة الأشراف غير طامع في مساواتهم، كانت أغراضه ومنافعه تختلف كثيرا عن أغراض علية القوم ومنافعهم.
بيد أن ما وقع بين المجلس النيابي والملك من المنازعات أوجب تدخل الشعب فيها شيئا فشيئا فأصبحت ثورة الطبقة الوسطى ثورة شعبية بذلك، وبما أن المبدأ لا يؤثر إلا إذا استند إلى العاطفة والتدين وجب على مبادئ الطبقة الوسطى النظرية، لتؤثر في الشعب، أن تتحول إلى إيمان جديد واضح مشتق من المنافع العملية الظاهرة.
تم هذا التحول بسرعة عندما سمع الشعب الرجال - الذين كانوا الحكومة في نظره - يقولون له إنه مساو لسادته السابقين فاعتبر أنه كان ضحية وشرع ينهب ويحرق ويقتل ظانا أنه يتصرف في حق له.
وهكذا تجلت قوة المبادئ الثورية في منح حرية السير والعمل لأصحاب الغرائز الفطرية الضارة التي ردعتها البيئة والتقاليد والقوانين منذ القديم.
ولما أخذت الزواجر الاجتماعية التي كانت تزجر عامة الأمة تتداعى على الوجه المذكور تصور هؤلاء أن قوتهم غير محدودة فصاروا يطاردون سادتهم السابقين ويسلبونهم أموالهم، وهل يمتنع الشعب عن فعل كل شيء بعد أن يصبح حاكما؟
لم تلبث كلمة الحرية والمساواة والإخاء التي كانت عنوان الإيمان الجديد والآمال الجديدة في بدء الثورة أن أخذت تسوغ غرائز الطمع والحسد والحقد، تلك الغرائز المحركة للجماعات والتي لا يزجرها نظام، وهذا ما جعل النظام يختل والظلم يسود والفوضى تعم في وقت قصير.
وبعد أن هبطت الثورة الفرنسية من الطبقة الوسطى إلى طبقة العوام تقلص ظل العقل وتغلبت عليه الغرائز، وانتصار الغرائز الموروثة أمر مخيف، فلم تؤد المجهودات التي قامت بها المجتمعات لتعيش إلا إلى زجر بعض الغرائز الحيوانية الموروثة، نعم يمكن ردع هذه الغرائز، وكلما تقدمت الأمة في ميدان الحضارة صار هذا الردع أتم وأكمل، إلا أنه يستحيل القضاء عليها؛ ولذا كان تحريرها خطرا جدا، فمتى فاض السيل لا يرجع إلى مجراه قبل أن يخرب ما يصل إليه. (3) شأن الشعب في الثورات
تثبت لنا سنن روح الجماعات أن الشعب لا يسير من غير زعماء، وأن عمله - وإن كان عظيما في الثورات، لاندفاعه فيما حرض عليه - لا يقود ما ينجزه من الحركات أبدا.
وللزعماء في كل ثورة سياسية تأثير، ومع أنهم لا يبتكرون المبادئ التي تستند إليها فإنهم يتخذونها وسيلة للعمل، فلكل من المبادئ والزعماء والجيوش والجماعات شأن خاص في جميع الثورات.
وتسير الجماعات التي هيجها الزعماء معتزة بعددها، ومثل تأثيرها كمثل تأثير القنبلة التي تخترق الدرع مستمدة قوتها من شيء آخر، وقلما تدرك الجماعة شيئا من الثورات التي تقوم بها، فهي تتبع الزعماء طائعة من غير أن تبحث عن شهواتهم، فقد خلعت شارل العاشر من أجل مراسيمه، وهي لم تفقه شيئا من أمر هذه المراسيم، ولو سئلت عن سبب خلعها لويس فيليب لعجزت عن الجواب.
وقد خدعت الظواهر مؤلفين كثيرين، كميشله وأولار، فظنوا أن الشعب هو الذي قام بالثورة الفرنسية الكبرى، قال ميشله: «إن الفاعل الأصلي للثورة الفرنسية هو الشعب»، وقال أولار: «إن من الخطأ أن يقال إن الذين أوقدوا نار الثورة الفرنسية هم بعض الوجهاء، فقد ثبت عندي - بعد الاطلاع على ما وقع في سنة 1789 وسنة 1799 - أن الشعب هو بطل تلك الثورة، وأنه لم يسير الحوادث شخص واحد، سواء أكان ذلك الشخص لويس السادس عشر أم كان ميرابو أم دانتون أم روبسپير».
وقد غالى مسيو كوشان في قوله : «إن من الخوارق أن حكمت هذه الجماعة (الشعب) وأمرت وقالت وسارت مدة خمس سنين بإتقان تام غير مستعينة برئيس أو قانون، فقد كانت هذه الجماعة تعمل بغريزتها وهي مؤلفة من 25 مليون نفس على مساحة 30000 فرسخ مربع كأنها رجل واحد».
نعم، لو كان سير الشعب غريزيا كما زعم هذا المؤلف لعد من الخوارق، وقد فطن مسيو أولار لاستحالة ذلك فكان حينما يبحث عن الشعب يقول إنه مؤلف من أحزاب لها رؤساء، قال هذا المؤلف: «من وطد الوحدة القومية؟ ومن أنقذ الأمة التي هاجمها الملك ومزقتها الحرب الأهلية؟ أدانتون أم روبسپير أم كارنو؟ كلا، نعم، قد خدم هؤلاء الأمة، ولكن الذي أيد الوحدة والاستقلال هو تجمع الأمة الفرنسية على شكل بلديات وجمعيات شعبية، وإذا كان في كل حزب بضعة زعماء فإن هؤلاء الزعماء كانوا يستمدون قوتهم من أحزابهم وينفذون أحكامها كما يظهر ذلك من مطالعة محاضر الجمعيات الشعبية». (4) طبقات الأمة
يقال في الرد على بعض الأفكار إن الأمة ذات كيان لاهوتي حائز جميع ما يمجده رجال السياسة ويسهبون في ذكر ما له من القوى والفضائل، وسنبدي رأينا في ذلك عند بحثنا الآن عن شأن الأمة في الثورة الفرنسية.
إن الأمة، عند المتقدمين والمتأخرين من اليعاقبة - كالآلهة - ذات شخصية سامية لا تسأل عما تفعل ولا تخطئ أبدا، فالجميع مسؤول عن إطاعتها وإن جاز لها أن تقتل وتنهب وتحرق وتأتي أقسى المظالم وتطرح غدا في الدرك الأسفل من رفعته اليوم إلى مصاف الأبطال، ولا يعدل رجال السياسة عن السجود أمام أحكامها مسبحين بحمد فضائلها وحكمتها العالية.
فما حقيقة الأمة، أي المعبود الذي يقدسه الثوريون منذ قرن؟
يمكن تقسيمها إلى قسمين: فالقسم الأول يشتمل على الفلاحين والتجار وأرباب الحرفة، أي على من يحتاجون إلى السكينة والنظام ليقوموا بمهنهم، ويغفل المؤرخون أمر هذا الفريق الذي هو أكثرية الأمة، والذي لا يقوم بالثورات أبدا، والذي يعيش عيش عناء وسكوت.
وأما القسم الآخر، الذي له شأن مهم في الفتن القومية كلها، فهو ثمالة اجتماعية هادمة ذات نفسية أثيمة ، أي هو أناس يتألف من مجموعهم جيوش متمردة حولها البؤس وإدمان المسكرات إلى لصوص وصعاليك.
فالخوف من العقاب يردع الكثير من هؤلاء الأخلاط المشائيم عن اقتراف الجرائم في الأوقات العادية، ولكنهم لا يتأخرون عن ارتكابها عندما تستطيع غرائزهم المنحطة أن تسير حرة، فهم الذين كانوا يستولون - بتأثير زعمائهم - على مجالسنا الثورية الكبرى ويقترفون أنواع القتل والنهب والتحريق غير مكترثين للنظريات والمبادئ أبدا.
وينضم - بتأثير العدوى - إلى هذه الطبقة المنحطة جماعة من العاطلين الذين يصرخون مع كل ناعق ويتمردون مع كل متمرد من دون أن يفقهوا شيئا من المسألة التي يصرخ من أجلها ويتمرد.
ولا يعرف الخطباء غير هذه الجماعات المشاغبة الضارة التي هي آلة كل عصيان منذ القديم والمؤلفة من الرعاع الذين قال تيار عنهم: «إنهم لم يتغير منهم شيء منذ الأزمنة التي رآهم فيها ناسيت يصفقون لجرائم القياصرة، وإنهم يتأهبون لتدنيس المجتمعات باقترافهم أنواع الجرائم مجيبين نداء كل سلطة لوصم كل مبدأ».
لم يمتد شأن الرعاع في دور امتداده أيام الثورة الفرنسية، فمنذ تفلتوا من قيدهم سنة 1789، أي قبل دور العهد بقليل، أخذوا في ذبح الناس، وقد شرحوا المسجونين وهم أحياء، ومثلوا بهم؛ لتمتد آلامهم ويتسلى الحضور باضطرابهم ونواحهم.
هكذا يسير الرعاع عندما تقضي الأيدي الغافلة على الزواجر الرادعة لغرائزهم المتوحشة المنتقلة إليهم بالوراثة، فلو تكاثف هؤلاء الرعاع طرفة عين؛ لظهر هذا الجسم غولا طاغيا قليل العقل سفاكا للدماء.
على أنه يسهل التغلب على هؤلاء الرعاع عندما يقف في وجههم جبار عنيد، فقد أعانوا كل استبداد، وأيقن القياصرة أنهم يصفقون لهم سواء أكاليغولا كان اسمهم أم نيرون أم روبسپير أم بولانجه.
وبجانب هذه الزمر المخربة ذات الشأن الكبير في الثورات نذكر فريق الأمة الذي لا يصبوا إلا إلى الجد والعمل كما بينا ذلك سابقا، فهذا الفريق، وإن كان يستفيد أحيانا من الثورات، لا يفكر في القيام بها، ولا يعلم رجال الثورة من أمره إلا قليلا.
نعم، قد يجعله الخوف مطيعا فيقوده الزعماء بنفوذهم إلى اقتراف المظالم، ولكن مقومات الأمة الوراثية لم تلبث أن يثقل ميزانها فيضجر ذلك الفريق من الثورات فتدفعه روح الأمة الثابتة إلى الوقوف أمام الفوضى عندما تستفحل باحثا عن رئيس قادر على إعادة النظام.
وليس لهذا الفريق الهادئ مبادئ سياسية سامية أو غامضة ألبتة، فغايته أن يسود الحكم المطلق؛ ولذا قام هذا الحكم بعد الفوضى على الدوام، فقد عقب الحكم المطلق الثورة الأولى عندما هتف لناپليون، وقد عقب الثورة الثانية عندما رفع الانتخاب العام لويس ناپليون إلى رئاسة الجمهورية وأقره على استبداده بالحكم، ثم جعله إمبراطورا، ثم استصوب نظامه سنة 1870، أي قبيل الحرب الفرنسية الپروسية.
وجب أن لا تغيب الحوادث التي أشرنا إليها في هذا الفصل عن بالنا إذا أردنا الاطلاع على شأن الأمة في الثورات، فللأمة شأن كبير فيها، ولكنه يختلف عما جاء في الأقاصيص.
الباب الثاني
النفسية التي تسود الثورات
الفصل الأول
تقلبات الخلق أيام الثورات
(1) تحول الشخصية
فصلت في مؤلف آخر نظرية الأخلاق التي يستحيل إدراك تحول الإنسان بغيرها أيام الثورات، وإليك عناصرها الأساسية:
لكل امرئ - ما عدا نفسيته الثانية - شؤون خلقية متقلبة تظهرها الحوادث.
وتتألف شخصية الإنسان الخاصة من اجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازنة ما دامت البيئة ثابتة لا تتقلب، فمتى تقلبت هذه البيئة كثيرا، وذلك كما يقع أيام الفتن، اختل هذا التوازن وتألف من تكتل العناصر المنحلة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جدا عن الشخصية العادية، ومن ذلك أن كثيرا من رجال الصلاح والقضاء، الذين كانوا موصوفين بالحلم، انقلبوا أيام الهول إلى أناس متعصبين سفاكين للدماء.
حقا قد يصير المرء بتأثير البيئة الجديدة أمرأ آخر، وحقا إن القائمين بالأزمات الدينية والسياسية العظيمة مثلنا، وإن لاح لنا أنهم من جوهر يختلف عن جوهرنا، فمن تكرار الحوادث نفسها يظهر الأشخاص أنفسهم.
وكيف تتألف شخصية جديدة عندما تنحل الشخصية العادية بفعل بعض الحوادث؟ إنها تتألف بوسائل كثيرة أهمها: حيازة معتقد قوي.
فبالمعتقد تألفت الشخصيات التي شوهدت في الأزمات العظيمة كالحروب الصليبية والإصلاح الديني والثورة الفرنسة، وإننا، لعدم تحول البيئة في الأوقات العادية، لا نشاهد سوى شخصيات متماثلة في الناس.
وقد تصبح هذه الشخصيات متناقضة متشاكسة، ولكن ذلك يحدث قليلا في الأزمنة العادية، ويكون بارزا أيام الاضطرابات.
وليس الذكاء هو الذي يتغير عند تحول الشخصيات، بل المشاعر التي يتألف الخلق منها. (2) عناصر الخلق السائد للثورات
نشاهد في أيام الثورات أن المشاعر المزدجرة عادة تسير حرة عند رفع الزواجر الاجتماعية، ولا ترفع هذه الزواجر المستندة إلى القوانين والتهذيب والتقاليد رفعا كليا، بل يبقى بعضها على الرغم من الانقلابات، وينفع هذا البعض في وقف ثوران المشاعر الخطرة.
وروح العنصر أقوى هذه الزواجر، فهي تحدد تقلبات الأمة وتسيرها على الرغم من ظواهر الأمور، فلو نظرنا إلى ما قصه التاريخ لظهر لنا مثلا أن النفسية الفرنسية تبدلت كثيرا في قرن واحد، أي انتقلت في سنين قليلة من نظام الثورة إلى النظام الإمبراطوري فإلى النظام الملكي فإلى نظام الثورة فإلى النظام الإمبراطوري، والواقع أن ظواهر الأمور وحدها هي التي تغيرت.
ولا نوضح حدود تقلب الأمة بأكثر مما فعلنا، وسنبحث الآن في العناصر العاطفية التي يساعد انتشارها أيام الثورات على تغيير شخصيات الأفراد والجماعات، وسأذكر من هذه العناصر: الحقد والخوف والحرص والحسد والزهو والحماسة، فقد لوحظ تأثير هذه العناصر في انقلابات التاريخ كلها، ولا سيما في الثورة الفرنسية الكبرى. (3) الحقد
حقد رجال الثورة الفرنسية على الناس والنظم وكل شيء هو أحد مظاهرهم العاطفية التي تبدو عند البحث في نفسيتهم، فلم يكتف هؤلاء الرجال بمقت أعدائهم بل مقتوا أيضا أعضاء حزبهم الخاص، قال أحد الكتاب حديثا: «إذا نظرنا إلى ما كانوا يصفون به بعضهم بعضا لم نر فيهم سوى الخونة والكاذبين وبائعي الضمائر والقتلة والظالمين»، وما كان مجهولا ذلك الحقد الذي غلى في صدور الجيرونديين والدانتونيين والإيبريين والروبسپيريين أيام كانوا يتطاردون، فلم يهدأ هذا الحقد إلا بقتل كل امرئ من يخالفه.
وسبب ذلك هو أن هؤلاء الهائجين لما اعتقدوا أنهم على الحق صاروا، كالمؤمنين في كل زمن، لا يطيقون مسامحة من لم يكن على مذهبهم، فصاحب الإيمان الديني أو العاطفي يميل إلى حمل الناس على إيمانه دائما، وهو لا يتأخر عن القتل في سبيله إذا استطاع ذلك.
ولو كان العقل مصدر الأحقاد التي فرقت بين رجال الثورة الفرنسية لم تدم هذه الأحقاد طويلا، ولكن صدورها عن خلق التدين والعاطفة جعل أصحابها عاجزين عن الصفح، وبما أن مصدرها واحد عند الأحزاب كلها ظهرت بشدة واحدة عند الجميع، ولقد أثبتت الوثائق الصحيحة أن الجيرونديين لم يكونوا أقل من حزب المونتانيار سفكا للدماء، فكانوا أول من صرح مع بيسيون بأنه يجب على الأحزاب المغلوبة أن تبيد، وقد بين مسيو أولار أنهم حاولوا تسويغ مذابح سپتمبر، وعليه وجب ألا تعد طريقة الهول من طرق الدفاع، بل من طرق الإبادة التي يتخذها المؤمنون الغالبون نحو أعدائهم المقهورين، فالإنسان - وإن تحمل ما يباين أفكاره - لا يطيق معتقدا مخالفا لمعتقده أبدا.
لا سلام للمغلوب في المنازعات السياسية والدينية، هذه سنة لم تتبدل منذ قطع سيلا رقاب مئتي عضو من أعضاء مجلس الشيوخ ورقاب زهاء ستة آلاف روماني حتى رجال الكومون الغالبين الذين قتلوا بالرصاص أكثر من عشرين ألف مغلوب، ولا ريب في أن هذه السنة ستجري حكمها في المستقبل كما فعلت في الماضي.
ولم يكن اختلاف المعتقدات وحده سبب الأحقاد التي ظهرت أيام الثورة الفرنسية، بل صدرت تلك الأحقاد أيضا عن المشاعر الأخرى كالحسد والحرص والعجب، ومما أوجبته هذه المشاعر مغالاة رجال الأحزاب المختلفة في الحقد، فما كان يقع بين الأشخاص من المزاحمة للقبض على زمام الأمور كان يسوق رؤساء الأحزاب إلى المقصلة واحدا بعد الآخر.
ونرى أن من عناصر الروح اللاتينية الميل إلى الانقسام وما ينشأ عنه من الأحقاد، فبه أضاع أجدادنا الغوليون استقلالهم، وقد انتبه إلى ذلك يوليوس قيصر فقال: «ليس في بلاد الغول مدينة غير منقسمة إلى حزبين كما أنه ليس فيها كورة أو قرية أو دار خالية من روح التحزب، وقلما تمضي سنة من غير أن تهاجم مدينة جاراتها بالسلاح».
وبما أن الإنسان لم يدخل في دور المعرفة إلا منذ زمن قليل ، وكان مسيرا بالمشاعر والمعتقدات، تجلى لنا شأن الحقد في التاريخ، ولقد أشار أحد أساتذة المدرسة الحربية القائد كولان إلى أهمية عاطفة الحقد في بعض الحروب حيث قال: «لا داعي إلى الشجاعة في الحرب أكثر مما إلى الحقد، فهو الذي نصر بلوخر على ناپليون، وإذا بحثنا عن أحسن الحركات العسكرية وأحزمها رأيناها قد صدرت عن البغض والنفور أكثر مما عن العدد، وماذا كانت نتيجة حرب سنة 1870 لولا الحقد الذي كان يحمله الألمان في صدورهم ضدنا؟»
ويمكن هذا المؤلف أن يقول أيضا إن حقد اليابان الشديد على الروس الذين كانوا يزدرونهم هو أحد الأسباب التي نصرت أولئك على هؤلاء، وأما الروس فبما أنهم كانوا لا يعلمون غير شيء يسير عن اليابان فإنهم لم يحملوا شيئا من الضغينة نحوهم فزاد ذلك ضعفهم.
نعم، لاكت الأفواه كلمة الإخاء أيام الثورة الفرنسية، ولا يزال الناس يرددونها، وصارت كلمة السلم والإنسانية والتضامن قواعد للأحزاب، ولكن شدة الأحقاد المستترة تحت هذه الكلمات والأخطار المحدقة بالمجتمع الحاضر ليست بالشيء الخفي. (4) الخوف
للخوف في أيام الثورات شأن عظيم يقرب من شأن الحقد، فرجال العهد الذين كانوا كثيري الشجاعة أمام المقصلة كانوا شديدي الجبن أمام وعيد مثيري الفتن الذين كانوا متسلطين على مجلس النواب، وسنرى ذلك عندما نلخص تاريخ مجالسنا الثورية.
حقا شوهد الخوف بمظاهره كلها في ذلك الزمن، وكان الظهور بمظهر العاقل المعتدل أخوف ما يخافه الناس، فقد سابق أعضاء المجالس وموظفو الاتهام وقضاة المحاكم خصومهم في التطرف، أي في اقتراف الجرائم، ولو أن معجزة أزالت الخوف من المجالس الثورية لكان لها سير آخر وكان للثورة الفرنسية وجهة أخرى. (5) الحرص والحسد والزهو
تتبع هذه العناصر العاطفية في الأوقات العادية مقتضيات الاجتماع فيكون الحرص محدودا بحكم الضرورة في مجتمع قائم على نظام المراتب، فإذا صار فيه جندي قائدا فذلك لا يقع إلا بعد انقضاء زمن طويل، وأما في أيام الثورات فبما أنه جاز لكل امرئ أن يصعد في أعلى المراتب فإن خلق الحرص يهيج عند الناس فيظن أحقرهم أنه أهل لها فيبلغ الزهو فيه غايته.
وللحسد شأن عظيم في الأدوار الثورية، فكان حسد الناس للأشراف سببا من أسباب الثورة الفرنسية، ولما زادت الطبقة الوسطى فيها مالا وسطوة وكثر اختلاطها بالأشراف شعرت - على الرغم من ذلك - ببعدها منهم فأحست في نفسها ألما شديدا، وهذه الحالة الروحية جعلتها تميل غير شاعرة إلى المذاهب الفلسفية القائلة بالمساواة.
إذن، كانت عزة النفس المجروحة والحسد سببين لما لم ندرك مغزاه اليوم من الأحقاد، فكان كثير من رجال العهد مثل كاريه ومارا وغيرهما يتذكرون - والغضب آخذ منهم مأخذه - أنهم تقلدوا وظائف ثانوية لدى الأمراء الإقطاعيين، وما استطاعت مدام رولان أن تنسى أنها عندما دعيت في الدور السابق مع والدتها للعشاء عند سيدة كبيرة تناولتاه مع خدم المائدة.
قال الفيلسوف ريفارول: «لم تكن الضرائب وأوامر الملك وتصرف السلطة السيئ وجور الولاة وتقاعس القضاة أمورا أثارت وحدها ساكن الأمة، بل إن الأمة أظهرت من الحقد على طبقة الأشراف ما لم تظهره على شيء آخر».
قال ناپليون: «إن الزهو كان سببا للثورة الفرنسية، ولم يكن السعي إلى الحرية سوى حجة باطلة». (6) الحماسة
حماسة مؤسسي الثورة الفرنسية تعدل حماسة ناشري دين محمد، فقد كانت تلك الثورة ديانة اعتقد رجال الطبقة الوسطى في المجلس الاشتراعي الأول أنهم أسسوها وقضوا بها على المجتمع القديم، وأقاموا بها حضارة أخرى على أنقاضه، وما وجد خيال فاتن شغل قلب الإنسان أكثر من ذلك الخيال، فكان أولئك الرجال يقولون إن مبدأ الإخاء ومبدأ المساواة اللذين أعلنوهما يمنحان الأمم سعادة أبدية، وإنه لما قطعت العلائق بالماضي المظلم المتوحش أصبح المجتمع الجديد سائرا على نور العقل المطلق.
وإذا كان العنف قد قام حالا مقام هذه الحماسة فذلك لأن انتباه الناس كان سريعا، ويسهل علينا إدراك السر في أن رسل الثورة الفرنسية وقفوا أشداء غاضبين في وجه العوائق اليومية المانعة من تحقيق أحلامهم، فهم لما أرادوا نبذ الماضي ونسيان التقاليد وتجديد البشر، وكان الماضي يظهر من غير انقطاع، والبشر يأبي أن يتغير، اضطروا إلى التوقف عن سيرهم غير مريدين الخضوع، فأخذوا يكرهون الناس على الانقياد لأوامرهم بضغط أعادوا به - في النهاية - النظام السابق المقضي عليه، والذي لم يلبث أن أسف الناس عليه.
ومما يستحق الذكر أن حماسة الأيام الأولى التي لم تدم كثيرا في المجالس الثورية بقيت في الجيوش، فكانت سر قوتها، فجيوش الثورة الفرنسية، التي كانت تميل إلى الجمهورية قبل أن تصبح فرنسة جمهورية، استمرت على نزعتها زمنا طويلا بعد أن صارت فرنسة غير جمهورية.
تتبع تقلبات الخلق، التي بحثنا فيها آنفا، بعض الأماني وتحولات البيئة، وهي ترد إلى أربع نفسيات: النفسية اليعقوبية، والنفسية الدينية، والنفسية الثورية، والنفسية المجرمة.
الفصل الثاني
النفسية الدينية والنفسية اليعقوبية
(1) تقسيم النفسيات التي تسود الثورة
تؤدي التقسيمات - التي يستحيل البحث العلمي بغيرها - إلى قطع ما هو متصل، ولا مفر من ذلك، فالمتصل لا يدرك إلا بعد تحويله إلى أجزاء.
ولم يكن التفريق بين مختلف النفسيات التي تسود الثورة سوى فصل عناصر متداخلة، ويجب ترك قليل من الضبط والصحة لنيل ما يقابل ذلك من الوضوح، فالعناصر الأساسية التي أشرنا إليها في آخر الفصل السابق لا يمكن تفصيلها عند البحث فيها مشتبكة الأجزاء.
بينا أن الإنسان تسيره أنواع المنطق الكثيرة المتقاربة التي لا يؤثر بعضها في بعض في الأوقات العادية، وتتنازع هذه الأنواع بتأثير الحوادث، فيبدو الفرق بينها للعيان فيؤدي ذلك إلى اضطرابات فردية وانقلابات اجتماعية عظيمة. (2) النفسية الدينية
توصف روح التدين بإسنادها قدرة عظيمة إلى قوى علوية تتمثل على شكل أصنام وأنصاب وألفاظ وصيغ، وهذه الروح هي أساس المعتقدات الدينية كلها وكثير من المعتقدات السياسية.
والمنطق الديني مشبع من المشاعر وسائر العواطف، والفتن الشعبية الكبيرة تنال قوتها منه، وإذا كان الناس لا يبذلون من حياتهم في سبيل المعقولات إلا شيئا قليلا فإنهم يبذلونها كلها طوعا في سبيل خيال ديني يعبدونه.
لم تلبث مبادئ الثورة الفرنسية أن ألقت في قلوب الناس حمية دينية كالتي ألقتها المعتقدات الدينية السابقة، ولم تفعل بذلك غير تحويلها وجهة النفس الموروثة المتكاثفة مع الزمن.
إذا لا تعجب من حمية رجال العهد الشديدة، وهم يشابهون - بنفسيتهم الدينية - البروتستان في دور الإصلاح الديني، وقد كان أبطال دور الهول كروبسپير وكوتون وسان جوست وغيرهم رسلا يشبهون بوليوكت الذي ظن أنه بهدمه تماثيل الآلهة الباطلة في سبيل إيمانه يجعل العالم نصرانيا، فلما اعتقدوا أن صيغهم السحرية تكفي لدك العروش لم يترددوا في شهر الحرب على الملوك، وقد غلبوا أوربة بفضل إيمانهم القوي الذي يغلب الإيمان الضعيف.
وكان تدين زعماء الثورة الفرنسة يظهر في أدق أعمالهم، فقد قال روبسپير في إحدى خطبه، وهو يعتقد أنه محفوف بعون الله: «إن الله تعالى أمر بالحكم الجمهوري منذ البداءة»، وجعل - وهو الحبر الأعظم لدين الحكومة - مجلس العهد يضع مرسوما جاء فيه: «أن الأمة الفرنسية تؤمن بالله تعالى وبخلود النفس»، وألقى، وهو جالس على العرش يوم عيد الرب، موعظة طويلة.
واعتقد مكسمليان (روبسپير) «وجود إله قادر عظيم يحافظ على البريء المظلوم ويعاقب المجرم الظافر»، وكان الخوارج الذين كانوا يطعنون في المذهب اليعقوبي يرسلون إلى المحكمة الثورية التي كان لا يخرج منها المتهم إلا إلى المقصلة.
ولم تمت النفسية الدينية بموت روبسپير الذي هو عنوانها، فبين رجال السياسة نرى أناسا ذوي نفسية تشبه نفسيته، فهؤلاء - وإن لم يكن للمعتقدات الدينية القديمة سلطان عليهم - يخضعون لتعاليم سياسية لا يتأخرون ساعة - عند المقدرة - عن حمل الناس عليها، فطريقة الإرشاد في كل جيل، عند المتدينين الذين يضحون بأنفسهم في سبيل نشر معتقدهم، واحدة حينما يصيرون سادة.
إذن، من الطبيعي أن يكثر عدد المعجبين بروبسپير والناسجين على منواله، وهو وإن قطع رأسه بالمقصلة لم تقطع مداركه، ولا تزول المدارك التي نشأت مع الإنسان إلا بزوال آخر المعتقدين.
لم ينتبه أكثر المؤرخين إلى وجه الثورات الديني، وسوف يستمرون على عزوهم كثيرا من الحوادث إلى المنطق العقلي البعيدة منه، وقد ذكرت في فصل سابق عبارة لمسيو لاڤبس ولمسيو رانبو قالا فيها إن ثورة الإصلاح الديني «نتيجة تأملات فردية أورثها قلوب البسطاء عقل مقدام».
فلا يمكن إدراك هذه الثورات إذا ظن أن مصدرها العقل، فللمعتقدات التي أقامت العالم وأقعدته، سواء أدينية كانت أم سياسية، مصدر واحد، وكلها سار على سنة واحدة، أي أنها لم تتم بالعقل، وكثيرا ما تمت خلافا لكل عقل، نعم يظهر أن البدهية (البوذية) والنصرانية والإسلام والإصلاح الديني والسحر واليعقوبية والاشتراكية والمذهب الروحاني معتقدات متباينة، ولكنني أقول مؤكدا: إن لها دعائم عاطفية ودينية واحدة، وتتبع منطقا لا علاقة بينه وبين المنطق العقلي، وقوتها ناشئة عما للعقل من التأثير الضئيل في تكوينها وتحويلها.
وقد فصلت نفسية رسلنا السياسيين الدينية في الوقت الحاضر في مقالة نشرت في إحدى الجرائد الكبيرة، جاء في هذه المقالة التي تمس أحد وزرائنا السابقين: «يسألون عن الفرقة التي ينتسب إليها مسيو فلان، هل هو من فرقة الملحدين؟ فيا للسخرية! ... نسمع، مع عدم اختياره أي إيمان وضعي ولعنه رومة وجنيڤ أنه يجحد بالعقائد التقليدية، ويكفر بالكنائس المعروفة، فهو إن جعل الصفيحة هكذا ملساء فذلك ليقيم عليها كنيسته الخاصة التي هي ذات بدع أكثر من كل كنيسة، ولن تقل محكمته التفتيشية في شدة تعصبها وعدم تسامحها عن أشهر محاكم توركمادة». «وصرح بأنه لا يرضى عن حرية التعليم، وبأنه يطلب أن يكون التعليم زمنيا من كل وجه، وهو إن لم يقل بالإحراق فذلك لاضطراره إلى مداراة نشوء العادات والطبائع، وهو لعجزه عن قتل الناس يستعين بالقوة الزمنية للحكم على المذاهب كلها بالموت، وقد بلغت حرية الفكر فيه مبلغا جعله يقول إن كل فلسفة لا يرضى عنها مجرمة أثيمة موجبة للهزء والسخرية، وهو يزعم أنه اطلع على الحقيقة المطلقة، وأوجب اعتقاده هذا أن يعتبر كل من يخالفه غولا شنيعا وعدوا فظيعا. فمسيو فلان - كما يظهر - من أشياع آلهة العقل التي تشبه الإله مولك الظالم في تعطشها إلى القرابين البشرية». «ألا إن الأماني خلابة، وكم من أصنام حطمت منذ بضعة قرون تمهيدا للسجود أمام صنم حديث».
وبما أن سلطان العقل على المعتقدات الدينية قليل فقد أصبح من اللغو أن تجادل - كما يفعل بعض الناس - فيما للمبادئ الثورية والسياسية من القيمة العقلية، وتأثيرها وحده هو الذي يهمنا ، وسواء علينا أكذبت التجربة نظرية المساواة ونظرية الصلاح الفطري ونظرية تجديد المجتمع بالقوانين أم لم تكذبها. (3) النفسية اليعقوبية
اصطلحت على تعبير «النفسية اليعقوبية»، مع أنه لم يسبقني أحد إليه في أي تقسيم كان؛ لدلالته على نوع نفسي خاص.
فقد سادت هذه النفسية رجال الثورة الفرنسية، ولا تزال مؤثرة في سياستنا الحاضرة.
زعم اليعاقبة أنهم عاطلون من خلق التدين وأن العقل يسيرهم، وقد كانوا يستشهدون بالعقل أيام الثورة الفرنسية ويتخذونه هاديا مرشدا.
وقد رأي أكثر المؤرخين أن الروح اليعقوبية تنزع إلى المعقول، وذهب تاين إلى هذا الرأي الفاسد فعزا كثيرا من أعمال اليعاقبة إلى مغالاتهم في المعقولات، غير أنه جاء في بحثه عنهم بعض الحقائق التي تستحق النظر، فإليك بعضها:
لم تكن عزة النفس والعقل النظري بالشيء النادر عند البشر، ففي أي بلد نراهما، وهما مصدر الروح اليعقوبية، لا يفنيان، ومتى بلغ عمر المرء عشرين سنة فدخل معترك الحياة استحوذ الغم على عقله وزهوه فاعتبر المجتمع الذي نبت فيه حاجزا يحول دون تقدم عقله النظري، والمجتمع قد أوجدته الأجيال المتعاقبة على حسب احتياجاتها الكثيرة المتحولة، أي أنه لم يكن من صنع المنطق، بل من صنع التاريخ كما هو معلوم، ثم يهز ذلك المبتدئ كتفيه هازئا بهذا البناء الاجتماعي الهرم الذي لم يقم على نظام والذي يبدو عليه الرتق والترقيع.
انظروا إلى أحسن ما أنتجته قرائح أولئك الرجال، أي إلى خطب روبسپير وسان جوست وإلى مناقشات المجلس الاشتراعي الأول ومجلس العهد وإلى أقوال الجيرونديين والمونتانيار وإلى مناشيرهم وتقاريرهم تروا أنهم أتوا فيها بأكثر الكلام للتعبير عما يتطلب أقله، وأن تعقلهم كان يغرق في بحر طام من الألفاظ المفخمة، فاليعقوبي يسير وراء ما يدور في دماغه المتعقل من الأوهام والخيالات التي هي عنده أكثر من غيرها ولا يعبأ إلا بما توحيه إليه فيصرخ بين الناس كما يهتف في موكب النصر.
وإني، وإن كنت أعجب ببيان تاين، لا أعتقد أنه فهم نفسية اليعقوبي تماما.
فروح اليعقوبي الحقيقي - سواء أفي أيام الثورة الفرنسية أم في أيامنا - تتألف من عناصر يجب تحليلها لإدراك شأنها.
يدلنا هذا التحليل على أن اليعقوبي معتقد غير متعقل، وأنه لا يؤسس معتقده على العقل، بل يسكب العقل في قالب معتقده، وأن خطبه، وإن كانت مشبعة من العقليات، لا يسير عليها إلا قليلا، ولو كان اليعقوبي يتعقل بنسبة ما يلام عليه من التعقل لأجاب نداء العقل في بعض الأحيان، وقد دلتنا المشاهدة، منذ عهد الثورة الفرنسية، على أن العقل مهما كان سديدا لم يؤثر فيه قط، وهذا هو سر منعته، والسبب في عدم تأثير العقل فيه هو أن ما فيه من قصر النظر لا يسمح له بمقاومة اندفاعاته العاطفية المسيرة له.
ولا تتألف النفسية اليعقوبية من هذين العنصرين - أي العقل الضعيف والعواطف القوية - وحدهما، بل تتألف من عنصر آخر أيضا، فاليعقوبي الحقيقي ذو معتقد راسخ، والعاطفة تدعم المعتقد ولا تنشئه، فما ركن هذا المعتقد؟ هنا يبدو لنا عنصر التدين الذي بحثنا فيه سابقا، فاليعقوبي متدين أقام مقام آلهته القديمة آلهة جديدة، أي بما أنه كان للألفاظ والصيغ سلطان قوي على نفسه فإنه يعزو إليها قوة إلهية، ولا يتأخر في سبيل خدمة هذه الآلهة الكثيرة الطلب عن اقتراف أقسى الأعمال، والدليل على ذلك ما سنه اليعاقبة في الوقت الحاضر من القوانين.
وتظهر النفسية اليعقوبية عند ذوي الخلق الضيق الحمس على الخصوص، وتتضمن هذه النفسية فكرا قاصرا عنيدا لا يؤثر النقد فيه، وما تغلب على الروح اليعقوبية من التدين والعاطفة يجعل اليعقوبي كثير السذاجة، وهو لعدم إدراكه من الأمور غير علاقاتها الظاهرة يظن أن ما يساوره من الصور الوهمية حقائق ويفوته ارتباط الحوادث فلا يتحول عن خياله أبدا.
إذن، لا يقترف اليعقوبي الآثام لرقي منطقه العقلي، وإنما يسير لضعف عقله معتقدا مندفعا إلى حيث يتردد الرجل ذو المدارك السامية فيقف، وهو - كسائر المعتقدين - عاجز عن الخروج من دائرة المعتقد.
ويشبه اليعقوبي - بصفته اللاهوتية المكافحة المناجزة - أنصار كالڤن الذين قلنا في فصل سابق إنهم لم يثنهم شيء عن إيمانهم الذي نومهم، وإنهم رأوا كل من يخالفهم في معتقدهم جديرا بالموت، فقد كان أولئك الأنصار المتعقلون كاليعاقبة جاهلين ما يسيرهم من القوى الخفية ظانين أن العقل رائدهم مع أن الذي قادهم هو خلق التدين وعنصر الحماسة.
يتعذر علينا اكتناه اليعقوبي بقولنا إنه متعقل، ولا ينفعنا ذلك إلا في القنوط من العقل، وأما إذا قلنا إنه حمس متدين تيسرت لنا معرفة أمره.
وهذه الأمور الثلاثة - أي العقل الضعيف والحماسة الشديدة والتدين القوي - هي عناصر الروح اليعقوبية.
الفصل الثالث
النفسية الثورية والنفسية المجرمة
(1) النفسية الثورية
قلنا إن عنصر التدين هو من عناصر الروح اليعقوبية، وهذا العنصر من مقومات نفسية أخرى، أي النفسية الثورية.
تشتمل المجتمعات في كل زمن على عدد من النفوس المضطربة المتقلبة الساخطة المتأهبة للتمرد الراغبة في الفتنة للفتنة نفسها، ولو أن قوة سحرية حققت آمالها بلا قيد ولا شرط ما عدلت عن التمرد.
وتنشأ هذه النفسية في الغالب عن عدم الامتزاج بالبيئة، أو عن الغلو في التدين أو المرض.
وللتمرد درجات مختلفة تبدأ من الاستياء الطفيف الذي ينحصر في كلام المرء عن الناس والأشياء وتنتهي إلى التخريب، وقد يصوب المرء صولته الثورية أحيانا نحو نفسه عند عجزه عن التصرف بها على طريقة أخرى، فلقد كثر في روسية عدد المجانين الذين لم يكتفوا بالتحريق وإلقاء القنابل فتحولوا إلى البخع
1
والانتحار.
ويسهل إغواء هؤلاء العصاة الذين أضلت بعض الوساوس نفوسهم الدينية، فهم على رغم العزيمة الظاهرة التي تدل عليها أعمالهم ضعفاء عاجزون عن مقاومة أقل المحرضات، والقوانين والبيئة تردعهم في الأوقات العادية فيظلون غير مؤثرين، ولكن متى بدت أدوار الفتن فإن هذه الزواجر تضعف، فيطلقون عنان غرائزهم غير مبالين بالغاية التي نشبت الثورة من أجلها.
وقد تكون الروح الثورية غير خطرة، فهي إذا صدرت عن العقل، بدلا من العاطفة أو التدين، أصبحت عامل تقدم وارتقاء، فعندما يصير حكم التقاليد والعادة ثقيلا على الحضارة تتخلص منه بفضل أناس من ذوي العقول المستقلة الثورية كغليله ولاڤوازيه وداروين وپاستور الذين أعانوا على تقدم العلوم والفنون والصناعة في العالم.
ويجب أن يكون في كل أمة عدد من هؤلاء الأعاظم الذين لولاهم لظل الإنسان عائشا في الكهوف، وتتطلب الجرأة الثورية التي تظهر ما عند صاحبها من الاكتشافات استقلالا ذهنيا يتخلص به من الأفكار الجارية بين الناس، وحصافة يدرك بها ما تحت المتشابهات السطحية من الحقائق. (2) النفسية المجرمة
قدر على المجتمعات المتمدنة كلها أن تشتمل على جماعة من المنحطين وشذاذ الآفاق والمذنبين والأشرار واللصوص والقتلة الذين يتألف منهم فريق المدن الكبيرة المحرم، والوازعون لهم أيام السلم إنما هم الشرط، أي رجال البوليس، ولكن لا رادع لهم أيام الثورات، فيسهل عليهم فيها أن يقتلوا ويسلبوا، ومنهم يجمع رجال الثورة جنودهم، وهم - لعدم طمعهم في غير القتل والنهب - لا يبالون بالغاية التي يدافعون عنها ولا يتأخرون ساعة عن الانضمام إلى الحزب المتقهقر حينما يكون حظهم من القتل والسلب عنده أكثر.
ويضاف إلى هؤلاء المجرمين الذين هم داء المجتمعات العضال، الفريق الذي يأتي المنكر وقتما يستحوذ عليه الخوف من النظام السائد والذي لا يلبث أن ينضم إلى زمر العصاة حينما يعتري هذا النظام وهن، ويتألف من هذين الفريقين جحفل مخل بالنظام، وعليه يعتمد الثوريون والقائمون بالفتن الدينية والسياسية.
قلنا في فصل آخر إن هذه الفئة المجرمة كانت عظيمة النفوذ أيام الثورة الفرنسية، وقد قص علينا بعض المؤرخين - وهم خاشعون - خبر الأوامر التي كانت تحملها إلى مجلس العهد وهي مسلحة بحراب على رؤوسها هامات مقطوعة، ولو بحثنا عن العناصر التي كانت تتألف منها هذه الفئة التي ادعت أنها وكيلة الشعب لرأينا أن أكثريتها من اللصوص والأشرار وأن أقليتها من ذوي النفوس الساذجة الذين يسيرون حسبما يحرضهم الزعماء، وإلى أولئك اللصوص والأشرار تعزى المذابح الكثيرة كمذابح شهر سبتمبر وقتل الأميرة لانبال.
