رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة
رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة
خپرندوی
دار السلام للطباعة والنشر
د ایډیشن شمېره
الثانية
ژانرونه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هديه وسار على منهاجه إلى يوم الدين.
وبعد:
فالقرآن الكريم هو آخر الكتب المنزلة من عند الله تعالى لهداية الخلق، وإرشاد الناس إلى صراط الله المستقيم.
إنه -مع السنة النبوية الشريفة- منهج الله تعالى في صورته الأخيرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولما كانت الكتب السابقة موقوتة بوقت محدد، وبأناس معينين، فقد شاء الله تعالى أن ينالها التحريف والتبديل، حتى يكون ذلك دليلا على عدم صلاحيتها للاستمرار والدوام.
ومن هنا تكفل الحق ﵎ بحفظ القرآن الكريم من أن يناله ما نال الكتب السابقة من هذا التحريف.
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ١ كما هيأ -جل شأنه- الأمة التي شرفت بنزول القرآن إليها أن تتحمل مسئولية الحفاظ على هذا الكتاب المجيد، باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وأنها تأتي يوم القيامة شاهدة على الأمم السابقة وما فعلت مع أنبياء الله تعالى ورسله، وما غيرت وحرفت من منهج الله تعالى.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ٢، ٣.
فمنذا بدأ نزول القرآن على رسول الله ﷺ كان ﷺ يتلقى ما يوحى إليه من
_________
١ الحجر: ٩.
٢ أي: خيارا، أو متوسطين معتدلين.
٣ البقرة: ١٤٣.
1 / 5
ربه -جل وعلا- فيحفظه ويعيه، ثم يبلغه لأصحابه ﵃ فيحفظونه كذلك، ويحفظونه لغيرهم كما سمعوه من رسول الله ﷺ مجودا مرتلا، عملا بتوجيه الله تعالى في قوله: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ ١.
ومع أن الأمة العربية التي شرفت بنزول القرآن الكريم بلغتها كانت تعتمد على الحفظ أكثر من اعتمادها على الكتابة، إلا أن رسول الله ﷺ -زيادة في التوثيق- اتخذ له كُتَّابا يكتبون له ما ينزل به الوحي، ومنهم: الخلفاء الأربعة، وأبان بن سعيد، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس، وخالد بن الوليد، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان ﵃ جميعا.
فكان كلما نزلت آية أو آيات أمرهم ﷺ بكتابتها، بعد أن يدلهم على موضعها من السورة، فيقول لهم: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا، قبل كذا وبعد كذا ... " ٢ كما كان سائر الصحابة يكتبون لأنفسهم مثل ذلك، متحرين الدقة والأمانة في كل ما يقرءون أو يكتبون: فكانوا إذا تماروا٣ في الآية يقولون: إنه أقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، وفي رواية: على رأس ثلاث ليال، فيبعث إليه من المدينة، فيجيء، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله ﷺ آية كذا وكذا؟
فيقول: كذا وكذا. فيكتبون كما قال٤.
وكانوا يكتبون ذلك على عسب السعف -وهو الطرف العريض من جريد النخل- والألواح من أكتاف الغنم وغيرها من العظام الطاهرة، والرقاع -وهي الجلود- واللخاف -وهي الحجارة العريضة البيض التي تشبه الألواح- وغير ذلك من الوسائل التي كانت متيسرة حينذاك.
_________
١ المزمل: ٤.
٢ رواه أبو داود في سننه بنحوه في كتاب الصلاة، باب من جهر بها، أي بالبسملة، والترمذي في أبواب التفسير، في تفسير سورة التوبة، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، والإمام أحمد في المسند "١/ ٥٧، ٥٩"، والنسائي في فضائل القرآن، والحاكم في المستدرك "٢/ ٢٢١-٢٢٢"، وأبو داود في المصاحف "١/ ٢٣٠".
٣ تماروا: أي تجادلوا.
٤ انظر: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار لأبي عمرو الداني ص٨.
1 / 6
ولم يلحق الرسول ﷺ بالرفيق الأعلى إلا والقرآن كله محفوظ في صدره وبعض الصحابة ﵃ ومكتوب في السطور، حسب الطريقة التي أشرنا إليها، غير أنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، ولا مرتبَ السور، ولكن الصحابة ﵃ كانوا يعرفون ترتيبها حسبما بين لهم رسول الله ﷺ.
ولعل الحكمة في ذلك هي: أن القرآن كان لا يزال ينزل على رسول الله ﷺ إلى ما قبل وفاته بأيام، وكانت هناك آيات تنزل بنسخ بعض الآيات الأخرى، فلو أمر ﷺ بجمعه وترتيبه، لأدى ذلك إلى الاختلاف والاختلاط فحفظه الله تعالى في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ، حتى جمع في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه١.
