الفكرة الرئيسية لهذه المقالة هي أن الحضارة مفسدة للبشرية، وأن كمال فنوننا وعلومنا صاحبه فساد أخلاقنا. وقبل أن نكتسب مهارات المتحضرين وخصالهم، وقبل أن تشكل أنماط حياتنا القيم الزائفة والاحتياجات المصطنعة، كانت أخلاقنا «بدائية لكنها طبيعية». ولكن مع ميلاد المعرفة وانتشارها، فسد نقاؤنا الفطري تدريجيا بفعل الذوق والعادات المخادعة، وبسبب «القناع الغادر للدماثة»، وكذلك «كل البهرجة الخبيثة» للموضة، حتى ذوت فضيلتنا الغضة تماما وكأن المد أطاح بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). اعتقد روسو أننا ليس بوسعنا إلا أن نندم على فقدان بساطة هذه الحقبة البدائية، عندما كان أسلافنا يعيشون معا في أكواخ، ولم يرجوا أكثر من رضا أربابهم. في البداية، كانت الجماليات الوحيدة الموجودة في العالم هي تلك التي تشكلها الطبيعة نفسها، وبعدها كانت الحضارات التي ظلت الأقرب للطبيعة، والتي كانت الأقل حملا لأعباء بهرجة الثقافة والتعلم، هي الأقوى والأكثر حيوية. ولاحظ روسو أن فنوننا وعلومنا لا تلهم الأفراد الشجاعة أو روح الوطنية، بل على العكس فهي تسلب الرجال إخلاصهم للدولة وقدرتهم على حمايتها من الغزو. ومنذ أن أخفقت الاختراعات الصينية المذهلة في حمايتهم من التتار الهمج الجاهلين، عدت سعة اطلاع حكمائهم غير ذات جدوى. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفرس الذين دربوا على الفضيلة لا العلم استطاعوا بسهولة غزو آسيا، بينما كانت عظمة الألمان والسكوثيين قائمة بشكل كبير على بساطتهم وبراءتهم وروحهم الوطنية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
والأهم من ذلك، يدلل تاريخ أسبرطة، عند مقارنته بتاريخ أثينا، كيف أن المجتمعات التي جنبت نفسها الآثار العقيمة للثقافة كانت أكثر قوة وقدرة بكثير على مقاومة رذائل الاستبداد. ولقد حذر سقراط، أحكم حكماء أثينا، أبناء وطنه من التبعات الخطيرة لجهلهم، ولاحقا، سار على دربه كيتو في روما، وهاجم بعنف المتع المغرية بشكل عابر للفن والبهرجة التي قوضت من حيوية أبناء وطنه. لكن أحدا لم ينتبه إلى تحذيراتهما، وتدريجيا ساد شكل زائف بالكامل من التعلم في كل من أثينا وروما؛ مما أضر بالانضباط العسكري والإنتاج الزراعي واليقظة السياسية. وأضحت الجمهورية الرومانية، على وجه الخصوص، التي كانت في فترة من الفترات منارة الفضيلة مرتعا للجريمة حيث رزحت رويدا رويدا تحت نير الاستعباد الذي أخضعت له من قبل أسراها من البرابرة. وأضاف روسو أن معظم نمط الاضمحلال نفسه أيضا ميز انهيار الإمبراطوريات القديمة في مصر واليونان والقسطنطينية، مؤكدا أن هناك قاعدة عامة مفادها أن الحضارات العظيمة تضمحل تحت وطأة تقدمها العلمي والفني (الأعمال الكاملة، الجزء الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
لكن «الخطاب» الأول يقدم تفسيرا مقتضبا لهذه التطورات؛ حيث رسم بالكاد الخطوط العريضة التي تبين كيف للفنون والعلوم أن تكون مسئولة بشكل شامل هكذا عن الاضمحلال الأخلاقي للإنسان. من ناحية، رأى روسو أن كل العلوم تشكلت بسبب التكاسل، حيث انبثق كل تخصص من الرذائل التي يتسبب فيها التكاسل؛ فعلى سبيل المثال، علم الفلك منشؤه الخرافات، والهندسة منشؤها البخل والتقتير، والفيزياء الفضول المفرط. ومن ناحية أخرى، ففنوننا في كل مكان تعززها الرفاهية الناجمة بدورها عن كسل البشر وخيلائهم. وتطرح الرفاهية باعتبارها سمة أساسية حيث أكد روسو أنها نادرا ما تستطيع الازدهار في غياب الفنون والعلوم، بينما الفنون والعلوم لا مكان لهما من دونها. وفقا لحجة روسو، من الواضح أن انحلال الأخلاق كان تبعة ضرورية لا محالة للرفاهية التي نبعت بدورها من التبطل والتكاسل، مع كون فساد واستعباد البشر اللذين كانا سمتين لتاريخ جميع الحضارات عقوبة مناسبة لسعينا المبالغ فيه للتقدم بما يتجاوز مرحلة نعمة الجهل التي كنا سننعم بالبقاء فيها إلى الأبد (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 2-1: صفحة العنوان والصورة في صدر كتاب روسو «خطاب حول الفنون والعلوم» (1750).