حقا إنها أرهبت جميع المجالس التي قامت منذ المجلس التأسيسي حتى مجلس العهد وعاثت في فرنسة مدة عشر سنين، ولو أن معجزة قضت عليها لكان سير الثورة الفرنسية غير ما وقع، فقد ضرجتها بالدماء منذ فجرها حتى غروبها، وليس للعقل سلطان عليها، وهي للعقل من القاهرين.
الفصل الرابع
روح الجماعات الثورية
(1) صفات الجماعة العامة
لا تأتي الثورات - مهما كان مصدرها - بشتى النتائج إلا بعد دخولها في نفوس الجماعات، وهي لهذا السبب تعتبر نتيجة روح الجماعات.
ومع أنني بحثت مطولا في كتاب آخر عن روح الجماعات فإن الضرورة تقضي علي بأن أذكر هنا سننها الأساسية، وعلى ذلك أقول:
إن المرء - وهو جزء من الجماعة - يختلف جدا عنه وهو منفرد، فشخصيته الشاعرة تفنى في شخصية الجماعة غير الشاعرة، وليس من الضروري أن يتصل المرء بالجماعة اتصالا ماديا ليكتسب نفسية الجماعة، بل يكفي في الغالب، لتكوين هذه النفسية ما ينشأ عن بعض الحوادث من الانفعالات والمشاعر العامة.
ولروح الجماعة التي تظهر وقتيا مزاج خاص يتصف بتغلب اللاشعور الخاضع لأحكام منطق خاص يسمى منطق الجماعات.
ونعد من الأوصاف الأخرى للجماعات غلوها في سرعة التصديق وسرعة الانفعال وعدم التبصر وعجزها عن التأثر بالمعقول، فلا يمكن إقناعها إلا بالتوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ، وليس للحقائق والتجارب تأثير فيها، ويمكن حملها على تصديق كل شيء لعدم وجود ما هو مستحيل عندها.
وما تتصف به الجماعات من سرعة التأثر والانفعال يجعلها مفرطة في مشاعرها التي تكون ضارة أو نافعة، ويعظم هذا الإفراط في أيام الثورة، فأقل تحريض يدفع الجماعات وقتئذ إلى القيام بأقسى الأعمال، ويزيد في الثورات أيضا ما تتصف به الجماعات في الأحوال العادية من سرعة التصديق فتعتقد صحة ما لا يمكن تصديقه من الأقاصيص، ومن ذلك رواية أرثور يانغ أن الشعب قبض، عندما كان يزور أيام الثورة الفرنسية المنابع القريبة من كلرمون، على دليله لاعتقاده أنه جاء لينسف المدينة كما أمرته الملكة، ثم أخذ الناس، بعد ذلك، يتناقلون أشنع الأحاديث عن بيت الملك عادين إياه من الغيلان والعفاريت.
والإنسان، وهو جزء من الجماعة، يهبط كثيرا من سلم الحضارة فتصدر عنه عيوب الشراسة ومزاياها، أي أنواع الظلم والاستبداد وأنواع الحماسة والبطولة، فالجماعة وإن كانت من الجهة العقلية أدنى من الرجل المنفرد قد تكون أسمى منه شعورا وخلقا، ويسهل عليها أن تقترف إثما كما يسهل عليها أن تضحي بنفسها.
وتتلاشى الأخلاق الشخصية في الجماعات لما لها من التأثير في أفرادها، فيصيح فيها البخيل متلافا والملحد معتقدا والصالح مجرما والنذل بطلا، وما أكثر أمثلة هذه التحولات أيام الثورة الفرنسية.
والإنسان يبدي، وهو مجتمع، سواء أمن المحلفين كان أم من أعضاء الپرلمان، ما لا يخطر بباله وهو منفرد من حكم في قضية أو رأي في قانون.
ومن أهم النتائج التي تنشأ عن تأثير الجماعة في أفرادها: توحيد مشاعرهم وعزائمهم، ومن هذه الوحدة النفسية تكتسب الجماعات قوة عظيمة، والباعث على تكوين هذه الوحدة النفسية هو انتشار المشاعر والحركات والأعمال بين الجماعة بالعدوى على الخصوص.
وكيف تحدث تلك الإرادة والمشاعر المشتركة؟ إنها تحدث بالعدوى، ولكن تكوين هذه العدوى يتطلب مصدرا، وهذا المصدر هو الزعيم الذي سنتكلم، قريبا، عن تأثيره في الحركات الثورية، فالجماعة بلا زعيم تعجز عن السير والحركة.
ويجب الاطلاع على سنن روح الجماعات؛ لتفسير حوادث الثورة الفرنسية، وإدراك سير المجالس الثورية وتطور أعضائها، وبما أن القوى اللاشعورية كانت دافعة لهؤلاء الأعضاء فإنهم كانوا يقولون ويفعلون في الغالب خلاف ما كانوا يريدون.
ومع أن فريقا من أقطاب السياسة أدرك سنن روح الجماعات نرى أكثر الحكومات قد جهل أمرها، ولا يزال يجهله، وقد سهل هذا الجهل سقوط أكثر الحكومات، وتتضح الأخطار الناشئة عن جهل روح الجماعات عند الاطلاع على السهولة التي أسقطت بها فتنة صغيرة بعض أولياء الأمور، ولا سيما لويس فيليپ، فقد جهل القائد الذي كان يقود سنة 1848، جنودا كافية للدفاع عن ذلك الملك أن اختلاط الجماعة بالجند يؤدي بالتلقين والعدوى إلى شلل هؤلاء وعدم قيامهم بواجباتهم، فنشأ عن هذا الجهل خلع مليكه. (2) كيف تحدد روح العرق تقلبات الجماعات
يمكن تشبيه الشعب بالجماعة؛ لأنه يتصف ببعض صفاتها، إلا أن روح العرق الذي ينتمي إليه الشعب يحدد تقلبات هذه الصفات، ففي روح العرق ثبات لا عهد لروح الجماعة المتقلبة بمثله.
ومتى حصلت للشعب روح وراثية مستقرة مع الزمن تتغلب هذه الروح على روح الجماعة.
ويظهر الشعب - أحيانا - كالجماعة بمظهر المتقلب ، ولكن لنعلم أن وراء تقلبه وحماسته ومظالمه وهدمه غرائز ثابتة متأصلة تدعمها روح العرق، وقد أثبت تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ القرن الذي بعدها كيف تتغلب الروح الثابتة على روح التخريب في نهاية الأمر، وما أكثر المرات التي جدد فيها الشعب حالا بناء ما هدمه من الأنظمة!
ولا يسهل التأثير في روح الشعب كما يسهل في روح الجماعات، فوسائل التأثير في روح الشعب تسير معوجة بطيئة كالجرائد والمحاضرات والخطب والكتب، ويمكن ردها إلى العناصر التي وصفناها سابقا وهي: التوكيد والتكرار والنفوذ والعدوى.
وقد تنال العدوى النفسية شعبا بأسره فجأة، ولكنها لا تسري في الغالب من فريق إلى آخر إلا بالتدريج، فهكذا انتشر الإصلاح الديني في فرنسة، والشعب، وإن كان يهيج أقل من الجماعة، قد تثيره بغتة بعض الحوادث كشتمه وتهديده بالغزو، وقد شوهد ذلك غير مرة أيام الثورة الفرنسية، ولا سيما حين توعد دوك دوبر نسويك الأمة الفرنسية جاهلا نفسيتها، فهذا الدوك لم يضر بذلك لويس السادس عشر وحده، بل أضر نفسه؛ إذ أوجب سوق جيش لمقاتلته.
ويشاهد انفجار المشاعر فجأة في الأمم كلها، ولم يدرك ناپليون قوة هذه المشاعر وقتما أغار على إسبانية وروسية، وذلك أن الفلاح الروسي الذي كان خشنا سخيفا تحولت صفاته حينما شعر بغارة ناپليون، ويمكن استجلاء ذلك من العبارة الآتية التي نقتطفها من رسالة زوجة القيصر إسكندر الأول، إليزابيت، وإليكها:
لقد اشتعلت قلوب الروس حينما جاوز ناپليون حدودنا، وكان ذلك الشعور ينمو كلما أوغل ناپليون في البلاد، وصار الشيوخ الذين أضاعوا أموالهم يقولون: سنجد ما نسد به خلتنا، وكل شيء أفضل عندنا من صلح مخز، وأصبحت النساء اللاتي لهن أزواج في الجيش لا ينظرن إلى ما يحيق بهم من الأخطار ولا يخشين إلا الصلح الذي هو قضاء على روسية بالموت، وكل ذلك لم يخطر ببال القيصر، ولو أراده القيصر لم يقدر عليه.
وقد قصت الإمبراطورة إليزابيت المذكورة على والدتها الأمرين الآتيين اللذين يستدل بهما على درجة ما في نفوس الروس من المقاومة، قالت إليزابيت:
استخدم الفرنسيون في موسكو بعض الفلاحين في جيشهم ووسموهم في أيديهم كما توسم الخيل لكيلا يفروا، وقد سأل أحدهم عن هذه السمة فقيل له إنها تدل على أنه جندي فرنسي فصرخ قائلا : يا عجبا أأكون من جنود إمبراطور فرنسة! ثم أخذ فأسا وقطع بها يده ورماها على أرجل الحضور قائلا: خذوا سمتكم هذه!
وقبض الفرنسيون في موسكو على عشرين فلاحا لخطفهم بعض الفرنسين، فصفوهم وقرأوا عليهم حكم القتل باللغة الروسية، وكان الفرنسيون ينتظرون أن يطلبوا العفو، ولكنهم بدلا من ذلك طلبوا إليهم أن يمهلوهم ليصلبوا، ثم قتلوا الأول بالرصاص منتظرين أن يخاف الآخرون فيسألوا العفو ويعدوا بتحسين سلوكهم، ثم قتلوا الثاني والثالث ومن بقي من العشرين بالرصاص من غير أن يستمطر واحد منهم رحمة العدو.
وتكون الروح الشعبية مشبعة من خلق التدين، فالشعب يعتقد وجود كائنات علوية، كالآلهة والحكومات وأعاظم الرجال، قادرة على تحويل الأمور كما تريد، ويورث هذا الخلق عند الشعب ميلا شديدا إلى العبادة فيحتاج إلى معبود سواء أرجلا كان أم مذهبا، وعندما تخيفه الفوضى يتطلب مسيحا منقذا.
والشعوب تنتقل كالجماعات من العبادة إلى الحقد، إلا أن انتقالها هذا يقع بالتدريج في الغالب، فقد تلعن اليوم من عبدته أمس، ويشاهد هذا الانتقال في مختلف البلدان، كما دل على ذلك تاريخ كرومويل الذي أسقط أسرة مالكة ورفض تاج الملك، فكرومويل الذي دفن كما يدفن الملوك لم يمض على موته سنتان حتى انتزع جسده من قبره وقطع الجلاد رأسه معلقا إياه على باب الپرلمان. (3) شأن الزعماء في الحركات الثورية
ذكرنا أن الجماعات والمجالس والأمم والأندية تعجز عن السير حينما تكون عاطلة من سيد يقودها، وبينت في كتاب آخر - مستعينا بعلم وظائف الأعضاء - أن روح الجماعة اللاشاعرة ترتبط بروح زعيمها، فهو الذي يمنحها إرادة واحدة ويلزمها الطاعة المطلقة.
يؤثر الزعيم في الجماعة بالتلقين على الخصوص، ويتوقف نجاحه على طريقة تلقينه، وقد أثبتت التجارب الكثيرة أن تلقين الجماعة سهل جدا.
والجماعة تكون بحسب أنواع التلقين، هادئة أو هائجة أو مجرمة أو باسلة مغامرة، وهذه الأحوال، وإن جاز أن تكون ذات مظهر عقلي، ليس فيها من العقل سوى الظاهر، فالمشاعر والخيالات هي التي تؤثر في الجماعة، ولا تتأثر الجماعة بالمعقول أبدا.
ويدلنا تاريخ الثورة الفرنسية على سهولة اتباع الجماعات ما يأتي به الزعماء من التحريض المتناقض، فهي قد هتفت لفوز الجيرونديين والإيبريين والدانتونيين ورجال الهول كما هتفت لسقوطهم.
والزعماء لسيرهم سرا، لا يلاحظ شأنهم بعد تقادم العهد إلا بصورة مبهمة، فيجب لاستجلاء هذا الشأن أن يبحث عنه في الحوادث الحديثة التي تثبت سهولة تحريك الزعماء للناس، ولا نشير هنا إلى اعتصابات موظفي البريد والمعدنين التي قد يقال إن سببها هو استياؤهم، بل نشير إلى الحوادث التي لا منفعة للجماعة فيها، كالهرج الذي أوجبه بعض زعماء الاشتراكية في باريس يوم أعدم في إسبانية الفوضوي فيرير الذي لم يسمع الناس شيئا عنه في فرنسة، فقد كفى تحريض بعض الزعماء في باريس لسوق جيش شعبي إلى السفارة الإسبانية بقصد إحراقها، ولما دفع المهاجمون عنها اقتصروا على تخريب بعض المخازن لإنشاء بضعة متاريس.
وقد أتى الزعماء في ذلك الحين دليلا آخر على تأثيرهم، فلما أحسوا أن حرق سفارة أجنبية أمر خطأ أشاروا على الجماعة في يوم آخر بإقامة مظاهرة سلمية فأطاعتهم كما فعلت وقتما أمروها بالتمرد، ولا شيء أحسن من هذا المثال لإثبات شأن الزعماء وإطاعة الجماعات.
الفصل الخامس
روح المجالس الثورية
(1) صفات المجالس الثورية الكبرى
المجلس السياسي الكبير، كالبرلمان، جماعة، ويكون فعل هذه الجماعة قليلا حينما تتناقض مشاعر أحزابها، وقد تعتبر هذه الأحزاب ذات المنافع المختلفة مجلسا ذا جماعات متباينة خاضعة لزعمائها، وحينئذ لا يتجلى ناموس الوحدة النفسية للجماعات إلا في كل حزب على حدته، والأحوال الاستثنائية وحدها هي التي تجمع بين عزائم تلك الأحزاب.
ولكل من أحزاب المجلس كيان يفنى فيه رجاله، فيستصوبون في المجلس ما لا يعتقدونه وما لا يريدونه، فقد أبدى فرنيو استياءه من اقتراح الحكم بالموت على لويس السادس عشر، ولكنه استحسن ذلك الاقتراح في اليوم التالي.
ويستطيع ذوو النفوذ من الزعماء أن يؤثروا ، أحيانا، في أحزاب المجلس كلها، فيؤلفوا منها جماعة واحدة، ومن ذلك تأثير عدد قليل من الزعماء في أعضاء مجلس العهد وجعلهم يأتون أعمالا تناقض آراءهم.
أذعنت الجماعات في كل زمن للزعماء الأشداء، فأثبت لنا تاريخ المجالس الثورية مقدار خوف هذه المجالس من زعماء الفتن مع سلقها الملوك بألسنة حداد، فكانت تستحسن في جلسة واحدة أكثر الأمور مناقضة للمعقول خشية من الزعماء الجبارين.
وعندما يكسب المجلس صفات الجماعة يصبح مثلها ذا مشاعر متطرفة، أي إنه قد يصير مسرفا في قوته كما أنه قد يصير مسرفا في جبنه، ويكون عاتيا أمام الضعفاء ذليلا أمام الأقوياء.
فكل يعلم درجة الخوف الذي استحوذ على البرلمان وقتما دخل عليه الشاب لويس الرابع عشر والسوط بيده، ليلقي خطبته، وكل يعلم درجة الوقاحة التي أتاها المجلس التأسيسي تجاه لويس السادس عشر حينما كان هذا الملك يشعر بضعفه، وليس ذعر مجلس العهد من روبسپير بأمر مجهول.
صفات تلك المجالس سنة عامة، فمن الخطأ العظيم أن يدعو الملك - عندما تهن قوته - مجلسا للاجتماع، فقد أدى اجتماع مجلس النواب إلى إعدام لويس السادس عشر، وفقد هنري الثالث عرشه عندما غادر باريس وجمع مجلسا نيابيا في بلوا، فعندما شعر هذا المجلس بضعف الملك عد نفسه سيدا فغير الضرائب وعزل الموظفين وادعى أن لقراراته ما للقانون من القوة.
وشوهد غلو المشاعر في مجالس الثورة الفرنسية كلها، فبعد أن انتحل المجلس التأسيسي السيادة بالتدريج أعلن أنه هو الحاكم، واعتبر لويس السادس عشر موظفا بسيطا، ثم جاء مجلس العهد فكان في بدء الأمر معتدلا، ثم أفرط في إظهار سلطانه فسن قانونا حرم به المتهمين حق الدفاع عن أنفسهم وأجاز الحكم عليهم بالشبهات، وقد أدى إمعانه في سفك الدماء إلى اقتتال أعضائه فقتل الجلاد الجيرونديين ثم الإيبريين ثم الدانتونيين ثم الروبسپيريين.
وسرعة التقلب في مشاعر المجالس توضح لنا علة إتيانها نتائج مخالفة لمقاصدها، فقد ساق المجلس التأسيسي المؤلف من الحزب الكاثوليكي والحزب الملكي فرنسة إلى جمهورية مستبدة بدلا من الملكية الدستورية التي كان يريد إقامتها ، كما ساقها إلى اضطهاد الإكليروس بدلا من إعلاء شأن الديانة التي كان يود الدفاع عنها. (2) روح الأندية السياسية
تختلف الجمعيات الصغيرة، ذات الآراء والمعتقدات والمنافع الواحدة، عن المجالس الكبيرة بوحدة مشاعرها وعزائمها، ومن هذه الجمعيات الصغيرة نذكر المجالس الدينية وطوائف المحترفين في العهد السابق والأندية أيام الثورة الفرنسية والجمعيات السرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ومحافل الماسون ونقابات العمال في الوقت الحاضر.
ويقتضى، لإدراك سير الثورة الفرنسية، أن يبحث عن الفرق بين المجلس المتخالف والنادي المتجانس، فالأندية هي التي سيطرت على الثورة الفرنسية حتى عهد الديركتوار، وقد كانت هذه السيطرة شديدة في دور العهد كما هو معلوم.
وتخضع الأندية لنواميس روح الجماعات على رغم وحدة عزائمها الناشئة عن فقدان الأحزاب فيها، فهي تستكين للزعماء كما شوهد في النادي اليعقوبي الذي كان يقوده روبسپير.
ويكون تأثير الزعيم في النادي - أي في الجماعة المتجانسة - أصعب مما في الجماعة المتباينة، فلكي تسير الجماعة المتخالفة يكفي أن يهتز عدد قليل من أوتارها، وأما الجماعة المتجانسة - كالنادي مثلا - حيث تكون المشاعر والمنافع واحدة فيجب لسوقها مداراة هذه المشاعر والمنافع، وبهذا قد يصبح الزعيم مرؤوسا.
وللجماعات المتجانسة قوة عظيمة في خفائها، فقد كفى أيام الكومون أي سنة 1871، بضعة أوامر خفية لإحراق أجمل أبنية باريس كدار البلدية وقصر التويلري وديوان المحاسبة وبيت جوقة الشرف، والمصادفة هي التي أنقذت وقتئذ قصر اللوڤر وما فيه من الآثار الفنية، والآن يصغى باحترام إلى الأوامر التي يصدرها زعماء العمال المستترون على رغم مخالفتها للصواب، ولم يكن الانقياد لأندية باريس وللجمعية الثورية المتمردة أقل من ذلك أيام الثورة الفرنسية، فكانت - بأمر واحد منها - تسوق رعاعا مسلحين إلى المجلس الاشتراعي لإملاء مطالبها عليه، وسنرى، عند بحثنا في تاريخ مجلس العهد، وقوع مثل هذه الغارات كثيرا وانقياد هذا المجلس، الذي وصفته الأقاصيص بشدة البأس، لأوامر عصابة من الغوغاء.
تدلنا الملاحظات السابقة على ما لروح الجماعة من التأثير في إدارة أعضائها، فإذا كانت الجماعة متجانسة كان هذا التأثير عظيما، وإلا كان أقل من ذلك، وقد يصبح عظيما لتغلب الجماعات النافذة في المجلس المتخالف على الجماعات الضعيفة الالتحام أو لانتشار بعض المشاعر بالعدوى بين أعضاء هذا المجلس.
وأحسن مثال نورده على تأثير الجماعات هو القرار الذي تنزل فيه الأشراف عن امتيازاتهم الإقطاعية في الليلة الرابعة من شهر أغسطس (أيام الثورة الفرنسية)، وسبب ذلك أن الناس وهم في الجماعة غيرهم وهم منفردون، فلو سئل كل شريف عن رأيه وهو منفرد لأجاب أنه لا يتنزل عن حقوقه أبدا.
وقد أورد ناپليون، وهو في جزيرة القديسة هيلانة، أمثلة عجيبة على تأثير المجالس في أعضائها فقال: «كنا نصادف في ذلك الوقت أشخاصا كانوا يسيرون على غير ما سمع عنهم، خذ مونج مثلا تر أنه صعد في منبر اليعاقبة لما اختيرت الحرب وصرح بأنه يهب ابنتيه مقدما للجنديين الأولين اللذين يجرحهما العدو، وكان يود أن يقتل جميع الأشراف، مع أنه كان من أكثر الناس دماثة وأشدهم ضعفا، ولو اضطر إلى ذبح فروجة ما فعل ذلك وما سمح لأحد أن يفعله أمامه». (3) اشتداد المشاعر التدريجي في المجالس
لو أمكننا أن نقيس بعض مشاعر الجماعات ببعض قياسا رياضيا لاستطعنا أن نرسمها على خط منحن يصعد من طرفه الأول ببطء ثم بسرعة ثم يهبط إلى طرفه الثاني عموديا، ويمكن أن تسمى هذه المعادلة معادلة تحول مشاعر الجماعات المحرضة تحريضا مستمرا.
ولو كانت سنن علم النفس مشابهة لسنن الميكانيكا لجاز لنا أن نعتبر أن علة ثابتة المقدار مستمرة التأثير تزيد المشاعر سرعة، فمن المعلوم أن قوة ذات مقدار ثابت واتجاه مستمر كالجاذبية المؤثرة في أحد الأجرام تحدث في الجرم حركة زائدة السرعة فتكون سرعة الجرم الساقط في الفضاء بتأثير الجاذبية عشرة أمتار في الثانية الأولى وعشرين مترا في الثانية التالية وثلاثين مترا في الثانية الثالثة.
غير أن هذا المقياس الذي قد تقاس به سرعة المشاعر التابعة لمؤثرات مستمرة لا يوضح لنا سبب توقف هذه المؤثرات بغتة عن التأثير، ويمكن إدراك هذا التوقف بقياسه على سنن وظائف الأعضاء، فمن قواعد علم وظائف الأعضاء أن للذة والألم حدودا لا يمكن تعديها، وأنه ينشأ عن كل تشديد على الأعضاء شلل في الحس، وأن أعضاءنا لا تحتمل غير مقدار محدود من الفرح والألم والمجهود، وأن اليد التي تشدد على مقياس القوة لا تلبث أن تستنفد قوتها فتضطر فجأة إلى الكف عن إمساكه.
ويجب، في البحث عن علة اختفاء بعض المشاعر بغتة في المجالس، أن نسلم أيضا بوجود أحزاب ذات مشاعر ردعتها قوة الحزب المتغلب عن النمو، وقد تشتد مشاعر هذه الأحزاب عندما يضعف الحزب المتغلب لسبب من الأسباب، وذلك كما وقع للمونتانيار بعد شهر ترميدور (الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية).
الجزء الثاني: الثورة الفرنسية
الباب الأول
مآخذ الثورة الفرنسية
الفصل الأول
آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية
(1) رواة الثورة الفرنسية
اختلفت الآراء في الثورة الفرنسية، فهي عند دومستر من عمل الشياطين، فقد قال: «إن عمل الشياطين لم يظهر في أي حين ظهوره فيها». وهي عند اليعاقبة مجددة للنوع البشري، ويستحب الأجانب المقيمون في فرنسة عدم الخوض فيها، قال باريت ويندل:
لم يذهب أثر تلك الثورة من النفوس، فالناس لا يزالون ينظرون إليها بعين التشيع والتحزب، وكلما أدركتم كنه فرنسة رأيتم أنه لم يظهر لفرنسي حتى الآن بحث خال من الغرض في هذه الثورة.
هذه ملاحظة صحيحة، فيجب لتفسير حوادث الماضي تفسيرا عادلا ألا تبقى مؤثرة في النفوس وألا تبقى لها صلة بمعتقدات الناس السياسية أو الدينية الحاضرة التي أشرت إلى عدم تسامحها الجبري.
ولذا لا نعجب من تناقض آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية، وسيظل بعضهم يعدها حادثة مشؤومة، كما يظل بعضهم الآخر يعدها حادثة مجيدة.
واليوم قد نسي الناس رواة الثورة الفرنسية المتقدمين كتيار وكينه وميشله مع ما اتصف به هذا الأخير من حسن القريحة، ففي آرائهم شيء من الغموض، ويتغلب عليها مبدأ القدر التاريخي، ومن ذلك أن تيار كان يعد الثورة الفرنسية نتيجة طبيعية للنظام الملكي المطلق ويعد الهول نتيجة غارة الأجنبي، وأن كينه كان يعتبر ما حدث سنة 1793 من الاضطهاد نتيجة استبداد قديم، وأن ميشله كان يعتبر الثورة الفرنسية عملا شعبيا جديرا بالإعجاب والتعظيم.
وقد محا تاين كثيرا من نفوذ هؤلاء، فهو مع شدة بيانه أوضح كثيرا من حقائق الثورة الفرنسية، وعما قليل يصبح كتابه مرجعا لا يقوم مقامه كتاب آخر.
ولا يخلو كتابه من عيوب، فهو - وإن أجاد رواية الحوادث ووصفها - فسرها بالمنطق العقلي مع أن العقل لم يملها، وهو بإثباته غطرسة روبسپير الذي قتل كثيرا من رجال العهد في بضعة أشهر لم يكتشف علة سلطانه على هذا المجلس، ولذلك أصاب من قال: إن تاين أحسن الرواية وأساء الفهم.
وكتاب تاين عظيم الشأن على ما فيه من النقص، ولم يؤلف ما يعدله، ويظهر لنا نفوذ هذا الكتاب عند الاطلاع على الغيظ الذي أوجبه في أنصار المذهب اليعقوبي المخلصين الذين يرأسهم الآن أحد أساتذة السوربون، مسيو أولار، فقد وضع مسيو أولار في سنتين رسالة مشبعة من روح الغضب على تاين، وهو مع ما قضاه من الوقت في تصحيح بضع أغاليط مادية في كتاب تاين لم يصن نفسه عن ارتكاب مثلها.
وأحسن نقد لكتاب تاين هو القول إنه ناقص، فهو مع بحثه فيه عن شأن الرعاع وزعمائهم أيام الثورة الفرنسية، ومع إملاء ذلك عليه صفحات سخط تقضي بالعجب غابت عنه وجوه كثيرة من هذه الثورة.
وسيستمر الخلاف بين أنصار تاين وأنصار أولار، وهذا الخلاف يتجلى، على الخصوص، في أن أولار يعتبر الشعب حكيما وتاين يقول إن الشعب لما سار بغريزته وحرر من الزواجر الاجتماعية عاد إلى دور الهمجية الأولى، ولا يزال رأي مسيو أولار المخالف لقواعد روح الجماعات مذهبا دينيا عند اليعاقبة في الوقت الحاضر، فهؤلاء يسلكون فيما يكتبون عن الثورة الفرنسية طرق المعتقدين وينتحلون في المصنفات العلمية أدلة علماء اللاهوت. (2) نظرية القضاء والقدر في تفسير الثورة الفرنسية
أنصار الثورة الفرنسية وأعداؤها يرون في الغالب أن الحوادث الثورية تقع قضاء وقدرا، قال إميل أوليڤيه في كتاب «الثورة الفرنسية»: «لا يقدر أحد أن يقاوم الثورات، فالإنسان عاجز عن تبديل العناصر ومنع وقوع الحوادث الناشئة عن طبيعة الأحوال »، وقال تاين: «كان سير الأفكار والحوادث عند افتتاح مجلس النواب - أي في بدء الثورة الفرنسية - أمرا مقدرا، فكل إنسان يحمل مستقبله وتاريخه من غير أن يعلم»، وقال مسيو سوريل: «إن الثورة الفرنسية التي ظهرت لبعض الناس أنها هادمة ولبعض آخر منهم أنها مجددة هي نظم طبيعي ضروري لأوربة، فقد صدرت عن الماضي، ولا يمكن إيضاحها إلا بنور العهد السابق»، وقال غيزو: «لم تقف الثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية سير الحوادث الطبيعي في أوربة ولم تقولا شيئا لم يقل في الماضي ولم تفعلا شيئا لم يفعل مئة مرة قبل انفجارهما، فإذا نظرنا إلى أعمال تينك الثورتين، أي إلى شكل الحكومة والقانون المدني ونظام الأحوال الشخصية والحرية، لم نجد شيئا ابتدعاه.»
فكل هذه الأقوال تذكرنا بالمبدأ المعروف القائل: إن الحادثة نتيجة حادثة سابقة.
بيد أن ذلك المبدأ لا يدلنا على شيء كثير، فلا يجوز إيضاح كثير من الحوادث بمبدأ القدر التاريخي الذي رضي به كثير من المؤرخين، فالتاريخ - وإن قص علينا أمورا وقعت بفعل الضرورة - قص علينا أمورا أخرى وقعت عرضا، ومن ذلك أن ناپليون بوناپارت لم ينج من الموت عندما كان يغتسل في أكسون سنة 1786، إلا بمصادفته كثيبا، فلو مات ناپليون في تلك الساعة وقلنا إن قائدا آخر كان يظهر ليقبض على زمام الحكم المطلق فما عسى أن يكون مذكورا في القصيدة الإمبراطورية الحماسية عوضا من ذلك العبقري الذي قاد جيوش فرنسة ظافرة إلى فتح عواصم أوربة؟
نعم، يجوز اعتبار الثورة الفرنسية حادثا ضروريا من بعض الوجوه، ولكنها كانت - على الخصوص - صراعا بين الخياليين وسنن الاقتصاد والاجتماع والسياسة المسيرة للبشر، فلما جهل هؤلاء الخياليون تلك السنن حاولوا عبثا أن يتغلبوا على سير الأمور، ولما حبطت محاولتهم اضطهدوا الناس وأمروا متوعدين - ولكن على غير جدوى - أن يكون للورق النقدي الساقط قيمة الذهب، ثم سنوا قانون القصاص الذي زاد الجرائم.
على أن رجال الثورة الفرنسية اكتشفوا في نهاية الأمر، بعد أن كسروا الزواجر، أن المجتمع لا يعيش بغير الزواجر، وهم حينما أرادوا صنع زواجر جديدة رأوا أن أقوى ما يبتدعونه - حتى المقصلة - لا يقوم مقام الأخلاق التي غذى الماضي بها النفوس شيئا فشيئا.
إذا لم تنشأ حوادث الثورة عن سنن ثابتة، بل كانت نتيجة مبادئ اليعاقبة ، وقد أمكن أن تكون شيئا آخر، فلا يكون سير الثورة الفرنسية غير ما وقع لو دعا لويس السادس عشر بالحكمة والموعظة الحسنة، أو لو كان المجلس التأسيسي أقل جبنا مما كان عليه إزاء فتن الرعاع.
فيجب إظهار الشك في فعل الأقدار سواء أفي المباحث التاريخية أم في المباحث العلمية، فقد توصل العلم بالتدريج إلى تبديد كثير من أقدار الطبيعة، ولا يفعل عظماء الرجال سوى ذلك التبديد، كما أشرت إليه في كتاب آخر. (3) شكوك المؤرخين في تأثير الثورة الفرنسية
ظهر المؤرخون الذين أشرنا إلى أفكارهم في هذا الفصل بمظهر الجازم البات لحصر أنفسهم في دائرة المعتقد وعدم نفوذهم دائرة العلم والمعرفة، فالكاتب الملكي منهم شديد الحقد على الثورة الفرنسية، والمتمذهب بمذهب الحرية كثير التشيع لها، واليوم نشاهد سعيا إلى درس الثورة الفرنسية كإحدى الحوادث العلمية التي لا يكون لآراء المؤلف الخاصة ومعتقداته الشخصية في درسها سوى تأثير قليل لا يشعر به القارئ.
لم يأت هذا الزمن بعد، ولم نر سوى طلوع فجر الشك الذي يتقدم ذلك، فقد أخذ كثير من الكتاب يجتنبون إبداء آراء قاطعة في مؤلفاتهم.
سئل مسيو هانوتو - بعد أن أثنى على الثورة الفرنسية - عن نتائجها بالنسبة إلى ثمنها الغالي فقال: «سيتردد التاريخ كثيرا قبل أن يحكم في ذلك»، وأبدى مسيو مادلن في كتابه الذي بحث فيه عن الثورة الفرنسية ترددا مثل ذلك، فقال: «لا أستطيع إعطاء حكم قاطع في حادثة معقدة كالثورة الفرنسية، فأرى أن عللها وأعمالها ونتائجها أمور تقتضي بحثا كبيرا».
ويظهر أيضا نشوء الآراء في الثورة الفرنسية من مطالعة ما كتبه في الوقت الحاضر حماتها الرسميون، فبعد أن كانوا يقولون إن ما حدث فيها من المظالم كان للدفاع أخذوا يدافعون عنها طالبين أحكاما مخففة عليها، جاء في كتاب تاريخ فرنسة الذي ألفه أولار ودوبيدور حديثا ليدرس في المدارس: «نعم انهمرت الدماء في الثورة الفرنسية واقترفت فيها مظالم وجرائم منكرة غير نافعة للدفاع الوطني، ولكن النفوس استولهت في هذه الزوبعة، فكان رجال الوطنية الذين حفت بهم الأخطار يقتلون الناس والسخط آخذ منهم كل مأخذ».
وأما الأجانب فأحكامهم على الثورة الفرنسية شديدة، ولا عجب، فقد أذاقت أوربة - ولا سيما ألمانيا - أنواع المحن، قال مسيو فاغيه يخبرنا برأي الألمان: «لنقل رابطو الجأش وطنيون، ومن شروط الوطنية أن يبلغ الإنسان أمته حقيقة الأمر، إن ألمانية عدت فرنسة في الماضي أمة اضطهدتها وازدرتها وأثخنت فيها ونهبتها مدة خمس عشرة سنة باسم الحرية والإخاء، وهي تعتبر فرنسة في الوقت الحاضر أمة تقيم بحجة هاتين الكلمتين ديموقراطية مستبدة ظالمة مزعجة مخربة غير صالحة ليقتدي بها أحد، هذا كل ما تنظر به ألمانية إلى فرنسة وهذا كل ما تشير إليه جرائدها وكتبها».
وسوف يعد كتاب المستقبل الثورة الفرنسية حادثا مؤثرا ذا عبر مهما كانت قيمة الأحكام عليها، فحكومة أدى حبها لسفك الدماء إلى قطع رؤوس شيوخ جاوزوا حد الثمانين ورؤوس كثير من الأطفال والفتيات، وحكومة مع تخريبها فرنسة قدرت على دفع غارة أوربة المدججة بالسلاح، وأميرة من بيت الملك في النمسة قطع رأسها بعد أن كانت ملكة فرنسة، وأميرة من أقربائها قامت في مكانها بعد أن تزوجت إمبراطورا كان ضابطا، كلها أمور لم يرو التاريخ مثلها، ولعلماء النفس في تلك القصة التي لم يقتلوها تمحيصا فوائد كثيرة، فبها يكتشفون أن علم النفس لا يتقدم إلا إذا عدلوا عن النظريات الوهمية، وأخذوا يبحثون في الحوادث بحثا حقيقيا. (4) إنصاف المؤرخين
عد الإنصاف منذ القديم أمرا ضروريا للمؤرخ، وقد ادعى المؤرخون منذ زمن تاسيت أنهم من المنصفين، والواقع أن المؤرخ يرى الحوادث كما يرى المصور المناظر، أي ينظر إليها من خلال مزاجه وخلقه وروح أمته، وأن شأن المؤرخين شأن المصورين الكثيرين الذين يقفون أمام منظر واحد ويأتي كل واحد منهم بصورة ذات طابع خاص.
نعم، قد يكتفي المؤرخ بنسخ الوثائق، وإلى هذا يميل المؤرخون في الوقت الحاضر، غير أن وثائق الأدوار القريبة، كدور الثورة الفرنسية، من الكثرة بحيث لا تكفي حياة المؤرخ لنسخها، ولذا يختار المؤرخ ما يروقه منها.
فالمؤرخ يختار من الوثائق - متعمدا أو غير متعمد - ما يلائم أفكاره السياسية والدينية والأدبية، ويؤلف من هذه الوثائق كتاب تاريخ بعيدا من الإنصاف، ويكون كتاب التاريخ ذا إنصاف إذا اقتصر مؤلفه على وضع قوائم تلخص كل حادثة في سطر واحد منها، ولا نأسف على عدم ظهور من هو منصف، فالإنصاف يؤدي إلى وضع مثل هذه القوائم التافهة المملة التي يستحيل الوقوف بها على حقيقة أدوار التاريخ.
وهل يجب على المؤرخ أن يمتنع بحجة الإنصاف عن تقدير الرجال أي مدحهم أو هجوهم؟ لهذه المسألة حلان عادلان يختلفان باختلاف الكاتب الذي قد يكون من علماء الأخلاق وقد يكون من علماء النفس.
ينظر علماء الأخلاق إلى المصلحة الاجتماعية فقط، ولا يقدرون الرجال إلا من خلال هذه المصلحة، وبيان ذلك: أن المجتمع يحتاج لبقائه إلى مقياس يقاس به الخير والشر وتميز به الفضيلة والرذيلة، أي أن المجتمع يضطر إلى وضع أمثلة يسعى إليها الناس، ولا يبتعدون عنها من غير أن يصيبه خطر.
فعلى علماء الأخلاق أن يقدروا الرجال على حسب هذه الأمثلة والقواعد المشتقة من مقتضيات الاجتماع، وهم - بمدحهم من أفاد وهجوهم من أضر - يبرزون أمثلة أخلاقية ضرورية لسير الحضارة.
تلك هي وجهة علماء الأخلاق، وأما وجهة علماء النفس فغير ذلك، وذلك أن المجتمع، وإن لم يحق له أن يتساهل في أمر بقائه، يجب على علماء النفس أن لا يبالوا بذلك، وذلك بما أن عليهم أن ينظروا إلى الأعمال نظرة علمية فإنه يجب ألا يهتموا بتقدير منافعها، وأن لا يسعوا إلا إلى تفسيرها، أي أن يكون مثلهم كمثل الراصد أمام أي حادث كان، نعم يصعب على الإنسان أن يقرأ، وهو رابط الجأش، أن كاريه كان يئد ضحاياه بعد أن يفقأ عيونهم ويذيقهم أشد العذاب، ولكنه يجب، لاكتناه مثل هذه الأعمال، أن لا يستشيط العالم على مقترفيها وأن يكون شأنه كشأن علماء الطبيعة إزاء العنكبوت وهي تقتل ذبابة بالتدريج.
ظهر مما تقدم أنه ليس للمؤرخين وعلماء النفس شأن واحد، ولكنهم جميعهم يطالبون بتفسير الحوادث تفسيرا حسنا واكتشاف ما هو مستتر تحت الحقائق الظاهرة من القوى الخفية المسببة لها.
الفصل الثاني
مبادئ النظام السابق النفسية
(1) الملكية المطلقة ودعائم النظام السابق
يقول كثير من المؤرخين إن الثورة الفرنسية نشبت ضد الملكية المستبدة، والواقع أن ملوك فرنسة عدلوا عن الاستبداد قبل انفجارها بزمن طويل، نعم، تجلى الملك العضوض أيام لويس الرابع عشر، ولكن الملوك الذين ظهروا قبله - ومنهم فرنسوا الأول - كانوا يقارعون الأمراء الإقطاعيين مرة والإكليروس والپرلمانات مرة أخرى، وكثيرا ما غلبوا في هذه المعارك، حتى إن فرنسوا الأول لم يكن من القوة بحيث يقدر على كف الأذى عن أعز أصدقائه إزاء السوربون والپرلمان، فلما كره السوربون مشيره وصديقه بيركان حبسه فأمر الملك بتخلية سبيله فرفض السوربون ذلك فاضطر الملك إلى إرسال نبالة لإطلاقه، ولم يجد الملك وسيلة لحمايته غير حراسته في قصر اللوڤر، غير أن السوربون اغتنم فرصة غياب الملك فسجن بيركان ثانية، وبعد أن حكم الپرلمان عليه بالموت أحرق حيا غب ساعتين.
قلنا إن الملك أصبح عضوضا في عهد لويس الرابع عشر، إلا أن الملك المطلق لم يلبث أن مال إلى الزوال وصار من الخطأ نعت لويس السادس عشر بالمستبد، فقد كان هذا الملك عبدا لبطانته ووزرائه والإكليروس والأشراف من كل وجه، ولم يظهر فرنسي أقل منه حرية.
ومع ذلك فقد كان الملوك يستمدون قوتهم من الله ومن التقاليد التي كان يتألف من مجموعها عقد البلاد الاجتماعي، فلما تكرر الجدل في تلك التقاليد أصابها الوهن، فلم يبق من يدافع عنها، فانهار ذلك النظام من أساسه. (2) مساوئ النظام السابق
ترضى الأمة بالنظام القائم منذ عهد بعيد، والعادة تستر مساوئه التي لا تبدو إلا عند إنعام النظر، وعندما يفكر الإنسان فيه يسأل كيف اصطبر عليه فيعتقد أنه تعس، وقد رسخ مثل هذا الاعتقاد أيام الثورة الفرنسية بتأثير بعض الكتاب، فبدت عيوب النظام السابق لكل ذي عينين، وسنكتفي ببيان بعض هذه العيوب.
كانت المملكة الفرنسية، التي تألفت من ولايات مستقلة في الماضي، مختلفة بقوانينها وطبائعها وعاداتها، وكانت المكوس الداخلية تفصل بعضها عن بعض، وما قام به الملوك من الجهود - ومنهم لويس الرابع عشر - لم يؤد إلى وحدتها تماما.
