<tl١>بسم الله الرحمن الرحيم</tl١> ذكرت إعجابك - أيها الأخ الفاضل - بجواب ذلك الشيخ الفاضل، حين سئل عن معنى قول الصادق عليه السلام: (إن المهر ما تراضى عليه الناس) (١)؟ أنه ورد في حديث المتعة، ووجوب المهر فيها من درهم إلى عشرة دراهم دون مهر النكاح. وهذا غلط عظيم من أمثاله، مع ما يرجع إليه من العلم والفهم، إذ كان هذا القدر لا يشتبه على الجاهل الغوي، والغافل الغبي، فكيف على من تربى في رياض العلم، ويشار إليه فيما يفتيه من غوامض المسائل في الحلال والحرام.
وليس في هذا الخبر من لفظة غريبة، أو معنى بديع يحتاج معه إلى تفسير، إذ كان ظاهر الخبر يدل على كلا المعنيين، فليس لأحد أن يحمله
مخ ۱۷
على معنى واحد بلا حجة، يخطئ من حمله على المعنيين جميعا مع ورود الأثر به، وهو مستغن عن إيراد الحجج والشواهد فيه:
حدثنا به الشريف الزاهد، أبو محمد، الحسن بن حمزة العلوي (١) قال: حدثنا أحمد بن محمد الدينوري (٢)، عن الحسين بن سعيد (٣)، عن النضر بن سويد (٤)، عن موسى بن بكر (٥)، عن زرارة (٦)، عن أبي جعفر
مخ ۱۸
محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: (الصداق كل شئ تراضيا عليه في تمتع أو تزويج غير متعة) (١).
وبإسناده عن الحسين (٢)، عن فضالة (٣)، عن محمد بن مسلم (٤)، عن أحدهما إنهما سئلا عن المهر ما هو؟ قال: (ما تراضى عليه الناس) (٥).
وروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (الصداق ما تراضى عليه الناس من قليل أو كثير فهو الصداق) (٦).
مخ ۱۹
فهذه الأخبار تنطق: بأن كل ما تراضى عليه الزوجان، من قليل أو كثير فهو المهر، لأن كمية المهر تتعلق برضاهما كائنا ما كان، ولأن الله تعالى فرض الصداق ولم يحد فيه حدا بقليل ولا كثير، فما وقع عليه رضاهما كان ذلك يسمى مهرا.
أما القليل منه فهو معروف عندنا وعند من خالفنا.
أما عند المخالفين، فعند مالك بن أنس (١) قال: (لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار) (٢). لأن ربع دينار يجب فيه القطع.
وعند غيره مثل الثوري (٣)، وأبي حنيفة (٤) وأصحابه، أنهم قالوا:
(لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم) (٥).
مخ ۲۰
وهو أشبه بالحق، لموافقة قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: (إني لأكره أن يكون المهر أقل من عشرة دراهم، لكي لا يشبه مهر البغي) (١).
وقد صح عند مخالفينا أيضا أن المهر يكون من ثلاثة دراهم إلى عشرة دراهم (٢) [و] هو مهر التزويج لا مهر المتعة، لأنهم لا يرون المتعة دينا، فكيف يثبتون مهر نكاح لا يرونه؟ فإذا كان الأمر هكذا فلا يبقى إلا ما قلناه، والحمد لله.
دليل آخر على أن المهر يتعلق برضاهما كائنا ما كان، لا على كمية المال ومبلغه، ولا على كثرته دون قلته، أنه يقع على غير أجناس المال:
الذهب والفضة والحلي، مثل أن تعلم المرأة القرآن ومعالم الدين، أو تزوجها بخاتم، أو ثوب أو سوط، أو عبد، أو أمة، أو حيوان، أو بيت، أو جهاز بيت، وما أشبه ذلك، مما هو مجهول القيمة، إذا رضيت المرأة بذلك، فقد ثبت لها مهر النكاح، ويسمى مهرا.
