بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: أنكر رجل من البهشمية (1) - ضمنا وإياه وجماعة من المعتزلة والمجبرة مجلس - أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) (2) يحتمل الإمامة، أو فرض الطاعة والرئاسة.
وقال: غير معروف في اللغة، ولا معلوم عند أهلها، أن (المولى) إمام، ولا مفترض الطاعة، ولا يعبر أحد منهم (3) عن الإمام ب (المولى) ولا
مخ ۱۶
عن المفترض الطاعة، إلا إذا كان فرض طاعته من جهة الملك.
وقال: إن أهل اللغة هم الأصل في هذا الباب، وإليهم يرجع في صحته وفساده، وإذا ثبت عنهم ما ذكرناه في نفي معناكم في (مولى) من لفظه، سقط تعلقكم.
فقلت له: ما أنكرت على من قال، لك إنك لم تزد على الدعوى في جميع ما ذكرته شيئا، وأن اللغة وأهلها بخلاف وصفك من إقرارهم بتضمن لفظة (مولى) الإمامة، وعلمهم بذلك وظهوره وانتشاره في أشعارهم، وكثرته في استعمالهم.
فمن ذلك قول الأخطل (1) وهو يمدح عبد الملك بن مروان، 2) حيث
مخ ۱۷
يقول:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأوفى من أبيك وأمجدا فأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى واصلدا فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا فوصفه بأنه أصبح إمامها ورئيسها من بين كل الناس بلفظة " مولاها ".
والأخطل من لا يطعن عليه في العربية، ولا يمكن تخطئته فيما علم من جهة اللغة، كان أحد شعراء العرب وفصحائهم، والمبرزين في معرفة العربية.
والكميت بن زيد (1)، وهو ممن استشهد بشعره في كتاب الله عز وجل، وأجمع أهل العلم على فصاحته ومعرفته باللغة، ورئاسته في النظم،
مخ ۱۸
وجلالته في العرب، حيث يقول في قصيدته المشهورة:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا مبيعا فلم أبلغ به لعنا ولكن * أساء بذاك أولهم صنيعا وأوجب له الإمامة بخبر الغدير، ووصفه بالرئاسة من جهة " المولى ".
وليس يجوز على الكميت مع جلالته في اللغة والعربية وضع عبارة على معنى لم يوضع عليه قط في اللغة، ولا استعملها قبله فيه أحد من أهل العربية، ولا عرفتها شئ عنه (كذا) كما وصفت أحد منهم، لأنه لو جاز ذلك عليه جاز على غيره ممن هو مثله، وفوقه، ودونه حتى يفسد اللغة بأسرها، ولا يكون لنا طريق إلى معرفة لغة العرب على الحقيقة، وينغلق الباب في ذلك.
ثم من تقدم هذين الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وفصحاء العرب الذين تحدوا بالقرآن، وكان علامة إعجازه عجزهم عنه، وقد شهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول هذا الكلام في أمير المؤمنين عليه السلام، ووصفه به، وفهموا معناه، واضطروا إلى قصده فيه، لمشاهدتهم مخارج ألفاظه ومعاينتهم إشاراته، واضطرارهم بتحصيل ذلك إلى مراده، كقيس بن سعد بن عبادة رحمه الله (1) حيث يقول في
مخ ۱۹
قصيدته التي لا يشك أحد من أهل النقل فيها، والعلم بها من قوله كالعلم بنصرته أمير المؤمنين عليه السلام وحربه أهل صفين والبصرة معه، وهي التي أولها:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل حتى انتهى إلى قوله:
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل يوم قال النبي: من كنت مولا * ه فهذا مولاه خطب جليل إن ما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل فيشهدها هكذا شهادة قاطعة بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة خبر يوم الغدير، ويصرح بأن المقول فيه يوجب رئاسته على الكل، وإمامته عليه. هذا مع صحبته رسول الله صلى الله عليه وآله، ورئاسته في الأنصار ومشاهدته الحال كما قدمنا بدءا.
ثم حسان بن ثابت (1) وشعره المشهور في ذلك، وهو شاعر رسول الله
مخ ۲۰
صلى الله عليه وآله المقدم في الفصاحة في الجاهلية والإسلام، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك) هذا مع رواية الشيعة بأجمعها عن أسلافها، إلى أن ينتهى إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وآله إن الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في يوم الغدير هو الإمامة، فإن الذي ضمنه لفظة " مولى " هو الرئاسة.
وفي جملتهم أهل بيت رسول الله عليهم السلام جميعا يدعون ذلك، ويصححونه ويعتمدون عليه في إمامة أبيهم أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يمكن عاقلا دفع أحد منهم عن العلم بالعربية، والاضطلاع (1) باللغة، إذ كانوا أهلها، وعنهم أخذ أكثرها، فلو لم يكن مع أصحابنا غير النقل في هذا الباب لأغناهم عن الأشعار، واستشهاد أقوال أعيانهم (2) من أهل اللغة، فكيف ومعهم جميع ذلك، وهذا يكشف عن خطأ دعواك على أهل اللغة، واعتمادك على فساد قولنا من جهتهم.