من كل هذه الجوانب، يشمل «خطاب حول الفنون والعلوم» الفكرة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ عند روسو - ومفادها أن تقدمنا الثقافي والاجتماعي الظاهر أفضى فقط إلى انحلالنا الأخلاقي الحقيقي - والتي ستصبح بعد ذلك واحدة من أبرز الأفكار المحورية لأعماله. ولكن في «الخطاب» الأول، تظهر فلسفة التاريخ هذه رغم ذلك بدائية وغامضة، وتتكون على الأقل من ثلاث أطروحات متمايزة عن مسار فسادنا وظروفه؛ الأولى: مفادها أن البشرية انحدرت تدريجيا من براءة حالتها البدائية الأولى، أما الثانية: فتشمل الزعم بأن الأمم المتخلفة فنيا وعلميا متفوقة أخلاقيا على نظيراتها المتحضرة، أما الأخيرة: فتحوي الادعاء بأن الحضارات العظيمة أمست منحلة بسبب تقدمها الثقافي. بالنسبة إلى قرائه، بدا أن هذه الافتراضات لا تتسق بسهولة بعضها مع بعض، خاصة أن الإشادة التي يبديها روسو لأسلوب حياة الإنسان البدائي من ناحية، وللحضارة القوية التي تخلف المجتمع الهمجي من ناحية أخرى اجتمع معها افتراضه - الذي كان رائجا جدا في عصر التنوير - بأن التاريخ البشري قاطعته انتكاسة، في ظل عدة قرون من بربرية العصور الوسطى وخرافاتها، انحدرت به إلى حالة أدنى من حالة الجهل الأولى التي كنا عليها. في نهاية خطابه، أطلق روسو أطروحة جديدة كليا مفادها أنه ليست العلوم والفنون بحد ذاتها هي المصدر الحقيقي لمصائبنا، بل استغلال أصحاب المواهب العادية لها استغلالا سيئا، واختتم روسو مؤلفه بملاحظة أن العلماء والفنانين العظماء ينبغي أن تكون مهمتهم بناء آثار للاحتفاء بمجد الروح البشرية. وقال روسو إن على بقيتنا نحن البشر العاديين ألا نطمح إلى أكثر من جهالتنا وقدراتنا المتوسطة التي كتبتها لنا الأقدار. من الصعب فهم علة اعتقاد روسو بأن مثل هذه الأفكار مناسبة لنقد الفنون والعلوم، والدفاع عن فضائل الجهل والبراءة والإنسانية العامة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
ولم يكن روسو واضحا فيما يتعلق بالطبيعة المحددة للإسهام الذي يعتقد أن تطور الثقافة قدمه لاضمحلالنا الأخلاقي. فقد أبدت أطروحته ببساطة شديدة أن تقدم الفنون والعلوم مسئول عن اضمحلال الأخلاق، لكنه أيضا افترض أن الفنون والعلوم عززها التراخي والخيلاء والرفاهية التي يطمح إليها الناس ويستمتع بها البعض. فهل كان تطور الثقافة السبب وراء فساد أخلاقنا إذن؟ أم نتيجة له؟ من الواضح أن روسو الذي كان همه الأساسي في مؤلفه هذا تصوير الشرور النابعة دوما من السعي وراء الثقافة والمعرفة، لكنه في الوقت نفسه زعم أن فنوننا وعلومنا تدين لآثامنا بأصلها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ يبدو عاجزا عن اتخاذ قراره في هذا الشأن.
ولعل من بين أسباب تردده حقيقة أن الكثير من سمات رؤيته مستعار من مفكرين سابقين، مثل مونتسكيو وفينلون ومونتين وسينيكا وأفلاطون، والأهم منهم جميعا بلوتارك، الذين اطلع روسو على كتاباتهم اطلاعا وافيا، وأيد أو لخص ملاحظاتهم حول سمو الفطرة على المهارة المكتسبة، أو وطأة اللامساواة أو اضمحلال الحضارة في مؤلفه. وفي «مقالة عن حكمي كلودياس ونيرون»، لاحظ ديدرو لاحقا أن «ثمة مائة تأس على عصر الجهل قام بها آخرون قبل روسو في مواجهة تقدم الفنون والعلوم»، ولا شك أنه كان على حق. لكن «الخطاب» الأول لروسو يفتقر إلى الأصالة؛ ليس فقط لأنه يحمل في طياته الأثر العام لأعمال أخرى في سياق مثيل للذي استرشد به روسو، أو لأن معرفة روسو مستقاة من مصادر ثانوية بشكل واضح - فروايته عن السكوثيين مثلا مستخلصة أصلا من هوراس، ووصفه للألمان من تاسيتس، ورسمه الخطوط العريضة للفرس من مونتين، ومقارنته بين أسبرطة وأثينا مستخلصة من عدة كتاب، ولا سيما القس بوسويه والمؤرخ تشارلز رولين - بل أيضا لأن سمة المقالة الاشتقاقية مرجعها بادئ ذي بدء حقيقة أن الكلمات نفسها التي يوظفها روسو للتعبير عن أفكاره الأساسية كانت مستعارة غالبا من مراجعه.