بيان ذلك ما حدثنا به عن بريد (٣)، عن أبي جعفر عليه السلام
مخ ۲۱
قال: سألته عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله؟
فقال: (ما أحب أن يدخل بها حتى يعلمها السورة ويعطيها شيئا. قلت:
أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال: لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان) (١).
وفي رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال في رجل تزوج امرأة على سورة من كتاب الله ثم طلقها قبان أن يدخل بها [بم يرجع عليها؟] (٢)، قال: (يرجع عليها بنصف ما يعلم به مثل تلك السورة) (٣) وفي رواية العلاء بن رزين (٤)، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: زوجني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لهذه المرأة؟) فقال رجل: أنا يا رسول الله زوجنيها، فقال: (ما تعطيها؟) فقال: ما لي شئ، فقال: (لا) فأعادت، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام، فلم يقم غير الرجل أحد، ثم أعادت. فقال رسول الله عليه السلام في المرة الثالثة (أتحسن من القرآن شيئا؟) فقال: نعم، قال: (قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن أن تعلمها إياه) (٥).
وفي خبر آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (أتحسن
مخ ۲۲
القرآن؟) قال: نعم سورة فقال عليه السلام: (علمها عشرين آية) (١).
حدثنا عن سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (تزوجها ولو بخاتم من حديد) (٢).
وروي عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل تزوج امرأة بألف درهم، فأعطاها عبدا له آبقا وبرد حبرة بالألف التي أصدقها، فقال: (إن رضيت بالعبد، وكانت قد عرفته فلا بأس، إذا هي قبضت الثوب ورضيت بالعبد). قلت: فإن طلقها قبل أن يدخل بها؟ قال: (لا مهر لها، وترد عليه خمسمائة درهم، ويكون العبد لها). (٣) وروي عن معلى بن خنيس (٤)، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام - وأنا حاضر - عن رجل تزوج امرأة على جارية له مدبرة (٥) قد عرفتها المرأة وتقدمت على ذلك، فطلقها قبل أن يدخل بها؟ قال: (أرى أن للمرأة نصف خدمة المدبرة، يكون للمرأة منها يوم وللمولى يوم في الخدمة، فإذا مات الذي دبرها يكون للمرأة يوم في الخدمة، وللمدبرة يوم، فإذا ماتت المرأة فقد صارت المدبرة حرة). قلت: فإن ماتت المدبرة قبل الحرة لمن
مخ ۲۳
يكون ميراثها؟ قال: (يكون نصف ما تركت المدبرة للمرأة، لأنها ماتت ونصفها مملوكة لها، ويكون لورثة مولاها الذي دبرها النصف الباقي) (٩).
وروي عن السكوني (٢)، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليهم السلام في الرجل يتزوج المرأة على وصيفة قال: (لا وكس ولا شطط (٣)) (٤).
وعن رفاعة بن موسى (٥)، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام: (إذا تزوج الرجل المرأة على الجارية أو الغنم، فإن أعطاها الغنم وهي حوامل، أو الجارية وهي حبلى، فتولد الذي عندها (٦)، ثم طلقها قبل أن يدخلها، فله نصف الغنم والأولاد، وله نصف قيمة الجارية، ونصف قيمة ولدها.
فإن كان دفع إليها الغنم وليس بحوامل، فحملن عندها وتوالدن، فإنما له
مخ ۲۴
قيمة [نصف] (٩) الغنم، وليس له من الأولاد شئ. وإن كان دفع إليها الجارية، وليس بها حمل، وحملت عندها، فولدت، فإنما له قيمة نصف الجارية ولا شئ له من ولدها).
وروي عن عبيد بن زرارة (٢)، عن الصادق عليه السلام في رجل تزوج امرأة على رقيق أو غنم، وساقهن إليها، فولدت الرقيق والغنم عندها، ثم طلقها قبل أن يدخلها، قال: فقال: (إن ساقهن إليها حين ساقهن وهن حوامل فله نصف الأمهات) (٣).