فقال: جميع ما ذكرت لا دليل فيه على صحة ما ذهبت إليه، وذلك أن ما بدأت فيه من شعر الأخطل فإن المكنى عنه ب (الهاء) التي في
مخ ۲۱
" مولاها " هي الأمة، لأنه عنى بقوله: " فأصبحت مولاها " ناصر الأمة، والذاب عنها بولايتك، هي دون أن يكون عنى الإمامة.
وكيف يكون مراده في هذا الباب الإمامة، و " الهاء " على ما قدمنا كناية عن الأمة، ولو كان أراد ذلك لكان معنى كلامه فأصبحت إمام الأمة، وهذا مما لا يتلفظ به عاقل.
فأما شعر الكميت الذي ذكر فيه (مولى). فإنه لا حجة فيه، من قبل إنه خبر عن اعتقاده في معنى خبر الغدير، والعرب ليس يعصمها فصاحتها من الغلط في الاعتقاد، وإنما كان يسوغ لك التعلق بالكميت لو ضمن شعره الذي ذكر خبرا عن العرب، فأما وهو عن عقده كما شاء فليست فيه حجة.
وكذلك أيضا ما ذكرته عن قيس إن صح، فهو خبر عن عقده دون العرب كافة، وأهل الفصاحة عامة.
فأما حسان فقد كفينا التعلق به لشهرة مذهبه في أبي بكر وعمر وعثمان مما ينفي ما يدعى عليه في القول بإمامة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
فأما ما ذكرت عن الشيعة فلسنا ندفع أكثرهم عن الفصاحة، ولكنا ندفع جميعهم عن صحة عقد في معنى لفظة (مولى) إذا اعتقدوا فيها الإمامة، وإذا كان الأمر على ذلك، فقد صح ما ذهبنا إليه في هذا الباب.
فقلت: ما أنكرت على من قال لك: إن ما تأولت به شعر الأخطل، ورمت بالإلتجاء إليه إفساد تعلقنا به واضح البطلان، وذلك أن " الهاء " إنما هي كناية عمن تقدم وصفه دون ما لم يتقدم، بل لم يجر ذكره البتة.
ألا ترى أنه قد بدأ بذكر قريش فقال:
فما وجدت فيها قريش لأمرها. إلى آخر كلامه.
مخ ۲۲
ثم قال على النسق:
فأصبحت مولاها. من غير خلط للأمة بذكر قريش أو غيرها، مما يصح أن يكنى ب " الهاء " عنه.
فكيف يمكن تأويلك على ما تأولت مع أنه لو كان على ما ذهبت إليه، لخرج الكلام من حد المدح المخصص أو تناقض في اللفظ، ودل على فساد الغرض، وذلك أن نصرة الأمة لم تكن مقصورة عليه دون غيره كما ليست مقصورة على سائر الأئمة دون جماعة المسلمين، بل قصرها على مذهبك يجب أن يكون على غير الإمام من العاقدين له، لأنها بعقدهم يثبت، وباختيارهم يصح، مع كونهم من وراء الإمام، لتأديبه عند الغلط، وتقويمه عند الاعوجاج والزلل.
فكان لا يبين منهم مما خصه به من المدح، بل يكون الخاص له بذلك سفيها في قصده، جاهلا في غرضه مع استحالة قوله: " فأصبحت مولاها " مبينا له ذلك بعد العقد دون ما قبله، وهو على ما ذهبت إليه عنى أمرا قد كان حاصلا له لا محالة عند الخلق قبل العقد من النصرة التي يشترك فيها جميع أهل الإسلام، وهذا باب يكشف عن صحة القول فيه تأمل شعر المادح، ويستدل على أغراضه، ويعرف به حقيقة ما قلناه عند الإنصاف دون ما تأولت.
فأما اعتذارك في شعر الكميت بذكر عقده، وجواز الغلط في العقد، فإنه من أعجب شئ، وذلك أن عقده في معنى اللفظ لم يكن من طريق العقول ولا القياس، فتجيز عليه الغلط فيه، وإنما كان من جهة اللغة إذ كانت معاني الألفاظ لا يرجع أحد من أهل العقل في عبارتها المستحقة لها إلى غير اللسان، فلو جاز أن يتوهم على الكميت أن يغلط في اعتقاده معنى لفظ " المولى " حتى يجعله عند نفسه ما لم يجعله عربي قبله قط
مخ ۲۳
مع جلالته في اللغة لجاز أن يتوهم على جرير (1) والأخطل، والفرزدق (2).
بل على من تقدمهم مثل امرئ القيس (3)، وزهير (4) ونحوهما من شعراء الجاهلية وضع " رجل " و " فرس " و " حمار " على ما لم يضعه أحد من العرب قبلهم عليه، بل لا ينكر أن يكون من تقدم هؤلاء أيضا قد فعلوا ذلك ومثله، وهذا هو الذي قدمناه من غلق باب اللغة والحيلة من إفساد الشريعة، وهو يكفي في إسقاط ما ذكرته عن القيس إذ كان شيئا
مخ ۲۴
واحدا.