ولما كثرت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" ﵁ وكان أهل كل بلد يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، وكانوا حينما يلتقون في بعض المجامع ينكر بعضهم على بعض ما يسمعونه من وجوه القراءات التي لم يتلقوها، وكادت تحدث فتنة، فتدارك "عثمان" هذا الأمر، وأمر بنسخ مصاحف متعددة من المصحف الذي جمع في عهد الخليفة الأول "أبي بكر" ﵁ وأرسل هذه المصاحف إلى الأمصار المختلفة.
وقد كتبت هذه المصاحف بطريقة تخالف الرسم الإملائي في بعض الكلمات كما سنبين ذلك -إن شاء الله تعالى- فأطلق على هذا الرسم "الرسم العثماني" نسبة إلى "عثمان بن عفان" ﵁.
ولما كثر الداخلون في الإسلام -من غير العرب- في عهد معاوية بن أبي سفيان" ﵁ وتفشى اللحن في الكلام العربي، وخشي أن يتطرق اللحن إلى القرآن الكريم، اقتضى الأمر وضع علامات تساعد على النطق السليم، دون المساس بالرسم العثماني، وأطلق على هذه العلامات: نقط الإعراب ونقط الإعجام -كما سيأتي.
وأدخل على هذه العلامات بعض التحسينات حتى وصلت إلى ما هي عليه
_________
١ انظر: صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن.
1 / 7
الآن في المصاحف.
ومن حين لآخر تظهر بعض الأصوات منادية بكتابة المصحف بالرسم الإملائي، بحجة أن الناس لا تستطيع القراءة في المصاحف بالرسم العثماني!
فأردت أن أوضح -في هذا البحث- موقف العلماء من هذه القضية، وهل كتابة المصحف بالرسم العثماني توقيفية لا يجوز مخالفتها، أو أنها ليست توقيفية، فيجوز الاجتهاد فيها وكتابة المصحف بما يتفق وقواعد الإملاء الحديثة؟
وسوف يشتمل البحث على النقاط التالية:
الكتابة العربية وعلاقتها بالرسم العثماني.
جمع القرآن في عهد أبي بكر: أسبابه وطبيعته.
نسخ المصاحف في عهد عثمان: أسبابه وطبيعته.
عدد المصاحف التي أرسلها عثمان ﵁ إلى الأمصار.
كيفية اشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة.
ظواهر الرسم العثماني وموقف العلماء منها.
هل الرسم العثماني توقيفي أو اصطلاحي؟
قرارات المجامع الفقهية حول قضية الرسم العثماني.
الضبط: مفهومه وأسبابه.
تقسيم المصحف وأسبابه.
خاتمة المطاف.
والله تعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به أهل القرآن والعاملين به إنه جواد كريم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الدكتور/ شعبان محمد إسماعيل
مكة المكرمة في: ١٤١٧هـ-١٩٩٧م.
1 / 8
الكتابة العربية وعلاقتها بالرسم العثماني:
يرى بعض المؤرخين أن آدم ﵇ هو أول من كتب بالسريانية والعربية١.
وقيل: أول من كتب: إدريس ﵇ ويستدل القائلون بذلك بما روى ابن حبان أن النبي ﷺ قال: "إدريس أول من خط بالقلم" ٢.
ويرى ابن العربي أن إسماعيل ﵇ تعلم العربية من جبريل ﵇ -صحيحة فصيحة سوية حتى وصلت إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم٣.
وروي عن ابن عباس ﵄ أن هودا ﵇ كان يكتب بالعربية، كما روي عنه أن أول من وضع الخط العربي هو إسماعيل -عليه السلام٤.
وهناك آراء أخرى كثيرة أوردها ابن كثير في البداية والنهاية٥، ثم خلص منها: بأن إسماعيل ﵇ أخذ كلام العرب من قبيلة "جرهم" الذين نزلوا بمكة قرب السيدة "هاجر" أم إسماعيل ﵇ وقد أنطقه الله بها في غاية الفصاحة، إلى أن وصلت إلى الأمة العربية التي نزل القرآن الكريم بلغتها.
ومن المعلوم أن الذين كانوا يعرفون الكتابة في عصر النبوة قليلين، منهم الخلفاء الأربعة، وأبو سفيان، وطلحة بن عبيد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبان بن سعيد، والعلاء بن المقري في مكة.
كما كان في المدينة، عمر بن سعيد، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، والمنذر بن عمرو.
ولما هاجر الرسول ﷺ إلى المدينة المنورة عمل على نشر تعلم الكتابة، حتى جعل فداء بعض الأسرى -بعد غزوة بدر الكبرى- تعليم نفر من أبناء
_________
١ البرهان للزركشي "١/ ٣٧٧".
