ولم يطق فرناند أن يملك نفسه، وقال له بدهشة واستغراب: أنت يا سيدي تعشق ؟ - نعم، فلا تقطع علي الكلام، إنني أحب كما يحب الفتى وهو في العشرين من عمره، وأرجو أن لا تخونني في سري. - معاذ الله يا سيدي أن أخونك في سرك، فقل ما تريد. - لقد بدأت بإقراري، فوجب علي أن أبلغ به إلى النهاية. أقول إن التي أحبها فتاة في مقتبل شبابها لم تر عيناي أجمل منها صورة ولا أبهج منظرا، ولقد بلغت من الجمال ما يفوق حد الوصف، فكأنها خلقت كما اشتهت، ولذلك فتنت بها، ولو تراها رؤيتي لهمت بها نفس هيامي.
فتبسم فرناند تبسم ازدراء، وقال: ليسمح سيدي أن أسأله إذا كان هذا الحب بل هذا الهيام متبادلا.
لا أعلم شيئا من ذاك، غير أن من بلغ سن الكهولة يغض الطرف ويتسامح في هذه الشئون، والذي أعلمه أنني أحب هذه الفتاة حبا يضيع صوابي ويعيقني عن واجباتي، فإن رئيسنا سيحيي في هذا المساء ليلة أنس، ولا أجد بدا من الذهاب بنفسي أو إرسال من ينوب عني، وقد علمت الآن أنني أؤثر الملتقى بتلك الفتاة على جميع الحفلات، وعلى قضاء كل ما يدعونه بالواجبات. - إذن فسأذهب من قبلك، وأعتذر عنك. - حسنا، ولكني لا أحب أن تعلم امرأتي وابنتي شيئا من ذلك، بل أود أن تعلما أنني ذهبت إلى تلك الحفلة. - ماذا تريد أن أفعل؟ - أريد أن ترافقهما إلى التمثيل، وبعدها ترافقهما معتذرا أن أحد أصدقائك عازم على السفر في الغد، وأنك ذاهب مع زمرة من الأصدقاء إلى إحياء ليلة وداع عنده، ثم تذهب إلى منزلك فتلبس ملابسك الرسمية، وتعود منه إلى منزل الرئيس فتنوب عني في حضور هذه الحفلة.
فأجابه فرناند بالقبول وهو شديد الأسف لاضطراره إلى البعد عن هرمين في هذه الليلة، ثم غادره وذهب إلى هرمين، فقابلته بمنتهى البشاشة والحنان، وذهبوا جميعا إلى قاعة التمثيل، وعادوا منها في الساعة الخامسة، واستأذن فرناند منهما على الشكل الذي اتفق مع حميه، ومضى إلى منزله.
أما بيرابو فإنه عاد إلى المنزل في الساعة السادسة، وبعد أن تناولوا الطعم دخلوا جميعا إلى قاعة البيانو، وجلست هرمين تعزف على تلك الآلة أشجى الأنغام، وجلس بيرابو بالقرب منها وهو يتكلف عدم المبالاة، أما تريزا فإنها صرفت اهتمامها إلى إصلاح نار المستوقد، وفيما هي تنحني لأخذ الملقط، عثرت برسالة مفتوحة فأخذتها دون أن تنظر إليها وأعطتها لزوجها وهي تقول: إن هذه الرسالة لك ولا ريب. فأخذها بيرابو وقرأ بصوت عال هذا العنوان: «إلى المسيو فرناند روشي» ثم قال: إن هذه الرسالة لفرناند وليست لي، وقد سقطت منه دون أن ينتبه إليها.
أما هرمين، فإنها لم تكد تسمع اسم فرناند حتى تركت البيانو، وتقدمت من بيرابو يدفعها الشوق إلى الاطلاع على هذه الرسالة.
وقال بيرابو وهو يتكلف السذاجة: إن هذا العنوان غريب في بابه، ويظهر أنه مكتوب بيد امرأة، بدليل هذه العبارة المكتوبة بعد العنوان، وهي «بواسطة خادمة غرفتي». فارتعشت هرمين واحمرت وجنتاها، ثم استحال ذلك الاحمرار إلى اصفرار، وجعلت تختلج، وقد حدثها قلبها بمصاب جلل.
أما بيرابو فإنه تظاهر أنه يقرأ الرسالة بغير اهتمام كمن يريد أن يقف عرضا على علائق صهره، ولكنه ما لبث أن قرأ سطرين منها حتى صاح صيحة انذهال وإنكار، وقرب من النور ليتم قراءة الرسالة بجلاء.
وعندما فرغ من تلاوتها تكلف الانفعال، ودنا من امرأته التي كانت واقفة تراقب ملامح زوجها وترتعش من الخوف، فقال لها: هذه الرسالة من باكارا المومس البغي الشهيرة، مرسلة إلى الذي أردت أن تصاهريه، فأهنئك بهذا الصهر الفاضل، وأرجو أن تقرأي هذه الرسالة كما قرأتها.
فأخذت تلك الأم المسكينة تقرأ هذه الرسالة التي خطتها يد الزور والباطل، والتي أهينت فيها ابنتها أقبح إهانة، ولم تبلغ إلى آخرها حتى صرخت صراخ اليأس وأغمي عليها، وأسرع زوجها إلى مساعدتها، وأخذ يصيح ويدعو الخدم، ويكثر من الجلبة والاهتمام ليدع وقتا لهرمين كي تطلع هي أيضا على الرسالة.
ناپیژندل شوی مخ