وعدا هذه الأقسام المادية كانت الأمة الفرنسية مؤلفة من ثلاث طبقات، أي طبقة الأشراف وطبقة الإكليروس والطبقة الثالثة، وتمسك النظام السابق بسياسة التفريق بين الطبقات؛ لاعتباره ذلك سرا من أسرار قوته، والاضطهاد الذي جاءت به الطبقات الوسطى الظافرة أيام الثورة الفرنسية ناشئ عن ميلها إلى الانتقام من ماض طويل احتقرتها فيه طبقة الأشراف وطبقة الإكليروس، وما أكثر ما عانته الطبقة الثالثة من جراح! ففي اجتماع عقده مجلس النواب سنة 1684، وجثا فيه أعضاؤه مكشوفي الرؤوس، قال أحد ممثلي الطبقة الثالثة: إن الطبقات الثلاث مثل إخوة ثلاثة، فأجابه خطيب طبقة الأشراف قائلا: «لا إخاء بين طبقة الأشراف والطبقة الثالثة، فالأشراف لا يريدون أن يدعوهم أبناء الأساكفة والخرازين إخوة لهم».
وكان للأشراف والإكليروس امتيازات لم يوجد ما يسوغها منذ إقصاء السلطة لهم عن الوظائف لارتيابها منهم وإقامتها مقامهم من هو أكثر منهم أهلية وعلما من أبناء الطبقة الوسطى وحصرها شأنهم الاجتماعي في الأبهة، قال تاين:
منذ خسر الأشراف سلطتهم وحصل عليها أبناء الطبقة الثالثة أصبح التفاوت الفاصل بين الطبقتين مؤلما، وقد عدل الضمير عن تقديس هذا التفاوت القائم على العادة فحق لأبناء الطبقة الثالثة أن يسخطوا على امتيازات لم يوجد ما يسوغها.
نعم تنزل الأشراف في ليلة تاريخية عن امتيازاتهم عندما أكرهتهم الحوادث على ذلك، ولكن فعلتهم كانت متأخرة فظلت الثورة الفرنسية سائرة في طريقها.
وحقد أبناء الطبقة الوسطى على الطبقات الأخرى من جملة أسباب الثورة الفرنسية، ولا يدل مقت أبناء الطبقة الوسطى للأشراف على حقدهم على الملكية، فلم يمقت الشعب الملك لطيشه واستغاثته بالأجنبي إلا بالتدريج، ولم يفكر المجلس الاشتراعي الأول في إقامة الجمهورية، وكل ما كان يحلم به هو أن تحل ملكية دستورية في مكان الملكية المطلقة. (3) الحياة في العهد السابق
يصعب تصور الحياة في العهد السابق - ولا سيما حياة الفلاحين الحقيقية - تصورا حسنا، فالكتاب يصورون ما كان عليه الفلاحون في ذلك العهد من الكآبة تصويرا يجعل الإنسان يسأل كيف لم يمت هؤلاء البائسون جوعا، وإليك صورة نشرت في تاريخ الثورة الفرنسية الذي ألفه أحد أساتذة السوربون، مسيو رانبو، ففي هذه الصورة التي وضعت للدلالة على «بؤس الفلاحين أيام لويس الرابع عشر» يرى رجل يقاتل الكلاب ليخطف منها عظاما معروقة، وبجانبه بائس يشد أحشاءه من الجوع وامرأة ترعى عشبا، ويرى أناس ألقوا إلى الأرض وأصبحوا كالأموات، ثم أورد ذلك المؤلف الكلمة الآتية، وهي:
كانت وظيفة الشرطي، التي كانت تشرى في الدور السابق ب 300 ليرة، تدر لصاحبها 400000 ليرة، وكان ثمن القبض على الشخص 120 ليرة، وكان عدد ما أصدره لويس الرابع عشر من أوامر النفي والسجن 150000.
إن ابتعاد أكثر المؤلفات التي بحثت في الثورة الفرنسية عن الإنصاف، كهذا المؤلف، يجعل الوقوف على ذلك الدور ناقصا، نعم، إن وثائق تلك الثورة كثيرة، ولكنها متناقضة، فتمكن معارضة وصف لابرويار بالوصف العجيب الذي أتى به السائح الإنكليزي يانغ؛ ليدل على سعادة الفلاحين الذين شاهدهم في ذلك الزمن، وهل صح قول بعضهم إن الفلاحين كانوا مثقلين من الضرائب فكانوا يؤدون أربعة أخماس محاصيلهم ضريبة؟ يتعذر علينا أن نأتي بجواب صحيح عن ذلك، وإنما نقول إن اشتراء الفلاحين ثلث الأرضين في العهد السابق مما يدل على أنهم لم يكونوا بائسين.
ومع ذلك فإننا نعلم أن الإدارة المالية كانت جائرة مرتبكة، وأن العجز كان يدب في الميزانيات، وأن الضرائب كان يجبيها ملتزمون ظالمون، وأنه نشأ عن هذه الأحوال استياء تجلى في عرائض مجلس النواب.
ولم تحو هذه العرائض فكرا ثوريا، وكل ما التمس فيها هو أن تجبى الضرائب بعد موافقة مجلس النواب عليها، وأن تفرض على قاعدة المساواة، وأن يوضع دستور تعين فيه سلطة الملك والأمة، فلو أجيزت هذه المطاليب لقامت مقام الملكية المطلقة ملكية دستورية ولاجتنبت الثورة على ما يحتمل. (4) تحول المشاعر الملكية أيام الثورة الفرنسية
تحولت مشاعر الشعب ومشاعر المجالس الثورية تجاه النظام الملكي تحولا سريعا، وإن كانت المشاعر تتحول عادة شيئا فشيئا، إذ لم يمر، بين الوقت الذي بجل فيه أعضاء المجلس الثوري الأول لويس السادس عشر والوقت الذي قطع فيه رأسه، سوى بضع سنين.
لم تكن تلك التحولات السطحية سوى تبديل موضعي لمشاعر واحدة، فالحب الذي كان يظهره الناس للملك قد أظهروه للحكومة الجديدة الوارثة له، وبيان ذلك: أن استمداد الملك - في الدور السابق - قوته من الله منحه قدرة عظيمة أقبل عليه الشعب من أجلها أيما إقبال، وقد ضعف إيمان الناس بقدرة الملك المطلقة عندما أثبتت التجارب أن هذه القدرة قائمة على الوهم فخسر الملك بذلك نفوذه وبحثت الجماعة، التي لا تسمح للإله الساقط أن يموه عليها، عن معبود آخر.
حقا كشفت الحوادث المكررة منذ بدء الثورة الفرنسية للمؤمنين الأحامس أنه لم يبق للملكية شيء من الحول والقوة، وأن هنالك قوى أخرى قادرة على مقاتلتها ولها سلطان أعظم من سلطانها، وما يكون حال السلطة الملكية أمام الجماعات التي رأت تغلب مجلس النواب على الملك ورأت عجز الملك في باريس عن دفع هجمات العصابات المسلحة عن حصنه؟
وضح للعيان بذلك ضعف الملك فزادت قدرة مجلس النواب وأمدته الجماعات بقوتها.
ومع ذلك فقد دام الإيمان الملكي بعد الاستيلاء على الباستيل وبعد فرار الملك واتفاقه مع الملوك الأجانب، وظل هذا الإيمان المتأصل من القوة بحيث لم تقدر الفتن الباريسية، التي أدت إلى قتل لويس السادس عشر، على استئصاله،
1
فبقي ثابتا في جزء كبير من فرنسة أيام الثورة الفرنسية، وكان سببا لما وقع في المديريات من المؤامرات التي لم يخمدها مجلس العهد إلا بعد عناء كبير.
ورسوخ المشاعر الملكية في النفوس جعل المقصلة عاجزة عن القضاء عليها، فاستمرت الدعوة الملكية قائمة أيام الثورة الفرنسية في أنحاء فرنسة حاشا باريس، وبعض المديريات التي تلاشى فيها الإيمان الملكي؛ لظهور ضعف الملك لسكانها بجلاء ووضوح، ففي عهد الديركتوار انتخبت 49 مديرية نوابا ملكيين، وقد ساعدت تلك المشاعر الملكية، التي كبحت الثورة جماحها بعد ملاحم كثيرة، على نجاح ناپليون بوناپارت الذي جاء ليستولي على عرش الملوك السابقين، وليعيد جزءا كبيرا من النظام السابق.
الفصل الثالث
الفوضى النفسية أيام الثورة الفرنسية وما نسب إلى الفلاسفة من الشان
(1) مصدر المبادئ الثورية وانتشارها
حياة الإنسان الظاهرة عنوان حياة خفية نشأت عن التقاليد والمشاعر، والحياة الخفية هي التي ترشد الإنسان وتحدث فيه مبادئ مهيمنة، وإذا أصاب هذه المبادئ وهن فإن مبادئ أخرى تنبت في مكانها.
والغاية من هذه الملاحظات هو تنبيه القارئ إلى أن ما تأتي به الثورات من الحوادث الظاهرة هو نتيجة نشوء خفي وقع في النفوس شيئا فشيئا، وإلى أن البحث الدقيق في إحدى الثورات يتطلب فحص البقعة النفسية التي نبتت فيها مبادئ هذه الثورات.
يظل نشوء المبادئ التدريجي خفيا مدة جيل واحد في الغالب، ولا يمكن إدراك اتساع دائرته إلا بقياس ما عند الطبقات الاجتماعية من الأحوال النفسية في أول الجيل وآخره، ويجب للاطلاع على الأفكار المختلفة التي كان ينظر بها العلماء إلى الملكية في عهد لويس الرابع عشر ولويس السادس عشر أن نقابل نظريات بوسويه بنظريات تورغو السياسية، فهنالك نرى أن بوسويه، الذي كان يقول: إن سلطة الحكومة مستمدة من الله الذي يحاسب الملوك وحده، وإن الملوك غير مسؤولين أمام الناس - كان يعبر عن إيمان الناس بالملكية المطلقة إيمانا دينيا، ونرى أن ما كتبه الوزراء المصلحون - كالوزير تورغو - كان مشبعا من روح أخرى تعترف بحق الأمة من دون حق الملوك الإلهي.
والحوادث التي أوجبت هذا التحول كثيرة، منها الحروب والقحط والضرائب والبؤس العام الذي وقع في آخر عهد لويس الخامس عشر، فقد أقامت هذه الحوادث مقام احترام سلطة الملك - التي تزعزعت بالتدريج - ثورة في النفوس مستعدة للظهور عند سنوح أول فرصة.
ومتى بدأ المزاج النفسي في الانحلال لم يلبث أن يتم انحلاله، بهذا نفسر سرعة انتشار كثير من المبادئ بين الناس أيام الثورة الفرنسية، فهذه المبادئ التي لم تكن حديثة لم يظهر تأثيرها قبل حدوث تلك الثورة؛ لعدم مصادفتها بيئة صالحة ، وإن شئت فقل إن المبادئ التي استهوت الناس أيام الثورة الفرنسية رددها البشر كثيرا في الماضي، فهي التي أوحت إلى الإنكليز خطتهم السياسية فيما مضى، وقد دافع علماء اليونان واللاتين عن الحرية منذ ألفي سنة لاعنين المستبدين معلنين ما للسلطة الشعبية من الحقوق، ومع أن أبناء الطبقة الوسطى تعلموا جميع هذه المسائل كآبائهم في الكتب المدرسية فإنها لم تحرك ساكنهم لبعد الوقت الذي تستطيع أن تهيجهم فيه، وكيف تؤثر في الأمة في زمن تعودت فيه احترام المراتب؟
وتأثير الفلاسفة في حدوث الثورة الفرنسية غير ما يعزى إليهم، فهم لم يكتشفوا شيئا جديدا، وإنما أنموا روح الانتقاد التي لا تقاومها المعتقدات عندما تبدأ في الانحلال، وقد نشأ عن نمو روح الانتقاد تدرج الناس إلى ازدراء ما كان محترما، ومتى اضمحلت التقاليد والحرمات سقط البنيان الاجتماعي بغتة.
أثر الفلاسفة في الطبقات المتعلمة، وعجزوا عن التأثير في الشعب الذي يقتدي ولا يبتدع، وكان أكثر المصلحين حماسة في ذلك الزمن من أصحاب الثروة، وكان الأشراف ينشطون إلى مباحث العقد الاجتماعي وحقوق الإنسان ومساواة الوطنيين، ويهتفون للروايات التمثيلية المنتقدة أصحاب الرتب العالية واستبدادهم وعدم أهليتهم.
ومتى فقد الناس ثقتهم بأركان المجتمع عمهم اضطراب فاستياء، وشعرت طبقات المجتمع بزوال العوامل التي كانت تسيرها.
نعم، لم تكف روح النقد في الكتاب والأشراف لزعزعة أثقال التقاليد، ولكن تأثيرها دعم بمؤثرات قوية أخرى، وقد قلنا آنفا إن الحكومة الدينية والحكومة المدنية في الدور السابق كانتا موصولتين إحداهما بالأخرى وصلا وثيقا، فكان صدم الأولى يصيب الثانية بحكم الضرورة، والآن نقول: إن التقاليد الدينية عافتها نفوس المتعلمين قبل أن يتزعزع المبدأ الملكي، وذلك بسبب تقدم العلم الذي أوجب انتقال النفوس من عالم اللاهوت إلى عالم العلم.
فالناظر كان يشعر - بفعل هذا النشوء - بأن التقاليد التي قادت الناس قرونا كثيرة ليست ذات قيمة، وأن من الضروري تبديلها، ولكن أين كان يبحث عن عصا السحر القادرة على إقامة بنيان اجتماعي جديد مقام البنيان السابق؟
وقع الإجماع على وصف العقل بالقدرة التي خسرتها الآلهة والتقاليد، وهل كان يشك في قدرته على تحويل المجتمعات وهو الذي كثرت اكتشافاته؟ هكذا عظم شأن العقل في النفوس وتضاءل شأن التقاليد.
والمبدأ، الذي أسند تلك القدرة إلى العقل، وأوقد نار الثورة الفرنسية ، وسيرها من أولها إلى أخرها، هو الذي استعان به الناس على تحطيم قيود الماضي وإقامة مجتمع جديد.
ويلخص ما هبط ببطء إلى الشعب من نظريات الفلاسفة أن جميع ما عد في الماضي محترما أصبح غير جدير بالاحترام، وأنه لم يبق محل لإطاعة السادة السابقين وعدم تعدي الحدود.
كانت مجاوزة الناس للحدود أول نتيجة لهذه النفسية الجديدة، وقد ذكرت مدام فيجيلبران أن العوام كانوا في متنزه لونشان يرتقون إلى مرقى العربات قائلين: «ستكونون في العام القادم خلفنا ونكون نحن في العربات».
لم يكن أمر مجاوزة الحدود والاستياء خاصا بالعوام، بل كان شاملا للجميع قبيل الثورة الفرنسية، قال تاين:
كان صغار الإكليروس حاقدين على كبارهم، وكان أشراف الولايات حاقدين على الأشراف المقربين، وكان صغار الأمراء الإقطاعيين حاقدين على كبرائهم، وكان سكان القرى حاقدين على سكان المدن.
ثم استولت تلك الحال النفسية، التي انتقلت من الأشراف والإكليروس إلى الشعب، على الجيش أيضا، قال نيكر حين افتتاح مجلس النواب: «لسنا واثقين بالجيوش»، وأما الضباط فأصبحوا من أنصار المذهب الإنساني، وأخذوا يشتغلون بالفلسفة، وأما الجنود فكانوا لا يطيعون وإن لم يشتغلوا بالفلسفة، وذلك لدلالة مبادئ المساواة في مداركهم السخيفة على بطلان الرئاسة والطاعة.
وبعد أن استولت الفوضى النفسية على طبقات المجتمع، ومنها الجيش، أوجبت زوال النظام السابق، قال ريفارول:
إن الذي قضى على الملكية هو تخلي الجيش عن الملك، وانتحال الجيش مبادئ الطبقة الثالثة. (2) تأثير فلاسفة القرن الثامن عشر في تكوين الثورة الفرنسية، نفورهم من الديموقراطية
يجب ألا يعد الفلاسفة، الذين ظن أنهم نفخوا في الناس روح الثورة، أشياعا للحكومة الشعبية، وإن قاتلوا بعض الأوهام والعادات السيئة، فقد كانوا يمقتون الديموقراطية التي بحثوا عن شأنها في تاريخ اليونان؛ لعلمهم ما تجر وراءها من التخريب والاضطهاد، وهي التي عرفت في زمن أرسطو: «بأنها حكومة تناط فيها القوانين وكل أمر بعوام يعتبرون أنفسهم من الجبابرة ويسيرون كما يريد بعض المشاغبين».
وإليك ما قاله بطرس بيل، وهو الذي يعتبر بحق سلفا لڤولتير، عن الحكومة الشعبية في أثينة:
عندما يقرأ الإنسان تاريخ مجالس أثينة وانقسام أحزابها وفتنها واضطهاد أشرافها وقتلهم ونفيهم، كما كان يريد أحد الخطباء المشاغبين، يحكم بأن ذلك الشعب الفخور كان، بالحقيقة، عبدا لفئة من الثرثارين المحتالين الذين كانوا يقلبونه كأنه ريشة في مهب الريح، ولو بحث في تاريخ مكدونية الملكية ما وجدت فيه أمثلة ظلم واستبداد كما وجد في أثينة.
ولم يكن رأي مونتسكيو في الديموقراطية أقل من ذلك، فقد دل بعد أن وصف أشكال الحكومة الثلاثة، الجمهورية والملكية والمستبدة، على ما تؤول إليه الحكومة الشعبية بالكلمات الآتية، وهي:
كان الناس أحرارا في ظل القوانين فصاروا يرون الحرية في مخالفة القوانين، وأصبحوا يسمون ما هو حكمة سخافة وما هو مبدأ عسرا، وكان ما يدخل بيت المال يجمع من الأفراد فأصبح بيت المال ملكا للأفراد، فالجمهورية إذن ليست سوى هيئة مستمدة قوتها من قوة بعض الناس.
يظهر في الحكومة الشعبية - أي الجمهورية - جبابرة صغار فيهم ما في الجبار الكبير من النقائض، ومتى أصبح أمرهم لا يطاق قبض على زمام الحكم جبار واحد فخسر الشعب كل شيء.
لذلك وجب اجتناب ما تجر إليه الديموقراطية من المغالاة في المساواة المؤدية إلى الحكم المطلق فإلى غزو الأجنبي للبلاد.
والحكومة الإنكليزية الدستورية المانعة للملكية من التحول إلى حكومة مستبدة هي مثل مونتسكيو الأعلى، غير أن تأثير هذا الفيلسوف في الثورة الفرنسية كان ضعيفا جدا.
وأما واضعو دائرة المعارف فلم يمارسوا السياسة قط، وربما استثنينا منهم أولباك الذي كان، مثل ڤولتير وديدرو، ملكيا متمذهبا بمذهب الحرية، فهؤلاء الثلاثة الذين كانوا يدافعون عن الحرية الشخصية على الخصوص ويقاتلون عدوة الفلاسفة، الكنيسة، لم يكونوا اشتراكيين أو ديموقراطيين، ولهذا السبب لم تنتفع الثورة الفرنسية بشيء من مبادئهم.
كان ڤولتير قليل التشيع للديموقراطية، فقد قال:
أرى الديموقراطية لا تلائم إلا بلادا صغيرة، فالبلاد الصغيرة التي تتمتع بالحكم الديموقراطي - وإن وقع فيها كثير من الزلات، كما في أديار الرهبان - لا تقع فيها ملاحم كملحمة سان بارتلمي، ولا مذابح كمذابح إيرلندة وصقلية ومحكمة التفتيش، ولا يحكم فيها بالأشغال الشاقة على من يغترف من البحر ماء لا يؤدي ثمنه، وتكون تلك الجمهورية غير ذلك إذا تألفت من الشياطين في ناحية كبيرة من نواحي الجحيم.
إذن، كانت أفكار هؤلاء الذين ظن أنهم هيأوا الثورة الفرنسية قليلة الهدم، ومن الصعب أن يعزى إليهم تأثير كبير في سيرها.
ويمكننا أن نشك في ميول روسو الديموقراطية، فهو يرى أن خططه في تجديد المجتمع على أساس السيادة الشعبية لا تلائم غير عدد قليل من البلدان، وعندما طلب منه البولونيون أن يرسم لهم دستورا ديموقراطيا نصحهم بأن ينتخبوا ملكا وراثيا.
وأكثر نظريات روسو انتشارا هي نظريته التي فصلها في كتاب العقد الاجتماعي وادعى فيها - مع كثير من رجال عصره - أن الرجل الفطري كان كاملا لم تفسده المجتمعات، وأن المجتمعات إذا تغيرت، بما يسن من القوانين، عادت سعادة الأجيال الأولى، وأن الناس كلهم متماثلون في كل زمان ومكان، وأنه يجب أن تسن قوانين واحدة وأنظمة واحدة، ويظهر أن اعتقاد الناس في ذلك الحين كان كاعتقاد روسو، فاسمع ما قاله هلفيسيوس: «تشتق فضائل الأمة ونقائصها من قوانينها، وهل يشك في أن الفضيلة عند الأمم جميعها هي نتيجة حكمة القابضين على زمام الأمور؟» (3) مبادئ الطبقة الوسطى الفلسفية أيام الثورة الفرنسية
مع أنه يصعب تعيين مبادئ الطبقة الوسطى الفلسفية والاجتماعية أيام الثورة الفرنسية يمكن ردها إلى بضع قواعد ملخصة في بيان حقوق الإنسان.
ويظهر أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يؤثروا في أبناء الطبقة الوسطى كثيرا؛ إذ لم يستشهد هؤلاء أيام الثورة الفرنسية بأولئك إلا قليلا، وإنما كان سحر خواطر اليونان والرومان لهم يدفعهم إلى مطالعة كتب أفلاطون وپلوتارك، ولهذا السبب كانوا يودون نشر دستور إسپارطة وعاداتها وتقشفها وقوانينها.
ولم يقل أبناء الطبقة الوسطى الذين قاموا بالثورة الفرنسية - وهم الذين عدهم الناس من المبتدعين الجاسرين السائرين على نهج الحكماء - إنهم ابتدعوا شيئا، بل أعربوا عن رغبتهم في الرجوع إلى ماض بعيد، ولم ينظر عقلاؤهم إلى ما كان في القرون الخالية بعين الجد، فقد فكروا في انتحال نظام إنكلترة الدستوري الذي امتدح مونتسيكو وڤولتير منافعه ونسجت الأمم على منواله في نهاية الأمر من غير ثورة، حقا كان يطمع أولئك في إصلاح النظام الملكي، لا في هدمه، غير أن المناهج التي سلكت أيام الثورة اختلفت عما اقترحوه من الطرق والأساليب.
الفصل الرابع
الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
(1) الروح الشعبية وأوهام الناس في الإنسان الفطري وفي الرجوع إلى الحالة الفطرية
قلنا سابقا، ونعود فنقول: بما أن خطأ المذهب غير ضار بانتشاره فإن تأثيره هو الذي يجب البحث فيه، وعلى الفيلسوف الذي يود أن يكتشف كيفية تأثيره في الناس أن يبحث في الأوهام المحيطة بهم، وربما لم تكن الأوهام كثيرة كما كانت أيام الثورة الفرنسية.
ونعد من أشد الأوهام ظهورا التصوير الغريب الذي تصور الناس به طبيعة أجدادنا الأولين وطبيعة المجتمعات الأولى، فقد اعتقد الناس في ذلك الحين - كما جاء في الإسرائيليات - أن الله خلق الإنسان كاملا، وأن المجتمعات كانت مثلا عالية، وأن الحضارة أفسدتها، وأنه يجب العود إليها، ولم يلبث مبدأ الرجوع إلى الحالة الفطرية أن أصبح عاما، قال روسو: «إن مبدأ الأخلاق الأساسي الذي بحثت عنه في مؤلفاتي يدل على أن الإنسان طيب بفطرته محب للعدل والنظام».
غير أن العلم الحديث بحث عن طرق الحياة عند أجدادنا الأولين فأثبت فساد ذلك المذهب دالا على أن الرجل الفطري كان وحشا شرسا بعيدا من خلق الرفق والأدب والرحمة، وأن اندفاعاته الغريزية كانت تسوده فكان يثب على فريسته عند الجوع وكان يقتل عدوه عندما يثيره الحقد.
ولا تعيد الحضارة الإنسان إلى الحالة الفطرية، بل تساعده على الخروج منها، فقد حول اليعاقبة المجتمع المتمدن إلى قوم متوحشين عندما رجعوهم، بكسرهم زواجر المجتمع التي لا تقوم حضارة بدونها، إلى الحالة الفطرية.
ونعذر من أخطأ في تصور الحال التي كان عليها أجدادنا الأولون، وذلك أن طرق حياتهم كانت مجهولة قبل الاكتشافات الحديثة، ولكن لا نرى ما يسوغ جهل فلاسفة القرن الثامن عشر ومشترعي الثورة الفرنسية نفسية معاصريهم، فقد عاشوا بين معاصريهم من غير أن يدركوا حقيقة أمرهم أو أن تخطر الروح الشعبية ببالهم، فكانوا يظنون أن العامي رجل طيب ودود شاكر مستعد للإصغاء إلى العقل، وقد دلت خطب أعضاء المجلس التأسيسي على تمكن هذه الأوهام منهم، فلما أخذ الفلاحون يحرقون القصور دهشوا من ذلك كثيرا فخاطبوهم بكلام رقيق سألوهم فيه أن يكفوا عن عملهم لكيلا يحزنوا مليكهم المحبوب وناشدوهم أن يدهشوه بفضائلهم. (2) أوهام الناس في قوة القوانين وفي إمكان فصل الإنسان عن ماضيه
نعد من المبادئ التي اتخذت أساسا لأنظمة الثورة الفرنسية مبدأ فصل الإنسان عن ماضيه ومبدأ إمكان تجديد المجتمع بالأنظمة، فقد اعتقد المشترعون في ذلك الحين أن الماضي - ما عدا القرون الخالية البعيدة - مشبع من الخرافات والأضاليل فعزموا على قطع كل صلة به، ودونوا - لإظهار مقصدهم - تاريخا جديدا وتقويما جديدا مبدلين أسماء الشهور والفصول، وأوجب توهمهم أن الناس أكفاء ظنهم أنهم قادرون على الاشتراع للبشر كلهم، قال كوندرسي: «إن القانون الحسن نافع لكل الناس».
وما علم مشترعو الثورة الفرنسية أن وراء ظواهر الأمور عوامل خفية تسيرها، وأن الإنسان مرتبط بماضيه كثيرا، وهم - لجهلهم فعل الماضي - أرادوا القضاء عليه فقضى عليهم.
كان إيمان المشترعين بقوة النظم والقوانين تاما أيام الثورة الفرنسية، قال غريغوار في المجلس التأسيسي: «إننا لقادرون على تغيير الدين، ولكننا لا نريد ذلك»، والواقع أنهم أرادوا ذلك، ولكن من غير توفيق، فهم لم يلبثوا أن انكشف عجزهم، بعد كل ما أتوا به في عشر سنين، من اضطهاد وتخريب وتحريق ومذابح، في سبيل إلزام الناس بعض القوانين، انكشافا حول وجوه الناس عنهم فاضطر ناپليون إلى ترميم أكبر جانب مما هدموه.
وللتجربة العظيمة، التي قام بها هؤلاء اليعاقبة في سبيل تجديد المجتمع باسم العقل، فائدة كبيرة قد لا تسمح الأحوال للإنسان أن يعيدها مرة أخرى، ويظهر أنها - على رغم قسوتها - غير كافية لتحذير كثير من الناس، فها نحن أولاء نرى الاشتراكيين يقترحون تجديد المجتمع بأجمعه على حسب خططهم الوهمية. (3) أوهام الناس في قيمة المبادئ الثورية
إن مبادئ الحقوق الأساسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية مذكورة في بيانات حقوق الإنسان الثلاثة التي نشرت بالتتابع في سنة 1789، وسنة 1793، وسنة 1795، وقد صرحت كلها: «بأن السلطة للأمة».
وهذه البيانات الثلاثة تختلف في كثير من الأمور، ولا سيما في المساواة، فقد جاء في المادة الأولى من بيان سنة 1789: «أن الناس يولدون أحرارا ويعيشون أحرارا، وهم متساوون حقوقا»، وجاء في المادة الثالثة من بيان سنة 1793: «أن الناس متساوون طبيعة»، وجاء في المادة الثالثة من بيان سنة 1795، وهو أكثر اعتدالا من سابقيه: «إن المساواة هي كون القانون واحدا للجميع»، وبعد أن تكلم واضعو هذا البيان الأخير عن الحقوق رأوا أن النص فيه على بعض الواجبات مفيد فشابه الإنجيل في مواعظه، جاء في المادة الثانية منه: «أن واجبات الإنسان والمواطن كلها تنشأ عن مبدأين طبعتهما الطبيعة على القلوب وهما: «لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك به، وعاملهم بما تحب أن يعاملوك به»، والذي بقي من تلك البيانات هو مبدأ المساواة ومبدأ السلطة الشعبية».
للشعار الجمهوري - أي «الحرية والمساواة والإخاء» - شأن كبير مع ضعف قيمته العقلية، ولهذا الشعار الساحر الذي نقش على جدرنا قدرة عظيمة تعدل القدرة التي يعزوها السحرة إلى بعض الألفاظ، وما ألقاه من الآمال في القلوب سهل انتشاره، وقد ضحى ألوف الناس بأنفسهم في سبيله، والآن إذا اضطرمت ثورة في العالم فإن رجالها يستنجدون به.
حقا إنهم يجيدون الاختيار، فذلك الشعار من الأمثال المبهمة الساحرة للنفوس، والتي يفسرها كل امرئ على حسب ذوقه وحقده وخياله، ففي أمر الإيمان لا شأن لمعنى الألفاظ الحقيقي، وما سر قوة هذه الألفاظ إلا بما يعزى إليها من القدرة.
ومبدأ المساواة هو أكثر مبادئ الشعار الثوري دواما، فسنرى في مكان آخر أن هذا المبدأ وحده هو الذي ظل باقيا على وجه التقريب، وأن نتائجه لم تزل بادية للعيان.
ولم تكن الثورة الفرنسية هي التي علمت العالم مبدأ المساواة، ولا نحتاج، لإثبات ذلك، إلى التنقيب في الجمهوريات اليونانية القديمة، فالنصرانية والإسلام قد أرشدا الناس إلى هذا المبدأ، وبيان ذلك: أن الناس متساوون في هاتين الديانتين، وهم عباد إله واحد، ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى.
ولكن إعلان المبدأ لا يكفي لمحافظة الناس عليه، فالكنيسة النصرانية لم تلبث أن عدلت عن مبدأ المساواة النظري، ولم يعبأ به زعماء الثورة الفرنسية إلا في خطبهم.
ويختلف معنى المساواة باختلاف الناس، فمبدأ المساواة عند بعضهم يدل على رغبة الإنسان في ألا يرى فوقه أحدا، وأن يكون كل امرئ دونه، وهو عند يعاقبة الثورة الفرنسية ويعاقبة الوقت الحاضر ينم على مقت كل أفضلية، والسعي إلى إبطال الأفضليات بإنكار التفاوت الطبيعي وتوحيد العادات والأوضاع والأزياء والمراتب.
وهذا لا يمنع من القول إنه كان ينطوي تحت تعطش زعماء الثورة الفرنسية إلى المساواة رغبة في التفاوت، وقد أدرك ناپليون ذلك فأحدث ألقاب شرف وأوسمة لهم، قال تاين:
اكتشف ناپوليون تحت كلمة الحرية وكلمة المساواة اللتين كانت أفواههم تلوكهما ميلهم إلى السيادة ورغبتهم في الأمر والنهي والتفوق، وقد رأى أن أكثرهم يطمع في المال والترف، وأنه لا فرق في ذلك بين النائب في لجنة السلامة العامة والوزير، وبين الوالي ونائبه.
والرغبة في مبدأ المساواة هي تراث الثورة الفرنسية الدائم، وأما مبدأ الحرية ومبدأ الإخاء اللذان اكتنفا مبدأ المساواة في الشعار الجمهوري فتأثيرهما ضعيف، ولم ينفعا أيام الثورة الفرنسية وفي العهد الإمبراطوري إلا في تزويق الخطب، وما زاد تأثيرهما بعد ذلك قط، فالأمم لا عهد لها بمبدأ الإخاء في زمن، ولم تبال بمبدأ الحرية إلا قليلا، وقد تركه العمال في الوقت الحاضر لنقاباتهم، والخلاصة: أن تأثير الشعار الجمهوري لم يكن في غير الظاهر، وأنه لم يبق من الثورة الفرنسية في نفوس الشعب سوى تلك الألفاظ الثلاثة المشهورة المجملة لإنجيلها، وقد نشرت هذه الألفاظ في أنحاء أوربة بجيوشها كما هو معلوم.
الباب الثاني
تأثير العقل والعاطفة والتدين والاجتماع أيام الثورة الفرنسية
الفصل الأول
روح المجلس التأسيسي
(1) المؤثرات النفسية أيام الثورة الفرنسية
أثرت، في تكوين الثورة الفرنسية وفي دوامها، عناصر نفسية وعاطفية ودينية واجتماعية، تابع كل واحد منها لمنطق خاص، ونشأ عن عدم التفريق بين هذه المؤثرات أن فسر كثير من المؤرخين ذلك الدور تفسيرا سيئا.
كان عمل العقل الذي اتخذ للتفسير والإيضاح ضعيفا، فهو - وإن أعد الثورة الفرنسية - لم يبد تأثيره إلا في أوائلها، أي أيام كان أمرها قبضة أبناء الطبقة الوسطى الذين وضعوا لوائح إصلاح الضرائب وإلغاء امتيازات الأشراف، إلخ.
وعندما تغلغلت تلك الثورة في الشعب تقهقر عنصر العقل أمام عناصر العاطفة والاجتماع، ودفع عنصر التدين الجيوش إلى التعصب وأوجب انتشار المعتقد الجديد في العالم.
وربما كان العامل الديني أهم تلك المؤثرات، فلا يمكن إدراك الثورة الفرنسية إلا إذا اعتبرنا تكوينها مثل تكوين الثورات الدينية كثورة الإصلاح الديني مثلا.
حاول الفلاسفة، زمنا طويلا، إثبات ما للمعتقدات من القيمة العقلية الضعيفة، والآن أخذوا يفسرون شأنها تفسيرا أتم وأحسن، فاضطروا إلى الإقرار بأنها ذات تأثير كاف لتغيير عناصر الحضارة.
تسخر المعتقدات الناس غير مستعينة بالعقل، وعندها من القدرة ما يكفي لتحويل الأفكار والمشاعر نحو غرض واحد، ولا تضاهي قوة العقل المطلق قوتها، فليس هو الذي يلقي الحمية في قلوب الناس.
ويوضح لنا اللباس الديني الذي لبسته تلك الثورة قوة انتشارها وما لها من النفوذ في الحال والماضي، والمؤرخون الذين اعتبروا هذا الحادث العظيم دينا جديدا قليلون، وأظن أن توكفيل هو أول من انتبه لذلك، فقد قال: «إن الثورة الفرنسية ثورة سياسية سارت على نمط الثورات الدينية، وتوغلت مثلها في البلاد بالدعوة الإرشاد».
وإذا ثبت لدينا ما في الثورة الفرنسية من عنصر ديني سهل علينا إيضاح ما أوجبته من هياج وتخريب وعدوان وعدم تسامح وحروب وفناء، فقد أثبت التاريخ أن هذه الأمور من عادتها أن تنشأ عن المعتقدات.
وعنصر التدين هو دعامة المعتقدات، ولا يلبث أن ينضم إليه ما ينشأ عن عنصر العاطفة من مشاعر وأهواء ومنافع، ثم يأتي العقل فيكتنف ذلك كله ليسوغ حوادث لم تنشأ عنه قط.
فقد كان كل إنسان أيام الثورة الفرنسية يلبس المعتقد الجديد ثوبا عقليا مختلفا باختلاف رغائبه، فرأت الأمم فيها إلغاء ما كابدته من سلسلة مراتب واستبداد ديني وظلم سياسي، وظن الكاتب - مثل غوتيه - والفلاسفة - مثل كانت - أنهم اكتشفوا فيها انتصار العقل، وأتى الأجانب - مثل هومبولت - بلاد فرنسة ليستنشقوا فيها نسيم الحرية ويشاهدوا جنازة الظلم والاستبداد.
غير أن هذه الأوهام لم تدم طويلا، فقد انكشف الغطاء بسرعة عن حقيقة تلك الرواية المحزنة. (2) انقضاء العهد السابق، اجتماع مجلس النواب
تتكون الثورات في عالم الفكر قبل أن تنشب، والثورة الفرنسية التي أعدتها الأسباب المذكورة آنفا بدأت تظهر في أيام لويس السادس عشر حين كان أبناء الطبقة الوسطى يكثرون من طلب الإصلاح.
واطلع لويس السادس عشر على ما في الإصلاح من فوائد، ولكنه عجز، لضعفه، عن إلزام الأشراف والإكيروس بالإصلاح، كما أنه عجز عن تأييد وزرائه المصلحين كمالزرب وتورغو.
أوجبت المجاعات شقاء الناس وزيادة الضرائب فدعي الأعيان؛ ليعالجوا الأزمة المالية فرفضوا المساواة في الضرائب، ولم يسلموا إلا بإصلاح زهيد لم يرض پرلمان باريس أن يسجله فانفض، وشاطرته پرلمانات الولايات رأيه فانفضت أيضا، هنالك استصرخت هذه الپرلمانات الرأي العام على مطالبة الحكومة بدعوة مجلس النواب الذي لم يجتمع منذ قرنين.
وافقت الحكومة الرأي العام على ذلك، فانتخب الناخبون، وعددهم خمسة ملايين، منهم 100000 ناخب من الإكليروس و150000 ناخب من الأشراف، 1200 نائب، ومن هؤلاء النواب 587 كانوا يمثلون الطبقة الثالثة، ومنهم 300 كانوا يمثلون الإكليروس.
وقد بدت اختلافات روحية بين أولئك النواب منذ الاجتماعات الأولى، فلما ستر نواب الأشراف والإكليروس - في الاجتماع الأول - رؤوسهم أمام الملك على حسب امتيازاتهم وأراد نواب الطبقة الثالثة تقليدهم احتج أولئك على هؤلاء، ولما دعا نواب الطبقة الثالثة نواب الأشراف والإكليروس المجتمعين في ردهتين بعيدتين إلى اجتماع مشترك لكي يفحصوا وثائق النيابة رفض الأشراف ذلك، فعندئذ اعتبر نواب الطبقة الثالثة أنفسهم ممثلين ل 95 في المئة من مجموع الأمة بناء على اقتراح الشماس سيابس، وهكذا لاحت بوادر الفتنة. (3) المجلس التأسيسي
أخذ مجلس النواب يقول ويفعل قول الآمر الناهي وفعله منذ البداءة، ثم ادعى أن وضع الضرائب من خصائصه، فاعتدى بذلك على حقوق الملك.
وقد كانت مقاومة لويس السادس عشر ضعيفة، فاكتفى بإغلاق ردهة مجلس النواب، فاجتمع النواب في ردهة (جودوپوم ) حيث أقسموا أنهم لا يتفرقون قبل أن يسنوا دستورا للمملكة، ثم انضم إليهم أكثر نواب الإكليروس، وقد نقض الملك قرار المجلس فأمر النواب بالانصراف، وعندما دعا رئيس الحجاب المركيز (دو دروبريزي) النواب إلى العمل بأمر الملك صرح رئيس المجلس «بأن الأمة وهي مجتمعة لا تتلقى أمرا من أحد»، وخاطب ميرابو رسول الملك قائلا: «إن المجلس الذي اجتمع بأمر الأمة لا تفضه إلا قوة الحراب» حينئذ أذعن الملك، وفي اليوم التاسع من يونيه سمى النواب مجلسهم المجلس التأسيسي، وهكذا اعترف الملك بسلطة جديدة كانت مجهولة في الماضي، أي بسلطة الأمة التي يمثلها نوابها، فطويت بذلك صحيفة الملكية المطلقة.
ولما أحس لويس السادس عشر أنه في خطر دائم أقام في أطراف فرساي كتائب من مرتزقة الأجانب، فطلب إليه المجلس أن يسرحها، فامتنع وعزل نيكر، وأقام في مكانه المرشال دوبروغلي المشتهر بحزمه، وعند ذلك قام كاميل ديمولان وغيره من الخطباء يعظون الجماعة ويدعونها إلى الدفاع عن الحرية، ثم قرعوا النواقيس تهييجا للناس، وجندوا 12000 جندي، واستولوا على مستودع البندقيات والمدافع، وساقوا عصابات مسلحة في 14 من يوليه إلى الباستيل فسلم هذا الحصن بعد دفاع استمر بضع ساعات.
كان الباستيل، الذي هو سجن كثير من ضحايا الظلم، رمز الاستبداد الملكي، ولكن لم يوجد ما يجعل الشعب الذي هدمه يتألم منه، إذ لم يعتقل فيه سوى الأشراف، واستمر تأثير الاستيلاء على قلعة الباستيل حتى اليوم، فإليك ما قاله المؤرخ الكبير مسيو رانبو:
إن الاستيلاء على الباستيل حادث عظيم، لا في تاريخ فرنسة وحدها، بل في تاريخ أوربة كلها، وقد فتح دورا جديدا في تاريخ العالم.
في هذا القول البسيط شيء من المبالغة، فقيمة ذلك الحادث أنه أعطى الشعب، أول مرة، مثالا واضحا على وهن سلطة الملك التي كانت مخيفة ، ومتى تزلزل مبدأ السلطة انحل سريعا، وما الشيء الذي لا يطلب من الملك العاجز عن الدفاع عن حصنه الخاص حيال حملات الشعب؟ هكذا أصبح السيد، ذو الحول والقوة في الماضي، لا يقدر على شيء.
وقد أخذت علامات التمرد تظهر على مرتزقة الأجانب بعد الاستيلاء على الباستيل، فرضي لويس السادس عشر بتسريحهم، ثم استدعى نيكر ثانية وذهب إلى دار البلدية فاستصوب الأمور التي وقعت، واستحسن الراية الجديدة ذات الألوان الثلاثة، الأزرق والأبيض والأحمر، التي أتى بها قائد الحرس الوطني لافايت، والتي كانت تجمع بين راية الملك وراية مدينة باريس.
