قالها وهو يقترب منها بجسده، يلتصق بها كالغريق يتشبت بقارب نجاة، أنفاسه تلهث، الكلمات تخرج من بين شفتيه مبتورة متقطعة. - أحيا... أحيانا ... با... با... باحسدك. - ليه؟ - لأنك سعيدة. - أنا؟ - على ... الأقل ... غير مؤرقة ... غير مؤرقة ... بال... بال... بالكتابة.
أصابعه ترتعش باردة كالثلج، عيناه متسعتان شاردتان ينعكس عليهما ضوء القمر الخافت، شفتاه منفرجتان عن ابتسامة واهنة: أنا تعبان ... أنا غير ... غير مخلوق للكتابة ... أنا في الحقيقة ... في الحقيقة ... غير ... غير موهوب ... عملوني كاتب كبير بالوراثة ... بالواسطة ... بالفلوس ... وحفلات العشا والخمرة والنسوان ...
رنت كلمة النسوان في أذنها نابية، لم تسمعها منه من قبل، كلمة سوقية تنم عن عدم احترام النساء، وهي واحدة منهن، كان يحوطها بذراعيه يحاول الضغط بشفتيه الباردتين على وجهها الساخن، سرت البرودة في جسدها كالقشعريرة، دفعته بيدها بعيدا عنها، شدها إليه بقوة، حاول اغتصابها بعنف وقسوة، كأنما ينفس عن غضبه المكبوت في جسدها، نجحت في الإفلات من قبضته، فقدت شهيتها للحب، ابتلعت المرارة والإحساس بالمهانة ... تذكرت كارمن، كانت تقول لها: رستم ضعيف، متناقض، طفل كبير يبحث عن ثدي أمه، يعجز عن حب المرأة فما بال الكتابة؟
محاولة فاشلة لاختراق جسدها، عقلها منتبه منتصب يسد عليه الطريق، وتهمس الفتاة بصوت مخنوق: أنت طفل يا رستم. - كل الرجال أطفال بين ذراعي المرأة. - أرجوك لا تتكلم مثل سميح. - وأرجوك لا تتكلمي مثل كارمن. - كارمن كاتبة موهوبة. - وأنا مش موهوب؟ - في السياسة. - وفي الكتابة؟ - لأ، يا رستم.
يقبض على جسدها بعنفوان الغضب، وعنفوان الحب، كأنما الحب والغضب وجهان لشيء واحد، كأنما الحب بالوعة تمتص الغضب والحسد والغيرة واليأس والحزن الموروث في الطفولة، كأنما الحب ليس بين اثنين، هي وهو، ولكن بين أربعة أشخاص كارمن ورستم وسميح وهي، يزيد عليهم الأربعة الآخرون، أو صورة كل منهم عن نفسه، يزيد عليهم صورة كل منهم عن الآخر، يصبح العدد الكلي اثني عشر شخصا، لكل منهم وجه مزدوج، تتراءى لها الوجوه كلها وهو يعانقها، شفتاه باردتان وأنفاسه ساخنة، تلامس عنقها مع نسمة الصحراء الجافة في الليل، صوته يهمس في أذنها كأنما من مكان بعيد : باحبك، باحبك، إلى الأبد.
ترن كلمة إلى الأبد في الفضاء خاوية كالصحراء، يتردد الصدى في أذنها، تذكر مريم الشاعرة، وهي تنشد قصيدتها على شاطئ النيل في الليل تحت ضوء القمر:
ما معني أن تقول إلى الأبد؟
هل نعيش إلى الأبد ولا نموت؟
وإن عشنا فكم من الزمن نعيش؟
خمسين أو سبعين أو مائة سنة؟
ناپیژندل شوی مخ