٢ الإحسان بترتيب ابن حبان "١/ ٢٨٨".
٣ انظر: أحكام القرآن "٤/ ١٩٤٥".
٤ انظر: البرهان للزركشي "١/ ٣٧٧".
٥ ج١ ص١٠٣.
1 / 9
المسلمين القراءة والكتابة١.
وبدأت الكتابة تنتشر في كل ناحية من النواحي التي يفتحها المسلمون، ووضع العلماء لها من القواعد والموازين والتحسينات حتى اكتملت على الصورة التي هي عليها الآن.
وكان لعلماء الكوفة في ذلك الفضل الأكبر، حتى نسبت الكتابة إليهم، ثم لعلماء البصرة بعد ذلك، حتى جاء أبو علي: محمد بن مقلة، وزير المقتدر بالله، أحد خلفاء الدولة العباسية، فحول الكتابة الكوفية إلى صورتها الحالية، وحذا حذوه أبو الحسن: علي بن هلال البغدادي، المعروف بابن البواب، وتبعهما على ذلك كثير من العلماء، حتى وصلت الكتابة العربية إلى ما هي عليه الآن، من جمال الرونق، وحسن التركيب٢.
والأصل في الكتابة: أن تكتب الكلمة كما ينطق بها تماما، من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل ولا تغيير، مع مراعاة الابتداء بها، والوقف عليها، ويطلق على ذلك: الرسم القياسي.
أما كتابة القرآن الكريم: فأحيانا تكتب الكلمة كما ينطق بها، وأحيانا أخرى تخالف هذه القاعدة، كلفظ "الصلاة" كتبت "الصلوة" بالواو مع أنها تنطق بالألف، وكذلك لفظ "الزكاة" تكتب "الزكوة".
ومثل: حذف الألف أو الواو أو الياء من بعض الكلمات، أو زيادة حرف، أو كتابة هاء التأنيث بالتاء، وغير ذلك من الأحكام التي أطلق عليها اسم "الرسم العثماني" أو الرسم الاصطلاحي٣.
وقد استنبط العلماء هذه القواعد مما كتبه الصحابة ﵃ في المصاحف نقلا عما كتب في حضرة النبي ﷺ وأقرهم عليه.
_________
١ انظر: زاد المعاد "٥/ ٦٥" طبعة إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر تحقيق شعيب الأرنئوط وعبد القادر الأرنئوط.
٢ انظر: المزهر للسيوطي "٤/ ٣٤٩"، عيون الأخبار لابن قتيبة "١/ ٢٣".
٣ يذكر العلماء أن الخط ثلاثة أقسام: خط يتبع فيه الاقتداء بما فعله الصحابة ﵃ وهو رسم المصحف. وخط يتبع فيه ما يتلفظ به المتكلم، ويسقط ما يحذفه، وهو خط العروض، ولذلك يكتبون التنوين ويحذفون همزة الوصل؛ لأنه لا ينطق بها، والقسم الثالث: الخط القياسي: وهو تصوير الكلمة بحروف هجائها، بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها.
انظر: البرهان الزركشي "١/ ٣٧٦". لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني "١/ ٥١"، شرح مورد الظمآن للخراز "١/ ٦ وما بعدها"، لطائف البيان في رسم القرآن للشيخ أحمد أبو زيتحار "١/ ٦٤".
1 / 10
جمع القرآن في عهد أبي بكر ﵁ أسبابه طبيعته:
الأسباب:
يذكر العلماء من أسباب جمع القرآن في عهد أبي بكر ﵁ أنه لما انتقل الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وتولى أبو بكر الخلافة، ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام، لأسباب مختلفة، ومنعوا بعض حقوق الإسلام كالزكاة، وانضم بعضهم إلى مدعي النبوة: "مسيلمة الكذاب" فجهز أبو بكر ﵁ جيشا لقتال هؤلاء المرتدين، لردهم إلى حظيرة الإسلام، فلم تمض إلا فترة قصيرة حتى عادت الجزيرة العربية كلها إلى الإسلام.
وكان ممن شارك في إخماد تلك الفتنة كثير من حفاظ القرآن الكريم، واستشهد في هذه الواقعة عدد كثير منهم والتي كانت تسمى "موقعة اليمامة"١.
فلما رأى عمر بن الخطاب ﵁ ما حدث لقراء القرآن وخشي الموت على من بقي منهم في وقائع أخرى، أشار على أبي بكر ﵁ بجمع القرآن، حفاظا عليه من الضياع بموت حفظته.
