الجنون عند رستم يقوده إلى تدفق الأفكار والكتابة، تتغلب الفلسفة على الفن في رواياته، يتأمل الكون، يتساءل، يعيد الأسئلة القديمة منذ أرسطو وأفلاطون، يحاول علاج الفجوة بين الروح والجسد، أو بين الخير والشر، تشرد عيناه بعيدا ويسألها عن التناقضات في الحب.
صوته تعتريه بحة السعي إلى الحقيقة، مبحوح بذكورة مشروخة، مع القلق المدمر إلى حد الخوف، والرغبة في إنقاذ نفسه بأي شكل، وإنقاذ كارمن معه، كان يحبها أكثر لأنها كاتبة ولأنه كاتب مثلها. - أنت أنثى وأنا ذكر وقعت في حبك لأنقذ حبي لكارمن، لا أريد أن أفقدها ولا أريد أن أدمر نفسي، أما أنت؛ أنت من نوع لا يدمره الحب. - أي حب يا رستم؟
جذبها إلى رستم ضعفه، تناقضه، تخبطه، تردده، لم يكن مثل سميح قادرا على إخفاء حقيقته. - الحب بيننا يا رستم شيء مختلف، جزء من شيء أكبر. - وما هو الشيء الأكبر من الحب؟
لم تعرف الفتاة أبدا لماذا بعد كل قطيعة يعودان إلى اللقاء، هي ورستم، يستغرقان في الحديث طول الليل، يسيران حتى الفجر في شوارع القاهرة، سيرا على القدمين أو داخل سيارته المرسيدس، يجلسان في المقاهي الصغيرة، في الأحياء الفقيرة، يشربان الشاي الأسود والشيشة، يحاولان الاختفاء عن عيون كارمن وسميح، ضميرها يؤنبهما في كل لقاء، ويقرران القطيعة، يقتربان أكثر بعد كل ابتعاد، يقربهما الافتراق أكثر من اللقاء، تتشابك أيديهما مثل الأطفال ويمشيان، يقزقزان اللب والترمس على شاطئ النيل، يجلسان فوق الحجر والدكك الخشبية، يستأجران الغرف على ساحل البحر، يتعانقان طول الليل ينشدان إفراغ الشحنة، دون جدوى، كأنما الحب ليس الهدف، ولا الجنس، ولا أي شيء، إلا اكتشاف المجهول، دون جدوى، يظل المجهول مختفيا وراء السحابة، يشعران بالحزن بعد العناق، مرارة الواقع وضرورة الفراق، الحب الكبير يحتويهما، ومع ذلك يظل صغيرا لا يكفيهما.
في ذاكرتها رغم المسافة رائحة معجون الحلاقة «لافندر»، عناوين كتب الفلسفة فوق رفوف المكتبة، الجدل بطول الليل عن وجود الله، حين تقبله لا يغمض عينيه، بل يفتحهما أكثر، يملؤهما شكا أكبر يشبه الجنون، يحوط نفسه بكتبه ورواياته، مثل مريض يحوط نفسه بعلب الأدوية، أو بزجاجات الخمر والنبيذ. في الليل تسمع أنفاسه تتردد، شيء في رأسه يدق، يمشي الدم في عقله بصوت مسموع، مثل النبض ودقات الساعة فوق معصمه، تسمع فقرات عنقه تطقطق، جفونه مسدلة ينبعث من تحتها ضوء، كأنما يرى وهو مغمض العينين، يطل في أعماقه على بؤرة القلق ... يغلبها النوم ساعة أو أكثر، تفتح عينيها لتراه صاحيا، عيناه مفتوحتان محملقتان في وجهها، يدرس ملامحها في النوم، يحاول اكتشاف شيء لا يراه في الضوء.
كانت كارمن تقول: لا يمكن أن أعيش تحت سقف واحد مع رستم، لا أريد أن أنام تحت عينه المفتوحة، ترقبني مثل عين الله الساهرة لا تنام، لا شيء يقتل الحب إلا الحياة تحت سقف واحد، المشاركة في السرير، الاقتراب إلى حد التلاصق، الحملقة في وجهك أثناء النوم، اقتحام غرفتك أثناء الكتابة، يأكل معك كل يوم ثلاث مرات، يخترق جسدك في الليلة الواحدة مرتين، ينام بعمق، يمنعك شخيره من النوم، يدخل معك الحمام، ترين عظامه البارزة المعوجة، يجلس أمامك فوق المرحاض، تسمعين صوت أمعائه وحشرجة الكبد والطحال، والكحة والسعال، يؤلمك الصوت إلى حد الأرق.
وكان رستم يقول: عشت حياة الحرية والاستقلال منذ طفولتي، لم يشاركني أحد غرفتي، لا أستطيع الالتزام بقيود الحب أو الزواج، لا أسمح لأحد أن يسألني إلى أين أذهب، مع من أسهر، ماذا أشرب وماذا أكتب، لا شيء يقتل الحب إلا التلازم الدائم أكثر من اللازم، وجود شخص آخر تحت غطائي، وجود امرأة تحت جلدي، أسمع أنفاسها طول الليل، يزعجني انتظامها دون انقطاع، بقدر ما يزعجني انقطاعها. •••
على شاطئ برشلونة تتمدد الفتاة فوق الرمال تحت الشمس، يخرج من صدرها زفير طويل محمل بالدخان والتراب، تأخذ شهيقا عميقا من هواء نقي، عبرت البحر الأبيض المتوسط من الجنوب إلى الشمال، حملتها الطائرة أربع ساعات إلى عالم آخر، المباني المزينة بالتماثيل، اللوحات الأصلية للفنانين، الكتب المطلة من نوافذ المكتبات، الموسيقى والغناء وأضواء المصابيح، مطاعم السمك وقواقع البحر، المناضد فوقها مفارش مكوية بيضاء كالثلج الأطباق نظيفة لامعة تبرق، الفوط مطوية على شكل الزهرة، الملاعق والسكاكين والشوك معقمة ملفوفة، الكئوس البلورية تتألق تحت أشعة الشمس، زجاجات النبيذ الكاتالاني «ألباريتو ألبارينو» وبتريا شاردونيه، أناجيل تحب النوع الأول، فرانسيسك يحب النوع الثاني، اختاروا منضدة بجوار البحر، كان فرانسيسك يمر بفترة اكتئاب، يريد أن يفعل في حياته شيئا غير الوقوف كالتمثال في الشارع، يرى نفسه في الحلم فنانا مشهورا مثل سلفادور دالي، يقيم معارضه في بلاد العالم، يصبح من الأثرياء، تتهافت عليه الفتيات قالت له أناجيل: هذا حلم ذكوري مريض.
كانت أناجيل تتألق بالسعادة، كتفاها ناعمتان عاريتان تحت الشمس، ترتدي بلوزة رقيقة تكشف عن بطنها الضامر، بنطلونها من الجينز الضيق مثل القفاز، مشدود تحت الخصر بحزام عريض من الجلد الأخضر، تمطت وهي تفرد ذراعيها عن آخرهما.
أخيرا وجدت نفسي في كتابة الشعر، كنت ضائعة في الحياة حتى قرأت «ماريا ميرسيه مارسال»، جاءت من القرية طفلة إلى برشلونة، كانت فقيرة مثلي، استطاعت أن تقهر الفقر والعالم بأبيات الشعر. أحب قصيدتها التي تقول فيها:
ناپیژندل شوی مخ