وروي عن أبي بصير (٤)، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل تزوج امرأة على بيت في دار له، وله في تلك الدار شركاء؟ قال:
(جائز له ولها، ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها) (٥).
ومثل هذا أكثر من أن يحصى، وفيما ذكرناه كفاية.
مخ ۲۵
ودليل آخر على أن ليس للمهر حد يعقد عليه النكاح - إذا جاوزوا ذلك الحد لا ينعقد المهر، أو عقد النكاح على شئ دون بلوغ ذلك الحد لا ينعقد النكاح والمهر بخلاف السنة - إلا برضا الزوجين.
هو: أن الرجل إذا تزوج امرأة، ولم يفرض لها مهرا، فطلقها أو مات عنها قبل أن يدخل بها، فلا مهر لها، وهي امرأته ترثه، ويرثها إن ماتت هي. حدثنا به عن الصادق عليه السلام (١).
فلو كان للمهر حد معروف، لوجب على هذا الذي لم يفرض المهر عند عقده النكاح توفير المهر المتعارف بين الناس، وإن لم يسمه عند النكاح، كما يلزم المتمتعين شروط المتعة إذا نسوا ذكر بعضها عند عقد النكاح، لأن شروط المتعة معروفة متعارفة بيننا وهذا دليل واضح.
والحديث الذي روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة من نسائه، ولا زوج واحدة من بناته، على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، الأوقية أربعون درهما، والنش نصف الأوقية عشرون درهما) (٢).
فكان ذلك خمسمائة درهم، هذا (٣) فهو صحيح، واعتقادنا على هذا، وبه نأخذ.
وهذا الحديث لا ينقض ما ذكرناه، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعله استحبابا، بل تواضعا لله تعالى، ورحمة على أمته، ليؤجر
مخ ۲۶
المقتدي به، متبعا له، على سبيل الفضل والثواب، لا على سبيل الفرض والوجوب، ولو كان ذلك واجبا لما جاز المهر دون خمسمائة درهم.
أما ترى لو أن رجلا تزوج امرأة على صداق مائة درهم يلزمه أكثر منه، وأنه تزوجها على السنة، ولو كان ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم واجبا لما تزوجها هذا الذي أمهرها دون الخمسمائة على السنة، وللزمه الخمسمائة.
ولما صح أن فوقه ودونه وبدله جائز كله، علمنا أنه هو على سبيل الفضل والثواب، لا على سبيل الفرض والوجوب.
وجميع ما شرحناه وبيناه، من إثبات المهر قليلا كان أو كثيرا، ومن أي صنف كان، بعد رضا المرأة، فهو جائز ويسمى مهرا.
فإذا لم ترض المرأة إلا بمهر كثير معدود بالغ ما بلغ، بعد رضا الزوج وإلزامه نفسه، فلها ذلك. وللزوج أن يفعل في حاله ما شاء، فقد أباح الله له ذلك في محكم كتابه.
وروي عن مجالد (١)، أن عمر بن الخطاب (٢) خطب الناس، فقال:
لا تغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني أحد ساق أكثر مما ساق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، فلما
مخ ۲۷
نزل عرضت له امرأة من قريش، فقالت: كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله، قالت: فإن الله يقول: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (١) فجعل عمر يقول: كل أحد أفقه من عمر، ألا فليفعل الرجل في ماله ما بدا له (٢).
وهذا يوافق القرآن، وما يوافق القرآن فهو أولى بالاتباع، لقول المصطفى عليه السلام: (أيها الناس قد كثر الكذابة علينا، فأي حديث ذكر مخالف لكتاب الله فلا تأخذوا به فليس منا) حدثنا به عن أبي عبد الله عليه السلام (٣).
وقال الصادق عليه السلام: (ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل) (٤).