ويدلنا الاستيلاء على الباستيل على الوقت الذي شرع الشعب يقبض فيه على ناصية الحكم، فقد أخذت مداخلة الشعب المسلح تظهر بعد ذلك الاستيلاء في مذاكرات المجالس الثورية.
وقد عجب كثير من مؤرخي الثورة الفرنسية لهذه المداخلة وحدثوا عنها باحترام، فلو بحث هؤلاء بحثا سطحيا، على الأقل، عن روح الجماعات لرأوا أن الشعب لم يفعل غير ما أراده بعض الزعماء، وأن من الخطأ قولهم: إن الشعب استولى على الباستيل، وهجم على التويلري، واحتل مجلس العهد إلخ. فالقول الحق هو: أن بعض الزعماء جمعوا - بواسطة الأندية - عصابات من الشعب ساقوها إلى الباستيل والتويلري إلخ، وأن هذه الجماعات نفسها هي التي هجمت أيام الثورة الفرنسية على أشد الأحزاب اختلافا ودافعت عنها على حسب أهواء الزعماء، ولم يكن للجماعات غير رأي رؤسائها.
وعقب الاستيلاء على الباستيل تخريب حصون أخرى بفعل التلقين، فاعتبر الفلاحون كثيرا من القصور باستيلات صغيرة وطفقوا يحرقونها مقتدين بسكان باريس، وكان غضبهم يشتد كلما وجدوا في تلك القصور صكوكا إقطاعية.
والمجلس التأسيسي، الذي أظهر غطرسة أمام الملك، كان كثير الجبن تجاه الشعب، فقد وافق في الليلة الرابعة من شهر أغسطس بالإجماع على اقتراح الشريف الكونت دونواي القائل بإلغاء حقوق الأمراء الإقطاعيين راجيا بذلك ختام المشاغبة، وقد تمت هذه الموافقة الإجماعية التي ألغيت بها امتيازات الأشراف دفعة واحدة وأعضاء المجلس يتعانقون باكين من شدة الفرح، ويتضح لنا مثل هذا العارض الحماسي عند النظر إلى فعل العدوى النفسية في الجماعات، ولا سيما في المجالس التي استحوذ عليها الخوف.
ولو أقلع الأشراف عن امتيازاتهم قبل ذلك ببضع سنين لاجتنبت الثورة الفرنسية، ولكن ما العمل وقد وقع ذلك بعد أوانه، ولا يفيد ترك الحقوق كرها غير زيادة رغائب من تركت لأجلهم، فيجب في عالم السياسة كشف عواقب الأمور ومنح المطاليب طوعا قبل أن يحل الوقت الذي تمنح فيه كرها.
تردد لويس السادس عشر مدة شهرين في الموافقة على قرار المجلس التأسيسي الذي أصدره ليلة 4 من أغسطس، ثم ذهب إلى فرساي فساق إليه الزعماء عصابة لا تقل عن سبعة آلاف شخص، فكسرت هذه العصابة حواجز القصر الملكي وقتلت بعض الحراس، وجيء بالملك وأسرته إلى باريس بين جماعة تصرخ وأناس يحملون على رؤوس حرابهم هامات قتلى الحرس.
عظمت شوكة الشعب وأصبح الملك قبضته، أي تحت رحمة الأندية وزعمائها، ودامت هذه الشوكة الشعبية عشر سنين فكانت ركن الثورة الفرنسية الركين.
وعلى رغم إعلان المجلس التأسيسي مبدأ سيادة الشعب جاوزت الفتن الشعبية حد ظنونه فرأى أنه، بوضعه دستورا يضمن للناس سعادة أبدية، يعود الجميع إلى النظام.
كان سن القوانين ثم نقضها ثم تجديدها شغل المجالس أيام تلك الثورة، وكان ذلك ناشئا عن اعتقاد أعضاء هذه المجالس أن القوانين قادرة على تحويل المجتمعات، ومن هذه القوانين البلاغ الذي نشره المجلس التأسيسي ولخص فيه مبادئه في حقوق الإنسان ريثما يضع دستور البلاد.
ولم يؤثر الدستور والبلاغات والخطب في الفتن الشعبية، وقد عانى المجلس التأسيسي الذي دب الشقاق فيه استبداد الحزب المتطرف المستند إلى الأندية، فقد كان أصحاب النفوذ من الزعماء - كدانتون وكامبل ديمولان ومارا وإيبر - يهيجون الرعاع بخطبهم وجرائدهم فيتسلطون بذلك على المجلس التأسيسي.
ولم تتحسن مالية البلاد في أثناء هذه الفتن، فأمر المجلس التأسيسي في 2 من نوفمبر سنة 1789 أن يعالجها بالاستيلاء على أملاك الكنيسة، وقدرت محاصيل هذه الأملاك والزكاة التي كانت تأخذها الكنيسة من المؤمنين بمبلغ مئتي مليون وقدر ثمنها بمبلغ ثلاثة مليارات، وكانت محاصيل هذه الأملاك توزع على بضع مئات من الأساقفة وإكليروس البلاط، فجعلت هذه الأملاك - التي سميت فيما بعد الأملاك الوطنية - ضمانا للأوراق النقدية، وصدر في المرة الأولى من هذه الأوراق أربعمئة مليون فأقبل عليها الجمهور في البداءة، ولكن مقدارها زيد في دور العهد ودور الديركتوار فبلغ 45 مليارا فأصبحت ورقة الليرة لا تساوي سوى بضعة سنتيمات.
ولويس السادس عشر الضعيف أغرته حاشيته فحاول، عبثا، ألا يوافق على قرارات المجلس التأسيسي، وتألفت في المدن والقرى بلديات ثورية يخفرها حرس وطني محلي، وكانت المدن المجاورة تتفق على الدفاع عن نفسها عند الحاجة، وأرسلت هذه المدن في 14 من يوليه سنة 1790، حرسا وطنيا مؤلفا من 14000 رجل إلى حي شاندومارس في باريس حيث أقسم الملك يمين الإخلاص للدستور الذي سنه المجلس الوطني.
وعلى رغم هذه اليمين تعذر الائتلاف بين مبادئ الملكية الوراثية والمبادئ التي أعلنها المجلس، فالتجأ الملك إلى الفرار، فقبض عليه في فارين، وسيق إلى باريس أسيرا، فأسكن قصر التويلري، ومنع من التصرف في سلطته، وأخذ المجلس التأسيسي على عاتقه القيام بأمور الحكومة، وما وجد ملك في موقف حرج كموقف لويس السادس عشر، الذي تخلى الجيش عنه بعد فراره، ولو كان له دهاء ريشليو ما كفاه لخروجه من هذا المأزق.
لا شك في أن أكثرية الأمة الفرنسية كانت ملكية أيام المجلس التأسيسي الذي هو ملكي أيضا، وكان من المحتمل أن يظل الملك قابضا على زمام الحكم لو رضي بنظام ملكي دستوري، ولم يكن عليه إلا أن يأتي بعمل قليل ليتفاهم هو والمجلس، ولكن هذا العمل كان يتعذر على رجل مثله، ولو رضي بتعديل النظام الملكي الذي انتقل إليه عن الآباء لانتصبت أمامه أشباح أجداده وحالت دون هذا، أضف إلى هذا أنه كان يستحيل عليه أن يتغلب على أسرته وعلى الإكليروس والأشراف والبطانة، أي على الطبقات التي استند إليها النظام الملكي والتي كانت ذات قوة تضاهي قوة الملك تقريبا، والقوة هي التي كانت تكره الملك على الإذعان، واستغاثته بالأجنبي تدلنا على أن اليأس بلغ فيه منتهاه حينما رأى تداعي أركانه الطبيعية كلها.
ولما رأى زعماء الأندية أن المجلس التأسيسي ملكي من كل وجه سلطوا عليه الشعب الذي لم يلبث أن طلب منه أن يجمع مجلسا جديدا ليحاكم لويس السادس عشر، وعزم المجلس التأسيسي على الدفاع حيال ذلك، فساق - بقيادة لافايت - كتيبة من الحرس الوطني إلى حي شاندومارس لتشتيت الجماعة المحتشدة هناك.
إلا أن المجلس التأسيسي لم يصر على المقاومة طويلا، فقد نشأ عن شدة جبنه أمام الشعب انتزاعه كل يوم شيئا من امتيازات الملك وسلطته، حتى صار الملك موظفا بسيطا.
نعم، ظن المجلس التأسيسي أنه قادر على القيام بأعباء السلطة التي انتزعها من الملك، ولكن ذلك كان فوق طاقته، فالسلطة الكثيرة التجزئة لا عمل لها.
لم يلبث المجلس التأسيسي، الذي ظن أنه قبض على مختلف السلطات وأنه يتصرف فيها على طريقة لويس الرابع عشر، أن عجز عن العمل، وكلما ضعفت قدرته تفاقمت الفوضى، ولم يكف الزعماء طرفة عين عن تهييج الشعب، فأصبحت الفتنة شاملة للبلاد كلها، واستولى على المجلس كل يوم فئة من المشاغبين المتجبرين فتملي عليه رغائبها متوعدة منذرة.
ولم تكن تلك الفتن الشعبية، التي أطاعها المجلس على رغمه، غريزية، بل كانت صادرة عن الأندية والجمعية الثورية، وكان النادي اليعقوبي أقوى الأندية، ولسرعان ما أسس في الولايات خمسمئة فرع له، واستمر سلطانه أيام الثورة الفرنسية كلها، وتسلط على فرنسة جميعها بعد تسلطه على المجلس التأسيسي، ولم يزاحمه غير الجمعية الثورية التي انحصر نفوذها في باريس، ولما صار الشعب غير راض عن المجلس التأسيسي، لضعفه وعجزه، أسرع هذا المجلس في إتمام الدستور الجديد لينفض بعد ذلك، وكان هذا المجلس سخيفا في قراره الأخير الذي صرح فيه أنه لا حق لأعضاء المجلس التأسيسي أن يكونوا أعضاء في المجلس الاشتراعي القادم، فقد حرم أعضاء المجلس الاشتراعي تجربة سلفهم بذلك.
تم وضع الدستور في 3 من سبتمبر سنة 1791، وفي 13 منه وافق عليه الملك الذي أعاد إليه المجلس سلطته، وقد نص هذا الدستور على حكومة نيابية فعهد في السلطة الاشتراعية إلى نواب ينتخبهم الشعب وعهد في السلطة التنفيذية إلى ملك يحق له أن يرفض قرارات المجلس، ثم قسم المملكة إلى مديريات بدلا من تقسيمها السابق إلى ولايات، وألغى الضرائب القديمة مقيما في مكانها ما هو معمول به حتى الآن من ضرائب مقررة وغير مقررة.
وقد ظن المجلس التأسيسي الذي غير تقسيم المملكة وقلب نظامها الاجتماعي القديم أنه قادر على تحويل نظامها الديني أيضا، فأراد أن يستولي على نفوذ البابا في البلاد، وذلك بأن يجعل الشعب منتخبا لرجال الإكليروس، وقد أدى هذا القانون المدني الإكليروسي إلى اضطهادات دينية استمرت حتى العهد القنصلي، ونشأ عنها امتناع ثلثي القساوسة عن حلف يمين الإخلاص.
أتت الثورة الفرنسية في دور المجلس التأسيسي، الذي استمر ثلاث سنين، بنتائج عظيمة، وربما كان أهمها نقل ثروة أصحاب الامتيازات إلى أبناء الطبقة الثالثة، فأدى ذلك إلى ظهور أنصار ملتهبين حماسة للنظام الجديد، وبعد أن أدرك أبناء الطبقة الثالثة الذين حلوا محل الأشراف، والفلاحون الذين اشتروا الأملاك الوطنية، أن إعادة النظام السابق تحرمهم جميع تلك الفوائد دافعوا عن الثورة الفرنسية أشد دفاع، وبلغت قوتهم - وهم الذين تغلبوا على كل معارضة - مبلغا أصبحوا به قادرين على الذود عن المثل الأعلى الجديد وعن منافعهم المادية، وسنرى أن تأثير هذين العاملين أعان على قيام الإمبراطورية.
الفصل الثاني
روح المجلس الاشتراعي
(1) الحوادث السياسية أيام المجلس الاشتراعي
لنلخص ما وقع أيام المجلس الاشتراعي، الذي استمر حكمه سنة واحدة، من الحوادث السياسية العظيمة.
لم يفكر المجس الاشتراعي - وهو ملكي كالمجلس التأسيسي السابق - في القضاء على الملكية، بل كان - مع ارتيابه من الملك - راغبا في المحافظة على الملكية، إلا أن لويس السادس عشر كان يطلب مداخلة الأجانب، وكان يتردد بين عوامل متناقضة أيام إقامته في قصر التويلري، وكان كتاب الجرائد التي أمدها بالمال لتحول الرأي العام يجهلون صناعة التأثير في روح الجماعات، فكانت طريقتهم الوحيدة في الإقناع تهديد أنصار الثورة بالقتل وإنذار الناس باستيلاء جيش أجنبي على البلاد لإنقاذ الملك.
أصبح الملك يعتمد على ملوك الأجانب، وأضحى الأشراف يهجرون البلاد أفواجا أفواجا، وصارت پروسية والنمسة وروسية تتوعد فرنسة بالاستيلاء عليها، وأخذ البلاط يروج دسائس هذه الدول، فاقترح النادي اليعقوبي أن يناهض تألب الملوك على فرنسة بعقد محالفة بين الشعوب ضد ملوكها، وكان الجيرونديون واليعاقبة قابضين على زمام الثورة حينئذ، فجهزوا جيشا مؤلفا من 600000 متطوع ، فأكرهوا الملك على تأليف وزارة جيروندية، وهذه الوزارة جعلت لويس السادس عشر يقترح على المجلس شهر الحرب على النمسة، فوافق المجلس على ذلك من فوره.
غير أن الملك لم يكن مخلصا في شهر الحرب، فاطلعت النمسة، عن طريق الملكة، على خطط فرنسة الحربية وعلى أسرار مجلس الوزراء، وكانت فاتحة الحرب مشؤومة فتشتت فرق كثيرة حينما هوجمت بغتة، وثار سكان الضواحي لاعتقادهم أن الملك والأجانب يأتمرون بالبلاد، فساقهم زعماء اليعاقبة في 20 من يونيه إلى المجلس الاشتراعي حاملين عريضة يتوعدون فيها الملك بالخلع، ثم استولوا على قصر التويلري وشتموا الملك.
كان القدر يسوق لويس السادس عشر إلى نيل جزائه، فبينما كان وعيد اليعاقبة للملكية يغضب مديريات كثيرة علم الناس وصول جيش پروسي إلى حدود لورين، وقد ظنت ملكة فرنسة ماري أنتوانيت أنها تقدر على تخويف سكان باريس وإعادتهم إلى إمرة الملك بالوعيد والتهديد؛ فأمرت فيرسان أن ينشر تصريح دوك برنسويك الذي هدد فيه باريس «بتخريبها إذا أصيبت أسرة الملك بسوء»، فكانت النتيجة غير ما توقعت، فقد اعتقد الناس أن الملك شريك الأجنبي، فسخطوا عليه وزادوا منه نفورا.
ثم حرض دانتون زعماء الأندية، فأقاموا في دار البلدية جمعية ثورية، وهذه الجمعية سجنت قائد الحرس الوطني المخلص للملك، ثم قرعت النواقيس إيقاظا للناس، وأثارت الحرس الوطني وساقته مع السوقة إلى قصر التويلري في 10 من أغسطس، فترفقت الكتائب التي استدعاها لويس السادس عشر، ولم يبق للدفاع عنه غير بعض المرتزقة وبعض الأشراف، وقد قتل هؤلاء كلهم تقريبا، وهنالك التجأ الملك إلى المجلس الاشتراعي، فطلبت الجماعة خلعه، فقرر المجلس الاشتراعي نزع السلطة منه تاركا أمر مصيره لمجلس العهد القادم. (2) أحوال المجلس الاشتراعي النفسية
في البحث عن المجلس الاشتراعي المؤلف من أعضاء جدد فائدة نفسية، فالمجالس التي تجلت فيها صفات الجماعات السياسية، مثل ذلك المجلس، قليلة العدد.
كان عدد نوابه خمسين وسبعمئة، وكانوا منقسمين إلى ملكيين متطرفين وملكيين دستوريين وجمهوريين وجيرونديين ومونتاتيار، وكانت أكثريته من المحامين والأدباء، وقد اشتمل أيضا على قليل من الأساقفة الدستوريين وكبار الضباط والقسيسين والعلماء.
وكانت مبادئ أعضاء هذا المجلس صبيانية، فكان أكثرهم مشبعا من أفكار روسو في العودة إلى الفطرة الأولى، وكانوا كلهم يميلون إلى الأغارقة والرومان الأقدمين، ويستندون إلى أفكار كاتون وبروتوس وغراكوس وپلوتارك ومارك أوريل وأفلاطون، وكانوا، عندما يريدون شتم لويس السادس عشر، يسمونه كاليغولا.
وكانوا ثوريين لرغبتهم في القضاء على التقاليد، ولكنهم كانوا أيضا رجعيين لطمعهم في العودة إلى ماض قديم، غير أن النظريات لم تؤثر في سيرهم إلا قليلا، فكان العقل يظهر في خطبهم دون أعمالهم، وكانت وساوس العاطفة والدين تستحوذ عليهم.
وكانت أحوال المجلس الاشتراعي النفسية مثل أحوال المجلس التأسيسي النفسية، وهي تلخص في أربع كلمات، وهي: سرعة الانفعال وسرعة التقلب والجبن والضعف، ويستدل على سرعة تقلبه وسرعة انفعاله من تحولاته المستمرة، فكان أعضاؤه يوما يتشاتمون ويتلاكزون، ويوما يتعانقون باكين، وقد هتفوا هتافا شديدا للعريضة التي التمسوا فيها مجازاة من طلبوا خلع الملك، ثم حيوا الوفد الذي أتى في اليوم نفسه ليطلب خلعه، ويستدل على ضعف المجلس الاشتراعي وجبنه بقراره نزع السلطة من الملك مع أنه ملكي وقبوله طلب الجمعية الثورية تسليم الملك وأسرته إليها لتسجنه في برج تانپل، وهكذا كان حال المجلس الاشتراعي الذي عجز عن التصرف في سلطته، ففوض زمامه إلى الجمعية الثورية والأندية التي كان يديرها زعماء نافذون كتاليان وإيبر ومارا وبوسينيول وروبسپير.
وقد ظلت تلك الجمعية الثورية مسيطرة على الحكومة حتى الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية (ترميدور 1794)، وكانت تسير كأن إدارة باريس فوضت إليها، فهي التي طلبت سجن لويس السادس عشر في برج تانپل مع أن المجلس الاشتراعي أراد اعتقاله في قصر لكسنبرغ، وهي التي ملأت السجون بالمتهمين، ثم أمرت بذبحهم.
وأمر الوحشية التي أبادت بها عصابة مؤلفة من 150 عائث ما يقرب من 1200 نفس في أربعة أيام - مشهور، فقد دفعهم إلى هذه المذابح المسماة مذابح سپتمبر بضعة أعضاء من الجمعية الثورية، وقد احتفى رئيس بلدية باريس، بيتون، بهؤلاء القتلة فسقاهم خمرا، فاحتج على ذلك بعض الجيروندويين دون اليعاقبة الذين التزموا جانب السكوت .
وتجاهل المجلس الاشتراعي تلك المذابح التي حث على اقترافها كثير من أعضائه كبيوفارين وكوتون، وهو، لعجزه عن منع استمرار قتل الناس، انفض بعد خمسة عشر يوما من تاريخ وقوع ذلك الحادث فاسحا في المجال لمجلس العهد.
ولا شك في أنه كان مسيئا بأعماله، لا بنياته، فمع كونه ملكيا أقلع عن الملكية، ومع انتحاله مذهب الإنسانية حدثت مذابح سپتمبر على مرأى منه، ومع أنه كان مسالما زج بفرنسة في حرب طاحنة، فأثبت لنا بسيره أن الحكومة الضعيفة تؤدي إلى خراب الوطن على الدوام.
ودلنا تاريخ المجلسين الثوريين الأولين (التأسيسي والاشتراعي) على تماسك الحوادث بعضها ببعض، وأنها سلسلة ضرورات قد نتصرف في حلقاتها الأولى، وأما حلقاتها الأخرى فإنها تتكيف مستقلة عن إرادتنا، فقرارات المجلس التأسيسي الأول، وإن صدرت عن العقل والإرادة، وقعت نتائجها مستقلة عن كل إرادة وعقل وتبصر، ومن كان يجرؤ من رجال سنة 1789 على طلب قتل لويس السادس عشر أو يستطيع أن يخبر بذلك القتل وبحروب ڤانده وبالهول الأكبر وبالمقصلة وبالفوضى، ثم بالرجوع إلى التقاليد والنظام على يد جندي حديدي؟
وربما كان تأليف حكومة من الجماعات ونموها أظهر الحوادث التي نشأت عن أعمال المجالس الثورية الأولى، ومن خلال الحوادث المذكورة سابقا - أي الاستيلاء على الباستيل وعلى قصر ڤرساي والهجوم على مستودعات التويلري وقتل الحرس الملكي وخلع الملك واعتقاله - نتبين سنن روح الجماعات وروح زعمائها.
وسنرى أن سلطة الجماعات سادت البلاد شيئا فشيئا، فاستعبدت السلطات كلها، ثم حلت محلها في نهاية الأمر.
الفصل الثالث
روح مجلس العهد
(1) قصة مجلس العهد
وثائق تاريخ مجلس العهد النفسية كثيرة، وهي تثبت لنا أن شهود أحد الأدوار لا تكون أحكامهم صحيحة بما يشاهدونه من الحوادث والناس.
ولم تصدر أحكام بالثورة الفرنسية عليها مسحة من التدقيق إلا بعد مضي قرن كامل على نشوبها، ولم تكن هذه الأحكام سديدة من كل وجه، فالوصول إلى ذلك يتطلب إخراج الوثائق من الخزائن القديمة وكشف غشاوة القصص التي حجبت الحقيقة مع الزمن.
وربما كانت قصة أولئك الذي نعتهم الآباء بغيلان العهد أشد تلك القصص فعلا في النفوس، ومحاربة رجال العهد لفرنسة الثائرة ولأوربة المدججة بالسلاح تركت في الناس تأثيرا جعلهم يظنون أن أبطالها مخلوقون من طينة أسمى من طينة البشر.
يظل وصف أولئك الرجال بالغيلان سائغا ما دامت حوادث ذلك الدور تظهر كأنها حادثة واحدة، أي ما دامت أعمال الجيوش الجمهورية تختلط بأعمال جيوش العهد، فبهذا الاختلاط يدهش الناس من العز الذي نالته الجيوش الجمهورية فيغضون النظر عما اقترفته جيوش العهد من قسوة وقتل وتخريب، غير أن الحقيقة ظهرت بفضل النقد الحديث، فحافظت الجمهورية على احترام الناس لها وخسر رجال العهد، الذين لم يبالوا بغير الحروب الأهلية، مقامهم الأدبي.
حقا إنه لم يهتم بأمر الجيوش في ذلك الحين سوى عضوين أو ثلاثة أعضاء من لجان مجلس العهد، ولم يتم النصر لهذه الجيوش إلا بفضل عددها ودهاء قوادها وما أدخله الإيمان الجديد من الحماسة إلى قلوبهم، وسوف نبين في فصل آخر، نبحث فيه عن الجيوش الثورية، كيف انتصرت تلك الجيوش على أوربة الشاكية السلاح، وسارت مشبعة من مبادئ الحرية والمساواة التي هي إنجيل ذلك الزمن، فوصلت إلى الحدود وأقامت فيها مدة طويلة متمسكة بنفسية خاصة تختلف عن نفسية الحكومة التي جهلت أمرها في البداءة وازدرتها في النهاية.
ولم يبال رجال مجلس العهد بانتصار الجيوش، وإنما اقتصروا على الاشتراع الفج وفق أهواء زعمائهم الذين أرادوا تجديد فرنسة بالمقصلة، فمن أجل تلك الجيوش المستبسلة صارت قصة العهد تاريخا مبجلا، وهذا التبجيل أخذ يزول الآن، فالبحث المفصل عن نفسية غيلان العهد أثبت أنهم كانوا قليلي العقل والذكاء، وقد اعترف بذلك أشد الناس دفاعا عنهم، كمسيو أولار الذي قال في كتابه الذي سماه (تاريخ الثورة الفرنسية):
من الوهم قول الناس إن الجيل الذي قام بين سنة 1789 وسنة 1799 بأعمال عظيمة هو من الغيلان أي أرفع من الجيل الذي جاء قبله والجيل الذي جاء بعده، فلم يكن مؤسسو الجمعيات البلدية والأحزاب اليعقوبية والوطنية التي قامت بالثورة الفرنسية أسمى ذكاء ونبوغا من رجال فرنسة أيام لويس الخامس عشر أو لويس فيليب، وهل كان أولئك الذين حفظ التاريخ أسماءهم، لظهورهم في مسرح باريس، أو لأنهم أخطب خطباء المجالس الثورية، ذوي مزايا وطبائع نادرة؟ نعم، قد يستحق ميرابو أن يلقب بالخطيب العبقري، ولكن هل كان روبسپير ودانتون وفرنيو أفصح من خطبائنا في الوقت الحاضر مثلا؟ كلا.
وإذا بحثنا عن رجال مجلس العهد وهم مجتمعون رأينا أنهم لم يتصفوا بشيء من الذكاء والفضيلة والشجاعة، وأن الخوف لم يبد على جماعة كما بدا عليهم، وأن عملهم انحصر في الخطب.
كان هذا المجلس المختال، الذي كان يتوعد الملوك، أجبن المجالس السياسية التي عرفها العالم وأشدها خضوعا، فقد كان كالعبد ينقاد للأندية والجمعية الثورية، ويرتجف فرقا أمام الوفود الشعبية التي كانت تستولي عليه كل يوم، ويعمل بوصايا مثيري الفتن، وقد سلم إليهم أنبل أعضائه وعمل بوصاياهم فسن قوانين عقيمة اضطر إلى إلغائها بعد أن تركوا ردهة الاجتماع.
والمجالس التي هي ضعيفة مثل ذلك المجلس قليلة، ومن يود أن يعلم الدرك الذي تهبط إليه الحكومات الشعبية فليذكر قصة مجلس العهد. (2) تأثير انتصار الديانة اليعقوبية
تعد الديانة الثورية من أهم الأسباب التي منحت دور العهد صبغته الخاصة، وقد كمل في هذا الدور صوغ العقيدة التي كانت في طور التكوين.
وتتألف هذه العقيدة من عناصر مختلفة، وهذه العناصر - أي الفطرة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعقد الاجتماعي والسلطة الشعبية - فصول إنجيل لا يجادل المؤمنون فيه، ولها رسل راسخو الإيمان بسلطتهم، وقد حاولوا أن يسخروا العالم لها بالقوة غير مبالين بأحد، شأن المعتقدين في كل جيل.
والحقد على الخوارج هو - كما بينا في بحثنا عن ثورة الإصلاح الديني - من صفات أتباع المعتقدات الكبيرة، وقد أثبتت لنا ثورة الإصلاح الديني أن الصراع بين المعتقدات القريبة يكون عنيفا، ولذلك لا يعجب من قتال اليعاقبة الشديد لمن خالفهم في العقيدة من الجمهوريين الآخرين.
والدعوة التي قام بها الرسل الجدد صارمة، فقد أرسلوا، لوعظ سكان الولايات، أنصارا أشداء ترافقهم المقصلات، ولم يتساهل هؤلاء القضاة في الخطأ وإن صغر، وكانوا يفعلون كما يرى روبسپير القائل «إن الجمهورية لا تقوم إلا بإبادة مخالفيها»، ولم يبالوا بامتناع البلاد عن التجدد، فأرادوا تجديدها على رغم أنفها. قال كاريه: «أجدر بفرنسة أن تصبح مقبرة من أن لا تتجدد على منهجنا».
والسياسة اليعقوبية التي صدرت عن الإيمان الجديد كانت بسيطة كالاشتراكية المسوية التي يديرها سلطان مطلق غير متسامح، فلم تكن أفكار أنصارها الذين ساسوا فرنسة ملائمة لمقتضيات الاقتصاد ولطبيعة الإنسان، بل كانت المقصلة والخطب - ولو صبيانية - كافية لبلوغ الأرب في نظرهم، قال تاين:
كانت خطبهم مشبعة من الأقوال المجردة ومن الآراء المختلة في الطبيعة والعقل والأمة والجبابرة والحرية وغير ذلك من الأمور المشابهة لكرات منفوخة متصادمة، ولو لم يؤد جميعها إلى نتائج عملية مخيفة لاعتقدنا أنها لهو منطقي وتمرينات مدرسية وأقوال وتراكيب خيالية.
نشأ عن آراء اليعاقبة استبداد مطلق فكانوا يرون أن على المواطنين الذين تساووا مقاما ومالا أن يطيعوا الحكومة إطاعة عمياء، وكانت السلطة التي انتحلوها أعظم من سلطة الملوك السابقين، فقد سعروا السلع وادعوا أنه يحق لهم أن يتصرفوا في حياة الموطنين وأملاكهم، ثم بلغت ثقتهم بفضيلة المعتقد الثوري مبلغا جعلهم يشهرون الحرب على الآلهة بعد أن شهروها على الملوك فوضعوا تقويما حذفوا منه أسماء القديسين، وأوجدوا آلهة للعقل، وصاروا يعبدونها في كنيسة نوتردام بطقوس تعدل طقوس المذهب الكاثوليكي، وقد استمرت هذه الديانة حتى أقام روبسپير ديانة شخصية في مكانها جاعلا نفسه حبرها الأعظم.
واليعاقبة وأنصارهم، الذين لم تكن الأكثرية بجانبهم بعدما سادوا فرنسة، خربوها، ولا يسهل تعيين عددهم، ولكنه كان قليلا على كل حال، وقد قدره تاين بخمسة آلاف في باريس التي كان يسكنها سبعمئة ألف نفس، وبثلاثمئة في بيزانسون التي كان يسكنها ثلاثون ألف نفس، وبثلاثمئة ألف في فرنسة جميعها.
ولسيادة اليعاقبة فرنسة - على رغم عددهم القليل - أسباب كثيرة؛ منها منح الإيمان إياهم قوة عظيمة، ومنها قبضهم على زمام الحكومة بعد أن تعود الفرنسيون إطاعة أولياء الأمور منذ قرون كثيرة، ومنها اعتقاد الناس أن إسقاطهم يؤدي إلى رجوع العهد السابق الذي كان يخافه مشترو الأملاك الوطنية، ولو لم يشتد استبدادهم ما أقدمت مديريات كثيرة على العصيان.
والسبب الأول عظيم الأهمية، فالنصر في الصراع بين المعتقدات القوية والمعتقدات الضعيفة لا يكون في جانب المعتقدات الضعيفة، وأما علة اندثار اليعاقبة في نهاية الأمر: فهي أن شدة اضطهاداتهم أدت إلى تجمع ألوف العزائم الضعيفة تجمعا تغلبت به على عزمهم القوي، وإن قلت إن الجيرونديين الذين طاردهم اليعاقبة كانوا ذوي عقائد راسخة فاعلم أنه اعترضهم في الصراع الذي حدث ما لم يعترض خصومهم من تربية واحترام لبعض التقاليد والحقوق، قال إميل أوليڤيه:
إن أكثر مشاعر الجيرونديين رقيقة كريمة وأكثر مشاعر اليعاقبة قاسية شرسة طاغية، ولو قابلنا فرنيو بمارا لرأينا البون بينهما شاسعا، ولم يكن ما يدني أحدهما من الآخر.
لم يلبث الجيرنديون الذين تغلبوا في البداءة بأهليتهم وفصاحتهم على مجلس العهد أن استحوذ عليهم المونتانيار الهائجون العاطلون من كل رأي صائب والذين كانوا لا يعرفون غير إثارة عواطف السوقة. (3) صفات مجلس العهد النفسية
للمجالس - عدا صفاتها العامة - صفات تحدث بتأثير البيئة والأحوال، وتمنح كل اجتماع شكلا خاصا، وما عزوناه إلى المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي من هذه الصفات شوهد أشد منه في مجلس العهد.
اشتمل مجلس العهد على خمسين وسبعمئة نائب، وكان ثلث هؤلاء النواب أعضاء في المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي، وقد نجح اليعاقبة - بما أتوا من ضروب الإرهاب - في انتخاباته التي قاطعها ثلاثة أرباع الناخبين، وإذا بحثنا عن مهن نواب مجلس العهد رأينا أكثريتهم العظمى من رجال القانون، أي كانت مؤلفة من المحامين وكتاب العدل والقضاة.
ولم تكن نفسية هذا المجلس متجانسة، وبما أن المجلس الذي يتألف من رجال ذوي صفات مختلفة يكون معرضا لسرعة الانقسام إلى عدة أحزاب، فإن مجلس العهد لم يلبث أن ظهر فيه ثلاثة أحزاب: أي حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار (الجبليين) وحزب الپلين (السهليين)، وكان ينتسب إلى كل من حزب الجيرونديين وحزب المونتانيار مئة عضو، وكان في حزب المونتانيار أشد الأعضاء تطرفا، ونذكر منهم: كوتون وإيرول دسيشل ودانتون وكاميل ديمولان ومارا وكولوديربو وبيوفارين وباراس وسان جوست وفوشيه وناليان وكاريه وروبسپير، ونذكر من أعضاء حزب الجيرونديين: بريسو وبيسيون وكوندرسيه وفيرنيو، وتألف من الأعضاء الباقين - أي من أكثرية المجلس العظمى - ما يسمونه حزب الپلين (السهليين)، وكان هذا الحزب مترددا صامتا مذبذبا خائفا يتبع كل ناعق ويتقلب مع الزمن وينضم إلى أقوى ذينك الحزبين، فبعد أن أطاع الجيرونديين اتبع المونتانيار عندما تغلبوا على خصومهم، وهذه هي نتيجة السنة القاضية على العزائم الضعيفة بالخضوع للعزائم القوية.
وتجلى تأثير النواب النافذين تجليا ساطعا في مجلس العهد، فقد سيرته أقلية ضعيفة الذكاء أكسبتها عقائدها الراسخة قوة عظيمة.
وتقود أقلية متصفة بالشجاعة والإقدام أكثرية خائفة مذبذبة، وبهذا نوضح سر تطرف المجالس الثورية.
وانتقل رجال العهد بالتدريج من طور الاعتدال إلى طور القهر والاستبداد، ثم أخذوا يقتتلون، فقتل وهرب 140 من 180 جيرونديا كانوا يديرون مجلس العهد في البداءة، ثم ساد روبسپير - الذي كان أشد رجال الهول تعصبا - فريق النواب الذي استحوذ عليه الخوف، فرضي بالذل والاستكانة.
كان الأذكياء في ذلك المجلس من حزب الپلين (السهليين) أي من خمسمئة العضو المترددين المذبذبين، وتألفت اللجان الفنية التي تعزى إليها أعمال مجلس العهد النافعة من هذا الحزب، ولم يبال أعضاء هذا الحزب بالسياسة، وأوجب انهماكهم بأمور اللجان عدم ملازمتهم مجلس العهد، ولذا كانت جلسات هذا المجلس لا تحتوي أكثر من ثلث النواب، ومن دواعي الأسف عدم اتصاف هؤلاء الأذكياء الصالحين بخلق الثبات والحزم، شأن من هو مثلهم في الغالب، فالخوف دفعهم إلى استصواب ما كان يمليه عليهم الزعماء المتغلبون من الأوامر السيئة.
واستصوب حزب الپلين (السهليين) كل ما أمر به، فاستحسن إحداث محكمة ثورية نظام الهول، ومحق المونتانيار الجيرونديين بمعونته، وأباد روبسپير الإيبريين والدانتونيين، وساعد جبن أعضائه على اقتراف مظالم العهد الهائلة.
وكان الخوف الشديد صفة مجلس العهد الظاهرة ، والخوف هو الذي دفع كل فريق إلى ضرب رقاب الفريق الآخر لكيلا يسبقه هذا الفريق فيضرب رقابه، ويسهل إدراك هذا الخوف؛ فقد كان أولئك الأعضاء المناكيد يتشاورون بين ضجيج الحضور، وكثيرا ما كان يستولي على مجلس العهد وحوش مسلحة بالحراب فكانوا يجعلون أكثر أعضائه يفرون من الجلسات، وهؤلاء الأعضاء، وإن كانوا يحضرون الجلسات اتفاقا، كانوا يستصوبون صامتين ما يأمرهم به المونتانيار الذين كانوا أقلية صغيرة في مجلس العهد.
والخوف الذي استولى على المونتانيار كان كذلك عظيما، فليس التعصب وحده هو الذي كان يدفعهم إلى إبادة خصومهم، بل إن اعتقادهم وجود خطر محدق بهم كان يدعوهم إلى اقتراف ذلك أيضا، ولم يكن قضاة المحكمة الثورية أقل فرقا، فقد حكموا - مكرهين - على دانتون وأرملة كاميل ديمولان وآخرين بالموت، وما استولى طيف الخوف على مجلس العهد في وقت استيلائه عليه حينما أصبح روبسپير سيد البلاد الأوحد، فقد كانت نظرة منه تشنج زملاءه فزعا، فيقرأ على وجوههم «شحوب القلق واليأس».
وكان روبسپير يخاف الجميع والجميع يخافون روبسپير، فقد ضرب الرقاب خوفا من الائتمار به، والخوف هو الذي دفع الناس إلى تسليمه رقابهم.
ويدلنا ما تركه رجال العهد لنا من الخواطر على شدة فظائع ذلك الدور القاتم، قال تاين:
عندما سئل بارير، بعد عشرين سنة، عن غاية لجنة السلامة العامة وسريرتها أجاب: (كان همنا الوحيد أن نحفظ حياتنا التي كان كل واحد منا يعتقد أنها في خطر، فكان كل واحد منا يقطع رأس جاره خوفا من أن يسبقه جاره فيقطع رأسه).
والخلاصة: أن تاريخ مجلس العهد من أظهر الأمثلة التي يستدل بها على شأن الزعماء والخوف في المجالس.
الفصل الرابع
حكومة مجلس العهد
(1) شأن الأندية والجمعية الثورية أيام مجلس العهد
بينا آنفا تأثير زعماء الأندية والجمعية الثورية في المجلس التأسيسي والمجلس الاشتراعي، وقد عظم أمر هذا التأثير في مجلس العهد، فلم يكن تاريخ مجلس العهد بالحقيقة سوى تاريخ الأندية والجمعية الثورية التي تغلبت عليه، ولم تستعبد الأندية مجلس العهد وحده، بل استعبدت فرنسة جميعها، فكانت أندية المديريات التي كان يسوسها نادي العاصمة ترقب القضاة الموظفين وتنفذ الأوامر الثورية.
وعندما كانت الأندية، أو الجمعية الثورية، تستصوب بعض الأمور كانت ترسلها إلى مجلس العهد ليوافق عليها، فإذا خالفها المجلس ساقت إليه وفودها، أي سلطت عليه عصابات مسلحة من الرعاع حاملة أوامر لا مناص من إجازتها، وقد بلغ شعور الجمعية الثورية بقوتها مبلغا دفعها غير مرة إلى مطالبة مجس العهد بطرد من كانت تمقته من النواب.
وكان أعضاء مجلس العهد من المثقفين، وكان أكثر أعضاء الجمعية الثورية والأندية من صغار التجار والمحترفين والعمال وغيرهم، ممن يمتثلون أمر الزعماء كدانتون وكاميل ديمولان وروبسپير، وكان تأثير الجمعية الثورية في باريس أشد من تأثير الأندية، فقد جمعت لنفسها جيشا ثوريا، وكانت تقود ثماني وأربعين لجنة من الحرس الوطني لا تطلب غير القتل والتخريب والنهب، والنظام الذي أذلت هذه الجمعية الثورية به باريس كان هائلا، ومنه تفويضها إلى السكاف شالاندون أن يرقب جزءا من العاصمة ويبعث إلى المحكمة الثورية، أي إلى المقصلة، كل من يرتاب منه.
نعم، ناهض مجلس العهد الجمعية الثورية قليلا، ولكنه لم يقاومها زمنا طويلا، وبلغ الصراع بينهما غايته عندما بعث إيبر، الذي هو روح الجمعية الثورية، إلى مجلس العهد الذي أراد أن يسجنه عصابات قوية؛ لتطلب طرد من طلب سجنه من الجيرونديين، وقد أبى مجلس العهد ذلك، فحاصرته الجمعية الثورية في 2 من يونيه سنة 1793 بجيشها الثوري الذي قاده أنريو، فارتعد هذا المجلس فرقا، فسلم إليه سبعة عشر عضوا، فعندئذ أرسلت الجمعية الثورية إليه وفدا ليشكره هازئا.
وخضع مجلس العهد للجمعية الثورية القوية خضوعا تاما بعد سقوط الجيرونديين، فقد أكرهته هذه الجمعية على جمع جيش ثوري يجوب البلاد ويقتل الناس بالشبهات، ولم يتخلص مجلس العهد من ربقة الجمعية الثورية والنادي اليعقوبي إلا في أواخر أيامه، أي بعد سقوط روبسپير، فأغلق هذا النادي وقصل رقاب أعضائه النافذين.
ومع ما في هذا العقاب من شدة فقد استمر الزعماء على تحريض السوقة ضد مجلس العهد، وتكرر حصاره في شهر جرمينال وشهر بريريال (أي الشهر التاسع والشهر السابع من السنة الجمهورية)، فأكرهه العصاة على استصواب إعادة الجمعية الثورية ودعوة مجلس جديد، ولكنه ألغى هذين القرارين بعد خروج العصاة من ردهة المجلس، ولما خجل مجلس العهد من جبنه خصص كتائب لنزع السلاح من الضواحي، فسجنت هذه الكتائب عشرة آلاف شخص، ثم قصل رقاب ستة وعشرين زعيما من زعماء الفتنة وستة نواب تواطأوا عليها.
والواقع أن مجلس العهد لم يكن راغبا في المقاومة، فكان، حين لا تسيره الأندية والجمعية الثورية، يخضع للجنة السلامة العامة ويوافق على اقتراحاتها من غير جدال، قال وليم:
إن مجلس العهد الذي كان يهدد أمراء أوربة وملوكها بالحكم عليهم من قبله كان أسيرا لعصابة من المرتزقة. (2) الحكومة أيام مجلس العهد
ألغى مجلس العهد الملكية في سبتمبر سنة 1792 وأعلن الجمهورية مع تردد فريق كبير من أعضائه العالمين أن الولايات ملكية، وهو - لاعتقاده أن هذا الإعلان يحول العالم المتمدن - وضع تقويما جديدا ظانا أن السنة الأولى من تاريخه تكون فجرا لعالم يسود العقل، وكانت محاكمة لويس السادس عشر التي أوحت بها الجمعية الثورية فاتحة تلك السنة.