روى البخاري بسنده عن زيد بن ثابت "ت٤٥٠هـ" ﵁ قال: "أرسل إلي أبو بكر الصديق مقتل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ﵁: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر٢ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء
_________
١ مكان بنجد بينه وبين البحرين عشرة أيام -كما يقول ياقوت الحموي- وكانت تسمى قبل ذلك بالعروض، فسميت باليمامة على اسم "اليمامة بنت سهم بن طسم" انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي "٥/ ٤٤٢".
٢ استحر: اشتد.
1 / 11
بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت: لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟!
قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمراني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟! قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ﵄ فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ﵄"١.
طبيعة هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت الذي اختير لهذا العمل كان حافظا للقرآن الكريم، إلا أنه وضع لنفسه منهجا يسير عليه، يليق بمكانة القرآن الكريم وصونه عن أن يضاف إليه ما ليس منه، أو ينقص منه حرف أو كلمة، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة اثنين من الصحابة على أن تلك الآية كتبت بين يدي النبي ﷺ وعلى أن ذلك المكتوب من الوجوه التي نزل بها القرآن، لا من مجرد الحفظ، وأنه لم ينسخ، واستقر في العرضة الأخيرة٢.
_________
١ صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، وفي كتاب التوحيد، باب: "وكان عرشه على الماء ... " انظر: فتح الباري "٩/ ١٠-١١، ١٣/ ٤٠٤".
٢ انظر: فتح الباري "١٠/ ٣٨٨"، كتاب المصاحف للسجستاني "١/ ١٨١" تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان ط قطر.
1 / 12
ولا يقال: إن زيد بن ثابت خرق هذه القاعدة، حيث اكتفى في إثبات آخر سورة التوبة بشهادة أبي خزيمة الأنصاري وحده، وليس بشهادة اثنين، فقد اجتمع فيها زيد بن ثابت نفسه، وعمر بن الخطاب ﵁.
روى ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير، قال: "أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله ﷺ ووعيتهما. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما"١.
والسبب في اختيار زيد بن ثابت ﵁ لهذه المهمة الخطيرة: ما جاء في رواية البخاري السابقة، من قول أبي بكر ﵁ لزيد: "إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ".
فهذه المؤهلات: من كونه شابا، فيكون أقدر على العمل، وهو عمل شاق، وكونه عاقلا، فيكون أوعى، وكونه غير متهم، فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله ﷺ فيكون أكثر ممارسة ... وهذه هي الصفات التي جعلته يكون على رأس القائمين بهذ العمل في نسخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان ﵁ كما سيأتي٢.
وقد استغرق هذا العمل الجليل ما يقرب من سنة، ما بين واقعة اليمامة التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة للهجرة، أو الأشهر الأولى من السنة الثانية عشرة، وبين وفاة أبي بكر ﵁ في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية، وكان ذلك قبل وفاته بقليل، إذ إن الروايات تشير إلى أن الصحف التي جمع فيها القرآن أودعت عنده بقية حياته، ثم انتقلت -بعد ذلك- إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى السيدة حفصة بنت عمر ﵄ بعد وفاة والدها، وظلت عندها إلى أن أخذها عثمان بن عفان ﵁ لنسخ المصاحف منها -كما سيأتي٣.
_________
١ انظر: فتح الباري "٩/ ١٢".
٢ انظر: فتح الباري "١٠/ ٣٨٧"، رسم المصحف للدكتور غانم قدوري ص١٠٤ ط العراق.
٣ انظر: تاريخ الطبري "٣/ ٤١٩"، البرهان للزركشي "١/ ٢٣٨".
1 / 13
فيستفاد من كل ما تقدم:
أولا: أن السبب في جمع القرآن في عهد أبي بكر ﵁ هو الخوف من ذهاب شيء منه بموت حفظته في الوقائع الحربية، على غرار ما حدث في واقعة اليمامة.
ثانيا: يستفاد منه طبيعة هذا الجمع، وهي أنها مجرد نقل وتجميع لما كان مكتوبا في حياة الرسول ﷺ لأنه لم يكن مجموعا في مكان واحد، وإنما كان مفرقا في السعف واللخاف والرقاع -كما تقدم. فأصبح مجموعا في مكان واحد، مرتب السور والآيات، وأطلق عليه اسم "الصحف".
قال أبو عبد الله المحاسبي: "كتابة القرآن ليست محدثة، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله ﷺ فيها القرآن منتشرا، فجمعها جامع، وربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء"١.
وفي خلافة عمر بن الخطاب ﵁ ظهرت بعض المصاحف الخاصة التي كان يكتبها بعض الصحابة لأنفسهم أثناء السماع من رسول الله ﷺ أو أثناء كتابة الوحي، مثل: مصحف عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما.
