روح عظيم المهاتما غاندي
روح عظيم المهاتما غاندي
ژانرونه
ومن الجائز أن هذه المواقف المستغربة التي كان «المهاتما» يقفها من قومه في أحرج الأوقات وأشدها جماحا بالنفوس، كانت تمتحن قداسته في نظرهم أعسر امتحان تمر به زعامة سياسية، ولكنه كان هو الناجح أبدا في كل امتحان من هذا القبيل، وكان أبناء قومه يخرجون من كل محنة وقد انقلبت في نظرهم إلى امتحان عسير لهم، يمتحنهم في قدرتهم على مجاراة القداسة وحاجتهم إلى رياضة النفس على طاعتها والائتمار بأمرها، فيخرج غاندي من كل محنة من هذه المحن وهو أعلى مكانا وأقدر على قيادة الخاصة والعامة في أوقات الفتنة والضيق.
أما الإنجليز فقد كانت مخالفة غاندي لهم ومخالفته لنزعات قومه تواجهانهم معا بظاهرة إنسانية عجيبة لا نظير لها في حضارتهم الغربية: ظاهرة يعرفون منها ما يعرفون ويجهلون منها ما يجهلون، ويحيط بها كل ما يحيط بالمجهول من الهيبة والاستغراب، ولكنه استغراب لم يخل قط من عطف وتقدير.
أكبره قومه، وأكبره خصومه، وكانت القوة الروحانية التي استحقت هذا الإكبار هي الجيش الزاخر الذي يحارب به في ميدانه، ويختار ميدانه حيث شاء كما يشاء؛ لأنه لا ينهزم في ميدان اختاره ولا يؤمن بأنه ينهزم، ولا يبالي الهزيمة إذا جاءت بوادرها بغير ما يروم. •••
كان الإنجليز يحارون في هذه القوة كيف يلقونها وكيف يعالجونها إلا شيئا واحدا لا يحارون فيه، ولا يحار فيه غيرهم وهو جدارتها بكل احترام.
وتجلى هذا الاحترام في تلك المحاكمة الفريدة التي لم يشهد لها مثيل في تاريخ القضاء كله، وهي محاكمة «المهاتما» المشهورة التي بدأت في الثامن عشر من شهر مارس سنة 1922 أمام محكمة أحمد أباد.
دخل المتهم الهزيل إلى ساحة المحكمة، فوقفت المحكمة إجلالا له حتى استوى في مكانه.
وسئل عن التهمة - وهي تعريض الحكومة للكراهية وتصعيب مهمتها في حكم الهند - فأجاب بأنه «مذنب» على حسب القانون القائم، ثم وجه خطابه إلى القاضي «برومفيلد » قائلا: «إنك لا معدى لك في مقامك هذا من أحد أمرين: إما أن تعتزل منصبك وتنفض يدك من السوء، وإما أن تصدر حكمك بأقسى العقوبة إذا اعتقدت أن هذا النظام وهذا القانون الذي تطبقه فيهما الخير لأبناء هذه البلاد، وأن عملي من ثم ضار بمصالحهم.»
فمضى القاضي في تلخيص التهمة، وكان في تلخيصه كأنما يستعطف المتهم ويعتذر للحكومة؛ لأنها اضطرت إلى تقييد حريته وكفه عن الاسترسال في دعوة تحول بين الحكومة - كحكومة - وبين القيام بعمل من الأعمال التي تتولاها الحكومات.ثم وجه الخطاب إلى «المتهم» فقال: «إنك رجل يرى فيك الناس - حتى مخالفيك - إنسانا من ذوي المثل العليا والحياة النبيلة بل المقدسة»، ثم نطق بالحكم فإذا هو يقضي عليه بالحبس البسيط ست سنوات. وعقب على ذلك قائلا: «إنه لن يكون أحد أسعد منه إذا استخدمت الحكومة حقها فقصرت هذه المدة أو أطلقت سبيله»، وعاد يسأل غاندي مهونا لوقع هذا الحكم: ألم يحكم بمثله من قبل على طيلاق؟!
فكان مسلك القاضي في القضية كلها مسلك من ينفض الإدانة عن نفسه، ويحاول أن يبرئ نفسه أمام العالم وأمام التاريخ من اتهام يخشى أن يقترن باسمه، ولم يكن مسلك رجل يعاقب ويدين.
لم يكن غاندي «يمثل» في إدانة نفسه، ولم يكن القاضي «يمثل» في تبرئة نفسه، ولكنه كان يعتذر للقانون ويعتذر للسياسة في حضرة قوة أكبر من القانون وأكبر من السياسة، وهي القوة التي لا تجهل ولا يجهل لها أثر، وكان أثرها المحقق أنها قد غلبت قانون الحاكم الأجنبي كما غلبت جيوشه وأساطيله، وانتصرت بالسلاح الذي اختاره صاحبها، وقال غير مرة: إنه يحارب به لأن السلاح الماضي هو السلاح الذي يخافه الخصم لا السلاح الذي يخافه حاملوه.
ناپیژندل شوی مخ