شدت الفتاة جفونها لتفتح عينيها، كأنما تصحو من حلم أو كابوس، وسمعت جمالات تقول: الحياة الدنيا محطة قصيرة بين النوم والموت، والإنسان حيوان وقف على قدمين، إيه رأيك تدخلي معانا المجموعة. - مجموعة إيه؟ - مجموعة بحث في علم الروح. - الروح؟ - ورستم معانا في الجمعية. - لا يمكن! - ليه؟
لم تملك الفتاة الشجاعة لترد على السؤال، لم يؤمن رستم بوجود إله سماوي، فهل يؤمن بوجود الروح؟ ترن كلمة الروح في أذنها مراوغة غامضة تتخفى وراء غلالة، تكاد تشبه وجه رستم حين يقربه من وجهها، تلامسها شفتاه لحظة ثم تنسحبان مثل الخيال أو الوهم، لا شيء يبدو حقيقيا إلا رائحة ماء الكولونيا اللافندر، تبقى في ذاكرتها مع نكهة النبيذ في الهواء، يجمع بينهما الفراق أكثر من اللقاء، يقرر كل منهما أن يفارق الآخر من دون عودة، ثم يعودان بقوة أكبر من إرادتهما، لا يعرفان ما هي، ومن أين تأتي، من السماء، من الأرض، من الجسد، من الروح، من شيء آخر لا تعبر عنه الكلمات؟
يرتعش صوت رستم حين تسأله عن الجمعية، يقول إنه عضو غير عامل، لا يرشح نفسه ولا يدخل معركة الانتخابات، لا يؤمن بوجود الروح إلا في الخيال، في طفولته كانت خالته هي الروح المحلقة فوق رأس السرير، كأنما هي أمه الغائبة أو أبوه، تكاد تشبه صورة الله في خياله، يحبها ويخافها في آن واحد، يتغلب الخوف على الحب مع إدبار الطفولة، لم يعد يحب النساء في شبابه، لا ينجذب إلى أجسادهن، لا تثيره أردافهن الممتلئة المهتزة مع كل خطوة، ولا عطورهن النفاذة، رغم قوتها لا تخلو من نكهة الحيض، ربما ينجذب أكثر إلى أجساد الشباب والفتيان، عضلاتهم مشدودة، سيقانهم رشيقة خالية من الشحم، وأردافهم نحيفة قوية.
وتضرب جمالات المنضدة بقبضة يدها، هذا الرستم عرفته من أول نظرة، يشتهي الرجال أكثر من النساء مثل قوم لوط، ثم تضحك حتى تدمع عيناها، تمسحهما بمنديل ورق كلينكس، قوم لوط ذكرهم الله في القرآن، مما يؤكد وجودهم في الحياة الدنيا، مصيرهم نار جهنم يا عزيزتي، لن يدخل جنة عدن إلا الرجال الصالحون الذين ينجذبون للنساء فقط، والنساء الصالحات المنجذبات للرجال فقط، لكن معصية الرجال أكبر من معصية النساء، لأن قوم لوط ورد ذكرهم، أما اللوطيات من النساء فلم يذكرهم الله على الإطلاق في أي آية من الآيات ... إيه رأيك تدخلي معانا المجموعة، عندنا اجتماع الجمعة الجاية، تعالي معايا شوفي بنفسك وبعدين قرري على مهلك. •••
في الزقاق المظلم وراء جامع السيدة، داخل غرفة سقفها منخفض معبأة بالدخان، ورائحة المسك والبخور، الشيشة المعمرة تدور عليهم بالدور، جمالات تجلس في الوسط، حيث بقعة الضوء الساقطة من لمبة معلقة، حول السلك الكهربائي ذباب أسود ميت، فوق الأرض البلاط كليم رصاصي اللون، مفروش من الجدار إلى الجدار، يتربعون فوقه على شكل الدائرة، تحت أردافهم شلت مربعة ملونة، أمامهم مائدة منخفضة مستديرة تشبه الطبلية، من حولهم رفوف خشبية مشققة، تحمل الكتب والمجلات، وأوراق قديمة صفراء، ومصاحف جديدة مصقولة الأغلفة، ومسابح ومباخر وإمساكية الصيام، وخمسة وخميسة لطرد عيون الحساد.
أعضاء المجموعة ثلاثة وعشرون رجلا وامرأة، لا شيء يجمعهم إلا الرغبة في كشف سر الروح. امرأة في الثمانين من عمرها، حفيدة لأحد الأمراء القدامى من أسرة محمد علي، طالب في العشرين من إندونيسيا يدرس الفقه في الأزهر، أرملة متوسطة العمر من الإسكندرية مات زوجها في الحرب، وزير سابق من مصر الجديدة هرب بأمواله ثم عاد، كيميائي صاحب صيدلية يعمل في مؤسسة الأدوية، راقصة من التائبات المعتزلات مريضة بسرطان الثدي، أستاذ جامعي متخصص في الطب النفسي، شيخ جامعي من حي الزمالك، قسيس كنيسة من شبرا البلد، و...
جمالات تتربع فوق الشلتة، يتسرب الوجع من جسدها والقلق، تسري في روحها طمأنينة، تشع من حولها هالة من الضوء، يتطلعون إليها بعيون نصف مغلقة، تبدو لهم مثل الروح المحلقة.
كانوا صامتين وهي تتكلم، صوتها في الضوء الخافت كأنما يأتي من عالم آخر، فيه بحة منتزعة من شيء في صدرها تحت الضلوع، ليس القلب ولا الرئة ولا الكبد ولا الطحال، لا ينتمي إلى أعضاء الجسم، كأنما يخرج من الروح. - الروح لا يعلمها إلا الله، الروح غير محدودة بشكل أو جوهر أو مكان أو زمان، عقلنا غير قادر على اختراق الجسد ونزع الحجاب عن الروح.
كلامها قديم ومكتوب منذ الأزل، لكن صوتها وبريق عينيها، وطريقة نطقها الكلمات وترتيبها، الكلمة وراء الكلمة مع حركة الأصابع واليدين، كأنما تعزف على آلة موسيقية غير مرئية، تخرج الكلمات العادية من فمها غير عادية، تحدث في رءوسهم رنينا أثيريا مثيرا للحنين القديم، ونوعا من الخدر الغامض اللذيذ، مع شفطات الشيشة العميقة حتى القاع، ورشفات النبيذ المعتق منذ بداية الزمن، ويبقى صوتها في رءوسهم حتى تكف عن الكلام. تتوالى أمام عيونهم ذكريات الطفولة حتى يغادروا المكان.
كان رستم متربعا فوق الشلتة، متجمدا في جلسته، لا يحول بصره عنها، مشدودا بصوتها والبريق في عينيها، كأنما هي الساحرة في ألف ليلة وليلة، أو العرافة القديمة التي كشف الله عنها الحجاب، تعود إليه صورة أمه أو خالته الميتة، وصوت أبيه حين كان يرتل الآيات في مولد النبي.
ناپیژندل شوی مخ