وساد الجيرونديون - الذين كانوا على شيء من الاعتدال، إذا قيسوا بغيرهم - مجلس العهد في البداءة فانتخب رئيسه وكتابه منهم، ولم يكن لروبسپير، الذي صار بعدئذ سيد مجلس العهد المطلق، سوى نفوذ ضئيل في ذلك الحين، فلم ينل سوى ستة أصوات في انتخاب الرئاسة مع أن بيسون انتخب رئيسا ب 235 صوتا.
ولم تلبث سلطة المونتانيار الصغيرة في البداءة أن عظمت فلم يبق للمعتدلين مكان في مجلس العهد، فقد جعل المونتانيار مجلس العهد الذي هم أقلية فيه يتهم لويس السادس عشر، فتم لهم بذلك انتصار على الجيرونديين وقضاء على الملكية وفصل بين النظام الجديد والنظام القديم.
وقد برعوا في تدبير تلك التهمة، إذ جعلوا المديريات تمطر مجلس العهد بعرائض طالبة فيها محاكمة الملك، وأرسلوا إليه بعثة من الجمعية الثورية الپاريسية لهذا الغرض، وأذعن مجلس العهد، فاتهم الملك من غير مقاومة سائرا على سنة المجالس الثورية التي تخضع أمام الإنذار والوعيد فتفعل خلاف ما تريد.
دفع الخوف الجيرونديين، الذين لم يريدوا قتل الملك وهم منفردون، إلى الحكم عليه بالقتل وهم مجتمعون، وقد وافق خال لويس السادس عشر، دوك دورليان، على ذلك طمعا بنجاة نفسه، ولو كان عند لويس السادس عشر قدرة يكشف بها المستقبل كالقدرة التي نعزوها إلى الآلهة لرأى وهو صاعد في المقصلة أن نصيب أكثر الجيرونديين، الذين لم يستطيعوا أن يدافعوا عنه لضعفهم، سيكون مثل نصيبه.
ولو نظرنا إلى قتل الملك من حيث فائدته لرأينا أنه عمل جنوني قامت به الثورة الفرنسية، فقد أحدث حربا أهلية وأقام أوربة ضدنا وأوجب منازعات في مجلس العهد أدت إلى انتصار المونتانيار وطرد الجيرونديين.
وبلغت مظالم المونتانيار مبلغا أوجب عصيان ستين مديرية في الغرب والجنوب، وقد كاد هذا العصيان، الذي كان يقوده كثير من النواب المطرودين، ينجح لو لم ينشأ عن اشتراك الملكيين فيه خوف الناس من رجوع العهد السابق، ودام هذا العصيان دوام الثورة الفرنسية، وكان غاية في التوحش، فكان الشيوخ والنساء والأطفال يقتلون، وكانت القرى والمزروعات تحرق، وقد قتل في أثنائه في ڤانده وحدها ما يزيد عن نصف مليون نفس.
وعقب الحرب الأهلية محاربة الأجنبي، وظن اليعاقبة أنهم يدرأون هذه الأضرار بوضعهم دستورا جديدا، فسن مجلس العهد دستورين؛ أحدهما سنة 1793، والثاني سنة 1795، ولا غرو، فمن تقاليد المجالس الثورية أن تعتقد سحر المراسيم غير معتبرة بحبوط التجارب الماضية، قال أحد أكابر المعجبين بالثورة الفرنسية مسيو رانبو:
اعتقد ذوو الإيمان القويم من أعضاء مجلس العهد أنهم بصوغهم مبادئ الثورة الفرنسية في قالب قانون يدهشون خصومهم فيهدونهم ويخمدون ثائرهم.
وكان مجلس العهد يحتوي عددا غير يسير من الفقهاء وأرباب الأعمال، وقد أدرك هؤلاء أنه يستحيل على مجلس كثير العدد كمجلس العهد أن يدير حكومة فقسموه إلى لجان مستقلة كلجنة الأشغال العامة ولجنة الاشتراع واللجنة المالية واللجنة الزراعية واللجنة الفنية ... إلخ، ثم أخذت هذه اللجان تهيئ لوائح قانونية ليوافق عليها المجلس في جلساته العامة، والفضل يرجع إلى هذه اللجان في جعل أعمال المجلس غير هادمة تماما، فقد أتت أمورا كثيرة النفع كإنشاء المدارس العالية والمقياس المتري، وكان أكثر أعضاء مجلس العهد يفرون إلى هذه اللجان؛ ليجتنبوا المخاصمات السياسية التي قد تؤدي إلى هلاكهم.
وكان على رأس لجان الأشغال المذكورة لجنة السلامة العامة التي أسست في شهر أبريل سنة 1793، فكان عدد أعضائها تسعة، وقد أدارها في بدء الأمر دانتون ثم انتقلت إدارتها في شهر يوليه من تلك السنة إلى روبسپير، وتدرجت إلى ابتلاع جميع السلطات فأدار فيها كارنو أمور الحربية وكانبون أمور المالية وسان جوست وكالوديربوا دفة السياسة.
وكانت القوانين، التي وافق مجلس العهد عليها، بتأثير الوفود التي كانت تستولي عليه، ظاهرة الخطل خلافا للقوانين السديدة التي اقترحتها اللجنة الفنية، ونذكر من تلك القوانين المختلة قانون الكمية الكبرى الذي وافق مجلس العهد عليه في شهر سپتمبر سنة 1973، فلم ينشأ عن هذا القانون الذي أمر بتسعير الأقوات سوى قحط دائم وهدم قبور الملوك في دير سان دني ومحاكمة الملكة وتحريق مقاطعة ڤانده وتأليف المحكمة الثورية إلخ.
وبينما كان مجلس العهد يفكك عرى فرنسة ويخربها كانت جيوشنا تحرز نصرا مبينا، فقد استولت على الضفة اليسرى من نهر الرين وعلى بلجيكة وهولندة، ثم أقرت معاهدة بال هذه الفتوحات، وقد قلت سابقا، وسأعود إلى هذا القول قريبا، إنه يجب التفريق التام بين أعمال جيوش الجمهورية وأعمال مجلس العهد، وليس هذا على المعاصرين بالأمر العسير.
ومجلس العهد الذي كان لعبة تعبث بها الأهواء لم يفلح في تهدئة الفتنة في فرنسة التي قذفها في بحار الفوضى، ولذلك كان مجلس العهد محطا للاحتقار حينما غاب عن الوجود في 26 من أكتوبر سنة 1797، أي بعد قبضه على زمام الأمور ثلاث سنين، قال المفوض الأسوجي البارون درينكمن، في إحدى رسائله:
أرجو ألا تتحكم في أمة جماعة من الفجرة السفهاء كالتي تحكمت في فرنسة منذ بدء انقلابها الحديث. (3) نهاية مجلس العهد، منشأ حكومة الديركتوار
وضع مجلس العهد - الذي لم يغير إيمانه بتأثير القوانين - دستورا جديدا في أواخر أيامه؛ ليحل محل دستور سنة 1793، الذي لم يعمل به قط، وجاء في هذا الدستور الجديد أنه يقوم بالسلطة الاشتراعية مجلسان: مجلس شيوخ مؤلف من 250 عضوا ومجلس شبان مؤلف من خمسمئة عضو، وأنه يعهد في السلطة التنفيذية إلى جماعة (الديركتوار) المؤلفة من خمسة أعضاء يرشحهم مجلس الخمس مئة ويعينهم مجلس الشيوخ، وقد قضى مجلس العهد أن يكون ثلثا أعضاء المجلس الجديد من أعضائه، إلا أن القرار لم ينفذ، فلم يوال اليعاقبة سوى عشر مديريات، وحكم مجلس العهد على جميع المهاجرين إلى البلاد الأجنبية بالنفي المؤبد، وذلك ليقصي الملكيين عن الانتخابات.
لم يؤثر إعلان هذا الدستور في الجمهورية خلافا لما كان ينتظر، فهو لم يقلل شيئا من الفتن الشعبية، ومن أهمها الفتنة التي توعدت مجلس العهد في 15 من أكتوبر سنة 1795، فقد ساق الزعماء جيشا إليه فعزم على الدفاع حياله فاستحضر كتائب وسلم قيادتها إلى باراس وعهد إلى بوناپارت، الذي أخذ يظهر من عالم الخفاء، في أمر تشتيته، وقد تم ذلك التشتيت على يده بسرعة فلما أطلق الرصاص على العصاة بالقرب من كنيسة سان روك فروا تاركين بضع مئات من القتلى، وهذا العمل الحازم الذي لم يكن لمجلس العهد عهد بمثله صدر عن سرعة حركات الجيش، وكان قمع تلك الفتنة آخر أعمال مجلس العهد المهمة؛ إذ صرح هذا المجلس في 26 من أكتوبر سنة 1795، بأن نيابته انتهت، مسلما الأمور إلى حكومة الديركتوار.
أظهرنا كثيرا من الدروس النفسية المستنبطة من أعمال حكومة العهد، وأهمها عجز الضغط والظلم عن التغلب على النفوس طويلا، فلم يكن عند حكومة من وسائل القهر والاستبداد مثل ما كان عند حكومة العهد، ولكن مجلس العهد - على رغم المقصلة الدائمة والمفوضين المرسلين إلى الولايات مع الجلاد والقوانين الصارمة - كان يضطر إلى مكافحة الفتن والمؤامرات على الدوام، وكانت المدن والمديريات وضواحي باريس تتمرد من غير انقطاع على رغم قصل ألوف الرؤوس.
حارب مجلس العهد - الذي ظن أنه الآمر الناهي - قوى خفية رسخت في النفوس رسوخا لم تؤثر فيه جحافل الضغط والإكراه، وسبب ذلك: أنه لم يدرك شيئا من أمر تلك القوى التي تم لها النصر في نهاية الأمر.
الفصل الخامس
مظالم الثورة الفرنسية
(1) الأسباب النفسية لمظالم الثورة الفرنسية
بينا في الفصول السابقة أنه ينشأ عن المبادئ الثورية إيمان جديد، وهذه المبادئ التي قوامها العاطفة - وإن كانت تمجد الحرية والإخاء - نرى بينها وبين الأفعال تناقضا تاما ، شأن أكثر الأديان التي لم تسمح للناس أن يتمتعوا بالحرية، والتي أقامت مذابح فظيعة مقام الإخاء، وينشأ التباين بين المبادئ والعمل عن عدم تسامح المعتقدات، نعم، قد يأمر الدين بالرأفة والحلم، ولكن أمره يؤول إلى اقتراف المظالم لرغبة أنصاره في إكراه الناس عليه، وبهذا نفسر مظالم الثورة الفرنسية، فلم يكن الهول الأكبر الذي قام أيام هذه الثورة إلا من نوع محكمة التفتيش والحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد الپروتستان في جنوب فرنسة واضطهاد أنصار جانسينيوس، فهذه أمور صدرت كلها عن منبع نفسي واحد.
ولم يكن لويس الرابع عشر ملكا ظالما، غير أن إيمانه هو الذي دفعه إلى طرد مئات الألوف من الپروتستان من فرنسة بعد أن قتل وسجن فريقا كبيرا منهم، ولا تنشأ وسائل الوعظ القاهرة التي يتذرع بها المعتقدون عن خوف يلقيه الخوارج في قلوبهم، فقد كان الپروتستان وأنصار جانسينيوس قليلي الخطر في عهد لويس الرابع عشر، وإنما تصدر تلك الوسائل عن غضب حاكم، يزعم أنه متمسك بالحق، على أناس يعتقد إنكارهم إياه عن عناد، وكيف يصبر ذلك الرجل على ضلالهم وهو قادر على إزالته؟
هكذا تعلل المعتقدون في كل زمن، وهكذا تعلل لويس الرابع عشر ورجال الهول الأكبر، فقد اعتقد هؤلاء جميعهم أنهم على الحق وأن نصرهم هذا الحق يجدد البشر، وهل كانوا يستطيعون أن يتساهلوا نحو خصومهم أكثر من تساهل الكنيسة والملوك مع الخوارج؟
عد المعتقدون في كل جيل طريقة الهول أمرا ضروريا، فعليها قامت الأديان كلها، وهذه الأديان قد أنذرت الناس بعذاب أبدي في الجحيم؛ ليحافظوا على أوامرها، ويجتنبوا نواهيها.
وعلى ذلك يكون رسل المعتقد اليعقوبي قد ساروا على طريقة آبائهم، واستعانوا بمثل وسائلهم، ولو تم النصر اليوم لمعتقد جديد ، كالاشتراكية، لاتخذ طرقا في الدعاية تشابه طرق محكمة التفتيش ومحكمة الهول الأكبر.
وإذا اعتبرنا الهول اليعقوبي ناشئا عن فتنة دينية فقط، كان اطلاعنا عليه ناقصا، ويتم هذا الاطلاع عند إدراكنا أنه انضم إلى هذا المعتقد المنصور منافع ذاتية كثيرة مستقلة عنه، نعم، أدار الهول الأكبر قليل من الرسل المتعصبين، ولكنه كان بجانب هؤلاء الذين رأوا بعقلهم الضيق أن يجددوا العالم، كثير من الرجال الذين عدوا هذا المعتقد وسيلة إثراء، وهذا هو السبب الذي جعلهم يتبعون القائد الأول الظافر حينما تركهم يتمتعون بما اغتصبوه، قال ألبير سوريل:
أقبل رجال الثورة الفرنسية على الهول؛ لأنهم ظلوا قابضين به على زمام السلطة، ولاعتقادهم أنهم لا يستطيعون حفظ مناصبهم بغيره، وهم - على رغم قولهم إنهم لم يفعلوا شيئا إلا لسلامة الدولة - لم ينظروا بالحقيقة إلا إلى سلامة أنفسهم، فالهول كان وسيلة قبل أن يصير نظاما حكوميا، وما ابتدع النظام إلا ليبرر الوسيلة.
وقال إميل أوليڤيه في معرض بحثه في الثورة الفرنسية:
كان الهول الأكبر مفرقا بين الناس مؤديا إلى سلب الأموال، ولم تأت بمثله عصابة من اللصوص. (2) محاكم الثورة الفرنسية
كانت محاكم الثورة الفرنسية أيام الهول الأكبر واسطة قهر وإكراه، وقد أقيمت في فرنسة محاكم ثورة كبيرة عدا محكمة باريس الثورية التي سعى لإنشائها دانتون، قال تاين:
أقيمت في فرنسة 187 محكمة ثورية، منها 40 محكمة كانت تحكم بالقتل، وكانت تنفذ أحكامها في مكان الحكم حالا، وقد حكمت محكمة باريس على 2625 نفسا بالموت، ولم يكن قضاة المديريات أقل نشاطا من قضاة باريس في الحكم، فقد قصلوا في مدينة أورانج الصغيرة رأس 331 نفسا، وقصلوا في مدينة آراس رأس 223 رجلا ورأس 93 امرأة، وقصلوا في مدينة ليون رأس 1684 نفسا، وبلغ مجموع الذين قصلت رؤوسهم 17000 نفس، منهم، 1200 امرأة، وكثيرات منهن كن مجاوزات سن الثمانين.
ولا يخفى أن هنالك جمعا كبيرا من المتهمين قتلوا من غير محاكمة في شهر سپتمبر، أي قبل إنشاء محكمة باريس الثورية التي قصلت رؤوس 3625 نفسا، وكانت محكمة باريس الثورية تقتصر - كما أشار فوكيه تنڤيل في أثناء محاكمته - على تنفيذ الأوامر التي كانت تتلقاها من لجنة السلامة العامة، وهي - وإن سارت في البداءة وفق القانون ظاهرا - لم تلبث أن أهملت ذلك، فألغت الدفاع وسماع الشهود ومناقشتهم، وصارت تحكم على الناس بالشبهات، ثم اقترح فوكيه تنڤيل أن تنصب المقصلة في دائرة المحكمة لكي تنفذ الأحكام فورا.
وكانت تلك المحكمة ترسل المتهمين - الذين وقفوا لما بين الأحزاب من حقد - إلى المقصلة على السواء، ولسرعان ما صارت هذه المحكمة آلة ظلم في قبضة روبسپير السفاك، وعندما حكمت على أحد مؤسسيها، دانتون، بالقتل سأل الله والناس العفو قبل أن يصعد في المقصلة لمعاونته على إنشائها، وهي لم تصفح عن أحد سواء أكان الداهية لاڤوازيه أم الحكيم لوسيل ديمولان أم النبيل الفاضل مالزيرب. قال بنيامين كنستان مشيرا إليها:
تم قتل كثير من أصحاب القرائح السامية على يد أدنى الناس وأشدهم غباوة.
ويجب لتسويغ ما اقترفته المحاكم الثورية من المظالم، أن نذكر النفسية الدينية التي كانت عند اليعاقبة الذين أسسوها وأداروها، فقد ظن روبسپير وسان جوست وكوتون وغيرهم ممن قاموا بها أنهم يحسنون إلى الجنس البشري بقضائهم عن طريقها على الخوارج وعلى أعداء معتقدهم الذي كانوا يزعمون أنه يجدد العالم.
ولم يكن الذين قتلوا أيام الهول الأكبر من الأشراف والإكليروس فقط، بل قصلت رؤوس أربعة آلاف من الفلاحين وثلاثة آلاف من العمال، وإذا اعتبرنا ما ينشأ عن إعدام رجل واحد من الأثر في النفوس اعتقدنا أن قتل كثير من الناس يؤثر فيها تأثيرا عظيما، غير أن العادة أرهقت الحواس فلم ينتبه الناس كثيرا إلى ما كان يقع، وكانت الأمهات يقدن أولادهن ليشاهدوا قصل الرؤوس كما يقدنهم اليوم إلى دور الألعاب، وقد أوجبت مناظر القتل الكثيرة عدم اكتراث الناس للموت، فصعدوا كلهم في المقصلة رابطي الجأش، وعلا الجيرونديون درجاتها وهم ينشدون نشيد المرسلياز.
نشأ هذا التسليم عن ناموس العادة المسكن لانفعالات النفس، ودليلنا على أن منظر المقصلة لم يرهب أحدا ما وقع من الفتن الملكية الكثيرة، فكانت هذه الفتن تحدث كأن الهول لم يخف إنسانا، ولا يصير الهول طريقة نفسية مؤثرة إلا إذا قصر دوامه، فالهول الحقيقي يكون بالوعيد والإنذار أكثر مما بالتنفيذ. (3) الهول في الولايات
لم يكن قطع الرقاب الذي نشأ عن أحكام محاكم الثورة كل ما حدث أيام الهول الأكبر، فقد كان يجول في فرنسة جيوش ثورية مؤلفة من قطاع الطرق واللصوص ناهبة قاتلة، قال تاين:
عندما قطع أناس مجهولون في بيدوان - التي كان يسكنها ألفا نفس - شجرة الحرية هدم فيها 433 بيتا وقطعت رؤوس 16 شخصا من سكانها بالمقصلة وقتل منهم 46 شخصا رميا بالرصاص، وطرد من بقي منهم فاضطروا ليعيشوا إلى قطع السبل في الجبال وإلى نحت الكهوف لتكون لهم بيوتا.
ولم يكن نصيب من أرسلوا إلى محاكم الثورة خيرا من ذلك، فلما أصبحت محاكم الثورة طليقة من قيود القوانين أغرق كاريه، وقتل رميا بالرصاص - في نانت وحدها - ما يقرب من خمسة آلاف شخص من الذكور والإناث والولدان.
وقد وردت تفاصيل هذه المذابح في جريدة المونيتور، فقد قال توما في شهادته التي نشرت في عدد هذه الجريدة الصادر في 22 من ديسمبر سنة 1794:
شاهدت بعد الاستيلاء على نوار موتيار، رجالا ونساء وشيوخا يحرقون أحياء، وشاهدت نساء وبنات يقل عمرهن عن خمس عشرة سنة يقتلن بعد انتهاك أعراضهن، وشاهدت أولادا يبقرون بالحراب ويطرحون على الألواح بجانب أمهاتهم.
وقد نشرت في ذلك العدد شهادة لجوليان ذكر فيها كيف كان كاريه يكره ضحاياه على حفر قبورهم ليدفنهم فيها أحياء، وجاء في عدد 15 من أكتوبر سنة 1794 من تلك الجريدة تقرير لميرلان دوتيونفيل أثبت فيه أن ربان سفينة ديستان تلقى أمرا بأن يحمل عليها إحدى وأربعين ضحية «منها ضرير بلغ الثامنة والسبعين من عمره، واثنتا عشرة امرأة، واثنتا عشرة بنتا، وخمسة عشر صبيا، وخمسة أطفال - ويغرقهم»، وورد في عدد 30 من سپتمبر أن محاكمة كاريه أثبتت «أنه أمر بقتل النساء والولدان إغراقا ورميا بالرصاص، وأنه أوصى القائد هوكس بإبادة سكان ڤانده وإحراق مساكنهم».
وكان كاريه يشعر بلذة عظيمة عندما يشاهد ضحاياه يتوجعون، فقد نشرت جريدة المونيتور في عددها الصادر في 22 سپتمبر سنة 1794 قول كاريه: «إنني لم أضحك في المديريات التي طارت فيها رؤوس رجال الإكليروس ضحكي عندما كنت أرى تقبض وجوه هؤلاء عند موتهم».
أقيمت الدعوى على كاريه إرضاء للردة التي حدثت في شهر ترميدور (الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية)، ولكن ما وقع في نانت من المذابح وقع مثله في مدن كثيرة، فقد أوجب فوشيه قتل ألفي نفس في مدينة ليون، وبلغ القتل في مدينة طولون مبلغا أصبح به عدد سكانها سبعة آلاف في بضعة أشهر بعد أن كان تسعة وعشرين ألفا.
ولجنة السلامة العامة هي التي كانت تحرض كاريه وفيرون وفوشيه وغيرهم على اقتراف المظالم، قال كاريه في قضيته:
أعترف بأنه كان يقتل كل يوم نحو مئتي سجين رميا بالرصاص، ولكن لجنة السلامة العامة هي التي كانت تأمر بذلك، وحينما كنت أخبر مجلس العهد بأن العصاة الموقوفين يقتلون بالمئات كانت قاعته تدوي تصفيقا فيأمر بنشر الخبر في الجريدة الرسمية، وماذا كان يفعل هؤلاء النواب الذين يتحاملون علي الآن؟ كانوا يصفقون لي، ولماذا كانوا يتركون لي وظيفتي؟ لأنني كنت منقذ الوطن، وأما الآن فأنا رجل سفاك! ...
ومما تقدم يظهر أن كاريه كان يجهل أن الذين سيروا مجلس العهد لم يزيدوا على ثمانية أشخاص، نعم إن كاريه استحق القتل، ولكن أعضاء مجلس العهد كانوا يستحقون القتل أيضا؛ لاستحسانهم ما وقع من المذابح، ويثبت لنا دفاع كاريه، الذي استند فيه إلى رسائل لجنة السلامة العامة، أن ما حدث أيام الهول من ضروب الاضطهاد نشأ عن خطة مدبرة لا عن مساع شخصية.
ولم تقض حاجة التخريب أيام الهول بقتل النفوس فقط، بل تناولت معاول الهدم الأشياء أيضا، ولم يكن في اعتداء زعماء الثورة الفرنسية على المباني والآثار الفنية، التي عدوها بقايا ماض ممقوت، ما يقضي بالعجب، فمتى قبض المؤمن الحقيقي على زمام السلطة فإنه يقضي على أعداء إيمانه وعلى التماثيل والمعابد والشعائر الدالة على المعتقد المنكوس، ومن الأمور المعلومة أن الإمبراطور تيودوز الذي انتحل النصرانية أمر بهدم أكثر المعابد التي أقيمت على ضفتي النيل منذ ستة آلاف سنة.
كسرت التماثيل والنقوش البارزة وزجاج النوافذ والتحف الفاخرة، وعندما أرسلت حكومة العهد فوشيه، الذي نال أيام ناپوليون لقب دوك وصار وزيرا في عهد لويس الثامن عشر، لينوب عنها في نيافر، أمر بهدم أبراج قصورها ونواقيس كنائسها، وقد تناولت يد الهدم القبور أيضا ، فقد جاء في تقرير بارير لمجلس العهد أن قبور الملوك الفخمة في سان دني، ومنها قبر هنري الثاني العجيب الذي صنعه جرمن بيلون، هدمت، وفرغت النواويس وأرسلت جثة تورين إلى المتحف كشيء نادر بعد أن اقتلع أحد الحراس أسنانها ليبيعها، وقد نتف شارب هنري الرابع ولحيته.
إن رضى أرباب العقول النيرة عن تخريب ميراث فرنسة الفني أمر محزن، ولكننا إذا ذكرنا أن أسوأ المظالم ينشأ عن المعتقدات القوية، وأن رجال الفتن كانوا يهجمون على مجلس العهد في كل يوم فيكرهونه على الخضوع، رأينا في ذلك معذرة، ولا تدلنا قصة هذا التخريب على ما للتعصب من القوة فقط، بل تدلنا، أيضا، على ما يؤول إليه أمر المطلقين من الزواجر الاجتماعية وأمر الأمة التي يقبض هؤلاء على زمامها.
الفصل السادس
جيوش الثورة الفرنسية
(1) مجالس الثورة والجيوش
لو اقتصر ما نعلمه عن مجالس الثورة، ولا سيما مجلس العهد، على ما يقع فيها من الانشقاق وعلى ضعفها وعلى ما تأتي به من الاضطهاد لكانت ذكراها سيئة، غير أن لذلك الدور نفوذا مؤثرا ناشئا عن انتصار الجيوش التي فتحت بلاد بلجيكة والبلاد الواقعة على ضفة الرين اليسرى حينما ترك مجلس العهد مقاليد الحكم.
إذا نظرنا إلى حكم العهد في مجموعه أصبح من العدل أن يعزى إليه ما نالته جيوش فرنسة من النصر، وأما إذا فرقنا بين أقسامه ظهر لنا أنه لم يكن لمجلس العهد سوى نصيب صغير في الوقائع الحربية، وأن الجيوش المرابطة في الثغور والمجالس الثورية كانتا قسمين مستقلين أثر أحدهما في الآخر تأثيرا قليلا ونظر كل منهما إلى الأمور نظرا متباينا.
وقد اتضح لنا أن مجلس العهد كان ضعيفا، وأنه كان يبدل رأيه على حسب تحريضات الشعب فكيف استطاع أن يسيطر على الجيوش وقد كان منقادا لا قائدا!
أوجب انهماك مجلس العهد في المنازعات ترك أمور الحرب إلى لجنة كان يسيرها كارنو وحده، وأهم ما قامت به هذه اللجنة هو أنها أمدت الجيوش بالميرة والعتاد، وقد نشأ فضل كارنو عن قيادته 752000 جندي كانوا مرابطين في المراكز الحربية وعن إيعازه إلى القواد بالهجوم وعن توطيد دعائم النظام في الجيوش.
ولم يفعل مجلس العهد في الدفاع عن البلاد غير أمره بالنفير العام، ولا تستطيع حكومة أن تفعل غير ذلك تجاه أعداء فرنسة الكثيرين، وأما مداخلة هذا المجلس في أمر الجيوش فكانت يسيرة إلى الغاية، وقد خرجت هذه الجيوش وحدها ظافرة بفضل عددها وحماستها وخطط رسمها لها قواد شباب مستقلون عن مجلس العهد. (2) مكافحة أوربة للثورة الفرنسية
نرى، قبل بيان العوامل النفسية التي ساعدت على نجاح جيوش الثورة، أن الإلماع إلى روح المقاتلة التي تأصلت في أوربة واستفحلت ضد الثورة الفرنسية لا يخلو من فائدة.
نظر ملوك الأجانب في أوائل الثورة الفرنسية إلى المصاعب التي كانت تلقاها الملكية الفرنسية المزاحمة لهم بعين الرضى؛ لأنه لما ظن ملك بروسية أن فرنسة ضعفت فكر في توسيع ملكه على حسابها، فاقترح على إمبراطور النمسة أن يساعدا لويس السادس عشر رجاء الحصول على ولاية فلاندر وألزاس، فعقدا في فبراير سنة 1792 معاهدة ضد فرنسة، إلا أن الفرنسيين سبقوا في الهجوم فشهروا الحرب بتأثير الحزب الجيروندي.
ومع أنه لم يقتل في المعركة سوى ثلاثمئة فرنسي ومئتي بروسي فإنها كانت ذات نتائج عظيمة؛ لأن رد جيش اشتهر باستحالة قهره أورث قلوب الكتائب الثورية الفتية شجاعة كبيرة، فأخذت هذه الكتائب تهاجم العدو على طول الجبهة، ولم تمض بضعة أسابيع حتى طرد جنود فالمي النمسويين من بلجيكة، فاستقبلهم الناس فيها كمنقذين.
وقد اتسع نطاق الحرب كثيرا أيام مجلس العهد، ونشأ عن ضم مجلس العهد بلاد بلجيكة إلى فرنسة، في سنة 1793، حرب ضد إنكلترة استمرت اثنتين وعشرين سنة.
اجتمع مندوبو إنكلترة وپروسية والنمسة في أنڤرس، وتعاهدوا على تقسيم فرنسة على أن تنال پروسية مقاطعة ألزاس ومقاطعة لورين وأن تنال النمسة مقاطعة فلاندر ومقاطعة أرتوا وأن تنال إنكلترة مرفأ دنكرك، وقد اقترح سفير النمسة أن تقمع الثورة الفرنسية بالإرهاب «وباستئصال شأفة قادة الأمة الفرنسية»، وهذا ما اضطر فرنسة إلى أن تحارب من سنة 1793 إلى سنة 1797 على طول ثغورها ، أي من جبال البرانس حتى الشمال.
وقد أضاعت فرنسة في البداءة فتوحاتها السابقة، وحلت بها نوازل كثيرة؛ فاستولى الإسپان على مدينة بيربنيان ومدينة بايون، واستولى الإنكليز على مدينة طولون، واستولى النمسويون على مدينة ڤلنسيان؛ فاضطر مجلس العهد سنة 1793 إلى الأمر بتجنيد كل فرنسي تترجح سنه بين الثامنة عشرة والأربعين، وساق إلى الحدود تسعة جيوش مؤلفة من 750000 جندي تقريبا، وقد مزجت كتائب الجيش الملكي السابقة بكتائب المتطوعين وكتائب المجندين.
انكسر الحلفاء ورفع الحصار عن موبوج بعد انتصار المارشال جوردان في فاتيني، ثم أنقذ أوش مقاطعة لورين فأخذت فرنسة تهاجم فاستردت بلجيكة وضفة الرين اليسرى، ثم كسر المارشال جوردان النمسويين في فلوروس ورماهم خلف الرين مستوليا على كلونيا وكوبلنز، واحتل هولندة، فاضطر ملوك الحلفاء إلى طلب الصلح معترفين لفرنسة بفتوحاتها.
ومن دواعي انتصار فرنسة أن أعداءنا لم يعيروا قضيتنا ما تستحقه من الاهتمام، فكانوا منهمكين في تقسيم پولونية منذ سنة 1793 حتى سنة 1795، وكان كل منهم يريد أن يحضر القسمة لينال أكثر من غيره، وهكذا استفدنا كثيرا من تردد الحلفاء وسوء ظن بعضهم ببعض، ولو زحف النمسويون في صيف سنة 1793 على باريس لكنا كما قال القائد تيابول: «خسرنا مئة وربحنا واحدا، فهم الذين أنقذونا بمنحهم إيانا وقتا كافيا لجمع الجنود واختيار الضباط والقواد.»
ولم يبق لنا بعد معاهدة بال عدو ذو شأن في أوربة سوى النمسة، فساقت حكومة الديركتوار جيشا إلى مقاطعة ميلانه الإيطالية التابعة للنمسة، وفوضت إلى بوناپارت أن يهاجمها، وقد أكره بوناپارت دولة النمسة على طلب الصلح من فرنسة، وذلك بعد وقائع دامت حولا كاملا، أي من شهر أبريل سنة 1796 إلى شهر أبريل سنة 1797. (3) العوامل النفسية والعوامل الحربية التي أوجبت انتصار جيوش الثورة الفرنسية
يجب - لإدراك السبب في انتصار جيوش الثورة الفرنسية - أن نذكر مقدار ما كان عند جنودها الحفاة العراة من الحماسة الشديدة ومن الصبر على المكاره ومن إنكار النفس، فهم لما أشبعوا من المبادئ الثورية شعروا بأنهم رسل دين جديد أوحي به لتجديد العالم، وقد منحهم إيمانهم بطولة وبسالة لم تزعزعهما قارعة، فأنقذوا الوطن من العدو وصاروا يحاربونه حرب استيلاء يوم حلت حكومة الديركتوار محل مجلس العهد ولم يبق في فرنسة جمهوريون سوى الجنود، ويذكرنا تاريخهم بتاريخ قبائل جزيرة العرب التي آمنت بما جاء به محمد؛ فتحولت إلى جيوش مخيفة فتحت جزءا كبيرا من العالم الروماني القديم بأسرع ما يمكن.
استقبل كثير من البلاد المحتلة غزاة فرنسة كمحررين لها، فقد أهرع سكان سافوا إلى رؤية الجنود الفرنسيين، واستقبل الناس في مايانس هؤلاء الجنود بحماسة، وغرسوا أشجار الحرية، وأسسوا مجلس عهد شبيه بمجلس باريس.
وكلما كانت جيوش الثورة الفرنسية تصطدم بأمم أذلها الملوك المستبدون ولم يكن لها خيال تذب عنه كان النصر يحالفها، ولكن النصر كان يتعذر عليها عند اصطدامها بأناس أولي خيال وثيق كخيالها، فخيال الحرية والمساواة القادر على استمالة الشعوب العاطلة من العقائد المتينة والرازحة تحت استبداد أمرائها لا يؤثر بحكم الطبيعة في أناس ذوي خيال قوي رسخ في نفوسهم منذ عهد طويل، وبهذا ندرك سر محاربة سكان بريتانيه وڤانده، الذين كانوا ذوي مشاعر دينية وملكية متأصلة فيهم، جيوش الجمهورية وانتصارهم عليها سنين كثيرة، وقد عمت فتن هاتين المقاطعتين عشر مديريات فجمعتا 80000 مقاتل.
وبما أنه لا محل للرحمة في تنازع الخيالات المتباينة، أي المعتقدات التي لا شأن للعقل فيها، لم يلبث الصراع الذي وقع في ڤانده أن اتصف بقسوة لا تحدث إلا في الحروب الدينية، وقد استمر هذا الصراع حتى أواخر سنة 1795، حين وطد أوش دعائم السلام في ڤانده، ولم تخمد الفتنة فيها إلا بإبادة عصاتها، قال مولنياري:
أصبحت ڤانده قاعا صفصفا بعد حرب أهلية استمرت سنتين، وهلك فيها 900000 نفس تقريبا، ولم يبق طعام ولا مأوى للذين ظلوا أحياء فيها بعد تلك المذابح.
وإذا صرفنا النظر عما عند جيوش الثورة الفرنسية من الإيمان الذي يتعذر معه قهرهم رأينا أنهم فاقوا غيرهم بقادتهم النوابغ الذين أنجبت بهم ساحات القتال، فلما هاجر أكثر قادة الجيش الذين هم من طبقة الأشراف إلى البلاد الأجنبية سنحت لأصحاب الأهلية الحربية فرصة أبدوا فيها مواهبهم فتدرجوا في بضعة أشهر إلى جميع المراتب، ومن هؤلاء أوش الذي كان في سنة 1789 عريفا فصار قائد فرقة ثم قائد جيش في الخامسة والعشرين من عمره، وقد كانت بسالة هؤلاء القواد تمنحهم روحا هجومية لا عهد لجيوش الأعداء بها، وهم لعدم تقيدهم بالتقاليد وعدم تطبعهم بالعادات أبدعوا فنا حربيا ملائما لمقتضيات الزمن.
ولا تقدر الجنود غير المجربة على الحركة إزاء كتائب اتخذت الجندية مهنة لها، وتدربت على الطرق المستعملة منذ حرب السنين السبع، إلا أن قيام جموع كثيرة بالهجمات ذلل ذلك، فالعدد الكبير هو الذي كان يمكن القواد من القيادة، وهو الذي كان يسد الفراغ الناشئ عن طريقة الهجوم المذكورة المؤثرة مع ما فيها من قسوة.
وكانت الجموع الكثيفة عند هجومها على العدو بالحراب تهزم كتائبه المتعودة طرقا تدارى بها حياة الجند، وجعل بطء إطلاق الرصاص في ذلك الوقت فن فرنسة الحربي أسهل استعمالا، فبه تم النصر لها، غير أنه أهلك كثيرا من أبنائها، فمنذ سنة 1792 حتى سنة 1800 قتل في ساحة الحرب ما يقرب من ثلثهم (أي 700000 من مليوني مقاتل).
ولنثابر على استخراج النتائج من الحوادث التي بحثنا عنها في هذا الكتاب بحثا نفسيا:
دلنا البحث عن الجماعات الثورية في باريس وفي الجيوش على ما لهذه الجماعات من مختلف الأطوار، ويسهل شرح هذه الأطوار، فقد أثبتنا أن الجماعات إذ كانت عاجزة عن التعقل فإنها تسير كما تحرض، ورأينا أيضا أنها ذات بسالة متناهية وأن مزية محبة الغير تكون نامية عندها في الغالب، وأنه يسهل علينا أن نجد فيها ألوفا من الرجال مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل أحد المعتقدات.
وصفات نفسية مثل هذه تؤدي إلى أعمال متباينة بحسب الأحوال، والدليل على ذلك ما ورد في قصة مجلس العهد وجيوشه، فقد أثبتت هذه القصة أن جماعات مؤلفة من عناصر متقاربة سارت في باريس وفي الثغور سيرا مختلفا اختلافا يجعل الإنسان يظن أنها لم تكن من شعب واحد.
فكانت الجماعات في باريس مضطربة قاسية سفاكة للدماء متقلبة في رغائبها تقلبا يستحيل معه أن يستقيم أمر أية حكومة ، وكانت الجماعات في الجيوش خلاف ذلك، أي لما اختلطت هذه الجماعات بالجنود، أي بفريق الأمة الذي شب على حب النظام من فلاحين وعمال، وتم ترويضها بالتعليم الحربي واجتذابها بالحماسة السارية، أوجب ذلك كله صبرها على ضنك العيش، واستخفافها بالمهالك، وساعد على تأليف فئة عجيبة انتصرت على أشد جيوش أوربة سطوة.
ويستدل بمثل هذه الأمور على تأثير النظام، فهو يحول الرجال، ولا تلبث الأمم التي تتحرر منه أن تصبح قبائل بربرية، ولا تزال هذه الحقيقة تغيب عن بال أولياء الأمور، ويؤدي جهلهم سنن الجماعات إلى العمل بما تضعه هذه الجماعات من الخطط بدلا من قيادتها.
الفصل السابع
روح زعماء الثورة الفرنسية
(1) نفسية رجال الثورة الفرنسية، شأن الأخلاق القوية والأخلاق الضعيفة
بما أن الإنسان يميز بذكائه ويسير بخلقه وجب - لإدراك أمره - أن يفرق بين الذكاء والخلق، وللخلق المقام الأول في الأدوار العظيمة، والحركات الثورية معدودة من تلك الأدوار بحكم الطبيعة.
وقد وصفنا، في كثير من الفصول السابقة، ما يسود الفتن من مختلف النفسيات، فلا نعود إليه الآن، وهذه النفسيات تغير شخصية الإنسان الموروثة والمكتسبة.
وقد رأينا ما لخلق التدين من شأن في النفسية اليعقوبية، وما أدخله هذا الخلق إلى قلوب أتباع الإيمان الجديد من تعصب شديد، ورأينا أيضا أن أعضاء المجالس ليسوا كلهم متعصبين، وأن المتعصبين كانوا أقلية فيها، وأن أكثرية الأعضاء في مجالس الثورة الفرنسية كانوا مطبوعين على الحياء والاعتدال والحياد، وأن الخوف هو الذي كان يدفعهم إلى السير مع القساة المتطرفين.
وأصحاب الأخلاق الهينة المحايدة، الذين يتبعون في كل دور أكثر المحرضات تناقضا، هم الأكثر عددا في كل زمن، ولا فرق بينهم وبين القساة من حيث الخطر، فقوة هؤلاء تعتمد على ضعف أولئك.
وقد شوهد في الثورات كلها - ولا سيما في الثورة الفرنسية - أقلية حازمة مع ضيق عقل متغلبة على أكثرية كبيرة متصفة بسمو المدارك وفقدان الخلق، وبجانب الدعاة المتعصبين وضعيفي الأخلاق يظهر أيام الثورات أناس لا يهمهم سوى الاستفادة منها، وما أكثر من ظهر أيام الثورة الفرنسية من رجال هذا الفريق الذين لا غاية لهم سوى الانتفاع من الأحوال ليغتنوا، ونعد منهم باراس وتاليان وفوشه وبارير الذين انحصرت سياستهم في خدمة القوي ضد الضعيف.
والواقع أن عدد هؤلاء الطامعين في أوائل الثورة الفرنسية كان عظيما، وهذا ما جعل كاميل ديمولان يقول سنة 1792: «إن مصدر الثورة الفرنسية هو ما كان عند كل واحد من خلق الأثرة وخلق العجب».
ويتألف من الملاحظات السابقة، ومما ذكرناه في فصل آخر عن الأطوار النفسية أيام الانقلابات السياسية، فكر عام في خلق رجال الثورة الفرنسية، وها نحن أولاء نذكر شيئا عن أشهر زعماء تلك الثورة. (2) نفسية النواب أيام بعثتهم
إن المسير لأعضاء مجلس العهد في باريس والزاجر لهم والمحرض لهم هو تأثير رفقائهم وتأثير البيئة، ويجب - للحكم في شأنهم - أن نبحث عنهم وحبلهم على غاربهم، أي وهم أحرار لا رقيب عليهم.
