33
كانت باكارا جالسة في غرفة منزلها الجديد، وبينما هي مستغرقة في خلواتها تسأل الله الغفران عن هذه الحياة الجديدة، التي لم تكن تريد بها سوى إنقاذ فرناند وجميع أشخاص هذه الرواية من مخالب أندريا، إذ سمعت صوت جسم ثقيل قد سقط في الحديقة، فأسرعت إلى النافذة وأطلت منها، فرأت رجلا قد تسلق الجدران وألقى بنفسه منه إلى الحديقة، ثم جعل يمشي إلى المنزل فصعد السلم، وهي تراه دون أن يراها، إلى أن بلغ الغرفة التي هي فيها وقرع بابها بلطف، ففتحت باكارا الباب دون أن تتهيب، ودخل منه هذا الرجل ورفع قبعته مسلما عليها باحترام عظيم.
فاندهشت باكارا حينما رأته، ولكنها قابلته بابتسام ورحبت به ترحيبا لطيفا حل عقدة لسانه، وجعل يعتذر إليها عن قدومه وتسلقه جدار منزلها بأعذار تظاهرت بقبولها.
وكان هذا الرجل الكونت الروسي، وقد أتى ليغزو قلب باكارا متسلحا بملايينه، فلما استقر به المقام جلست باكارا بقربه وخاطبته: كفاك اعتذارا وأصغ لي فإني أعلم بشيء من مقاصدك، وأحب أن أوقفك على شيء من أمري فاسمع.
إنك لقيتني اليوم وهي أول مرة رأيتني فيها فرقت في عينيك، ودفعتك ثروتك وشهرتي السابقة إلى غزو فؤاد لم يتمكن أحد من الاستيلاء عليه، كما أخبرك صديقك البارون دون ريب، وهو لا بد أن يكون أخبرك بكثير من الأمور الشائعة عني.
فأراد الكونت أن يجيب، ولكنها منعته عن الكلام بإشارة، واستطردت حديثها قائلة: إنك لا تزال أيها الكونت في مقتبل الشباب فتيا لا يتجاوز عمرك العشرين، وهو العمر الذي لا يقف بصاحبه عن حد، أما أنا فقد بلغت السابعة والعشرين، ولكني جريت شوطا بعيدا في مضمار اللهو والغرور، حتى كأني قد بلغت ضعف عمري، وقلبت جميع صفحات الحياة في حين أنك لم تقرأ بعد الصفحة الأولى من كتابها؛ ولهذا فقد حق لي أن أكلمك بلهجة السيادة إذا أذنت. - تكلمي يا سيدتي كيف تشائين؛ فإنك السيدة الآمرة كيف كنت. - إني بالأمس كنت أجهل كل شيء عنك حتى اسمك، أما اليوم فإني أعرف ما يجول في خاطرك، فأصغ إلي ولا تشك بما أقول ولا تبتسم هذا الابتسام الدال على الريبة، فلقد دلوك علي أمس، وقالوا لك هي ذي امرأة حسناء لا رحمة عندها ولا قلب لها، وما أحبت في حياتها سوى المال، فقلت لهم إني في شرخ الشباب وثروتي لا عد لها، وسأجد بين جنبي هذه الحسناء قلبا يحب، أليس كذلك يا سيدي؟
فانحنى باسما وقال: هو ما تقولين. - إلا أني أقسم لك بأنك خدعت لانخداعهم، فإني لا أستطيع أن أحبك ولا طمع لي بمالك، وإذا أردت أن تتبين الصدق في قولي؛ فانظر إلي، فإني لا أنظر إليك نظرات الأمس، بل أقف في موقف طبيعي تبدو فيه حقائق النفس بما ينبعث من خفاياها من العيون، فتعلم أني على غير ما يظنه بي أولئك الأغرار.
ونظر إليها الكونت فرأى علائم الحزن الشديد بادية بين ثناياها، وعلم أن لها سرا تخفيه، ولكنه لم يتمالك عن أن يظهر حبه؛ فابتسمت له ابتسام الأم لطفلها، وقالت له: إنك لا تزال فتى، ومن كان له سنك فإن قلبه يكون طاهرا لم تدنسه عوادي الأيام بعد، فينطبع عليه كل قول شريف، ويصادف القول الصالح خير هوى في ذلك الفؤاد. انظر إلي تجد امرأة مسكينة تمثل دورا فوق طاقتها، بل تجد امرأة صالحة تجل نفسها التائبة عن الانغماس في حمأة الآثام، وهي تسألك الغوث بإخلاص دفعها إليه ما رأته يتقد بعينيك من أشعة الصدق، وما يجول بين ثناياك من علائم النبل والطهارة والشرف.
وكان الكونت ينظر إليها وهو منذهل مما رأى وسمع، فتبين الصدق من لهجتها، ورأى دمعة قد سقطت على وجنتها، فعلم أن الناس قد خدعوا بها، وأنها ليست دون قلب كما يشيعون عنها، بل علم أنها أرفع مما مثلها له رفاقه، وأن لديها حزنا عظيما تكتمه عن جميع الناس، وتستره بمظاهر الخلاعة والمجون، ثم حسب أنه أساء إليها بتجرئه على زيارتها؛ فقال لها: لقد أصبت يا سيدتي حين دعوتني فتى، فإني لولا حداثتي وطيش صباي لما تجاسرت على الإساءة إليك، ولكني أعتذر تائبا عن هذا الذنب.
فقاطعته باكارا قائلة: قل، أتريد أن تقسم يمينا؟ - أقسم لك بما تشائين. - أتقسم لي بشرفك وبشرف الأمة الروسية التي تنتسب إليها أنك لا تذكر حرفا أمام أحد من الناس عما دار بيني وبينك من الحديث؟ - أحلف حلفة وفي صادق.
ناپیژندل شوی مخ