وكانت هذه المصاحف تشتمل على بعض التفسيرات التي كانوا يسمعونها من رسول الله ﷺ لبعض الآيات، والتي تسرب منها ما يسمى بالقراءات الشاذة فيما بعد.
الأمر الذي جعل الخليفة الثالث: عثمان بن عفان ﵁ يأمر بحرقها عندما نسخ المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار المختلفة -كما سيأتي٢.
_________
١ انظر: البرهان "١/ ٢٣٨"،الإتقان للسيوطي "١/ ٦٠".
٢ انظر: المصاحف "١/ ٢٠٤"، الإتقان "٤/ ١٥٨".
1 / 14
نسخ المصاحف في عهد عثمان بن عفان؛ أسبابه طبيعته:
تمهيد:
جاء في صحيحي البخاري ومسلم: عن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" ١.
فنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف ثابت بالسنة الصحيحة المتواترة، ولا نزاع في ذلك.
وقد كان ﷺ يقرأ بهذه الأحرف كلها، إلا أن الصحابة ﵃ لم يتلقوا هذه الأحرف جميعها، فمنهم من أخذ بحرف من هذه الأحرف، ومنهم من أخذ بحرفين، ومنهم من زاد على ذلك، فلما تفرقوا في البلاد، أخذ التابعون عنهم حسبما أخذوا عن رسول الله ﷺ، ولذلك اختلف الناقلون للقراءات، فمنهم من نقل قراءة معينة، ومنهم من لم ينقلها، لأنه لم يسمعها ممن أخذ عنه.
وكان أهل كل بلد أو إقليم يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فأهل الشام يأخذون بقراءة "أبي بن كعب"، وأهل الكوفة بقراءة "عبد الله بن مسعود"، وغيرهم بقراءة "أبي موسى الأشعري" وهكذا٢.
ورغم علم المسلمين أن هذه القراءات إنما هي أوجه متعددة لقراءة بعض الكلمات، نزلت رخصة وتيسيرا من الله ﷿، رحمة بالأمة، إلا أنه مع توالي الأيام ومرور الزمن، وقر في نفوس أهل كل إقليم أن قراءتهم هي الأصح والأولى، مما جعلهم ينكرون على غيرهم قراءتهم حينما يلتقون في مواطن الجهاد والأحفال.
_________
١ أخرجه البخاري في فضائل القرآن: باب أنزل القرآن على سبعة أحرف حديث رقم "٤٩٩١"، ومسلم في صلاة المسافرين: باب بيان أن القرآن على سبعة حروف "٢٧٢/ ٨١٩".
٢ انظر: المصاحف "١/ ١٩٠".
1 / 15
الأمر الذي أدى إلى نسخ المصاحف، مع الأسباب الأخرى.
الأسباب الذي أدى إلى نسخ المصاحف، مع الأسباب الأخرى:
يمكن تلخيص تلك الأسباب في الأمور الآتية:
أولا: اختلاف أهل الأمصار والأقاليم في القراءات، كما تقدم في التمهيد:
روى البخاري بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت "ت٤٥هـ" وعبد الله بن الزبير "ت٧٣هـ" وسعيد بن العاص "ت٥٨هـ"، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام "ت٤٣هـ"، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة١: إذا اختلفتهم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم٢. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى
_________
١ وهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
٢ أي: "الذي نزل به القرآن أولا، وهو الحرف الذي طلب النبي ﷺ الزيادة عليه في الحديث الشريف: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" رواه البخاري ومسلم.
فقد نزل جبريل بحرف قريش أولا، ثم كان يأتي بالحروف في عرضاته القرآن مع النبي ﷺ كل عام في رمضان، فكان الله تعالى ينزل في هذه العرضات ما شاء أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى التي تدعو الحاجة إليها. نقل الإمام أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: "أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة ... ".
أو المراد من قوله: "فإنما بلسانهم": أكثره. أو ما اصطلحوا عليه من قواعد الكتابة، ولذلك روي أنهم اختلفوا في كتابة كلمة "التابوت" من قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ البقرة: ٢٤٨. هل تكتب بالتاء أو بالهاء، وقد رسمت بالتاء تمشيا مع مذهب قريش في الكتابة. انظر: كتاب المصاحف "١/ ٢٠٧-٢٠٨".
1 / 16
كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق١.
ثانيا: اختلاف المعلمين للقرآن:
فقد كان القراء المعلمون للقرآن الكريم يعلمون الغلمان ويقرئون تلاميذهم على حسب ما تلقوه من الأحرف، فنشأ -تبعا لذلك- جيل من أهل القرآن يقرءون بروايات مختلفة، ووقر في أذهانهم أن ما تلقوه هو الصحيح.
