(٣) الرسالة الشافية لأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (... - ٤٧١هـ) [عن نسخة حسين جلبي المصورة بمعهد مخطوطات الجامعة العربية]

1 / 115

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ عبد القاهر بن عبد الرحمن ﵁: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ حمدَ الشاكرينَ، وصلَواتُه على النبي محمد وآله أجمعين. ١ - اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعًا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبًا من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى، ومأخذًا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل. وإذا كان الشيء متعلقًا بغيره، ومقيسًا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام، وتقريره في النفوس، أن يوضع له مثال يكشف عن جهة ويؤنس به، ويكون زمامًا عليه يمسكه على المتفهم له والطالب علمه. ٢ - وهذه جمل من القول في بيان عجز العرب حين تحدوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائتٌ للقوى البشرية، ومتجاوزٌ للذي يتَّسع له ذرع المخلوقين وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة قد تحريت فيه االإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذوًا هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم أذهب، وإلى الأفهام جملة أقرب. وأسأل الله التوفيق للصواب والعون عليه، والإرشاد إلى كل ما يزلف لديه، إنه على ما يشاء قدير. ٣ - معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضًا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم نبع لهم، وقاصر

1 / 117

فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يدعي للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي ﷺ الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطبها لما لم يكملوا له. كيف؟ ونحن نراهم يحملون عنهم أنفسهم، ويبرأون من دعوى المداناة معهم، فضلًا عن الزيادة عليهم. هذا خالد بن صفوان يقول: "كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم، وإنما نجرى على ما سبق إليينا من أعرافهم؟ ". ونرى الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة، ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفه أحلامهم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشفوة وبالتهالك في العصبية، ويبطل ويطنب، ثم يقول: "ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق، من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك، إلا في اليسير والشيء القليل". انتهى كلامه. والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى، أو أن ينكره إلا جاهل أو معاند. ٤ - وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة، فإن علمهم العلم. فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلى عليهم القرآن وتحدوا إليه، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله، ومن التقريع بالعجز عنه، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه. وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله،

1 / 118

ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلًا على وجه من الوجوه. ٥ - أما "الأحوال" فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم. كيف؟ وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يبأى بنفسه، ويدل بشعر يقوله، أو خطبة يقوم بها، أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه، بعض العلل وبنوع من التمحل. هذا، وهو لم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض. وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يقصر عنه، أو أنه منه أفضل. فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مماتنته، ويحركه لمقاولته، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته. وقد عرفت قصة جرير والفرزدق، وكل شاعرين جمعهما عصر، ثم عرض بينهما ما يهيج على المقاولة، ويدعو إلى المفاخرة والمنافرة، كيف جعل كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه ووكده، وقصر عليه دهره؟ هذا، وليس به، ولا يخشى، إلا أن يقضي لصاحبه بأنه أشعر منه، وأن خاطره أحد، وقوافيه أشرد، لا ينازعه ملكًا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقًا، ولا يلزمه به إتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة؟

1 / 119

٦ - وإذا كان هذا واجبًا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلا ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العلية، والأنفة والحمية من يدعي النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة، وأنه بشير بالجنة ونذير بالنار، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته، ودين دان به الناس شرقًا وغربًا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، إلى سائر ما صدع به ﷺ، ثم يقول: "وحجتي أن الله تعالى قد أنزل على كتابًا عربيًا مبينًا، تعرفون ألفاظه، وتفهومون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة، ولو جهدتم جهدكم، واجتمع معكم الجن والإنس" ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضه، ويبينوا سرفه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟ هذا، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته، ومن الذي ادعاه، حدًا تركوا معه أحلامهم الراجحة، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة، حتى واجهوه بكل قبيح، ولقوه بكل أذى ومكروه، ووقفوا له بكل طريق، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة، وأرادوهم بأنواع الشر. وهو سمع قط بذي عقل ومسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يسفه فيها، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة، وعسر عليه المخلص؟ أم هل عرف في مجرى العادات، وفي دعواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها، ولا يجلى عن وجهها، ولا يريه الغلط فيما قال، والكذب فيما أدعى، لا، ولا يدعي أن ذلك عنده، وأنه مستطيع له، بل يجعل

1 / 120

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.