بعث مجلس العهد بعض أعضائه إلى المديريات، وألزم الموظفين والقضاة إطاعتهم، فكان هؤلاء الأعضاء مطلقين بعيدين من كل رقابة، وكان الواحد منهم أيام بعثته «يسخر الناس في المقاطعة التي ولي أمرها، ويسجنهم، ويضبط أموالهم كما يريد»، وكان يخرج إلى الناس «في عربة يجرها ستة أحصنة، والحرس يحيط بها من كل جانب، ويجلس حول موائد فاخرة، ذات ثلاثين «طقما» مع موكب من المهرجين والخفراء». وقد «شابهت أبهة كولوديربوا في ليون أبهة سلاطين الترك، فكان لا يقابله أحد إلا بعد ثلاثة طلبات، وكان يتقدم قاعة استقباله حاجز؛ لئلا يمثل أمامه أحد على بعد يقل عن خمس عشرة خطوة»، وليس من الصعب تصور زهو أولئك النواب عند دخولهم المدن والحرس محيط بهم، أولئك النواب الذين كانت إشارة منهم تكفي لقطع الرؤوس.
ولم يلبث المحامون العاطلون من العمل والأطباء المبتذلون والكهنة المعتزلون والأغبياء الخاملون وغيرهم ممن لم يبتسم لهم ثغر الدهر أن صاروا مساوين لأكبر من عرفهم التاريخ من الجبابرة، وكانوا، بضربهم الرقاب وإغراقهم الأحياء وقتلهم الناس بالرصاص، يشعرون بارتقائهم من مستوى وضيع إلى درجة أعاظم الملوك.
لم يسبق نيرون وهليوغابال، في الظلم والاستبداد، نواب العهد قط، فلم يكن هنالك ما يردع أولئك النواب من قوانين وتقاليد، قال تاين:
نظر فوشه من نافذته، والنظارة في يده، إلى ذبح 210 من سكان ليون، وكان كولود ولابورت وفوشه يقصفون أيام القتل بالرصاص، وقد نهضوا عند سماعهم إطلاق الرصاص هاتفين فرحا محركين قلانسهم.
ونذكر من نواب البعثة السفاكين الكاهن لوبون الذي خرب أراس وكانبري عندما أصبح ذا سلطة قوية، فمثله ومثل كاريه يثبتان ما يؤول إليه أمر الإنسان عندما يتخلص من التقاليد والقوانين، وقد بلغ حبه سفك الدماء واقتراف المظالم مبلغا أدى إلى نصبه المقصلة قريبة من نوافذ بيته؛ ليتمتع هو وزوجته وأعوانه بمنظر الذبح، وقد أقام على قائمة المقصلة مقصفا ليشرب منه الثائرون، وكان الجلاد يركم في الطريق أجساد القتلى عارية على أوضاع مضحكة؛ ليضحك منها الثائرون، وانحصر دفاع ذلك الكاهن في قوله: «لم أفعل ما فعلته إلا لتنفيذ ما أمرت به».
أشرت آنفا إلى خيلاء هؤلاء النواب الذين أصبحوا فجأة ذوي سلطة فاقت سلطان أشد المستبدين، ولكن الإشارة إلى ذلك لا تكفي لإيضاح قسوتهم، فلهذه القسوة أسباب مختلفة: منها أنهم إذ كانوا رسل إيمان قوى لم يرحموا ضحاياهم، وأنهم، بتخلصهم من زواجر التقاليد والقوانين، أطلقوا الأعنة لما تركته الهمجية الأولى فيهم من غرائز وحشية.
نعم، إن الحضارة تقيد هذه الغرائز، ولكنها لا تميتها أبدا، والحاجة إلى القتل في نفوس الصيادين دليل على ذلك، قال مسيو كونيسي كارنو:
إن حب القتل للقتل نفسه خلق عام، وهذا الخلق هو علة الكلف بالصيد، وذلك أننا لا نزال نأتي أعمالا كانت ضرورة العيش تكره أجدادنا الهمج على إتيانها، ونعجز عن كسر سلاسل العبودية المقيدة لنا منذ القديم، وعدم التلذذ بقتل الحيوانات التي لا نرق لها حينما يستولي علينا حب الصيد، فنقتل بالرصاص أو بالحبائل أودعها وأجملها، ومنها الطيور المشنفة الآذان بتغاريدها من غير أن نشعر بشفقة تكدر صفاء لذتنا بمشاهدتها مضرجة بالدماء راقصة من الألم محاولة الفرار على أرجلها المكسورة أو محركة أجنحتها المهيضة، وسبب ذلك هو الخلق الموروث الذي لا يقدر على مقاومته أفضل الناس.
وإننا - حذرا من بطش القوانين - لا نسلط هذا الخلق الموروث إلا على الحيوانات في الأوقات العادية، فمتى بطل عمل هذه القوانين لم نلبث أن نسلطه على الإنسان أيضا، وبهذا ندرك علة تلذذ رجال الهول بذبح الناس. وما قاله كاريه عن فرحه عند مشاهدته وجوه ضحاياه ساعة هلاكهم ذو معنى، فالوحشية عند كثير من أهل الحضر غريزة مزجورة غير مندثرة. (3) دانتون وروبسپير
كان دانتون وروبسپير أكثر رجال الثورة الفرنسية نفوذا، وكان دانتون خطيب أندية محرضا ذا صولة مهيجا للشعب، وكانت نتائج خطبه القاسية تحزنه في الغالب، وكانت درجته رفيعة أيام كان خصمه في المستقبل - روبسپير - في الصف الأخير، نعم، جاء وقت أصبح دانتون فيه روح الثورة الفرنسية، ولكن بما أنه كان عاطلا من خلق العناد والثبات فقد تغلب تعصب روبسپير المستمر على جهوده المتقطعة فساقه إلى المقصلة.
ولا يزال أمر روبسپير غامضا، ومن الصعب اكتناه نفوذه الذي ملك به حق الحياة وحق الموت.
لا جرم أن أمر روبسپير لا يكتنه بقول تاين إنه معجب بنفسه غارق في بحار المجردات، أو بقول ميشله إن مبادئه علة نجاحه، أو بقول معاصره ويليم: «إن سر قبضه على زمام الحكم هو اعتماده على أهل النقائص ومقترفي الجرائم».
ويستحيل أن يكون نجاحه قد نشأ عن فصاحته، فقد كان يقرأ بصعوبة خطبه التي لم تكن غير كلمات مجردة باردة مبهمة، وكان في مجلس العهد خطباء يفوقونه بلاغة كدانتون والجيرونديين الذين أبادهم جميعا.
إذن، ليس عندنا إيضاح كاشف لسلطة هذا الحاكم المطلق الذي لم يكن له نفوذ في المجلس الوطني فأصبح بالتدريج سيد اليعاقبة ومجلس العهد وأهم رجال فرنسة، ولا شك في إعانة الأحوال له كثيرا، فقد عده الناس سيدا لا غنية لهم عنه، وهذا هو سبب ارتقائه السريع، وأظنه كان ذا سحر شخصي لا عهد لنا به اليوم، وبهذا يمكن إيضاح ما ناله من النجاح عند النساء، فكان المجلس أيام إلقائه خطبه «يكتظ بالنساء، وكان عدد اللائي يجلسن على مقاعد الاستماع لا يقل عن سبعمئة ، وكن يصفقن له هائجات النفس، وعندما كان يخاطب اليعاقبة كان شهيق الحنو والهتاف يسمع من كل جانب، وكان الضوضاء يهز أركان ردهة الاجتماع».
وقد أرسلت إليه أرملة دوشالابر الفتاة التي كان دخلها السنوي أربعين ألف فرنك رسائل غرام دعته فيها إلى الزواج.
ولم يكن خلق روبسپير سبب ميل الناس إليه، فقد كان سوداوي المزاج ضعيف الذكاء عاجزا عن فهم الحقائق غائصا في بحر من المجردات ماكرا مداجيا معجبا بنفسه إعجابا لم يفارقه طول حياته، معتقدا أن الله أرسله؛ ليوطد دعائم الفضيلة، وأنه هو المسيح الذي أرسله الله لإصلاح كل شيء.
وكان يزعم أنه من أرباب البيان، فكان ينقح خطبه طويلا، وقد أدى حسده الخطباء والأدباء إلى قتلهم، وكان يستخف بزملائه، فلما خلا باراس إليه ساعة تزينه بصق نحوه كأنه لم يكن حاضرا، ولم يجبه عن أسئلته تكبرا، ولم يكن ازدراؤه أبناء الطبقة الوسطى والنواب أقل من ذلك، والجمهور وحده هو الذي كان صاحب الحظوة عنده، قال: «لا مناص من الخضوع للجمهور عندما يتصرف في أمور السلطة، فكل ما يفعله الجمهور فضيلة وحقيقة، وليس فيه ما يعد ظلما أو ضلالا أو جرما».
وكان روبسپير مولعا بالاضطهاد، ولم يكن قيامه بأمر الرسالة علة قطعه كثيرا من الرؤوس، بل كان ذلك ينشأ أيضا عن اعتقاده أنه محاط بالأعداء والمؤتمرين، قال مسيو سوريل: «كان خوفه من زملائه أشد كثيرا من خوفهم منه».
ونعد حكمه المطلق الذي استمر خمسة أشهر مثالا واضحا لسلطان بعض الزعماء، فإذا أهلك جبار قابض على زمام جيش أيا شاء فليس في ذلك ما يعسر فهمه، وأما إذا استطاع رجل وحده أن يرسل عددا كبيرا من أقرانه إلى المقصلة فهذا أمر لا يسهل إيضاحه، وعلى نسبة إرسال روبسپير أشهر النواب، ككاميل ديمولان وإيبرت ودانتون وغيرهم، إلى المحكمة الثورية، ومنها إلى المقصلة، كانت قدرته تعظم، وقد سقط أكثر الجيرونديين صيتا أمامه، ثم اختلف والجمعية الثورية فقصل رقاب رؤسائها، وأقام مقامها جمعية ثورية جديدة منقادة لأوامره.
وأراد روبسپير أن يتخلص ممن لا يروقونه بسرعة فجعل المجلس يوافق على قانون شهر بريريال (الشهر التاسع من السنة الجمهورية) الذي يسمح بقتل الناس بالشبهات، والذي به قطع روبسپير في باريس وحدها 1373 رأسا في تسعة وأربعين يوما، وكف زملاؤه عن النوم في بيوتهم فرقا منه، وصار عدد من يحضر الجلسات من النواب لا يزيد على المئة.
وزيادة اعتماده على نفسه وعلى جبن أعضاء مجلس العهد أوجبت هلاكه، فلما أراد أن يحملهم على سن قانون يجوز سوق النواب إلى المحكمة الثورية ومنها إلى المقصلة من غير أن يأذن المجلس في ذلك ائتمر كثير من أعضاء حزب المونتانيار وحزب الپلين به ليسقطوه، فاتهمه تاليان، الذي أحس دنو أجله وأنه ليس لديه ما يخسره، بالبغي والطغيان، فأراد روبسپير أن يدافع عن نفسه فخنق صراخ المؤتمرين صوته فكفى لانتكاسه تكرير كثير من الأعضاء الحاضرين - بتأثير العدوى النفسية - كلمة «ليسقط الظالم»، وأمر المجلس باتهامه حالا.
ورأت الجمعية الثورية إنقاذه، ولكن مجلس العهد صرح بأنه لا يستحق حماية القانون، قال ويليم:
كان تأثير كلمة «عدم استحقاق حماية القانون» في الرجل الفرنسي كتأثير كلمة الوباء، فالذي كانت تقال فيه تلك الكلمة كان يحرم مدنيا ويعده الناس نجسا.
قطع رأس روبسپير في اليوم العاشر من شهر ترميدور (الشهر الحادي عشر من السنة الجمهورية)، وقطع معه رؤوس عصابته البالغ عددها 21 رجلا ومنهم سان جوست ورئيس المحكمة الثورية ورئيس البلدية، وقطع في غد ذلك اليوم رؤوس سبعين يعقوبيا، وقطع بعد يومين رؤوس 13 يعقوبيا، فانقضى بذلك دور الهول الذي دام عشرة أشهر.
وانهيار البنيان اليعقوبي في ذلك الشهر من الحوادث النفسية الغريبة التي وقعت أيام الثورة الفرنسية، ولم يخطر على قلب أحد من المونتانيار الذي أسقطوا روبسپير أن دور الهول سينتهي بسقوطه، نعم، قضى تاليان وباراس وفوشه وغيرهم على روبسپير كما قضوا سابقا على إيبرت ودانتون والجيرونديين وغيرهم، ولكنهم لما علموا أن الجماعة أرادت بهتافها لقتل روبسپير زوال دور الهول ساروا كأنهم يريدون ذلك، ثم إن حزب الپلين المؤلف من أكثرية المجلس والذي قتل روبسپير كثيرا من أعضائه ثار على ذلك الدور الذي هتف له زمنا طويلا على رغم مقته إياه، ولا أشد هولا ممن زال الخوف عنهم بعد استيلائه عليهم، فقد اضطهد حزب الپلين حزب المونتانيار وألقى في قلوب أعضائه الرعب انتقاما.
ولم يصدر تذلل زملاء روبسپير في مجلس العهد عن ميلهم إليه، ولكن هذا الحاكم المطلق أخافهم كثيرا، فكانوا يخفون حقدا شديدا خلف ما كانوا يظهرونه نحوه من الإعجاب والحماسة، ويظهر ذلك من مطالعة التقارير التي نشرها بعد قتله كثير من النواب في أعداد جريدة المونيتور الصادرة في 11 و15 و29 من أغسطس سنة 1794، فلم يشتم عبد سيده بعد سقوطه مثلما شتم روبسپير وعصابته في تلك التقارير، وقد جاء فيها: «أن أولئك الغيلان جددوا عهد مذابح ماريوس وسيلا»، وقد وصف روبسپير فيها بالعاتي الذي كان يبحث عن سلامة نفسه في قتل الناس بالشبهات، والذي كان لا يحجم عن أن يأمر - مثل كاليغولا - الشعب الفرنسي بأن يعبد حصانه لو وجد إلى ذلك سبيلا.
إلا أنه فات هذه التقارير أن تذكر أن سلطة روبسپير لم تستند إلى جيش قوي كسلطة ماريوس وسيلا التي أشير إليها؛ بل إلى سكوت مجلس العهد عنه، فلولا جبن أعضاء هذا المجلس ما استمرت سلطة روبسپير يوما واحدا.
حقا إن روبسپير من جبابرة التاريخ، ولكنه كان جبارا بلا جنود، ويمكن تلخيص مبادئه في أنه كان مشبعا، أكثر من كل إنسان، من العقيدة اليعقوبية على رغم منطقها الضيق وتصوفها الشديد، ولا نزال نرى مادحين له، فقد نعته مسيو هاميل بالشهيد، واقترح أن يقام له تمثال، وإني لأشترك في ثمنه مختارا؛ لأنني أعد الآثار الدالة على عمى الجماعات وعلى تذلل المجالس أمام زعيم يعرف كيف يقودها لا تخلو من فائدة، فسوف يذكرنا تمثال روبسپير بهتاف الإعجاب والحماسة الذي أتاه مجلس العهد نحو التدابير التي كان يهدده بها. (4) فوكيه تنفيل، دوما، بيوفارين، مارا
إن ذكرى النائب العام في المحكمة الثورية، فوكيه تنفيل، من أشد الذكريات شؤما، وقد أوردت غير مرة ذكر هذا النائب، الذي اشتهر في بدء الأمر بحلمه ثم أصبح سفاكا تشمئز منه النفوس، لأبين ما يطرأ على بعض الأخلاق من التحولات أيام الثورة، فقد كان فوكيه تنفيل أيام سقوط الملكية فقيرا منتظرا كل شيء من نشوب ثورة اجتماعية ليس عنده ما يخسره فيها، فلما جاء مجلس العهد قلده مقاليد أموره، فأصبح في يده مصير ألفي متهم، منهم الملكة ماري أنتوانيت والجيرونديون ودانتون وإيبرت وغيرهم، وكان يقصل رقاب جميع المتهمين المرفوعة أسماؤهم إليه، وعندما تزول سلطة أحد حماته السابقين، ككاميل ديمولان أو دانتون أو غيرهما، يطلب قتلهم من غير تردد.
ولم يكن شأن فوكيه تنفيل في الأوقات العادية أكبر من شأن قاض هادئ مجهول أمره، فمن حسنات المجتمع المنظم تقييده لأمثاله الذين لا يردعهم سوى الزواجر الاجتماعية.
قطع رأس فوكيه تنفيل وهو لا يعلم علة عقابه؛ لأنه لم يكن ما يسوغه من الوجهة الثورية، وهل فعل سوى تنفيذ أوامر رؤسائه بنشاط؟ لا يجوز تشبيهه بأولئك النواب الذين أرسلوا إلى الولايات ولم تكن مراقبتهم في الإمكان، فقد فحص مفوضو مجلس العهد جميع أعماله واستصوبوها حتى اليوم الأخير، ولو لم يشجعه رؤساؤه على قسوته وعلى طريقته السريعة في الحكم على السجناء ما استمرت سلطته، وبقضاء مجلس العهد على فوكيه تنفيل قضى على دوره الرهيب.
وبجانب فوكيه تنفيل نذكر دوما الذي أظهر قسوة عظيمة كانت تصدر عن خوفه الشديد، فقد كان دوما لا يخرج إلا مسلحا، وكان يمتنع عن مواجهة الناس، ولا يكلم الزائرين إلا من كوة، وكان يسيء الظن بالناس، ومنهم زوجته التي دفعه سوء ظنه بها إلى سجنها ثم إلى قتلها.
ومن الذين ظهروا في دور العهد واشتهروا بهمجيتهم نذكر بيوفارين الذي هو عنوان الوحشية الحيوانية. «فقد كان يظل في ساعات الغضب والضيق هادئا قائما بعمله الرهيب، وكان يحضر رسميا مذابح سجن الأبيئي ويهنئ الجزارين، ويجزل لهم الأجر، ثم يدخل بيته كأنه راجع من النزهة، وكان - وهو رئيس النادي اليعقوبي ورئيس مجلس العهد وعضو في لجنة السلام العامة - يجر الجيرونديين والملكة وسيده السابق دانتون إلى المقصلة، وقد استصوب ضرب مدينة ليون بالمدافع وإغراق مدينة نانت، وهو الذي رتب لجنة أورانج الظالمة، وكان يحرض فوكيه تنفيل على أعماله، وكثيرا ما كان يجيء اسمه على رأس مراسيم أحكام الموت التي كان يمضيها قبل زملائه غير راحم أو متأثر أو هائج، وكان يسير في طريقه عندما كان هؤلاء يترددون أو يتمهلون متفوها بكلمات ضخمة هازا ذؤابته كالأسد، ولما أحدق الخطر بروبسپير وسان جوست وكوتون تركهم وانضم إلى الحزب المعارض ليضرب رقابهم، ولكن لماذا؟ إن المرء ليحار في الجواب، وهو الذي لم يطمع بشيء ولم يبتغ مالا ولا سلطانا».
أظن أن الجواب ليس صعبا، فالعطش إلى القتل عند بعض المجرمين يوضح لنا سر سلوك بيوفارين، وأكثر المجرمين يقترفون القتل للقتل نفسه، وهم، كالصيادين، يصمون الصيد قضاء لما في نفوسهم من شهوة الإتلاف الغريزية، والخوف من الشرطي والمقصلة يردعهم، وهم المفطورون على تلك الغرائز السفاكة، عن اقتراف الجرائم في الأزمنة العادية، ولكنهم عندما يحل الوقت الذي يطلقون فيه أعنتهم يتأخرون عن الإجرام.
وأما نفسية مارا فأكثر غموضا، لا لأنه كان فيه - عدا ميله إلى القتل - عوامل أخرى كعزة نفسه المكلومة وطمعه وعقائده إلخ؛ بل لأنه كان ولوعا بالمراتب السنية ولعا بلغ حد الجنون، وكان متعصبا لبعض المبادئ تعصبا جاوز حد الجمود.
كان مارا ذا مزاعم علمية في الدور السابق، وكان يحلم فيه بالمناصب والمعالي، ولكن لم يعر أحد ترهاته أذنا صاغية، ولم ينل سوى وظيفة حقيرة عند أحد الأمراء الإقطاعيين، فلما اشتعلت الثورة الفرنسية أراد الانتقام من المجتمع السابق الذي كان يجحد فضائله فأصبح على رأس أشد الطغاة، وقد أنشأ - بعد أن مجد مذابح سپتمبر جهرا - جريدة وشى فيها بأناس كثيرين طالبا قتلهم، وهو، لو لم تقتله شارلوت كورداي بخنجرها، ما تفلت من ساطور المقصلة حتما. (5) مصير رجال العهد الذين ظلوا أحياء بعد انتهاء الثورة الفرنسية
وجد بجانب رجال العهد الذين كانت لهم نفسية خاصة رجال آخرون، كباراس وفوشيه وتاليان وميرلان دوتيونفيل، لم يكونوا من ذوي المعتقدات أو المبادئ، ولم يبالوا بغير الإثراء.
استطاع هؤلاء أن يستفيدوا من البؤس العام فجمعوا أموالا عظيمة، ولو فعلوا ذلك في الأزمنة العادية، لا في أيام الثورة التي لا يفرق فيها بين الفضيلة والرذيلة، لعدوا من اللصوص المجرمين، نعم، ظل القليل من اليعاقبة متعصبا لمذهبه، وأما أكثرهم فقد تركوه بعد أن اغتنوا وأصبحوا من بطانة ناپليون، ونذكر منهم كنباسيرس الذي كان يلقب لويس السادس عشر، وهو في السجن، ب (لويس كابي) فصار يطلب أيام ناپليون من جلسائه أن يلقبوه ب (صاحب السمو) وأن يخاطبوه ب (سيدنا)، وأمر مثل هذا يدلنا على مقدار الحسد الذي كان ينطوي تحت ميل كثير من اليعاقبة إلى المساواة، قال مسيو مادلن:
اغتنى أكثر اليعاقبة (مثل شابو وبازير ومرلن وباراس وبورسول وتاليان وبارير)، فصاروا أصحاب قصور وأطيان، ومن لم يغتن منهم في البداءة أثرى في النهاية، وقد وجد في لجنة السنة الثالثة وحدها رجال أصبح أحدهم في المستقبل أميرا، وصار ثلاثة عشر رجلا منهم من الكونتات، وخمسة رجال منهم من البارونات وسبعة رجال منهم أعضاء في مجلس الشيوخ الإمبراطوري وستة رجال منهم أعضاء في مجلس الشورى، ونعد بجانبهم خمسين ديموقراطيا كانوا أعضاء في مجلس العهد فصاروا في أقل من خمس عشرة سنة أرباب مخازن وعربات وأوقاف وفنادق وقصور، ومن هؤلاء الخمسين نذكر الدوك أورتان والكونت روينول، ولما مات فوشه كان ميراثه خمسة عشر مليونا.
وهكذا أعيدت امتيازات العهد السابق التي انتهكت حرمتها، ولكن لم يتم الوصول إلى هذه النتيجة إلا بتخريب فرنسة وإحراق ولايات بأسرها وقتل نفوس كثيرة وإيقاع كثير من الأسر في الغم الشديد وإقلاق أوربة وموت مئات الألوف من الناس في ميادين الحرب.
نختم هذا الفصل الذي بحثنا فيه عن نفسية كثير من زعماء الثورة الفرنسية بما يأتي:
إذا كان علم الأخلاق - وهو الباحث في القواعد التي يجب على المجتمعات أن تحترمها لتعيش - يقضي على علمائه أن يكونوا أشداء في أحكامهم على بعض الأشخاص، فإنه ليس في علم النفس ما يجعل علماءه أشداء مثلهم، فغاية علم النفس هي إدراك الأسباب، ولسرعان ما يزول النقد تجاه هذا الإدراك.
والروح البشرية آلة سريعة الانكسار؛ ولذلك قلما تستطيع الحوادث التي تمثل على مسرح التاريخ أن تقاوم القوى المحركة لها، وبما أن هذه القوى المهيمنة مؤلفة من الوراثة والبيئة والأحوال فإنه لا يستطيع أن يقول متيقنا ما يصبح سيره لو كان في مكان من يحاول أن يفسر أعمالهم من الرجال.
الباب الثالث
النزاع بين المؤثرات الوراثية والمبادئ الثورية
الفصل الأول
تقلص الفوضى - حكومة الديركتوار
(1) نفسية الديركتوار
كانت حكومة الديركتوار تتألف من ثلاثة مجالس، منها مجلسان اشتملا على كثير من النواب، وأما المجلس الثالث فقد كان صغيرا مؤلفا من خمسة مديرين، وكان المجلسان الكبيران يشبهان مجلس العهد بضعفهما، نعم، إنهما لم يسيرا مثله مع الفتن الشعبية التي قاومها مجلس المديرين بيد حديدية، ولكنهما كانا يذعنان لأوامر هؤلاء المديرين المطلقة إذعانا تاما.
ولما أعيا الاستبداد اليعقوبي جميع الناس رأى ذانك المجلسان الكبيران أن يعمرا فرنسة التي عمها الخراب وأن يقيما حكومة دستورية غير مستبدة، غير أن الأقدار الثورية التي كانت فوق عزيمة الرجال جعلت أعضاءهما - مع ما فيهم من صدق نية - يفعلون خلاف ما يريدون، فقد رجوا أن يكونوا معتدلين فظهروا بمظهر الأشداء، ورغبوا أن يقضوا على نفوذ اليعاقبة فاقتدوا بهم، وحلموا أن يصلحوا ما خرب فزادوه ضغثا على إبالة، وتمنوا أن يعم السلم الدينية فاضطهدوا الكهنة، وأعملوا السيف في رقابهم بأشد مما وقع أيام الهول.
وبعكس ذلك كانت نفسية المجلس الصغير المؤلف من خمسة مديرين، لقد كانت مواجهته للمصاعب اليومية تدفعه إلى حلها مع أن ذينك المجلسين النيابيين اقتصرا على إبداء الرغائب لبعدهما من الحقائق.
وكان المديرون - وهم الذين لم يكترثوا للمبادئ - يحبون أن يبقوا سادة، وكانوا يأتون، لهذا الغرض، أقسى الأعمال وأكثرها مخالفة للقانون، ولكنهم، وإن استطاعوا بظلمهم أن يتسلطوا على البلاد، لم يحسنوا سياستها، وحسن السياسة هو أشد ما كانت تحتاج إليه.
اشتهرت حكومة العهد في التاريخ بشدتها، وحكومة الديركتوار بضعفها مع أن من الثابت أن الثانية كانت أقوى من الأولى، ويتضح ما بين حكومة الديركتوار وحكومة المجالس السابقة من الفروق، ما يأتي:
من الممكن أن تشتد الحماسة في مجلس يضم ستمئة عضو أو سبعمئة عضو كما حدث في ليلة 4 من أغسطس، وأن تدفعه شدة العزيمة إلى شهر الحرب على الملوك كلهم، ولكن هذه الاندفاعات لا تكون قوية لعدم استمرارها، وأما المجلس المؤلف من خمسة أعضاء وبالمتغلب عليه أحد أعضائه فيكون ذا عزيمة مستمرة، أي ذا ثبات في سيره، ومن هذا النوع مجلس المديرين الخمسة الذي كان ذا إرادة قوية، فلم يبال بالقانون ولا بأبناء الوطن ولا بالمصلحة العامة، والذي أثقل كاهل فرنسة باستبداد لم تأت مثله حكومة ظهرت منذ بدء الثورة الفرنسية.
وحكومة الديركتوار كحكومة العهد، لم تستطع أن تكون سيدة فرنسة مع ما التجأت إليه من أساليب استبداديه، وهذا الأمر، الذي أشرنا إليه سابقا، يثبت لنا ما في الضغط المادي من العجز عن قهر القوى الأدبية الموروثة عن الأجداد، ويصعب أن يقال إننا عاطلون من مثل هذه القوى التي هي قوام المجتمع، فالمجتمع لا يقوم إلا ببعض الروادع، أي بالقوانين والعادات والتقاليد الوازعة لغرائز الإنسان الهمجية التي لا تزول منه زوالا تاما. (2) حكومة الديركتوار المستبدة، مظالمها
استأنف المديرون حروب الفتح؛ لتحويل الأنظار، وإلهاء الجند، ونهب الأموال من البلدان المجاورة، فاستغرقت هذه الحروب أيامهم كلها، وقد رجعت الجيوش منها، ولا سيما من إيطالية، ظافرة ذات مغانم كثيرة.
وظهر بعض سكان البلاد المفتتحة بمظهر الساذج البسيط فظنوا أن فرنسة لم تقم بالفتح إلا لمنفعتهم، ولكنهم لم يلبثوا أن رأوا أن الفتح أعقبته ضرائب ثقيلة ونهب للكنائس وسلب لبيوت المال، وأدت هذه السياسة إلى تحالف دولي جديد ضد فرنسة دام حتى سنة 1801.
قضى المديرون، الذين لم يبالوا بأمر البلاد، ولم يكونوا أهلا لتنظيمها، أوقاتهم في مكافحة المؤامرات واتخاذ الطرق التي يظلون بها قابضين على زمام السلطة، ولما اشتدت الفوضى وصار الناس يتطلبون يدا قوية قادرة على توطيد أركان النظام أحست الأمة - ومنها المديرون أنفسهم - أن النظام الجمهوري قرب أجله.
ورأى بعض الناس إعادة الملكية، ورأى غيرهم إعادة نظام الهول، ورأي آخرون تفويض الأمر إلى قائد، ولم يخش تبديل النظام سوى المستولين على الأموال الوطنية.
أخذ استياء الشعب من حكومة الديركتوار يزيد، ولما جدد انتخاب ثلث المجلس النيابي في شهر مارس سنة 1797 خرج أكثر النواب الجدد من المعارضين لها، فأقلق ذلك المديرين؛ فأبطلوا انتخابات تسع وأربعين مديرية، وطردوا من النواب الجدد بعد نقض انتخابهم 154 نائبا، وحكموا على 53 منهم بالنفي، ومن بين هؤلاء المنفيين أشهر رجال الثورة الفرنسية كبورتاليس وكارنو وترونسون وكودراي.
وحكمت بعض المجالس الحربية - من غير روية - على 160 رجلا بالقتل، ونفت 230 رجلا إلى الكويان فمات نصفهم في وقت قصير، ولم تلبث أن طردت المهاجرين والكهنة الذين عادوا إلى فرنسة، ولم يكتف المديرون بهذا الاستبداد الذي دهش منه المعتدلون، بل أتوا بعده عملا آخر، وهو أنهم لما رأوا زيادة عدد نواب اليعاقبة في الانتخابات الجديدة نقضوا انتخاب ستين عضوا يعقوبيا.
وما تقدم يدلنا على مزاج أعضاء حكومة الديركتوار الاستبدادي، ويظهر هذا المزاج بأجلى من ذلك عند الاطلاع على تفاصيل تدابيرهم:
لم يكن هؤلاء السادة في حبهم سفك الدماء أقل من وحوش دور الهول، وهم، وإن لم ينصبوا المقصلة نصبا مستمرا مثلهم، استبدلوا بها نفيا قل أن يبقى من يكون عرضة له على قيد الحياة، فكان المنفيون يساقون إلى روشفور في أقفاص من حديد معرضين لتقلبات الجو ثم يكدسون في السفن.
ولما اطلع المديرون على النهضة الكاثوليكية، وخيل إليهم أن الكهنة يأتمرون بهم نفوا في سنة واحدة 1448 قسيسا، وقتلوا عددا كبيرا منهم رميا بالرصاص؛ فأحيوا بذلك دور الهول.
وقد أصاب ظلم حكومة الديركتوار فروع الإدارة، ولا سيما المالية، فلما احتاجت هذه الحكومة إلى ستمئة مليون فرنك حملت النواب على الموافقة على ضريبة زائدة لم ترجع عليها إلا باثني عشر مليون فرنك، ثم أعادة الكرة فأمرت بعقد قرض إجباري قدره مئة مليون فرنك، فنشأ عن ذلك إغلاق المصانع ووقف الأشغال وتسريح العمال، ولم تنل من هذا القرض، الذي أثقل كاهل الناس، سوى أربعين مليون فرنك، ثم جعلت المجلس يوافق على قانون الرهائن الذي يأمر باعتبار بعض الرجال في كل كورة مسؤولين عما يقع فيها من الجرائم.
ولا يخفى ما ينشأ عن مثل ذلك النظام من الغيظ والأحقاد، ففي سنة 1799 رفعت أربع عشرة مديرية راية العصيان، واستعدت ست وأربعون مديرية للتمرد، ولو طال عمر حكومة الديركتوار لانفرط عقد المجتمع الفرنسي انفراطا تاما.
وهكذا تدرجت فرنسة إلى الانحلال، فتداعت فيها أركان الإدارة والمالية، وأصبح دخل بيت مالها تافها، وصار ضباطها ودائنوها لا يصلون إلى حقوقهم.
وكان منظر فرنسة، عند السائحين في ذلك الحين، منظر بلاد خربتها الحرب وهجرها سكانها، وكان الجولان فيها متعذرا؛ لكثرة ما انهار من جسورها وأبنيتها، وأصبح اللصوص يقطعون طرقها المقفرة فصار جوب مديرياتها لا يخلو من خطر إلا باشتراء تذاكر السلامة من رؤسائهم، وعم الخراب الصناعة والتجارة أيضا؛ فأغلقت في ليون وحدها أبواب 13000 مصنع من 15000 مصنع، وأضحت ليل وهاڤر وبوردو ومرسيلية مدنا مقفرة، ولم يخل مكان في فرنسة من البؤس والجوع.
ولم يكن فساد الأخلاق في فرنسة أقل من ذلك، فكان حب النفائس والترف والولائم والزينة والرياش سمة المجتمع الفرنسي الجديد المؤلف من الفلاحين وملتزمي الميرة والماليين الذين اغتنوا من النهب والسلب، وخدعت مظاهر الترف في باريس كثيرا من المؤرخين فنسوا أن البؤس والترف سارا في ذلك الدور معا.
توضح قصة الديركتوار لنا قلة ما في كتب التاريخ من الصحة، وها هي ذي دار التمثيل تحيي ذكرى ذلك العهد الذي لا يزال الناس يقلدون أزياءه؛ لاعتقادهم أن الحياة رجعت فيه إلى كل شيء بعد أن انتزعت في دور الهول، والواقع أن نظام الديركتوار لم يكن أصلح من نظام الهول، فكلاهما أدى إلى سفك الدماء، وكانت عاقبة نظام الديركتوار أن ألقى في النفوس غيظا ساق المديرين إلى البحث عن سيد مطلق قادر على الحلول في مكانهم وعلى حمايتهم. (3) ارتقاء بوناپارت
ظهر مما تقدم أن أمر الفوضى والانحلال استفحل في آخر عهد الديركتوار حتى صار الناس ينتظرون ظهور رجل قادر على إعادة النظام، وفكر كثير من النواب، منذ سنة 1795، في إعادة الملكية، إلا أن تصريح لويس الثامن عشر الذي قال فيه إنه سيعيد النظام القديم بأجمعه، وسيرد الأملاك إلى أصحابها السابقين، وسيجازي أنصار الثورة الفرنسية، حول الأنظار عنه.
وبحث الناس عن قائد بعد أن تعذر إرجاع الملكية، فوجدوا بوناپارت، وقد اشتهر بوناپارت في معارك إيطالية، فبعد أن جاوز جبال الألب، ودخل ميلان والبندقية ظافرا، وجمع غنائم عظيمة زحف على ڤينة، ولما أصبح على بعد خمسة وعشرين فرسخا منها طلب إمبراطور النمسة منه الصلح.
ولم يكتف هذا الشاب بما ناله من شهرة فطمع في زيادته، فأقنع حكومة الديركتوار بأن الاستيلاء على مصر يخضد شوكة إنكلترة؛ فأبحر من طولون إلى مصر في شهر مايو سنة 1798، ولم تطل إقامة بوناپارت في مصر، فقد رجع إلى فرنسة حين استدعاه أصدقاؤه، وعم الابتهاج أنحاء فرنسة عندما بلغ الناس خبر عودته.
وقد ساعدته فرنسة على إتمام المؤامرة التي دبرها سيابس ومديران وبعض الوزراء؛ لإسقاط مجلس النواب، ونشأ فرح كبير عن تخلص فرنسة من ربقة العصابات المشؤومة التي قهرت البلاد منذ زمن بعيد، نعم، عانت فرنسة بعد ذلك نظاما استبداديا، ولكنه لم يكن شديد الوطأة كالنظام السابق.
ويؤيد تاريخ إسقاط مجلس النواب هذا ما قلناه في مكان آخر عن صعوبة الحكم الصحيح في الحوادث المعلومة التي شاهد وقوعها أناس كثيرون، فقد كان الناس منذ ثلاثين سنة يعدون ذلك الإسقاط جناية أوجب اقترافها طمع رجل يعضده الجيش، مع أن الواقع أن الجماعة التي طردت من عاند من النواب لم تكن من الجند، بل من حرس المجلس الذي فعل ما أمرته به الحكومة المستعينة بفرنسة. (4) علل استمرار الثورة الفرنسية طويلا
لو اقتصر دوام الثورة الفرنسية على الوقت اللازم لنيل ما سعت إليه من المبادئ، كالمساواة أمام القانون والسلطة الشعبية ومراقبة النفقات، لم يزد وقتها على بضعة أشهر؛ لأن هذا حصل سنة 1789 ولم يضف إليه مبدأ آخر، والواقع أن الثورة الفرنسية استمرت طويلا، فإذا نظرنا إلى المدة التي عينها المؤرخون الرسميون رأينا أنها انتهت يوم ارتقاء بوناپارت، أي بعد انقضاء عشر سنين .
ولماذا دام دور الهرج والاضطهاد أكثر من الزمن الضروري لإقامة المبادئ الجديدة؟ يجب ألا يبحث عن ذلك في الحروب مع الدول الأجنبية، وقد كانت هذه الحروب تنتهي بسرعة؛ لانقسام الحلفاء وانتصار فرنسة عليها، كما أنه يجب ألا يبحث عنها في محبة أبناء فرنسة للحكومة الثورية، ولم يوجد نظام مقته الناس وكرهوه مثل نظام المجالس، وأعرب فريق كبير من الأمة عن سخطه عليه بما قام به من العصيان، وأتى به من انتخابات كثيرة مخالفة له.
أوضح المتأخرون من المؤرخين كره فرنسة للنظام الثوري بعد أن ظل أمر هذا الكره مجهولا زمنا طويلا، وقد لخصت آراؤهم في العبارة الآتية التي نقتطفها من مؤلف جديد لمسيو مادلن بحث فيه عن الثورة الفرنسية:
قبضت على زمام فرنسة والجمهورية فئة قليلة مكروهة فصارت ثلاثة أرباع البلاد ترجو أن تنتهي الثورة أو أن تنقذ من أيدي هذه الفئة المكروهة التي بقيت مدة طويلة على رأس الأمة التعسة بما تذرعت به من ألوف الحيل والوسائل، ولما أصبح بقاؤها حاكمة لا يتم إلا بالإرهاب أخذت تقضي على من كانت تظن أنه مخالف لها ولو كان من أشد خدم الثورة الفرنسية إخلاصا.
واليعاقبة هم الذين قاموا بالحكم حتى أواخر عهد الديركتوار، وقد كانت غايتهم، في نهاية الأمر، أن يحافظوا - مع السلطة - على ما جمعوه من المال عن طريق النهب وسفك الدماء، والذي جعلهم يفاوضون ناپليون على إسقاط مجلس النواب هو إقراره إياهم على تلك الغاية التي لم يعترف لويس الثامن عشر لهم بها.
ولكن كيف استطاعت حكومة شديدة الاستبداد ثقيلة الوطأة، مثل تلك الحكومة، أن تبقى سنين كثيرة؟ لم يتم لها هذا البقاء بتأثير الديانة الثورية في النفوس وإلزام الناس ذلك الحكم ظلما وعدوانا فقط، بل تم لها البقاء أيضا لانتفاع جزء غير يسير من الشعب بذلك الاستمرار، فبعد أن جردت تلك الثورة الملك والأشراف والإكليروس من سلطتهم منحت أبناء الطبقة الوسطى والفلاحين ما كانت الطبقات الممتازة السابقة مستولية عليه من الوظائف والأموال، وجعلتهم بذلك من أعظم أنصارها، وصار هؤلاء يخشون استرجاعها منهم إذا أعيدت الملكية.
لهذه الأسباب استطاعت تلك الحكومة أن تدوم إلى أن ظهر قائد قادر على إرجاع النظام وعدها بإقرار ما نشأ عن الثورة الفرنسية من المكاسب الأدبية والمادية.
استقبل بوناپارت الذي حقق هذه الأماني بحماسة، وأقر تلك المكاسب المادية والأدبية في نظم وقوانين، ولذلك أخطأ من قال إن الثورة الفرنسية انتهت بارتقاء بوناپارت، فهو لم يقض عيها، بل وطد أمرها.
الفصل الثاني
إعادة النظام - الجمهورية القنصلية
(1) كيف أقرت القنصلية أمر الثورة الفرنسية
أثبت لنا تاريخ القنصلية أن عمل الفرد القوي أفضل من عمل الجماعات، فقد أحل بوناپارت النظام محل الفوضى الدامية التي سادت الجمهورية منذ عشر سنين، وأنجز وحده في وقت قصير ما لم تستطع إنجازه مجالس الثورة الفرنسية الأربعة مع ما أتت به من استبداد واضطهاد.
ولم يلبث بوناپارت أن قضى بعزمه على الفتن الباريسية وعلى كل تدبير يؤدي إلى إعادة الملكية، فأعاد إلى فرنسة التي فرقتها الأحقاد والضغائن وحدتها الأدبية، وأقام استبدادا فرديا منظما مقام استبداد الجماعات المشوش، وكانت وطأة هذا الاستبداد الفردي أخف من وطأة الاستبداد السابق؛ فربح الناس من ذلك، واستوجب عطفهم.
ولا نجاري المؤرخين السابقين في القول إن بوناپارت قوض أركان الجمهورية، فقد أبقى بوناپارت منها ما يمكن بقاؤه، وقرر في الأنظمة والقوانين أهم المبادئ الثورية كإلغاء الامتيازات والمساواة أمام القانون.
ويحتمل أنه لولا القنصلية لقامت مقام حكومة الديركتوار حكومة مليكة ومحت أكثر مبادئ الثورة الفرنسية، فلنفرض أن بوناپارت لم يمثل دورا تاريخيا فإن مؤامرة ملكية كانت تقلب حكومة الديركتوار التي كان يمقتها الناس فاسحة في المجال للويس الثامن عشر، نعم، جلس لويس الثامن عشر على العرش بعد ست عشرة سنة من هذا التاريخ، ولكن ناپليون كان قد منح - في تلك الأثناء - المبادئ الثورية قوة عظيمة جعلت ذلك الملك العائد لا يجرؤ على مسها ولا على إعادة أموال المهاجرين.