روى ابن جرير بسنده عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل٢، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.
قال أبو أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بعضا بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا، وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما".
قال أبو قلابة: "فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يملى عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله ﷺ ولعله أن يكون غائبا في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه، فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم"٣.
ثالثا: أن بعض الصحابة ﵃ كانوا يكتبون لأنفسهم مصاحف خاصة مشتملة على الأحرف السبعة جميعها، وفيها بعض الأحرف التي نسخت بالعرضة الأخيرة، ولم يطلعوا على هذا النسخ، كما أنها كانت تشتمل على الألفاظ التي
_________
١ صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، كما رواه الترمذي في سننه في أبواب تفسير القرآن "٤/ ٣٤٧-٣٤٨"، والبغوي بسنده عن الإمام البخاري وقال: هذا حديث صحيح، شرح السنة "٤/ ٥١٩-٥٢٠" والحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص٣٠-٣١، والسجستاني في المصاحف "١/ ٢٠٤".
٢ معناه: أن المعلم يقرئ تلاميذه حسب قراءة الصحابة، والآخر يقرئ حسب قراءة صحابي آخر وهكذا.
٣ انظر: جامع البيان للطبري "١/ ٢٠"، مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص٨١.
1 / 17
كانت من قبيل التفسير من رسول الله ﷺ فظلوا يحتفظون بهذه المصاحف لأنفسهم، مع مخالفتها لما جمعه أبو بكر ﵁.
ومن أشهر هذه المصاحف: مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أبي موسى الأشعري، ومصحف المقداد بن عمرو وغيرهم.
فوجود هذه المصاحف، وقراءة أصحابها منها، وتعلم البعض منهم أدى إلى الاختلاف.
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى اختلاف المسلمين في القراءة وإلى التنازع حيثما يلتقون في بعض المواقع الحربية وغيرها، الأمر الذي دعا الخليفة الثالث عثمان بن عفان ﵁ أن يأمر بنسخ المصاحف من المصحف الذي كتبه الخليفة الأول أبو بكر الصديق ﵁ وإحراق ما عداه من المصاحف، سدا لباب الفتنة، واختلاف المسلمين في قراءة القرآن الكريم.
وما فعله عثمان ﵁ كان بمشهد من الصحابة ﵃ فأقروه عليه، ولم ينازع في ذلك أحد، فكان إجماعا منهم على صحة ما فعل١.
عدد المصاحف:
اختلفت الروايات في عدد المصاحف التي نسخت وأرسلت إلى الأمصار المختلفة:
فقد ذكر السجستاني -في إحدى الروايتين- أنها كانت سبعة، أرسل واحد منها إلى مكة، وآخر إلى الشام، وثالث إلى اليمن، ورابع إلى البحرين، وخامس إلى البصرة، وسادس إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحد، وهو الذي احتفظ به عثمان ﵁ لنفسه، وكان يطلق على هذه النسخة: المصحف الإمام، باعتبار أن الخليفة هو المرجع للمسلمين جميعا، فهي أشبه بالنسخة الأصلية التي تكون في حوزة الدولة٢.
وفي رواية القرطبي: أن عثمان ﵁ وجه للعراق والشام بأمهات٣. ولم يوضح ذلك العدد.
_________
١ البرهان "١/ ٢٤٠"، فضائل القرآن لابن كثير ملحق بالتفسير "٧/ ٤٤٦".
٢ انظر: كتاب المصحف "١/ ٢٤٢".
٣ الجامع لأحكام القرآن "١/ ٥٤".
1 / 18
بينما ينص أبو عمرو الداني أن المصاحف أرسلت إلى: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، وسائر العراق١.
وذكر السيوطي أن عددها خمسة، أرسلت إلى: مكة، والشام، والكوفة، والبصرة، والمدينة، بالإضافة إلى النسخة التي أبقاها عثمان ﵁ لنفسه، والتي عرفت بالمصحف الإمام٢.
ولم يكتف عثمان ﵁ بإرسال المصاحف إلى الأمصار، وإنما بعث مع كل مصحف واحدا من الصحابة يقرئ من أرسل إليهم المصحف، وغالبا ما كانت قراءة هذا الصحابي توافق ما كتب به المصحف، نظرا لوجود بعض الاختلافات بين هذه المصاحف -كما سيأتي.
فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمصحف المدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري٣.
وهذا ما يرجح الرواية التي تنص على أن المصاحف كانت خمسة.