شكل 2-2: بورتريه لديدرو بريشة فان لو.
وبخلاف الإشارات المرجعية المتعددة الواضحة مصادرها بشكل جلي، هناك على الأقل فقرة واحدة في «خطاب حول الفنون والعلوم» مستعارة، دون إقرار، من مؤلف مونتسكيو «روح القوانين» وأخرى من مؤلف القس بوسويه «خطاب حول التاريخ العالمي»، وهناك العديد من المقتطفات من عمل بلوتارك المعنون «سير»، وقرابة 15 مقتطفا من مؤلف «مقالات» لمونتين، قليل منها وحسب لمح إلى مصدرها؛ بينما السطر الأخير من نص روسو مستخلص بتصرف من بلوتارك ومونتين معا. ولعل مؤلف دوم جوزيف كاجو «انتحالات روسو» المنشور عام 1766، كان قاسيا بشكل مفرط - وغير صحيح في أغلب المواضع - في اتهاماته، لكنه يظل شاهدا على أن «خطاب حول الفنون والعلوم» هو المؤلف الوحيد لروسو الذي تحيط به مثل هذه الشكوك. ورغم النبرة والسمة الجدليتين لحجة المقالة، فهي ليست موجهة ضد أي عمل آخر بعينه، ويبدو أن روسو لجأ إلى مصادره بغية تلخيصها أكثر من إضفاء ثقل على أفكاره الخاصة. والفارق بين خطابيه الأول والثاني فيما يتعلق بهذه النقطة واضح أشد الوضوح؛ إذ إنه في «خطاب عن اللامساواة» بادر بدحض أفكار أغلب الشخصيات الواردة فيه، بينما في «خطاب حول الفنون والعلوم» تمكن بقدر أكبر بعض الشيء أن يعكس، وإن كان بلغة أقوى خاصة به ، وجهات النظر المتباينة التي طرحها بالفعل أسلافه. أعلن عمله الرئيسي الأول عن فلسفة تاريخية التزم بها روسو لبقية حياته، وأدرك معاصروه، على الأقل، تدريجيا أنها رؤيته الأكثر محورية على الإطلاق. لقد كان هذا العمل هو باكورة أعماله الموقعة باسم «مواطن من جنيف»، معلنا بذلك عن فخره بهويته الشخصية والأدبية. ولكن، في تدشينه لمشواره الأدبي، ثبت أنه إنجازه الأدنى تمييزا له وبيانا لشخصه.
رغم ذلك، دان روسو في تطوره ككاتب بالفضل الكثير إلى الجدل الذي أثير حول «خطاب حول الفنون والعلوم» إثر نشره مباشرة، والذي استمر لثلاث سنوات تالية. أثناء ذلك الجدل، وإذ حاول أن يبرئ عمله من انتقادات الناقدين، شرع روسو في جمع مزاعمه الأصلية وبيانها وتهذيبها بطريقة كانت عادة مختلفة عن طريقة صياغتها الأولى. لم يبذل روسو جهدا للرد على كل الذين حاولوا الانتقاص من قدر عمله، لكنه حاول تفنيد ستة أعمال على الأقل استرعت انتباهه. زعم العديد من نقاده أنه أخفق في تحديد النقطة الزمنية المحددة لاضمحلالنا الأخلاقي، فأعطى بذلك الانطباع بأنه يفضل عصور البربرية في أوروبا على نهضة العلوم التي تبعتها. واستنكر قليلون افتقاره العام للاطلاع والمعرفة، وتحديدا فيما يتعلق بسوء فهمه للطبيعة القاسية للسكوثيين القدماء، أو إهماله لحقيقة أن بعض الرموز الذين أثنى عليهم، مثل سينيكا، اعتقدوا أن الآداب تعزز الفضيلة لا تحط من قدرها. قال روسو ردا على هذه المزاعم، وخاصة في «رسالة إلى الأب رينال»، بأن غايته كانت عرض أطروحة عامة عن العلاقة بين التقدم الفني والعلمي، من ناحية، والاضمحلال الأخلاقي، من ناحية أخرى، لا أن يقتفي أثر أي مجموعة محددة من الأحداث، وبالتالي فقد أساء هؤلاء النقاد فهم الغرض من مؤلفه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
ناپیژندل شوی مخ