ولا أدري كيف نسي المسؤول قول الخطباء عند عقدة النكاح في آخر الخطبة: أن المهر ما تراضيا عليه. ولا يظهرون كميته ومبلغه، وهو عادة أكثر
مخ ۲۸
الناس، ولو كان ما قاله صحيحا لأوضحوا ذلك وبينوه.
أما قرع سمعه ما فعله أبو طالب حين خطب، لما تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة بنت خويلد بعد أن خطبها إلى أبيها - ومن الناس من يقول إلى عمها - فأخذ بعضادتي الباب ومن شاهده من قريش حضور، فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، ومن ذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتا محجوبا، وحرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شئ، وجعلنا الحكام على الناس في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، لا يوزن برجل من قريش إلا رجح، ولا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه، وإن كان في المال قل فإن المال رزق حائل، وظل زائل، وله في خديجة رغبة، ولها فيه رغبة، والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي، وله خطر عظيم، وشأن رفيع، ولسان شافع جسيم، فزوجه ودخل بها من الغد (١).
وكذلك روي عن الصادق عليه السلام: أنه حضر وعمومته ومشايخ آل أبي طالب حضروهم، يريدون أن يزوجوا مولى لهم، قال:
فجلس عليه السلام وقال:
المحمود الله، والمصطفى محمد، وأحق ما بدئ به كتاب الله، يقول الله: <span class="quran"> (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم - إلى قوله - واسع عليم) </span> (٢) ثم إن فلان بن فلان ذكر فلانة بنت فلان، بذل من الصداق ما تراضيا به، وقد زوجناه على ما أمر الله به: (إمساك بمعروف
مخ ۲۹
أو تسريح بإحسان) (١).
ولا يخلو قوله من وجهين اثنين:
إما أن يكون زلة منه، فهذا يقع من العلماء، فقد قال الحكيم:
لكل جواد عشرة ولكل عالم هفوة.
وإما أن يكون قد اشتبه عليه.
فالأولى أن يقف عند الشبهة فيما لا يتحققه، فقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله فدعوه).
حدثنا به عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام وذكر الحديث (٢).
ولو كان هذا من غيره ممن يتزيى بزي أهل العلم، لظننا أن غرضه منه فيما أجاب وأفتى به خلاف أهل العلم والفقه، أو لم يتجه له في الوقت ما يوافق جواب هذا الخبر؟ ونعوذ بالله من زلة اللسان بما لا يسوغ في الشرع، ولم يرد به الأثر عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
وقلنا: إن مثل هذا أكثره يقع من جهة الاستنكاف، والرجوع فيما
مخ ۳۰
يشتبه عليه إلى أهل الفضل والفقه، فإن الله تعالى قال في كتابه: (وفوق كل ذي علم عليم) (١) وحاشاه أن يكون بهذه الصفة.
ولا ينبغي لنا أن نستنكف بالرجوع إلى من هو أعلم منا فيما اشتبه علينا شريفا أو وضيعا، فإنه لا يعدله شئ إلا أربعة أشياء، وهذا خامسه، فقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: (خمسة لو رحلتم في طلبهن [بالإبل] لأنضيتموها ولن تصيبوا بمثلهن: (لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو العبد إلا ربه، ولا يستحي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أدري، ولا يستنكف الجاهل أن يتعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له).
حدثنا به عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن علي عليه السلام (٢).
وقال عليه السلام: (قوام الدنيا بأربعة: بعالم مستعمل لعلمه، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، فإذا ضيع العالم علمه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير آخرته بدنياه، واستنكف الجاهل أن يتعلم، فالويل لهم والثبور إلى سبعين مرة) (٣).
وقال عليه السلام: (لا يكون الرجل عالما حتى يضيف علم الناس
مخ ۳۱
إلى علمه) (١).
وقال عليه السلام: (لا يكون العالم عالما حتى لا يحسد من فوقه ولا يستحقر من دونه) (٢).
وفيما بيناه وشرحناه كفاية لمن ترك الهوى، وأنصف من نفسه.
تم الكتاب بحمد الله ومنه * * *
مخ ۳۲