وأيا كان الاختلاف في عدد النسخ، إلا أن الثابت أن هذه المصاحف بقيت متداولة، ينسخ الناس منها، حتى ظهرت دور الطباعة، وظهرت المصاحف المطبوعة بأشكالها المختلفة، وأحجامها المتعددة، وأطلق عليها: "المصاحف العثمانية" نسبة إلى "عثمان بن عفان" ﵁ لا باعتبار أنه نسخها بطريقة تختلف عن الطريقة التي كتبت بها في عهد الرسول ﷺ وعهد أبي بكر ﵁ وإنما لأنه هو الذي نسخ هذه المصاحف وأرسلها إلى الأمصار، فذاعت هذه المصاحف وانتشرت، وتلقاها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وإلا فسيدنا "عثمان" ﵁ لم يبتكر خطا جديدا لكتابة المصاحف، وإنما تبع في ذلك نفس الخط الذي كتب به المصحف من قبل٤.
_________
١ المقنع ص١٩.
٢ الإتقان "١/ ١٧٢".
٣ انظر: مناهل العرفان للزرقاني "١/ ٣٩٦-٣٩٧".
٤ رسم المصحف ونقطه للدكتور عبد الحي الفرماوي ص٧٧ط. مكتبة الجمهورية، القاهرة.
1 / 19
طبيعة كتابة المصاحف العثمانية:
للعلماء في طبيعة كتابة هذه المصاحف خلاف طويل، هل كانت مشتملة على الأحرف السبعة كلها، أو على حرف واحد منها، أو على ما يحتمله الرسم من هذه الأحرف.
في هذه المسألة ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
أنها نسخت على حرف واحد من الأحرف السبعة، بسبب اختلاف الناس في القرءاة -كما تقدم- فأراد عثمان ﵁ جمع الناس على حرف واحد هو حرف قريش، بدليل قوله ﵁ للقرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، أي بلهجتهم وطريقتهم في القراءة، وكان زيد مدنيا من الأنصار.
ومما استدل به أصحاب هذا المذهب: ما رواه أبو داود عن سويد بن غفلة قال: "قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا. قال١: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت".
قال المحقق ابن الجزري: نقلا عن الإمام الطبري وغيره: "إن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم، ومرخصا فيه، وقد جعل لهم الاختيار في أي حرف قرءوا به، كما في الأحاديث الصحيحة٢. قالوا: فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب، ولا
_________
١ أي: عثمان بن عفان ﵁.
٢ يريد: الأحاديث الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف وجاء في بعضها: " ... فأي حرف قرءوا أصابوا".
1 / 21
فعل لمحظور١.
مناقشة هذا الرأي:
ويمكن أن يناقش هذا الرأي فيقال: ليس من المعقول والمقبول أن يجمع "عثمان" ﵁ الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى لحكم وأسرار كثيرة، منها: التخفيف على الأمة في تلاوة كتاب ربها، ففي ذلك مخالفة صريحة للأحاديث الصحيحة التي تدل على نزول القرآن على سبعة أحرف.
ومن الثابت -أيضا- أن المصاحف التي نسخها "عثمان" كانت موافقة للصحف التي نسخها الخليفة الأول "أبو بكر" ﵁، ومعلوم أنها لم تكن على حرف واحد، وإنما كانت مشتملة على ما كتب بين يدي النبي ﷺ ولم تنسخ تلاوته، وثبت في العرضة الأخيرة.
قال القاضي أبو بكر: "لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسم وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه، ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد"٢.
فحاشا عثمان أن يمنع الناس من قراءة ما علمت قرآنيته، ونقل تواترا عن رسول الله ﷺ وحاشا أصحاب رسول الله ﷺ أن يوافقوه على ذلك، وهم لا يخافون في الله لومة لائم٣.
يضاف إلى ذلك: أن هذا الرأي يخالف الواقع الذي عليه المسلمون اليوم، من قراءة القرآن بالقراءات التي وصلت إلينا بالطرق الصحيحة، والأسانيد
_________
١ النشر في القراءات العشر "١/ ٣١-٣٢".
٢ انظر: البرهان في علوم القرآن "١/ ٢٣٥-٢٣٦".
٣ الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن للشيخ محمد بخيت المطيعي ص١٢٢.
1 / 22
المتصلة، وهي مشتملة على أحرف كثيرة، ومن شروط صحتها: موافقتها لأحد المصاحف العثمانية، فما من قراءة من السبعة أو العشرة إلا وهي موافقة لأحد هذه المصاحف، فكيف يقال: إن "عثمان" ﵁ جمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة، وترك الستة الباقية؟!
وخير ما قيل في معنى جمع "عثمان" الناس على حرف واحد: هو جمعهم على ما تواتر عن رسول الله ﷺ واستقر في العرضة الأخيرة، ولم تنسخ تلاوته، وهو يمثل بالنسبة للقراءات الكثيرة التي كان الناس يقرءون بها حرفا واحدا، بدليل أنه ﵁ أمر بإحراق المصاحف المختلفة التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم، لما فيها من أحرف بعضها قد نسخ، وبعضها كان تفسيرا من رسول الله ﷺ وكانت من بين الأسباب التي جعلت الناس يختلفون في القراءة قبل نسخ "عثمان" للمصاحف كما تقدم.