ولو كان لويس الثامن عشر قد قبض على زمام الدولة عند سقوط حكومة الديركتوار لكان الأمر عكس ذلك؛ إذ كان يعيد معه استبداد العهد السابق، ويجعل الناس يقومون بثورات جديدة للقضاء عليه، وليس إسقاط شارل العاشر لسعيه لإعادة النظام السابق بأمر مجهول.
ومن البساطة أن يغضب المرء من استبداد بوناپارت، فقد تحمل الناس أنواع الاستبداد في العهد الذي جاء قبل عهده، وفرضت حكومة الديركتوار عليهم استبدادا أشد وأقسى، ولم يكن الاستبداد وقتئذ سوى أمر عادي لا يحتج عليه إلا إذا قام مع الفوضى، فلما عمت الفوضى أنحاء البلاد بحث الناس عن سيد قادر على إخمادها، فكان بوناپارت ذلك السيد. (2) تنظيم فرنسة في العهد القنصلي
كان كل شيء محتاجا إلى الإصلاح والتجديد حينما قبض بوناپارت على زمام الدولة، فسن ناپليون - بعد سقوط مجلس النواب - دستورا يخوله سلطة كافية لتنظيم البلاد والوظائف، وظل هذا الدستور، الذي اسمه دستور السنة الثامنة، معمولا به حتى آخر أيام ناپليون، ونص على إقامة سلطة تنفيذية يقوم بأمورها ثلاثة قناصل على أن يكون رأي اثنين منهم استشاريا ورأي القنصل الأول - أي بوناپارت - نافذا، ومنح هذا الدستور بوناپارت حق تعيين الوزراء وأعضاء مجلس الشورى والسفراء والقضاة والموظفين، وحق البت في أمر الحرب والسلم، وأناط به السلطة الاشتراعية؛ لحصره في يده أمر اقترح القوانين أمام المجالس الثلاثة، أي مجلس الشورى ومجلس التريبونا والمجلس الاشتراعي، ولم يمنح مجلس الشيوخ سوى واجب المحافظة على الدستور.
وكان بوناپارت - مع استبداده - يستشير قبل أن يجزم في الأمر، ولا يمضي مرسوما قبل أن يباحث فيه مجلس الشورى الذي هو رئيسه، وكان هذا المجلس المؤلف من العلماء يهيئ القوانين ثم يعرضها على المجلس الاشتراعي؛ ليبدي رأيه فيها بحرية تامة، وقد وثق ناپليون بهذا المجلس وثوقا تاما؛ لاشتماله على فقهاء أفاضل لا ينطقون بشيء إلا عن علم.
وأراد بوناپارت أن يحكم في الأمة من غير أن يستعين بها، ولذلك لم يجعل لها نصيبا في الحكم إلا مرة واحدة، أي حين عرض عليها الدستور الجديد ليستفتيها فيه، ولم يرجع إلى الانتخاب العام إلا في أحوال نادرة.
ونظم القنصل الأول - في أثناء سن الدستور الذي عزز فيه مركزه - أمور الإدارة والمالية والقضاء فربط جميع سلطات الدولة بباريس، ثم جعل على رأس كل ولاية واليا ومجلسا عاما مساعدا لهذا الوالي، وعلى رأس كل لواء مديرا ومجلسا إداريا مساعدا لهذا المدير، وعلى رأس كل كورة معتمدا ومجلسا بلديا إداريا مساعدا لهذا المعتمد، وجعل أمر تعيينهم كلهم من حقوق وزرائه، لا من حقوق الشعب.
ولا يزال هذا النظام المركزي باقيا، فالمركزية - مع ما فيها من محاذير - هي الطريقة الوحيدة التي يجتنب بها الاستبداد المحلي في بلاد منقسمة كفرنسة، وأوجب ذلك النظام الصادر عن اطلاع تام على النفسية الفرنسية راحة وطمأنينة لم يكن للبلاد عهد بهما منذ زمن طويل.
وألغيت أحكام الموت، وأعيدت الكنائس إلى المؤمنين، ثم شرع بوناپارت في وضع قانون مدني مستنبط أكثره من عادات العهد السابق، فوفق فيه - كما قيل - بين الشرع الحديث والشرع القديم.
وما أتى به القنصل الأول من العمل الجليل في وقت قصير يدلنا على سر سعيه، في بدء الأمر، إلى وضع دستور يخوله سلطانا مطلقا، ولو عهد في إنجاز ما أصلح به بوناپارت فرنسة من الأعمال إلى مجالس مؤلفة من المحامين ما تخلصت من الفوضى. (3) العوامل النفسية التي أوجبت نجاح القنصلية
لا تلبث العوامل الخارجية المؤثرة في الإنسان - كالعوامل الاقتصادية والتاريخية والجغرافية - أن تتحول إلى عوامل نفسية، ومن يرغب في الحكم فعليه أن يعلمها، وقد جهلتها المجالس الثورية واطلع عليها بوناپارت.
كانت المجالس - ولا سيما مجلس العهد - مؤلفة من أحزاب متطاحنة فأدرك ناپليون أن تغلبه عليها يتطلب ألا ينتسب إلى أحد منها، وهو لعلمه أن قيمة الأمة بما في أحزابها من ذوي العقول السامية سعى في الانتفاع بها كلها، فعين الوزراء والولاة والقضاة من حزب الأحرار والحزب الملكي والحزب اليعقوبي ناظرا إلى أهليتهم وحدها.
ومع أنه لم يرفض مساعدة رجال الدور السابق كان يعرب عن ميله إلى المحافظة على مبادئ الثورة الفرنسية، وهذا لم يمنع الملكيين من الانضمام إلى نظامه الجديد.
وإعادة السلم الدينية من أهم الأعمال التي قامت بها القنصلية، فقد كان انقسام فرنسة من أجل الدين أشد من انقسامها السياسي، وقد شعر بوناپارت بأن أمر طمأنينة النفوس في يد البابا فلم يتأخر ساعة عن مفاوضته، ونعد المعاهدة التي عقدها بوناپارت مع البابا من الأعمال النفسية العظيمة الشأن؛ فالقوى الأدبية لا تقاتل بالعنف، وتؤدي مكافحتها إلى أخطار كبيرة، وقد علم ناپوليون بمداراته الكهنة كيف يملكهم، وهو بجعله أمر تعيينهم وعزلهم من حقوقه ظل سيدهم.
وما لقيه القنصل الأول بوناپارت من المصاعب في العهد القنصلي كان أشد مما لقيه بعد تتويجه، فكان عليه أن يطارد اللصوص الذين ظلوا مثابرين على قطع الطرق، وأن يقضي على العصابات التي كانت تخرب فرنسة الجنوبية، وأن يداري تاليران وفوشه وقوادا آخرين كانوا يحسبون أنفسهم من أمثاله، وقد ذلل ناپليون هذه العقبات قبل جلوسه على العرش.
مضى العهد الذي سخط فيه المؤرخون العمي والشعراء على إسقاط مجلس النواب، وقد بينا أن الحكومة لم تأتمر بهذا المجلس وحدها، بل ائتمرت به فرنسة التي حررها ذلك الإسقاط من الفوضى، وهنا نسأل: لماذا أتى أذكياء العلماء أحكاما غير صحيحة في دور تاريخي واضح مثل ذلك الدور؟ لا ريب في أن علة ذلك هو نظرهم إلى الحوادث من خلال عقائدهم، وإذ إن الحقيقة تتبدل في نفوس المعتقدين فإن أكثر الأمور وضوحا غابت عنهم، ولم يكن تاريخ الحوادث سوى ما أملاه الخيال عليهم.
ولا يستطيع العالم النفسي أن يطلع على سر ذلك الدور الذي وصفناه بإيجاز إلا إذا تحرر من قيود العواطف الحزبية،،حينئذ لا يلوم ماضيا نشأ عن مقتضيات الزمن المهيمنة، وهذا لا يمنعنا من القول إن ناپليون حمل فرنسة عبئا ثقيلا لانتهاء قصته بغارتين أغارهما الأجنبي عليها، ولغارة ثالثة نشأت عن ارتقاء وارث اسمه إلى العرش ولا نزال نقاسي نتائجها.
ولتلك الحوادث ارتباط بمصادرها، وهي تدل على ما ينشأ عن تبديل مثل الأمة الأعلى من النتائج، فالإنسان لا يقدر على الانفصال بغتة عن ماضيه إلا بتخريب مجرى تاريخه تخريبا تاما.
الفصل الثالث
النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ
الثورية
(1) الأسباب النفسية التي أدت إلى استمرار الحركات الثورية في فرنسة
سنرى في بحثنا الآتي عن نشوء المبادئ الثورية منذ قرن أن هذه المبادئ انتشرت بين طبقات الأمة شيئا فشيئا في خمسين سنة، وقد رفضت أكثرية الشعب والطبقة الوسطى هذه المبادئ طول تلك المدة، ولم يقم بأمر إذاعتها غير عدد قليل من الدعاة، إلا أن ما لها من نفوذ، وما ارتكبته الحكومات من خطأ، كفى لإيقاد ثورات كثيرة سوف نلخصها بعد أن نبحث عن عللها النفسية.
يثبت تاريخ ما وقع منذ قرن من الانقلابات السياسية أن الناس محكومون بنفسيتهم أكثر مما بالأنظمة التي تفرض عليهم، فالثورات الكثيرة التي حدثت في فرنسة هي نتيجة نزاع بين حزبي الأمة ذوي النفسيتين المتباينتين اللتين إحداهما دينية ملكية تابعة لمؤثرات وراثية، وثانيتهما ذات صبغة ثورية تابعة لهذه المؤثرات أيضا، وقد ظهر النزاع منذ بدء الثورة الفرنسية بين تينك النفسيتين المتباينتين ظهورا واضحا، واستمرت الفتن والمؤامرات حتى نهاية دور الديركتوار على رغم ما أتى من الاضطهاد كما بينا سابقا فثارت ستون مديرية على النظام الجديد ولم تخمد جذوة الثورة إلا بمذابح كبيرة.
والتوفيق بين النظام السابق والمبادئ الجديدة هو أشد ما عانى بوناپارت حله من المشاكل، فكان يبحث عن أنظمة ملائمة للنفسيتين الفاصلتين لفرنسة، وقد نجح بذلك؛ لالتزامه جانب التوفيق، ولتسميته أمورا قديمة بأسماء جديدة.
ويعد دور ناپليون من أدوارنا التاريخية النادرة التي كملت فيها وحدة فرنسة النفسية، ولكن هذه الوحدة لم تستمر بعد سقوطه، فالأحزاب السابقة لم تلبث أن ظهرت ثانية ولا تزال باقية حتى اليوم، وبعضها متمسك بأهداب التقاليد وبعضها الآخر رافض لها.
ولو وقع ذلك الصراع بين معتقدين وأخلياء لم يدم طويلا لتسامح الأخلياء، ولكن حدوثه بين معتقدات متباينة أوجب استمراره، فالكنيسة الزمنية لم تلبث أن لبست ثوبا دينيا، وأصبح مذهبها العقلي نوعا من الكهنوتية الضيقة، وقد حققنا أن التوفيق بين المعتقدات المتباينة أمر مستحيل، فلم يظهر الكهنة يوم كان الحكم في يدهم بمظهر التسامح مع الأحرار، كما أن هؤلاء لم يبدوا أقل تساهل مع أولئك بعد أن قبضوا على زمام الأمور.
وظن كثير من ذوي النفوس البسيطة أن السنة الأولى للجمهورية هي مبدأ تاريخ فرنسة الحديثة، غير أن هذا الفكر الصبياني أخذ يتضاءل في هذه الأيام، فأشد الثوريين تمسكا يعدلون عنه في الوقت الحاضر معترفين بأن تأثير الماضي هو خلاف تأثير ذلك الدور الهمجي المظلم الذي استحوذت عليه الأباطيل.
وقد سهل تباغض المعتقدين في كل حزب قلب الحكومات والوزارات عندنا، ولا تأبى أحزابنا التي تبقى أقلية في مجلس النواب أن تتحالف ضد الحزب الغالب، فمن الأمور المعلومة أن عددا كبيرا من الاشتراكيين الثوريين في مجلس نوابنا الحاضر لم ينتخبوا إلا بمعونة الملكيين الذين ليسوا بأوسع حيلة من الملكيين أيام الثورة الفرنسية الكبرى.
ولم تكن اختلافاتنا الدينية والسياسية وحدها سبب ما هو واقع في فرنسة من الشقاق؛ بل كان لها سبب آخر، وهو اتصاف بعض رجال فرنسة بالنفسية الثورية التي من شأنها القيام في وجه أي نظام واقع ولو كان هذا النظام محققا لآمالهم.
ويزيد ما عند أحزاب فرنسة من عدم التسامح ومن حب القبض على زمام الحكم اعتقادها أن القوانين تجدد المجتمعات، فالجماعات الفرنسية تعتبر الحكومة ذات قدرة لاهوتية مثل القدرة التي تقمصها الملوك في العهد السابق، ولم يكن الشعب وحده واثقا بما عند الحكومة من السلطان العظيم، بل نرى عند مشترعينا نظير تلك الثقة.
ولم يفقه رجال السياسة عندنا حتى الآن أن الأنظمة معلولات، لا علل، وأنه لا قوة ذاتية لها، فهم إذ كانوا وارثين لذلك الوهم الثوري لا يرون أن الإنسان ابن ماض لا نقدر على تجديد قواعده أبدا.
ولا ريب في أن الصراع بين المبادئ التي فرقت فرنسة منذ قرن سيستمر، ولا يقدر أحد على كشف ما قد يولده من الانقلابات، ولو علم أهل أثينة قبل الميلاد أن افتراقهم يؤدي إلى استعباد بلاد اليونان ما أتوا به، ولكن كيف كان يمكنهم كشف ذلك؟ قال مسيو غيرو:
قلما يبالي الناس بما يعملون، فالناس، وإن كانوا يهيئون المستقبل بعملهم، لا يكون المستقبل في الغالب إلا خلاف ما يريدون. (2) خلاصة الحركات الثورية التي وقعت في فرنسة منذ قرن
أوضحنا ما للحركات الثورية التي وقعت في فرنسة منذ قرن من العلل النفسية، والآن نلخص تاريخ تلك الثورات:
قهر الملوك ناپليون فردوا فرنسة إلى حدودها السابقة، وأجلسوا لويس الثامن عشر على العرش، فنشر هذا الملك الجديد مرسوما قال فيه إنه يرضى أن يكون ملكا دستوريا، وأن يكون نظام البلاد نيابيا، ثم اعترف بنتائج الثورة الفرنسية من قانون مدني ومساواة أمام القانون وحرية العبادة وعدم استردد الأموال الوطنية ... إلخ، إلا أنه حصر حق الانتخاب في الذين يدفعون ضريبة معينة.
فناهض الملكيون المتطرفون في مجلس النواب هذا الدستور الحر، وأرادوا إعادة الأموال الوطنية والامتيازات السابقة إلى أصحابها، ولكن لما شعر لويس الثامن عشر بأن تنفيذ هذا العمل الرجعي يشعل ثورة جديدة اكتفى بفض مجلس النواب، وأدت الانتخابات الجديدة إلى اختيار نواب معتدلين فاستطاع الملك أن يثابر على الحكم بتلك المبادئ عالما أن إعادة سكان فرنسة إلى مبادئ العهد السابق مما يدفعهم إلى العصيان.
ومن دواعي الأسف أن تبوأ شارل العاشر العرش بعد وفاة لويس الثامن عشر سنة 1824، فقد كان هذا الملك السخيف، العاجز عن إدراك ما طرأ على العالم من التبدل، فخورا بعدم تغيير أفكاره منذ سنة 1789، فأعد سلسلة من القوانين الرجعية القائلة بتعويض المهاجرين مليار فرنك، وإعادة حقوق البكرية، وامتياز الإكليروس ... إلخ، فعارضت أكثرية النواب ذلك، فوضع الملك سنة 1830 مراسيم حل فيها مجلس النواب، وألغى حرية الصحافة، وهيأ أمر الرجوع إلى نظام العهد السابق، فأوجب هذا الاستبداد تحالف الأحزاب، فأنفق الجمهوريون والبوناپارتيون والملكيون الأحرار على إيقاد نار الفتنة في باريس، ولم تمض أربعة أيام على نشر تلك المراسيم حتى استولى العصاة على العاصمة وفر شارل العاشر قاصدا إنكلترة، ثم دعا زعماء الفتنة، كتيار وكازيمير پريه ولافايت، لويس فيليپ، الذي كان الشعب لا يعلم عنه شيئا، إلى باريس ونصبوه ملكا للفرنسيين.
وقد استند لويس فيليب في توطيد دعائم ملكه إلى الطبقة الوسطى، فوضع قانونا خفض فيه عدد الناخبين إلى مئتي ألف، فأوجب هذا انتخاب نواب من تلك الطبقة موالين للحكومة الجديدة.
وغدا لويس فيليب في موقف حرج؛ إذ كان عليه أن يقاوم في آن واحد أنصار هنري الخامس (حفيد شارل العاشر) والبوناپارتيين الذين اعترفوا بلويس ناپليون رئيسا والجمهوريين، وقد أحدث هؤلاء كلهم، (من سنة 1830 حتى 1840)، بما لهم من الجمعيات السرية المشابهة لأندية الثورة الفرنسية، فتنا كثيرة، وإن سهل قمعها جميعا، ولم ينصرف أنصار هنري الخامس والكهنة عن دسائسهم قط، وقد حاولت والدته إيقاد نار الثورة في مقاطعة ڤانده، فلم تنجح، وصارت مطاليب الإكليروس من التشدد بحيث نشأ عنها عصيان خربت في أثنائه أسقفية باريس.
ولم يكن الجمهوريون حزبا شديد الخطر لاتفاق مجلس النواب والملك على مناهضتهم، وقد صرح الوزير غيزو بأن الحكم يحتاج إلى أمرين: «العقل والمدفع»، ولا شك في أن شيئا من الوهم تطرق إلى هذا السياسي الشهير الذي نسب إلى العقل ما للمدفع من تأثير.
ولم يعدل الجمهوريون والاشتراكيون عن الحركة، فقد سعى أحد زعماء الاشتراكيين (لويس بلان) إلى حمل الحكومة على إيجاد أعمال لأبناء الوطن كلهم، وفي سنة 1848 حدثت أزمة إصلاح الانتخابات فنشأت عنها فتنة جديدة أوجبت سقوط لويس فيليب بغتة.
والعلل التي سوغت خلع لويس فيليب أقل أهمية من العلل التي نشأ عنها خلع شارل العاشر، فإذا قلت إن لويس فيليب كان سيئ الظن بالانتخاب العام قلنا لك إن حكومات الثورة الفرنسية أساءت الظن به مرات كثيرة، ونضيف إلى هذا قولنا إن حكومة لويس فيليب لم تكن مطلقة كحكومة الديركتوار وغيرها.
قامت في دائرة البلدية حكومة مؤقتة لتدير دفة الأمور، فأعلنت الجمهورية، وقررت الانتخاب العام، وأمرت بأن ينتخب الشعب جمعية وطنية مؤلفة من تسع مئة عضو، وقد صارت هذه الحكومة، منذ البداءة، هدفا للدعاية الاشتراكية ولفتن كثيرة، فوقعت أمور نفسية كالتي حدثت أيام الثورة الفرنسية الكبرى، أي قامت أندية جديدة، فكان زعماء هذه الأندية يسوقون الشعب إلى الجمعية الوطنية من وقت إلى آخر لأسباب يرفضها العقل الرشيد، كإكراه الحكومة على معاضدة عصيان اشتعل في بولونية.
وأنشأت تلك الجمعية مصانع وطنية؛ ليقوم فيها العمال بشتى الأعمال، وذلك إرضاء للاشتراكيين الذين كانوا يقترحون كل يوم اقتراحا جديدا، وكان يشتغل في هذه المصانع مئة ألف عامل، وكانت الحكومة تنفق عليهم مليون فرنك كل يوم، ولكن هؤلاء العمال لما طلبوا أن يعطوا رواتب من غير أن يأتوا عملا قررت تلك الجمعية إغلاق ما أسسته من المصانع.
ونشأ عن ذلك القرار عصيان هائل، فقد رفع خمسون ألف عامل راية العصيان، واستولى الفزع على الجمعية الوطنية، فعهدت في السلطة التنفيذية إلى الجنرال كاڤينياك، فقتل في المعركة التي وقعت بين الحكومة والعصاة ثلاثة قواد ومطران باريس، ثم أمرت تلك الجمعية بنفي ثلاثة آلاف سجين إلى بلاد الجزائر.
ولم يلبث الفلاحون، الذين ظنوا أن خطر الاشتراكية والطبقة الوسطى محدق بهم، أن انقلبوا على النظام الجمهوري، لكن لما وعدهم لويس ناپليون بإعادة النظام استقبلوه بحماسة، فرشح نفسه لرآسة الجمهورية، فانتخبه لها خمسة ملايين ونصف مليون ناخب.
ولسرعان ما وقع الخلاف بين الجمعية الوطنية ولويس ناپليون، ففض هذا الأخير تلك الجمعية وقبض على ثلاثين ألف رجل ونفى عشرة آلاف رجل وطرد من البلاد مئة نائب، وقد رضيت الأمة بذلك عندما استفتيت فيه، فاستحسنه سبعة ملايين ونصف مليون ناخب من ثمانية ملايين ناخب، وفي 2 من ديسمبر سنة 1852 نصب لويس ناپليون إمبراطورا، بأكثرية أكبر من تلك، والسبب في إعادة النظام الإمبراطوري: هو مقت الناس في فرنسة للمشاغبين والاشتراكيين.
وكان نظام الإمبراطورية استبداديا في العقد الأول فأصبح دستوريا في العقد الثاني، وخلعت ثورة 4 من سبتمبر سنة 1870 الإمبراطور لويس ناپليون على أثر تسليمه مدينة سيدان بعد أن ملك ثماني عشرة سنة.
وندر بعد هذا التاريخ وقوع فتن ثورية، وتعد أهم فتنة اشتعلت منذ ذلك الحين فتنة شهر مارس سنة 1871 التي احترق فيها قسم من مباني باريس الفخمة، والتي قتل فيها عشرون ألف عاص.
ومع ما نال البلاد من المصائب الكثيرة في حرب سنة 1870 لم يعلم الناخبون شطر من يولون وجوههم، فأرسلوا إلى المجلس التأسيسي نوابا أكثرهم من البوربوتيين والأورليانيين، وبما أن هؤلاء النواب لم يتفقوا على إعادة الملكية انتخبوا تيار رئيسا للجمهورية، ثم أقاموا في مكانه المرشال مكماهون، وقد جددت الانتخابات سنة 1876، فحاز الجمهوريون أكثرية، كما حازوها في كل انتخاب وقع بعد ذلك.
وقد انقسمت مجالسنا النيابية بعد هذا التاريخ إلى أحزاب كثيرة، فأوجب ذلك سقوط كثير من وزاراتنا، على أن ما وقع بين تلك الأحزاب من الموازنة متع البلاد بسكينة نسبية، ولم ينشأ عن إسقاط أربعة رؤساء للجمهورية اشتعال ثورة أو شغب، نعم، حدثت فتنة شعبية سنة 1888، وأوشكت أن تقضي على النظام الجمهوري؛ ليقبض الجنرال بولانجه على زمام الحكم، ولكن مقاومة هذا النظام لتلك النفسية أدت إلى تغلبه على الأحزاب المخالفة كلها.
ولبقاء النظام الجمهوري الحاضر في فرنسة أسباب كثيرة؛ منها أن الأحزاب المتطاحنة ليست من القوة بحيث يستطيع واحد منها أن يسحق الآخر، ومنها تجرد رئيس الدولة من السلطة تجردا لا نستطيع معه أن نعزو إليه السيئات التي نقاسي نتائجها فندعي أن الأمور تتبدل بإسقاطه، ومنها أنه لما توزعت السلطة بين ألوف من الموظفين وتجزأت المسئولية صار من الصعب معرفة من يجب لومه ومجازاته.
ونلخص التحول الذي نشأ عن الثورات التي وقعت في فرنسة بالكلمة الآتية، وهي: إن هذه الثورات أقامت مقام استبداد الفرد الذي يسهل القضاء عليه استبداد الجماعة القوي الذي يصعب تقويض دعائمه.
ويظهر أن الأمم الطامعة في المساواة والتي تعودت أن ترى حكوماتها مسؤولة عن كل ما يحدث لا تطيق استبداد الفرد، وإنما تصبر على استبداد الجماعة، وإن كان استبداد الجماعة أشد وأقسى.
وبما أن ما قمنا به من ثورات كثيرة لم يؤد إلا إلى قيام استبداد الجماعة وتقويته فإنه يمكن اعتبار هذا الاستبداد غاية الأمم اللاتينية، واستبداد الجماعة هو - بالحقيقة - هدف الأمم اللاتينية الذي أجمعت عليه هذه الأمم، وما الجمهورية والملكية والإمبراطورية عند الأمم اللاتينية إلا عناوين باطلة وأشباح ماثلة.
الجزء الثالث: نشوء المبادئ الثورية في الوقت الحاضر
الفصل الأول
تقدم العقائد الثورية بعد الثورة الفرنسية
(1) انتشار المبادئ الديموقراطية البطيء بعد الثورة الفرنسية
تحافظ المبادئ التي رسخت في النفوس على نفوذها أجيالا كثيرة، ولم تشذ المبادئ التي أعلنتها الثورة الفرنسية عن هذا الناموس، فمع أن دوام تلك الثورة، كحكومة، كان قصيرا جدا نرى تأثير مبادئها قد طال كثيرا، وعلة ذلك أن هذه المبادئ لما صارت معتقدا ذا صبغة دينية حولت وجهة مشاعر كثير من الأجيال وأفكارهم تحويلا أساسيا.
استمرت الثورة الفرنسية وقتا طويلا، ولا تزال مستمرة، وذلك مع ملاحظة بضع فترات وقعت، ولم يقتصر تأثير ناپليون على قلب العالم وتغيير خريطة أوربة وتجديد أعمال الإسكندر؛ بل كان لحقوق الشعب الجديدة، التي أعلنتها ثورتنا الكبرى وثبتها ناپليون في أناظيم وقوانين، تأثير عظيم في كل مكان، وقد عاشت هذه الحقوق الثورية، التي أعان ناپليون على انتشارها، بعد زوال ملكه.
وما وقع بعد الدور الإمبراطوري من الحوادث التي أدت إلى إقامة الملكية أنسى الناس شيئا من مبادئ الثورة الفرنسية في بدء الأمر، وقد تركت هذه المبادئ أثرا في نفوس عدد يسير من النظريين الوارثين لنظرية اليعاقبة البسيطة، والمعتقدين أن القوانين تجدد المجتمعات، فأراد هؤلاء استئناف العمل.
أخذوا يذيعون مبادئهم مما ينشرونه من مقالات وكتب، ونشأ عن تقليدهم رجال الثورة الفرنسية عدم بحثهم في مسألة ملاءمة خططهم الإصلاحية لطبيعة البشر، وهاهم أولاء قد أقاموا، مثل رجال الثورة الفرنسية، مجتمعا وهميا ظانين أن تحقيق أحلامهم فيه يجدد النوع الإنساني.
والنظريون في كل جيل - وإن لم يقدروا على البناء - أثبتوا أنهم قادرون على التخريب. قال ناپليون في جزيرة القديسة هيلانة: «لو قامت ملكية من صوان لاستطلاع النظريون أن يحولوها إلى غبار».
ومن بين أولئك الخياليين، الذين نذكر منهم سان سيمون وفوريه وپيارلير ولويس بلان وكينيه، نرى أن أوغست كونت وحده هو الذي أدرك وجوب نشوء الأفكار والعادات قبل التنظيم السياسي.
ولا تؤدي خطط النظريين الإصلاحية في الوقت الحاضر إلى انتشار المبادئ الديموقراطية بل تعوق سيرها، فالشيوعية تخوف أرباب المال والطبقات العاملة، وقد رأينا في الفصل السابق أن الخوف منها كان عاملا أساسيا في إعادة النظام الإمبراطوري.
ومع أن ما ألفه كتاب النصف الأول من القرن التاسع عشر لا يستحق أن يجادل فيه فإنه يثبت ما للمبادئ الدينية والأدبية المحتقرة الآن من الشأن في ذلك الزمن، فالمصلحون في كل زمن سعوا إلى إقامة المجتمعات الجديدة على ما لا تقوم بغيره من المعتقدات الدينية والأخلاقية.
وإلام يستند المصلحون في إيجاد تلك المعتقدات؟ يستندون إلى العقل، فما دام العقل هو الذي يصنع الآلات المعقدة فلم لا يستعينون به على إيجاد معتقدات دينية أو خلقية؟ لم يخطر على قلب أحد منهم أن المعتقدات المذكورة لا تقوم على أساس العقل أبدا، حتى إن ذلك خفي على أوغست كونت نفسه، فقد أسس دينا وضعيا لم ينتحله سوى بضعة أشخاص حتى الآن، ويأمر هذا الدين بتعيين كهنة يديرهم حبر جديد غير الحبر الأعظم للمذهب الكاثوليكي.
ولم ينشأ عن هذه الأفكار السياسية والدينية والخلقية غير تحويل الجماعات عن المبادئ الديموقراطية، أقول ذلك والمبادئ الديموقراطية آخذة في الانتشار السريع، وإنما يقع هذا الانتشار بتأثير طرق الحياة الجديدة، لا بتأثير النظريين، فقد أوجبت مبتكرات العلم تقدم الصناعة، وتأسيس مصانع عظيمة، وتغلب مقتضيات الاقتصاد على عزائم الحكومات والشعوب شيئا فشيئا، وفسح المجال في الوقت الحاضر للمذهب الاشتراكي والمذهب النقابي، أي لمظهري الأفكار الديموقراطية. (2) النصيب المتفاوت لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة
يمكن تلخيص ميراث الثورة الفرنسية في ثلاث كلمات: الحرية والمساواة والإخاء، وقد رأينا أن تأثير مبدأ المساواة وحده كان عظيما.
وقد اختلف الناس في فهم تلك الألفاظ، ومن الأمور المعلومة أنه نشأ عن الاختلاف في تفسير الألفاظ الواحدة حروب كثيرة.
كانت كلمة الحرية تدل عند رجال العهد على حقهم في الاستبداد المطلق، والآن تدل عند الشاب المتعلم على تحرير النفس من كل احترام لما يضغطها من تقاليد وقوانين وأفضليات، وهي تدل عند يعاقبة الوقت الحاضر على حقهم في اضطهاد خصومهم.
يذكر الخطباء السياسيون كلمة الحرية من وقت إلى آخر في خطبهم، وقد عدلوا عن ذكر كلمة الإخاء؛ لدعوتهم اليوم إلى تطاحن الطبقات، لا إلى التوفيق بينها، وما وجد حقد يفرق بين طبقات الأمة وأحزابها السياسية مثل الحقد الذي ينفثون سمومه، وبينما يتزعزع مبدأ الحرية ويتقلص مبدأ الإخاء نرى مبدأ المساواة ينمو، وقد بقي هذا المبدأ على رغم ما وقع في فرنسة من الانقلابات السياسية منذ قرن، وقد بلغ من الاتساع مبلغا صار به أساسا لحياتنا السياسية والاجتماعية وقوانيننا وعاداتنا وتقاليدنا، ولو من الجهة النظرية على الأقل.
فمبدأ المساواة هو ميراث الثورة الفرنسية الصحيح، وليس الاحتياج الحاضر إلى المساواة أمام القانون وفي المناصب والأموال إلا طور الاشتراكية، أي طور الديموقراطية الأخير، وكلما عم هذا الاحتياج عظم سلطانه وإن خالف سنن الحياة والاقتصاد، وهو صورة جديدة لما بين العقل والمشاعر من الصراع الذي قلما يخرج العقل منه ظافرا. (3) ديموقراطية الكتاب والديموقراطية الشعبية
يمكن رد جميع المبادئ التي قلبت العالم إلى ناموسين: النشوء البطيء والتكيف على حسب اختلاف النفوس.
ويشبه المذهب ذوات الحياة، فهو لا يعيش إلا إذا تحول، وبما أن الكتب لا تذكر هذا التحول فيكون ما تقرره هو طور الماضي، أي صورة الموت هي التي ترسم فيها، لا صورة الحياة.
وقد أثبت في كتاب آخر كيف تتحول النظم واللغات والفنون عندما تنتقل من أمة إلى أخرى، وبينت درجة اختلاف سنن هذه التحولات عما يرد في الكتب، والذي يجعلني أشير إلى ذلك الآن هو أنني أريد أن أوضح علة عدم مبالاتي في البحث عن الديموقراطية بما يجئ في مذاهبها من النصوص، وعلة كوني أقتصر على التنقيب عن عناصرها النفسية وعن تأثيرها في طبقات الناس الذين ينتحلونها.
يتحول المبدأ الأول بسرعة عند ذوي النفسيات المختلفة، ولا يلبث هذا المبدأ أن يصبح عنوان أمور كثيرة التباين، ويطابق هذا الرأي المعتقدات الدينية والسياسية، فعندما يبحث في الديموقراطية مثلا يجب تحقيق مدلول هذه الكلمة عند مختلف الأمم، وتحقيق الفرق في الأمة الواحدة بين ديموقراطية الكتاب والديموقراطية الشعبية.
ويسهل علينا، عند وضعنا هذه الملاحظة موضع الاعتبار، أن نحقق أن ما يرد في الكتب والجرائد من الأفكار الديموقراطية لم يكن غير نظريات خالصة يضعها الكتاب ولا يعلم الشعب من أمرها شيئا ولا يفيده العمل بها، فإذا حاز العامل نظريا حق اختراق الحواجز التي تفصله عن الطبقات القائدة بالمسابقات والفحوص فإن أمل وصوله إلى ذلك عمليا ضعيف جدا.
وليس لديموقراطية الكتاب غاية سوى إيجاد فريق من الناس تتألف منهم طبقة الأمة القائدة، وإننا نأسف على تأدية هذه الديموقراطية إلى إقامة حقوق مطلقة تخص جماعة مستبدة قصيرة النظر مقام ما للملوك من الحقوق الإلهية، فالحرية لا تكون بإحلال استبداد محل استبداد.
وأما الديموقراطية الشعبية فلا تسعى إلى إنشاء فريق من القادة، وهي - لشدة اهتمامها بالمساواة وتحسين أحوال العمال - ترفض مبدأ الإخاء ولا تبالي بالحرية، ولا تتصور شكلا للحكومات غير الشكل الاستبدادي، وذلك ما يبدو لنا من هتافها للحكومات المستبدة التي ظهرت منذ نشوب الثورة الفرنسية، ومن الطريقة القهرية التي تسير عليها نقابات العمال.
والفرق النفسي بين ديموقراطية العمال وديموقراطية الكتاب ليس بالأمر الخفي؛ فالفريقان لا يتكلمان لغة واحدة، ويصرح رجال النقابات بأن الاتفاق لا يمكن أن يسودهما.
حقا إن الاتفاق بينهما لا يمكن أن يكون، وهذا هو السبب في عدم ظهور مفكرين عظام يدافعون عن الديموقراطية الشعبية منذ زمن أفلاطون. (4) التفاوت الطبيعي والمساواة الديموقراطية
مشكلة التوفيق بين المساواة الديموقراطية والتفاوت الطبيعي من أصعب مشاكل الوقت الحاضر، وليست أماني الديموقراطية مجهولة لدينا، فلنبحث عن جواب الطبيعة عن هذه الأماني.
اصطدمت المبادئ الديموقراطية، التي زعزعت العالم منذ عصر البطولة اليونانية، بما نشأ عن الطبيعة من التفاوت، والمؤلفون الذين قالوا مع هلفيسيوس إن التفاوت بين الناس صادر عن التربية قليلو العدد؛ فالطبيعة لا تعرف المساواة، وقد وزعت أمور العبقرية والحسن والصحة والقوة والذكاء توزيعا مختلفا، ولا تقدر النظريات على تحويل هذا الاختلاف، فستظل المذاهب الديموقراطية محصورة في مجال الألفاظ حتى اليوم الذي ترضى فيه نواميس الوراثة بتوحيد أهليات الناس.
وهل يجوز أن نفرض أن المجتمعات تستطيع أن تصنع المساواة التي أنكرتها الطبيعة؟ استمر بعض النظريين على القول إن التربية قادرة على إحداث مساواة عامة، ولكن التجارب التي وقعت في عدة سنين أثبتت ضعف نظرهم.
ويستحيل على الاشتراكية - عند انتصارها - أن تقيم دعائم المساواة بقضائها على أفاضل الناس، ولا يصعب إدراك مصير أمة أهلكت صفوتها في زمن تتقدم فيه الأمم المجاورة بما عندها من خيار الرجال.
وليس أمر الطبيعة مقتصرا على عدم إقرارها بالمساواة، بل إنها أوجبت تقدم العالم بما أدت إليه من التفاوت الزائد، وهذا التفاوت هو الذي أوجد، من خلايا الأدوار الجيولوجية، أناسا غيرت اكتشافاتهم وجه الأرض.
ويشاهد مثل ذلك في المجتمعات، فالديموقراطية التي تصطفي أذكياء الشعب تؤدي - في نهاية الأمر - إلى وجود أريستوقراطية ذهنية مخالفة لحلم النظريين بخفض عناصر المجتمع الراقية إلى مستوى عناصره الدنيا.
والآن يشاهد الناس أنه كلما حاولت القوانين والنظم مساواة الأفراد زاد تقدم الحضارة تفاوتهم، فقد كان الفرق الذهني بين الأمير الإقطاعي والفلاح ضئيلا في العهد السابق، ولكنه أصبح عظيما بين العامل والمهندس في هذه الأيام، وهو آخذ في الزيادة.
وصارت الأهلية عاملا أساسيا للرقي، فذوو الأهلية من كل طبقة يصعدون، والعاطلون منها يقفون أو ينزلون، وما تفعل القوانين في مقتضيات الزمن التي لا مفر منها؟
ومن العبث أن يزعم فاقدو الأهلية أنهم أصحاب القوة لكثرة عددهم، فالقضاء على ذوي الأدمغة العالية التي تفيد العمال بمباحثها يوقع العمال في الفاقة والفوضى.
وما لصفوة الناس من الشأن العظيم في المدنيات الحديثة واضح لا يحتاج إلى إثبات، فعند الأمم المتمدنة والأمم المتأخرة طبقة متوسطة متماثلة، وإنما الذي يجعل الأمم المتمدنة أعلى من الأمم المتأخرة هو ما عند الأمم المتمدنة من صفوة لا نظير لها عند الأمم المتأخرة، وقد أدركت الولايات المتحدة ذلك فأغلقت أبوابها دون عمال الصين الذين يتصفون بأهلية كالتي عند عمال أمريكة ويزاحمونهم في ميدان الصناعة بأجور بخسة.
يزيد النفور بين العوام والخواص كل يوم، ومع أن الاحتياج إلى الخواص لم يشتد في وقت اشتداده في زماننا، فإن الصبر على هذا الاحتياج لم يصعب في دور مثل صعوبته في الدور الحاضر.
ونعد الحقد الشديد على صفوة الناس من صفات الاشتراكية، وينسى أنصار الاشتراكية أن مبتكرات العلم والفن والصناعة هي سر قوة البلاد وسعادة من فيها من ملايين العمال، وأن هؤلاء العمال مدينون لأصحاب العقول السامية الذين أتوا بتلك المبتكرات، فلو أن معجزة جعلت الناس ينتحلون الاشتراكية قبل قرن، وقضت هذه الاشتراكية على صفة المخاطرة وإنعام النظر والمبادرة وكل باعث على العمل لأدى ذلك إلى الوقوف وفقر العامل، والباعث على القول بالمساواة في البؤس هو ما يغلي في صدور بعض ذوي السخف من الشهوة والحسد، ولن يعدل البشر عن تقدم الحضارة إرضاء لمثل هذه الأهواء الدنيئة.
الفصل الثاني
نتائج النشوء الديموقراطي
(1) تأثير المبادئ التي لا قيمة عقلية لها في النشوء الاجتماعي
بينا في الفصل السابق أن السنن الطبيعية لا تلائم الأماني الديموقراطية، ومن الأمور المعلومة أنه لا تأثير لهذه الحقيقة في المبادئ الراسخة في النفوس، فالإنسان لا يبالي بما في المعتقد الذي يسيره من القيمة الحقيقية، والفيلسوف الذي يبحث عن هذا المعتقد، وإن وجب عليه أن يجادل في قيمته العقلية، يجب عليه أن ينقب عن تأثيره في النفوس أيضا.
وتبدو أهمية هذا التقسيم عند الاستعانة به على تفسير المعتقدات التي ذكرها التاريخ، فمع أن جوپيتر وفيشنو وغيره من الآلهة خيالات من الجهة العقلية كان شأنها عظيما في حياة الأمم، وكذلك كان شأن المعتقدات التي سادت القرون الوسطى وحنت ظهور ألوف الناس أمام الهياكل، ومن هو في شك من هذا فليقابل بين تغلب الدولة الرومانية وتغلب الكنيسة؛ فقد كان تغلب الرومان ملموسا لا ريب فيه، وكان تغلب الكنيسة قائما على أسس وهمية، إلا أنه اتفق لتغلب الكنيسة من السلطان القوي ما اتفق لتغلب الرومان، ففي القرون الوسطى المظلمة نالت به الأمم الهمجية ما لا تقوم حضارة على غيره من الروادع الاجتماعية والروح القومية، ويثبت هذا السلطان الذي نالته الكنيسة قدرة بعض الأوهام على إيجاد مشاعر مخالفة لمنافع الفرد والمجتمعات كالرهبانية، والحروب الصليبية، وحروب الدين ... إلخ.
وإذا عرضنا الملاحظات السابقة على المبادئ الديموقراطية والاشتراكية ظهر لنا أن نجاح هذه المبادئ لا يتطلب قيامها على أساس متين، وإنما يكفيها أن تبسط سلطانها على القلوب.
ومن الخطأ أن يكلف دعاة المذاهب الجديدة أنفسهم عناء البحث عن أساس عقلي يفسرون به أمانيهم، فتأثيرهم يكون أتم وأكمل إذا اقتصروا على التوكيد وبث الآمال، وما قوتهم إلا في النفسية الدينية الملازمة قلب الإنسان، والتي لم تغير سوى المواضيع في مختلف الأجيال، وقد قلنا، عندما تكلمنا عن الكنيسة في القرون الوسطى، إنها قدرت على التأثير في نفوس الناس، فعندما يتحقق شيء من آمال المذاهب الديموقراطية نرى أن سلطانها لا يكون أقل من سلطان الكنيسة في القرون الوسطى. (2) الروح اليعقوبية والنفسية التي نشأت عن المعتقدات الديموقراطية
لم يقتصر ميراث الأجيال الحديثة على المبادئ الثورية، بل اشتمل على النفسية التي أوجبت انتصار هذه المبادئ أيضا.
