ولو خيرت في التسمية لاخترت لها كلمتي «ما وراء الواقع»، سواء بسواء، ككلمتي وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا سواء بسواء، ومصداقا لهذا أذكر أن مبدأ السريالية الحقيقة كان عند المصور «بوش» في القرون الوسطى، وقد كان فنا سيرياليا دينيا ميتافيزيقيا، ولوحاته مشهورة، وقد كانت وحيا لكثيرين من المعاصرين، وبخاصة «دالي» الذي حدثتكم عنه، ولكن فن «دالي» - على تأثره بفن «بوش» - انتقل من الحقل الديني إلى الحقل اللاواعي، بل أكثر من ذلك اعتمد على رموز العقل الباطن وأحلامه، وقد اطلعت على إحدى لوحاته الشهيرة، وكان يسرني أن أحضر صورة لها لتستقر في أذهانكم لوحة لدالي، بل للسيريالية الأصيلة، ولكني أكتفي بأن أخبركم بمحتويات الصورة، «دالي» يرسم حذاء سيدة وبالقرب منها كوب من اللبن، ويرسم خنزيرا بالقرب منه حشرة لها أقدام آدمية، متدل منها ساق بشرية مقطوعة.
وكل هذه الصور والرموز لا يمكن فهمها بغير الاطلاع على قاموس «فرويد»؛ فإن الحذاء مثلا رمز جنسي
Sexual
يعرض لمفسري الأحلام كثيرا، وكذلك كوب اللبن.
من ذلك الوصف يتضح أن الناحية الجنسية غالبة في الفن السيريالي، ويتضح كذلك من «الفانتازية
Fantasy » أن الناحية الشعرية غالبة كذلك.
فليس من العجيب إذن أن نجد أكثر مصوري هذا المذهب يجمعون لفن التصوير فن الأدب، وبالأصح فن الشعر، ولا أعرف ممثلا لهذا اللون من الأدب السيريالي - ربما على غير وعي منه - مثل «جيمس جويس» الأديب الأيرلندي المشهور، وبخاصة في قصته «يولوسيس» فهو في هذا يطلق عنان العقل الباطن إطلاقا حرا تاما معتقدا أن الحرية الخالقة يجب أن تكفلها حرية مطلقة في التعبير، ويمكننا التعبير عن هذا بأن الحرية الفنية سبيلها تحطيم الحواجز القائمة بين الصور الطبيعية والسيكولوجية، أو على حد قول «هربرت ريد»: عالم يختلط فيه الوعي بغير الوعي، والعالم الداخلي بالعالم الخارجي، وتختلط الحقيقة بالخيال، والفكر بالعمل؛ أي يكون هذا العالم صورة شاملة للحياة بأجمعها. وبينما نحن نعتقد أن النزعة السيريالية نزعة خيالية محضة، يعترض أقطاب السيريالية على ذلك قائلين: إنها نزعة مادية محضة. وهذا عجيب! وحجتهم في ذلك أنها بجمعها للمتناقضات أو بعبارة أخرى: الروحانية تمشي جنبا لجنب مع المادية التاريخية.
عندما نتحدث عن هذه المذاهب لا يمكننا أن نترك الحديث عن أقطاب في التصور أدت وثباتهم إلى ما بعدها ومنهم «سيزان».
وقصة «سيزان» في التصوير رائقة وطريفة، ومذهبه في التصوير يعتبر القنطرة التي سار عليها القديم نحو الحديث، بل اعتبرها شخصيا الفاصل بين ما هو فن وما هو مهارة فنية. «سيزان» مصور شهير من مصوري القرن التاسع عشر، وكان معاصرا للكاتب الشهير «زولا» وكانا صديقين حميمين، بل الصحيح أن «سيزان» لم يكن له صديق غير «زولا».
والواقع والغريب في حياة سيزان أنه أقسم أن ينتهج نهجا خاصا في الفن لا يغيره، وأقسم كذلك أن ينقطع لهذا النهج، فاعتزل الناس، وترك صحبتهم، وأبعد المرأة عن محيطه، وأخذ يمارس في التصوير طريقة خاصة كان يؤمن بأنها هي الطريقة الوحيدة للفن الصحيح، تلك هي البحث عن الحق لا عن الكمال. يقول «سيزان» لأمه في إحدى خطاباته: «البحث عن الحق والحكمة هو الفن، أما البحث عن الكمال فهو المهارة الفنية»، ولقد كان يعتقد أن فن «زولا» على فرط واقعيته، أدب مهارة أكثر من أي شيء آخر، وكذلك أحدث في الأدب «جيلا ميتا» على حد تعبيره، وإن يكن در على «زولا» المال والشهرة.
ناپیژندل شوی مخ