ولذلك يطلق عليها العلماء بأنها قراءة شاذة، لأنها خالفت الأركان الثلاثة للقراءة الصحيحة وهي: التواتر، وموافقة أحد المصاحف العثمانية، وموافقة وجه من أوجه اللغة العربية١.
الرأي الثاني:
إن المصاحف كانت مشتملة على الأحرف السبعة جمعيها، وهو رأي جمع من الفقهاء والقراءة والمتكلمين.
وحجتهم على ذلك: أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها "أبو بكر وعمر" وإرسال كل مصحف منها إلى مصر من أمصار المسلمين، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك، ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن٢.
_________
١ انظر: منجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري ص٩١، الإتقان للسيوطي "١/ ١٢٩"، غيث النفع في القراءات السبع للصفاقسي ص٦-٧ بهامش سراج المبتدئ.
٢ انظر: النشر "١/ ٣١"، الإتقان "١/ ٤١".
1 / 23
ويرد على هذا الرأي: أنه تقدم عند الحديث على جمع القرآن في عهد أبي بكر ﵁ أنهم لم يكتبوا فيه إلا ما نقل بالتواتر، ولم تنسخ تلاوته، واستقر في العرضة الأخيرة، والصحابة ﵃ حينما نسخوا المصاحف نسخوها على هذا الأساس، وهم في هذا غير تاركين ولا مهملين لشيء من القرآن، بل هم متبعون ما ثبت لديهم بالدليل القاطع أنه من القرآن، وقد صحت الروايات بأن الأحرف السبعة نسخ منها الكثير في حياة رسول الله ﷺ بدليل أن ما لم تتحقق فيه الأركان الثلاثة للقراءة الصحيحة يحكم عليه بأنه شاذ، مع أن الشاذ كان يقرأ به في أول الأمر ثم نسخ. وفي الأدلة التي سنذكرها للمذهب الثالث ما يرد على هذا المذهب.
الرأي الثالث:
إن هذا المصاحف كانت مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي ﷺ على جبريل ﵇.
وهو رأي جمهور العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين١.
قال الإمام ابن الجزري:
"ولا نشك أن القرآن نسخ منه وغير فيه في العرضة الأخيرة، فقد صح النص بذلك عن غير واحد من الصحابة، وروينا بإسناد صحيح عن زر بن حبيش قال: قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: الأخيرة: قال: فإن النبي ﷺ كان يعرض القرآن٢ على جبريل ﵇ في كل عام مرة. قال: فعرض عليه القرآن في العام الذي قبض فيه النبي -ﷺ- مرتين، فشهد عبد الله -يعني ابن مسعود- ما نسخ منه وما بدل، فقراءة عبد الله الأخيرة٣.
وإذ قد ثبت ذلك فلا إشكال أن الصحابة كتبوا في هذه المصاحف ما تحققوا أنه قرآن، وما علموه استقر في العرضة الأخيرة، وما تحققوا صحته عن النبي
_________
١ النشر "١/ ٣١".
٢ أي: يقرأ على جبريل ما نزل عليه من القرآن.
٣ النشر "١/ ٣٢".
1 / 24
ﷺ مما لم ينسخ ... ثم قال ابن الجزري: وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين، فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- تلقوا عن رسول الله ﷺ ما أمره الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن. لفظه ومعناه جميعا، ولم يكونوا ليسقطوا شيئا من القرآن الثبات عنه ﷺ ولا يمنعوا من القراءة به١.
وبذلك يظهر رجحان هذا المذهب، وضعف المذهبين السابقين، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة، والعشرة، بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الأعصار الأول قِلٌّ من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين، وذلك أن القراء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين، من السبعة وغيرهم، -أيضا- أكثر، وهلم جرا، وهذا كله يرد الرأي القائل بأنهم جمعوا في هذه المصاحف كل الأحرف السبعة.
وتقدم -كذلك- مناقشة الرأي القائل: بأن عثمان ﵁ جمع الناس على حرف واحد، وألغي الستة الباقية، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال٢.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله ﷺ على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولاه عثمان المصحف"٣.
_________
١ النشر "١/ ٣١".
٢ انظر: النشر "١/ ٣٣"، منجد المقرئين للجزري ص٦١، الإتقان للسيوطي "١/ ١٩٢".
٣ البرهان "١/ ٢٣٧".
1 / 25