وقد وصفنا هذه النفسية عند البحث في الروح اليعقوبية، فأثبتنا أنها تميل إلى إكراه الناس على قبول أوهامها التي عدتها حقائق، ولم تلبث الروح اليعقوبية أن عمت فرنسة والبلدان اللاتينية الأخرى، فاستحوذت فيها على أحزابها، ومنها الأحزاب المحافظة.
ونتيجة انتشار الروح اليعقوبية هي حمل الناس على المبادئ السياسية والنظم والقوانين قسرا، وهذا هو السر في أن المذهب النقابي - الذي هو سلمي ومنظم في البلاد الأخرى - لم يلبث أن نهج عندنا نهجا فوضويا متجليا في صورة اضطرابات وتحريق وتخريب.
وإذا استولى الخوف على الحكومات، فلم تكبح جماح الروح اليعقوبية، أفسدت هذه الروح أصحاب العقول الصغيرة، فلما وافق ثلث المندوبين في مؤتمر المعدنين الأخير على سياسة التخريب قال أحد كتاب المؤتمر: «أهدي إلى كل من يعمل بسياسة التخريب من العمال سلامي الأخوي وإعجابي القلبي».
وتوجب هذه الذهنية العامة زيادة الفوضى في البلاد، وإذا لم تكن فرنسة الآن في ثورة مستمرة فذلك لما هو واقع بين أحزابها من توازن، نعم، إن كل حزب فرنسي مفعم من الحقد الشديد على الأحزاب الأخرى، ولكن لم يملك واحد من هذه الأحزاب قوة كافية لإخضاع غيره.
وقد سارت الروح اليعقوبية في البلاد مسيرا جعل حكامنا أنفسهم يتذرعون بأشد الوسائل الثورية لقهر خصومهم، فاضطهدوا هؤلاء الخصوم وجردوهم من أموالهم من غير أن تحتج الأحزاب على ذلك، وما أشبه سير حكامنا في الوقت الحاضر بسير الفاتحين في القرون القديمة حين لا أمل للمغلوب!
إذن، ليس عدم التسامح خاصا بالعوام، بل يشاهد عند ولاة الأمور أيضا، وقد لاحظ ميشله - منذ زمن طويل - أن استبداد المتعلمين أشد من استبداد العوام في بعض الأحيان، ولا ريب في أن المتعلمين لا يكسرون المصابيح، ولكن لسرعان ما يسهل عليهم ضرب الرقاب، فالمتعلمون والأساتذة والمحامون، الذين ظن أن ما نالوه من التهذيب المدرسي ألان طباعهم هم الذين اقترفوا أشد المظالم أيام الثورة الفرنسية، ولم يلطف التعليم طباع الناشئة في الوقت الحاضر أكثر من قبل، وهذا يظهر من قراءة الجرائد والرسائل التي ينشرها أساتذة الجامعات، فيسأل القارئ متعجبا كيف اشتعل الحقد في قلوب هؤلاء الذين حالفهم الحظ الحسن.
ولم يكونوا صادقين في قولهم إن محبة الغير هي التي تدفعهم إلى ذلك، فروحهم الدينية الضيقة وشوقهم إلى الشهرة هما سبب ما ينشرون من رسائل الدعوة، وقد استشهدت في مؤلف آخر بعبارات أحد أساتذة مدرسة فرنسة (كوليج دوفرانس) التي جاءت في أحد كتبه وحرض فيها الشعب على نهب أموال الطبقة الوسطى التي يلعنها، فاستنتجت منها أنه إذا اشتعلت ثورة جديدة سهل عليها أن تجد بين مؤلفي تلك الرسائل أعوانا مثل مارا وروبسپير وكاريه.
وإذا نفدت شؤون المذاهب الدينية السابقة فإن حقيبة المبادئ الديموقراطية لا تزال ملأى، ونرى أنه يخرج منها كل يوم شيء جديد، ونعد الحقد على الأفضليات من أهم ما خرج منها، وقد عم الحقد على كل من يجاوز المستوى المتوسط، فكان من نتائج هذا الحقد شيوع الحسد والغيبة والميل إلى الهجو والسخرية والجفاء وارتكاب الدنايا وجحود الصدق والنزاهة والذكاء، ومن يدقق في أحاديث المتعلمين والشعب يعلم أنهم ينتقصون فيها أكابر الرجال ويحطون من قدرهم، ولم ينج أعاظم الموتى من أن يكونوا عرضة لمثل ذلك الانتقاص، فلم تؤلف كتب أكثر من التي استصغرت فيها قيمة المشاهير الذين عدوا أثمن ميراث حوته البلاد في الماضي.
والحسد والحقد قد لازما مبادئ الديموقراطية في كل زمن كما يظهر، ولكن لم يكثر شيوعهما في وقت كثرته اليوم، وما خفي ذلك على المدققين، قال مسيو بوردو:
نرى اليوم غريزة سافلة ثورية عاطلة من حلية الأدب لا غاية لها سوى خفض البشر إلى الدرك الأسفل، وهي تعد كل أفضلية - ولو علمية - خروجا على المجتمع، فهذا الميل اللئيم إلى المساواة هو الذي كان مشتعلا في قلوب اليعاقبة السفاكين حينما قطعوا أعناق لاڤوازيه وشينيه وغيرهما.
وليس الحقد على الأفضليات - العامل على انتشار الاشتراكية الآن - هو كل ما تتصف به الروح الجديدة الناشئة عن المبادئ الديموقراطية، بل نرى عوامل أخرى مهمة تقوى بها هذه الروح، وهذه العوامل هي: تقدم المذهب الحكومي، وتناقص ما عند الطبقة الوسطى من النفوذ والقوة، وزيادة تأثير الملايين، وتنازع الطبقات، واضمحلال الروادع الاجتماعية القديمة، وانحطاط الآداب.
ومثل الحركة الاجتماعية في زيادة سرعتها كمثل الحركة الميكانية من حيث تفاقم أمرها يوما بعد يوم، ويتجلى هذا التفاقم فيما يقع من الحوادث كل يوم كاعتصاب المعدنين وموظفي البريد وانفجار المدرعات إلخ، قال أحد وزراء بحريتنا السابقين، مسيو دولانيسان، بمناسبة تحطم المدرعة الليبرته التي قيمتها خمسون مليون فرنك، والتي هلك فيها مئتا رجل في دقيقة واحدة:
إن المرض الذي يقوض أسطولنا هو كالذي يقوض جيشنا وإدارتنا ودواويننا ونظامنا النيابي ونظامنا الحكومي ومجتمعنا بأسره، وهذا المرض هو الفوضى، أي ارتباك النفوس وسائر الأمور ارتباكا تنجز به الأعمال على وجه غير معقول، ويسير به كل امرئ على وجه ينافي الواجب والأدب.
وقال رئيس بلدية باريس مسيو فليكس روسل: «ليست بحريتنا علة دائنا، بل إن هذه العلة أعم من ذلك، وتلخص في ثلاث كلمات: عدم التبعة، وقلة النظام، والفوضى».
ويدل ذلك على أن أشد المدافعين عن النظام الجمهوري يعترفون بتدرجنا إلى الانحلال الاجتماعي شاعرين بعجزهم عن تلافيه، وعلة هذا العجز صدور ذلك الانحلال عن مؤثرات نفسية أقوى من عزائمنا. (3) الانتخاب العام ومنتخبوه
الانتخاب العام هو أحد المبادئ الديموقرطية الجوهرية الفتانة، وذلك أن مبدأ المساواة يتجلى فيه بتساوي الأغنياء والفقراء والعلماء والجهلاء والوزراء والأجراء ساعة أمام صندوق الانتخاب، وقد خافت الحكومات كلها - ومنها حكومات الثورة الفرنسية - أمر الانتخاب العام، ومن ينعم النظر فيه ير - أول وهلة - إمكان الاعتراض عليه، ومما تأباه النفوس توهم قدرة العوام على انتخاب رجال صالحين للحكم، أي قدرة أناس قليلي المعرفة والتهذيب محدودي النظر على نيلهم بكثرة العدد أهلية يحسنون بها التمييز بين المرشحين.
وإذ إنه يتعذر أن يحل في الوقت الحاضر أي نظام محل الانتخاب العام وجبت ملاءمته، ولا يفيد الاحتجاج عليه والقول مع الملكة ماري كارولين أيام محاربتها ناپليون: «لا شيء أحق بالمقت من حكم الناس في هذا الزمن الذي ينقب الأساكفة فيه عن عورات الحكومة ويسخرون منها».
والحق أن كل اعتراض على الانتخاب العام ليس له من القوة ما يبدو أول وهلة، فلما ثبتت عندنا صحة سنن روح الجماعات صرنا نشك في أن اتخاذ طريقة الانتخاب المحدود يؤدي إلى اختيار رجال أفضل من الذين يتم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، وذلك أن تلك السنن تدلنا على أن الانتخاب الموصوف بالعام ليس إلا وهما، وذلك بما أن رأي الجماعة هو رأي زعمائها في الغالب، فإن ذلك الانتخاب أضيق انتخاب، وهنا الخطر كله، وذلك أن الزعماء القابضين على زمام هذا الانتخاب هم صنائع لجان محلية صغيرة مشابهة لأندية الثورة الفرنسية الكبرى، وهم الذين ينتخبون النائب، ومتى كمل انتخاب هذا الأخير أصبح ذا سلطة محلية مطلقة على أن ينظر إلى مصالح تلك اللجان، وذلك ما ينسيه منفعة البلاد العامة.
تحتاج اللجان إلى أناس مطيعين، فلا تنتخب للنيابة رجالا ذوي ذكاء عال وأدب رفيع، وإنما تنتخب لها أناسا من ذوي الأخلاق الهينة الذين ليس لهم مكانة اجتماعية، ويخضع النائب لتلك اللجان - التي هي مبعث شهرته - خضوعا تاما فيقول ما تقول ويعمل كما تأمر، ويمكن تلخيص ما يدعو إليه خياله السياسي بكلمة «طع تدم»، على أنه قد يحدث أن يستأثر بعض الرجال، بما لهم من الشهرة أو المنزلة أو الثروة، بأصوات الشعب من غير أن تتدخل اللجان المحلية الوقحة في ذلك .
إذن، ليس الانتخاب العام في بلاد ديموقراطية كفرنسة في غير الظاهر، وهذا هو السر في وضع كثير من القوانين التي لا منفعة للأمة فيها، كقانون اشتراء سكك الغرب الحديدية والقوانين التي سنت ضد اليسوعيين، ولا تعبر هذه الأمور عن غير ما أملته اللجان المحلية المتعصبة على النواب من المطاليب.
ويبدو تأثير هذه اللجان عند الاطلاع على اضطرار أكثر النواب اعتدالا إلى الدفاع عن الفوضويين الذين يخربون دور الصناعة، وعلى اتفاقهم مع القائلين بعدم التجنيد، وعلى قبولهم أنحس المطاليب طمعا في تجديد انتخابهم. (4) الاحتياج إلى الإصلاح
الميل إلى الإصلاح بوضع المراسيم من أشد ما اتصفت به الروح اليعقوبية شؤما، وأعظم ما ورثناه من الثورة الفرنسية خطرا، وهو أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى ما وقع في فرنسة من الانقلابات منذ قرن.
ومع أننا قمنا - منذ أربعين سنة - بإصلاحات جديرة بأن يدعى كل واحد منها ثورة صغيرة، لا نزال أقل أمم أوربة تحولا، وقد تكون تلك الإصلاحات سبب هذا التحول البطيء، ويتجلى لنا هذا البطء عند النظر إلى ما عند الأمم من عناصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أي ما عندها من تجارة وصناعة إلخ؛ إذ يظهر لنا أن تقدم كثير من الأمم - ولا سيما الأمة الألمانية - عظيم مع أننا نمشي الهوينا، وبيان ذلك أن نظامنا الإداري والصناعي والتجاري شاخ كثيرا، وأصبح غير ملائم لمقتضيات الوقت الحديث، وأن صناعتنا صارت قليلة الفائدة، وبحريتنا التجارية أصبحت مشرفة على السقوط، وها نحن أولاء لا نقدر مزاحمة المصنوعات الأجنبية في مستعمراتنا، وقد أوضح وزير التجارة السابق مسيو كروپي هذا السقوط المحزن في كتاب وضعه حديثا، فرأى أن النظم قادرة على معالجته، وعلى هذا الرأي جميع المشتغلين بالسياسة، ولذلك قل تقدمنا، فكل حزب يعتقد أن الإصلاحات تداوي الأمراض، ويسوق هذا الاعتقاد الأحزاب إلى مخاصمات تجعل فرنسة أكثر بلاد العالم انقساما وطعمة للفوضى.
ولا نزال غافلين عن الحقيقة الدالة على أن قيمة الأمة بأفرادها، ومناهجهم، لا بأنظمتها، وليست الإصلاحات الشافية هي الإصلاحات الثورية؛ بل التي تتراكم مع الزمن، وتتم الانقلابات الاجتماعية الكبيرة مثل الانقلابات الجيولوجية بما يتجمع كل يوم من العوامل الصغيرة، وقد أثبت لنا تاريخ ألمانية الاقتصادي منذ أربعين سنة صحة هذا الأمر.
وما أكثر الحوادث العظيمة التابعة لناموس تجمع العوامل الصغيرة! فقد تنتهي المعركة الفاصلة أحيانا في يوم واحد، ولكن النجاح فيها لا يتم إلا بما سبقها من الجهود الدقيقة المتراكمة ببطء، وقد رأينا ذلك سنة 1870، ورآه الروس أخيرا، فمع أن أمير البحر توغو أباد الأسطول الروسي في واقعة تسوشيما التي توقف عليها مصير اليابان فإن ألوفا من المؤثرات الصغيرة البعيدة أوجبت هذا النصر، وليست العوامل التي نشأ عنها انكسار الروس أقل من ذلك، ونعد منها: نظامهم القرطاسي المعقد المؤدي - مثل نظامنا - إلى عدم المسئولية، ومنها عددهم الحربية التي يرثى لها على رغم ابتياعها بذهب يعدل وزنها، ومنها نظام الجوائز للموظفين، ومنها قلة المبالاة بمصالح البلاد.
والجزئيات التي تتألف عظمة الأمة منها هي من الخفاء ما لا تؤثر معه في الجمهور، ولا يصلح الاشتغال بها لقضاء منافع السياسيين الانتخابية، فلا يلتفت هؤلاء إليها تاركين البلاد التي ألقت إليهم مقاليد أمورها تتدرج إلى الانحلال فإلى الانقراض. (5) الفروق الاجتماعية بين أنواع الديموقراطية
ظن الناس - أيام الانقسام إلى قبائل والتفاوت في الأنساب - أن الفروق الاجتماعية صادرة عن سنة طبيعية، ولكن عندما زالت الفروق الاجتماعية القديمة ظهر أن الفرق بين الطبقات أمر مصنوع لا يطاق، فرأت الأمم الديموقراطية أن تتلافى ذلك بإحداث مراتب مصنوعة يستطيع نائلها أن ينتحل بها أفضلية على غيره، وما فشا الطمع في الألقاب والأوسمة في زمن فشوه اليوم.
ولا تأثير للألقاب والأوسمة في البلدان الصحيحة الديموقراطية كالولايات المتحدة، وإنما يتفاوت فيها الناس في المال، وقد يحدث أن فتيات مثريات يقترن فيها بذوي الألقاب الأريستوقراطية الأوربية، وهكذا يفعلن بغرائزهن ما يجعل أمة فتاة كالولايات المتحدة تنال ماضيا ضروريا لثبات مزاجها الأدبي.
وإذا نظرنا إلى الأريستوقراطية التي نشاهد ظهورها في أمريكة من حيث العموم رأينا أنها لم تقم على الألقاب والأوسمة، بل على المال؛ ولهذا لا تلقي هنالك في القلوب حسدا كبيرا، فكل امرئ في أمريكة يطمع أن ينال منه قسطا كافيا في أحد الأيام.
وقد كان توكڤيل يجهل - عندما ذكر رغبة الأمريكيين في المساواة في كتابه الباحث عن الديموقراطية - أنه سينشأ عن هذه المساواة المنتظرة تقسيم الناس إلى طبقات على حسب ما يملكون من الدولارات، ولا بد من حدوث ذلك في أوربة يوما ما.
وليس في الوقت الحاضر ما يسمح لنا أن نعد فرنسة بلادا ديموقراطية، وهنا نرى أنفسنا حيال ضرورة البحث عما ينطوي تحت كلمة الديموقراطية من الأفكار التي تختلف باختلاف البلدان.
وعندنا أنه ليس في العالم بلاد صحيحة الديموقراطية غير إنكلترة وأمريكة، فهذان البلدان - وإن تجلت فيهما الديموقراطية على شكلين مختلفين - تشاهد فيهما مبادئ واحدة، ولا سيما مبدأ التسامح المطلق مع جميع الآراء والأفكار، ولكل امرئ في هذين البلدين اللذين لا عهد لهما بالاضطهادات الدينية، أن يتخذ المهنة التي تروقه، مهما كان عمره، من غير أن يقوم أي حاجز في وجهه.
ويعتقد الناس في ذينك البلدين أنهم متساوون؛ لعلمهم أنه لا شيء يمنعهم من الوصول إلى أعلى المراتب، فالعامل فيهما يعلم أنه يستطيع أن يكون عريفا فمهندسا، وإذ كان من الواجب على المهندس أن يبدأ فيهما بالصعود من أسفل الدرجات، لا أن يصعد إلى أعلاها دفعة واحدة، كما يقع في فرنسة، فإنه لا يعتبر نفسه من جوهر غير جوهر الناس، وهذا هو السر في كون الحقد - الشديد الشيوع عندنا - لم ينتشر في إنكلترة وأمريكة إلا قليلا.
ولا محل للديموقراطية الفرنسية إلا في الخطب، وما في فرنسة من أنظمة المسابقات والامتحانات التي يضطر المرء وهو شاب إلى معاناتها يسد في وجهه أبواب المهن، ويحدث في صميم الأمة الفرنسية طبقات متباينة متخاصمة.
وعلى ذلك نرى أن الديموقراطية اللاتينية أمر نظري، وبتعبير آخر: قد حل الاستبداد الحكومي عندنا محل الاستبداد الملكي، ولم يكن أقل قسوة منه، وقد قامت الأريستوقراطية المالية في بلادنا مقام أريستوقراطية النسب، ولم تكن امتيازاتها أخف وطأة.
والفرق بين الملكية والديموقراطية في الشكل أشد مما في الأصل ، ويتبع الفرق الحقيقي بين نتائجهما ما عند الناس من النفسية المتحولة، ولا فائدة من المجادلات في قيمة مختلف الأنظمة التي تكون قيمتها بقيمة المرؤوسين، وتكون الأمة على شيء عظيم من الرقي إن علمت أن منزلتها بنسبة الجهود التي يقوم بها أفرادها، لا بنسبة جهود حكوماتها.
الفصل الثالث
الأشكال الحديثة للمعتقدات الديموقراطية
(1) النزاع بين رأس المال والعمل
بينما يخبط المشترعون في أمر الإصلاح والاشتراع يتدرج العالم ببطء في مجراه الطبيعي فتحدث منافع جديدة، ويعظم ما بين الأمم من المزاحمات الاقتصادية، ويقوم العمال بضروب الفتن، وتظهر مشاكل مخيفة لا تحلها خطب رجال السياسة.
وأعقد المشاكل الجديدة ما يقع بين العمل ورأس المال من نزال، ولا يخلو بلد من ذلك حتى البلاد ذات التقاليد كإنكلترة، فقد عدل العمال عن احترام العقود، وأخذوا يضربون لأسباب تافهة، وبلغت البطالة والعوز مبلغا يقلق البال، وسرت عدوى الإضراب إلى أمريكة فعاقت صناعاتها، ولكن استفحال الداء فيها أدى إلى إيجاد الدواء، فنظم رؤساء الصناعات بينهم مواثقات كبيرة أصبحت من القوة بحيث تقدر على إلزام العمال طرقها التحكيمية.
ومما يزيد مشكلة العمال صعوبة في فرنسة اضطرارها - من أجل تناقص مواليدها - إلى قبول عدد كبير من عمال الأجانب، وينشأ عن ذلك التناقص أيضا صعوبة محاربة الأمم المزاحمة التي سوف تلجئها قلة حقولها إلى الاستيلاء على البلدان القليلة السكان سائرة على أقدم ناموس عرفه التاريخ.
وسيشتد النزاع بين العمال والمستصنعين أكثر من قبل عندما يتفاقم النزاع الاقتصادي بين الآسيويين ذوي الحاجات الضعيفة والقادرين على الإنتاج بأبخس الأثمان وبين الأوربيين ذوي الحاجات العظيمة، وقد أشرت إلى أهمية هذا الأمر منذ خمس وعشرين سنة، وجاء في كتاب للملحق الحربي في الجيش الياباني، الجنرال هاملتون، الذي أخبر بانتصار اليابان قبل وقوع الحرب الروسية اليابانية، ما يأتي:
إن الصيني - كما بدا لي في منشورية - قادر على إبادة العامل الأبيض في الوقت الحاضر، ولا يفكر الاشتراكيون الذين يبشرون بالمساواة فيما تؤدي إليه نظرياتهم، فهل الجنس الأبيض صائر إلى الانقراض؟ إني على ما في من عجز وقلة بضاعة أرى أن مصيره يتوقف على عدم إصغائنا إلى الخطب القائلة إن التأهب للحرب أمر مضر لا فائدة فيه.
وإني أنصح العمال أن ينظروا بعين البصيرة إلى شؤون العالم في هذا الوقت فيبذروا في قلوب أولادهم حب الحرب، ويرضوا بما ينشأ عن الروح العسكرية من المحن، وأن لا ينوا في محاربة العمال الجدد المزاحمين، ولا يمنع الآسيويين عن الهجرة وخفض الأجور وعن الإقامة بين ظهرانينا غير الحسام، فإذا لم ينتبه الأمريكيون والأوربيون إلى أن بقاء منزلتهم الممتازة متوقف على ما عندهم من قوة السلاح لم تلبث آسية أن تنتقم منهم.
ومن الأمور المعلومة أن هجرة الصينيين واليابانيين إلى أمريكة أصبحت كارثة وطنية بما أوجبته من المزاحمة للعمال البيض، وقد أخذ أولئك يهاجرون إلى أوربة أيضا، ولكن هذه الهجرة لم تتسع بعد، على أن لمهاجري الصين مستعمرات مهمة في بعض المدن الأوربية كلندن وكارديف وليڤربول إلخ، وقد أحدث وجودهم فيها واشتغالهم بأثمان بخسة قلاقل كثيرة. (2) نشوء طبقات العمال والحركة النقابية
ربما كان نشوء العمال الحديث الناشئ عن الحركة النقابية أكبر المشاكل الديموقراطية الحاضرة وأعظمها شأنا، وقد انتشر المذهب النقابي القائم على تجمع المنافع المتماثلة فأصبح عالميا، ولبعض النقابات ميزانيات تعدل ميزانيات الحكومات الصغيرة، ونذكر - على سبيل المثال - أن دخل نقابات ألمانية بلغ واحدا وثمانين مليونا، ويدل شيوع الحركة النقابية في جميع البلدان على أنها ليست بدعة خيالية كالاشتراكية، بل هي نتيجة لمقتضيات الاقتصاد، ولا قرابة بين المذهب النقابي والاشتراكية من حيث الغاية ووسائل العمل، وقد أوضحت هذا في كتاب روح السياسة، فأكتفي الآن بتلخيص الفرق بينهما في بضعة أسطر :
ترغب الاشتراكية في الاستيلاء على الصناعات وتسليم إدارتها إلى الحكومة على أن توزع الحكومة منتجاتها بين أبناء الوطن على السواء، وأما النقابية فإنها بالعكس ترغب في إبطال تدخل الحكومة وتود تقسيم المجتمع إلى طوائف مهنية مستقلة.
ومع أن النقابيين يسخرون من الاشتراكيين ويصارعونهم فإن الاشتراكيين لم يألوا جهدا في كتم هذا الصراع، ولكنه أصبح من الظهور بحيث يتعذر إخفاؤه، وسوف يخسرون قريبا ما لهم من النفوذ السياسي، والسبب في توسع النقابية على حساب الاشتراكية هو تأليفها بين الاحتياجات المتولدة عن الاختصاص الصناعي في الوقت الحاضر.
حقا إننا نرى ظهور المذهب النقابي في بيئات مختلفة، ولم ينل هذا المذهب نجاحا في فرنسة كما في البلدان الأخرى، فقد أدى لبسه ثوبا ثوريا في فرنسة إلى سقوطه مؤقتا بين أيدي فوضويين لا يبالون بأي نظام ولا يفعلون غير اتخاذ المذهب المذكور آلة لتقويض دعائم المجتمع الحاضر، وهكذا يتعاون الاشتراكيون والنقابيون والفوضويون عندنا - مع اختلاف مبادئهم - على محق الطبقات المسيرة للأمة ونهب أموالها.
ولا تشتق المبادئ النقابية من مبادئ الثورة الفرنسية أبدا، وكثيرا ما تناقضها مناقضة تامة، فالمذهب النقابي يأمر بالرجوع إلى أنظمة إلبية قريبة من أنظمة طوائف المهن التي قضت عليها الثورة الفرنسية، وهو من المواثقات التي حرمت تلك الثورة تأسيسها؛ إذ يرفض النظام المركزي الذي أقامته الثورة المذكورة.
ولا يبالي المذهب النقابي بأي واحد من المبادئ الديموقراطية الثلاثة: الحرية والمساواة والإخاء، بل تطالب النقابات أعضاءها بالخضوع المطلق المبطل لكل حرية.
وليس عند النقابات من القوة ما يكفي لبغي بعضها على بعض، ولذلك نراها تتقابل كالإخوة، ولكن لا بد من تطاحن منافعها المتباينة عندما تنال ما تصبو إليه من القوة، وذلك كما حدث أيام العهد النقابي في الجمهوريات الإيطالية، فوقتئذ تنسى ما تبديه اليوم من الإخاء ويحل محل المساواة استبداد نقابي.
ويظهر أن ذلك الوقت قريب، فالسلطة النقابية تعظم بسرعة، ولا ترى أمامها سوى حكومة عزل لا تدافع عن نفسها، بل تخضع لمطاليب النقابات.
وقد استعاذت الحكومة الإنكليزية أخيرا بهذه الطريقة في نزاعها مع نقابة المعدنين التي أنذرت إنكلترة بوقف حياتها الصناعية إذا لم تحدد أصغر أجرة يأخذها المنتسبون إليها من دون أن يحدد أصغر عمل يقومون به، ومع أنه لم يكن هنالك ما يسوغ قبول هذا الطلب فقد رضيت الحكومة بأن تقترح على الپرلمان أن يضع قانونا موافقا له، وما ألقاه مستر بلفور من الكلام الرزين في هذا الموضوع أمام مجلس النواب جدير بإنعام النظر ، قال مستر بلفور:
إن بلادنا ذات التاريخ الطويل الحافل بجلائل الحوادث لم تجد نفسها تجاه خطر داهم كالخطر الحاضر، ومصدر هذا الخطر هو تلك النقابة التي تهدد صناعة مجتمعنا وتجارته بالفالج مع أن حياة هذا المجتمع قائمة على ما فيه من مصانع ومتاجر.
ولا حد لسلطة المعدنين تحت ظل القانون الحاضر، فهل كان لنا عهد بمثل ذلك؟ وهل ظهر في بلادنا أمير إقطاعي أشد بغيا من هؤلاء؟ وهل وجدت نظير أولئك مواثقة أمريكية سخرت من المصلحة العامة مستعينة بما خولها القانون من الحقوق؟ إن ما في قوانيننا ونظامنا الاجتماعي وفي الصلات المتبادلة بين صناعاتنا ومهننا من الكمال يلقينا - أكثر من كل جيل سابق - في الخطر العظيم المحدق بالمجتمع في هذا الزمن، وها نحن أولاء نشاهد المظهر الأول لقوة العناصر التي سوف تغمر المجتمع إذا لم يحذر منها، ويدل الطور الذي تذعن الحكومات به لمطاليب المعدنين على انتصار أولئك الذين يقومون في وجه المجتمع. (3) لماذا تتحول بعض الحكومات الديموقراطية الحديثة بالتدريج إلى طوائف إدارية
إن ما ينشأ عن المبادئ الديموقراطية من الفوضى والمنازعات الاجتماعية يسوق بعض الحكومات إلى تحول مفاجئ قد ينتهي بجعل سلطتها اسمية فقط، ويقع هذا التحول - الذي نلخص نتائجه الآن - بتأثير بعض العوامل المهيمنة:
تتألف حكومة البلاد الديموقراطية من نواب تم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، فيسنون القوانين ويعينون الوزراء ويسقطونهم، ولا يمضي وقت قصير على تسلم الوزراء زمام الأمور حتى يبدلوا، وبما أن من يحل محلهم من الوزراء ينتسبون إلى حزب آخر فإنهم يحكمون بمبادئ مخالفة لمبادئ سابقيهم.
والذي يظهر أول وهلة أن القرار والدوام لا يكونان في بلاد تتجاذبها مؤثرات متباينة كثيرة، ولكننا، مع هذا التذبذب، نرى أن أمر حكومة ديموقراطية مثل الحكومة الفرنسية مستقيم بعض الاستقامة، فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ نفسرها بقولنا: إن الوزراء - وإن ظهر أنهم يحكمون - ليس بيدهم من الحكم سوى شيء يسير، وينحصر سلطانهم فيما يلقون من الخطب التي قل من يصغي إليها وفي بضعة تدابير فاسدة، وإن خلف سلطة الوزراء السطحية العاطلة من القوة والدوام، والتي هي ألعوبة بيد المشتغلين بالسياسة، سلطة خفية آخذة في النمو، أعني سلطة الإدارات، فلهذه السلطة ذات التقاليد والمراتب والمتصفة بالاستمرار قوة اعترف الوزراء بعجزهم عن مناهضتها،
1
وقد بلغ تجزؤ المسئولية في الإدارات مبلغا جعل الوزراء لا يرون أمامهم من هو ذو شخصية كبيرة، ويقوم أمام عزائمهم المؤقتة ما يعترض به عليهم من الأنظمة والعادات والأحكام، فيوجب عدم علمهم هذه الأمور قعودهم عن الإقدام على خرقها.
ولا بد من تناقص ما للحكومات الديموقراطية من السلطة، ومن نواميس التاريخ الثابتة يتضح أنه متى عظمت شوكة إحدى الطبقات، كطبقة الأشراف أو الإكليروس أو الجيش أو الشعب، لا تلبث أن تستعبد الأخرى، فعلى هذا الوجه صارت الجيوش الرومانية تعين الأباطرة وتسقطهم، وقد لقي الملوك مصاعب شديدة في مكافحة الإكليروس، وابتلع مجلس النواب السلطة أيام الثورة الفرنسية ثم حل محل الملك.
ونرى أن طائفة الموظفين ستكون دليلا جديدا على صحة هذا الناموس، وها هي ذي قد أخذت ترفع صوتها وتهدد وتعتصب بعد أن عظم أمرها، ومن ذلك اعتصاب موظفي البريد واعتصاب موظفي سكك الحكومة، وهكذا يتألف من السلطة الإدارية دولة صغيرة في وسط الدولة الكبيرة، ولا بد من استئثار السلطة الإدارية بالسلطة الحقيقية إذا استمرت على نشوئها الحاضر، فتكون نتيجة ما قمنا به من الثورات انتقال السلطة من الملوك إلى طائفة خفية مستبدة غير مسؤولة من الموظفين. •••
يستحيل اكتشاف عاقبة المعارك التي تنذرنا بالأفول، ويجب ألا نتفاءل أو نتطير، وإنما يجب أن نقول: إن الضرورة لا تلبث أن توازن الأمور، فالعالم يجد في سيره من غير أن يبالي بما نلقيه من الخطب، ولا شك في توصلنا إلى ملاءمة تقلبات البيئة المحيطة بنا عاجلا كان ذلك أو آجلا، وإنما الصعوبة كلها في الانتهاء إلى هذه الملاءمة من غير اصطدام، ثم في مقاومة أوهام الخياليين الذين خربوا العالم غير مرة حينما عجزوا عن تجديده.
ذهبت أثينة ورومة وفلورنسة وغيرها من المدن التي أضاءت التاريخ ضحية أولئك النظريين الخطرين الذين كانت أفعالهم واحدة: فوضى فحكم مطلق فانقراض.
ولا تنفع هذه الدروس المؤتمرين الكثيرين في الوقت الحاضر، والذين لا يزالون يجهلون أن الفتن التي أثارتها أطماعهم تنذرهم بالويل والثبور، والذين بذروا في نفوس الجماعات آمالا يتعذر تحقيقها، وحركوا شهواتها، وقوضوا الروادع التي أقيمت في قرون كثيرة لزجر أمثالهم.
وإن مقاتلة الجماعات العمي لصفوة الرجال من الأمور التي جرت سنة التاريخ عليها، وما أكثر المدنيات التي قضى عليها انتصار الحكومات الشعبية! فالخواص يبنون، والعوام يهدمون، ومتى ضعف أولئك ظهر تأثير هؤلاء المفسد.
ولم تتقدم الحضارات العظيمة إلا بالتغلب على العوام، ولم ينشأ عن الاستبداد الديموقراطي فوضى فحكم مطلق فغارات أجنبية ففقد استقلال في بلاد اليونان وحدها؛ بل إن الاستبداد الفردي عقب استبداد الجماعات في كل زمن، وهو الذي زعزع عظمة رومة، وأدى إلى قضاء البرابرة عليها.
الخلاصة
بحثنا في هذا المؤلف عن الثورات المهمة التي زلزلت بنيان التاريخ، ولكننا فصلنا - على الخصوص - أمر الثورة الفرنسية التي هي أهمها؛ لقلبها أوربة مدة عشرين سنة، ولأن صداها لا يزال يرن.
وهذه الثورة مصدر وثائق نفسية لا ينضب معينها، ولا نعلم دورا تاريخيا جمع تجارب كثيرة في وقت قصير مثل دورها.
وقد وجدنا في كل صفحة من صفحات هذه الفاجعة مجالا لتطبيق ما بيناه في مؤلفاتنا المختلفة من المبادئ الدالة على ما عند الجماعات من الروح الموقتة، وعلى ما عند الشعوب من الروح الثابتة، وعلى تأثير المعتقدات، وشأن المؤثرات الدينية والعاطفية والاجتماعية، وعلى تصادم أنواع المنطق.
وأحوال المجالس الثورية تنبئنا بصحة نواميس روح الجماعات، فالمسير لهذه المجالس في حالة الاندفاع وحالة الخوف عدد صغير من الزعماء، وكثيرا ما تأتي هذه المجالس أعمالا مخالفة لعزائم كل عضو من أعضائها وهو منفرد، فمع أن المجلس التأسيسي كان ملكيا فقد قضى على الملكية، ومع أن الجمعية الاشتراعية كانت مشبعة من روح الإنسانية فقد سمحت بوقوع مذابح سبتمبر، ومع أنها كانت مسالمة فقد دفعت فرنسة إلى القيام بحرب هائلة، ثم وقع مجلس العهد في مثل ذلك التناقض مع أن أكثريته كانت مؤلفة من فلاسفة ذوي عواطف رقيقة، فمع أن أعضاء مجلس العهد كانوا يمجدون المساواة والإخاء والحرية ويمقتون الاضطهاد فقد اقترفوا أشد المظالم، وقد وجد مثل هذا التناقض في عهد الديركتوار أيضا، فمع أن مجالسه كانت معتدلة في أمانيها سفكت الدماء بغيا وعدوانا، ومع أنها أرادت توطيد دعائم السلم الدينية فقد نفت ألوف الكهنة، ومع أنها ودت تعمير فرنسة فقد زادتها خرابا.
إذن، الاختلاف تام بين عزائم رجال الثورة الفرنسية وهم منفردون وعزائمهم وهم مجتمعون، وعلة ذلك إطاعتهم قوى خفية لا سلطان لهم عليها، فهم، وإن اعتقدوا أنهم خاضعون لسلطان العقل المطلق، كانوا يعانون ما لم يدركوا أمره من المؤثرات الدينية والعاطفية والاجتماعية. •••
تقدم الذكاء مع تعاقب الأجيال ففتح للإنسان آفاقا عجيبة، وأما الخلق الذي هو أساس روح الإنسان والمحرك الحقيقي لأعماله فلم يتبدل منه شيء، وإذا تنكر الخلق قليلا فإنه لا يلبث أن يظهر كما كان؛ ولذلك وجب النظر إلى الطبيعة البشرية كأمر واقع لا يتغير.
ولم يرض القائمون بالثورة الفرنسية بذلك، فجربوا تحويل الناس والمجتمعات باسم العقل، ولم يتيسر لأي مشروع من وسائل النجاح كما تيسر لمشروعهم، فقد كانت قوتهم - حينما أرادوا إنجازه - أعظم من قوة الجبابرة، ولكن الثورة الفرنسية، مع تلك القوة ومع انتصار الجيوش ومع ما سنوه من القوانين الصارمة ومع استئثارهم بالسلطة، لم تؤد إلى غير التخريب وإقامة الحكم المطلق.
ولم تخل هذه التجربة من فائدة، والتجارب ضرورية لتثقيف الأمم، فلولا الثورة الفرنسية لصعب إثبات كون العقل المطلق لا يغير الرجال وكون المجتمع لا يتجدد كما يريد المشترعون مهما كان سلطانهم عظيما. •••
ولم تلبث الثورة الفرنسية التي أثارتها منافع الطبقة الثانية أن أصبحت شعبية فحاربت الغريزة العقل، وانتهكت حرمات الزواجر التي أخرجت الإنسان من طور الهمجية إلى طور الحضارة، وقد حاول المصلحون أن ينشروا مذاهبهم باستنادهم إلى مبدأ السلطة الشعبية، وصار الشعب الذي يقوده الزعماء يتدخل في مذاكرات مجالس النواب ويقترف أشد المظالم.
وتاريخ الجماعات في ذلك الدور حافل بالفوائد، فهو يثبت خطل المشتغلين بالسياسة الذين يعزون كل فضيلة إلى الروح الشعبية.
وتدلنا حوادث الثورة الفرنسية على أن الشعب يرجع مسرعا إلى همجية القرون الخالية إذا تفلت من الزواجر الاجتماعية التي هي أساس كل مدنية وترك يسير بغرائزه، وفي كل انتصار يتم للثورة الشعبية عود إلى التوحش، ولو استمرت ثورة الكومون التي وقعت سنة 1871 لأحيت دور الهول الأكبر، وقد اقتصر رجال هذه الثورة على إحراق أهم مباني باريس عندما رأوا أنهم لم يكونوا من القوة بحيث يستطيعون قتل أناس كثيرين.
ولم تكن الثورة الفرنسية غير تصادم قوى نفسية تخلصت من القيود الزاجرة لها، وقد نشأ عن تصادم هذه القوى النفسية التي هي الغرائز الشعبية والمعتقدات اليعقوبية والمؤثرات الإرثية والشهوات والمطامع التي لا حد لها - تضريج فرنسة بالدماء، وإشرافها على الدمار.
ويلوح للناظر من بعيد أن الثورة الفرنسية كانت تتألف من مجموع تلك القوى التي لا يوجد تجانس بينها، ويجب تحليلها للوقوف على حقيقة تلك النازلة واستجلاء سر المحرضات التي حركت نفوس أبطالها، وتتوازن أنواع المنطق المختلفة - أي المنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني ومنطق الجماعات - في الأزمنة العادية تقريبا، وأما في أيام الفتن فإنها تتصادم وينتقل الإنسان من حال إلى حال.
ولا ننكر في هذا الكتاب ما جادت به الثورة الفرنسية على حقوق الأمم، ولكننا قلنا - مع كثير من المؤرخين - إن ما ربحناه، بعد اقتراف كثير من أعمال التخريب في أثنائها، كان لا بد من نيله مع سير الحضارة بلا عناء، وما أعظم ما أصابنا من خسارة مادية وانحلال أدبي لكسب زمن قصير! ولا يتم إصلاح هذه الأمور الطارئة على سلسلة التاريخ إلا بالتدريج، ولم يحقق هذا الإصلاح حتى الآن.
ويظهر أن الشبيبة الحديثة تفضل العمل على الفكر، وهي تستخف بمجادلات الفلاسفة العقيمة، ولا فائدة في الآراء الفارغة التي تدور حول أمور لا يزال جوهرها مجهولا، حقا إن العمل أمر محمود، ولكنه لا يفيد إلا إذا وضع في محله.
والعمل يكون مضرا إذا احتقر الحقائق وسعى في تحويل مجرى الأمور بعنف، والفرق عظيم بين تجربة يكون موضوعها المجتمع وتجربة يكون موضوعها ما في المختبر من الآلات، وما أتينا به من الانقلابات يدلنا على شدة ما ينشأ عن الأغاليط الاجتماعية من المصائب.
ويرغب كثير من المتهوسين الذين استحوذت عليهم الأوهام أن يعيدوا دور الثورة الفرنسية، وسترجع الاشتراكية - التي هي خلاصة هذه الرغبة - بالناس إلى الوراء؛ لإبطالها أهم عوامل السير فيهم، فهي بإقامتها تبعة الجماعات ومبادرتها مقام تبعة الفرد ومبادرته تسقطهم إلى الدرك الأسفل.
وليست الساعة الحاضرة ملائمة لمثل هذه التجارب، فالأمم تمعن في التسلح، وجميع الناس شاعرون بأنه لا مكان للأمم الضعيفة في مزاحمة العالم.
تنمو في أوربة الوسطى دولة حديثة مخيفة طامعة في سيادة العالم لتنال أسواقا لسلعها، فإذا داومنا على خرق اتحادنا بما يقع عندنا من النزاع الداخلي، ومن تنافس الأحزاب، ومن الاضطهاد الديني، ومن وضع قوانين مقيدة لتقدم الصناعة؛ فإن شأننا في العالم ينتهي، ونفسح في المجال إلى أمم ملتحمة الأجزاء عالمة كيف تسير مع مقتضيات الطبيعة من غير أن تحاول تذليلها، نعم، إن الحال لا يعيد الماضي، وإن التاريخ حافل بأمور وقعت بغتة، ولكن الحوادث في مجموعها مسيرة بسنن أزلية.
ناپیژندل شوی مخ