فأما ما دفعت به حكايتنا عن حسان بمذهبه المشهور، فليس بشئ يعتمد عليه، وذلك أنه لا يمتنع عندي وعندك، بل عند كل أهل العقل أن يعتقد الإنسان مذهبا في وقت، ثم ينصرف عنه إلى غيره في وقت آخر، ويظهر قولا في زمان، ثم يظهر ضده في زمان آخر، وهو قول حسان المتضمن للشهادة على إمامة علي عليه السلام بخبر الغدير بعينه عند القول، وذلك أن الرواية جاءت بأنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما سمع منه في أخيه أمير المؤمنين عليه السلام أن يقول شعرا، فأذن له فقال ذلك الشعر، وليس بمنكر أن يؤثر الدنيا بعده، ويرغب عن الآخرة فيمدح أعداءه ويذمه هو بعد أن مدحه.
وقد كان زياد بن مرجانة (1) بلا خلاف بين الأمة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن أشد الناس حبا له وولاية في الظاهر، ثم آل أمره إلى التشيع لعثمان والاغراق في مدحه، وذم أمير المؤمنين عليه السلام والاغراق في سبه، فما ينكر أن يكون حال حسان كحاله، ولا يستحيل
مخ ۲۵
صحة هذا الشعر منه.
فأما قولك: إن الشيعة ليس يدفع فصاحة أكثرها، غير أن ما تدعيه في لفظ " مولى " غلط منها من جهل العقد، فالكلام فيه كالكلام في باب قيس والكميت حرفا بحرف.
مع أنك قد أغفلت موضع الاعتماد، وهو أنا اعتمدنا انتشارها عن سلفها من أهل الفصاحة، وعن أهل بيت نبيها عليهم السلام خلفا عن سلف، إلى أن ينتهي إلى من حضر منهم يوم الغدير، أنهم اعتقدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بالقول، وفهموها منه، وعلموها يقينا بقصد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أفهامهم، وإشارته إليها عليهم، وليس هذا مما يقع الغلط فيه قياسا ولا عقلا، بل إنما يقع إن وقع حسا وسماعا، وهذا باطل لا محالة، فيعلم أنك لم تعلم مما قلناه شيئا البتة.
فقال صاحب المجلس حين انتهيت إلى هذا الموضع: وأن شيخنا - أعزه الله - قد اعتمد أصلا صحيحا، وهو أن ما طريقه اللغة فسبيل التوصل إليه سلوك طريقه دون التجاوز إلى غيره.
وقد رأينا جماعة ممن لا يختلف الناس في معرفتهم باللغة، ولا يطعن عليهم في علمها، وقد صنفوا الكتب المرجوع إليها من هذا الباب، كالخليل بن أحمد (1)،
مخ ۲۶
وأبي زيد (1)، وفلان وفلان، ثم لم يذكروا في موضع من كلامهم ولا تصنيفاتهم (2) إن (المولى) إمام، فعلم أن ما ذكره من دخول الشبهة على الشيعة في معنى اللفظ صحيح، إذ لم يكونوا راجعين فيها إلى أحد من عددناه، وهم أئمة اللغة.
فأما أمر الكميت فإنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عبر عن الإمامة بلفظ (المولى) لاعتقاد الإمامة بها، ولا يكون ذلك معروفا عند أهل اللسان.
والوجه الآخر: أن يكون اتقى الله في معنى الإمامة من لفظة (مولى) يومى إلى أنه تعمد الكذب في ذلك على أهل اللغة فلم يتق الله على القلب والصدر.
والوجه الآخر: أن يكون اعتقد أن ما جرى يوم الغدير يوجب له التفضيل على الكل، والتفضيل علامة الإمامة على ما ذهب إليه جماعة الراوندية (3) واعتقدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة فضله فيما
مخ ۲۷
زعموا على الكل، لا من جهة النص.
فأما حسان، فما سمعنا منك قولا عنه فكنا نتأمله، وننظر معناه، غير أنك أضفت إليه في الجملة مثل ما أضفت إلى الكميت، وهلم ما قال حسان لكي ننظره كما نظرنا ما تقدم.
فقلت له: ما أنكرت على من قال لك: إن الذين وصفتهم بمعرفة اللغة، وجعلتهم أئمة فيها، وأشرت إلى وجوب الرجوع إليهم فيما تعلق بها، ليس هم (1) الحجة بانفرادهم دون غيرهم، ولا كل من عداهم من أهل اللغة راجعا إليهم، بل لو قالوا قولا بأجمعهم، وخالفهم عليه مثلهم في العدد أو دونهم، ممن قد اشتهر أيضا بمعرفة اللغة وإن لم يكن له مصنف يأتي به، لوجب الترجيح عندك بين القولين، والنظر في المذهبين، حتى لو أنهم أنكروا شيئا فجاء بصحته رجل من أهل البادية لشاع لمحبه، ولم يمتنع بإنكارهم.
وإنما كان يسلم لك ما تعلقت به، لو كان من عددت وذكرت جميع أهل اللغة المرجوع إليهم، كيف والذين عددت، إنما هم في جملة أهل اللغة كالجزء الذي لا يتجزأ في أكثر العالم، فليس لك بهم تعلق مع أنك لم تجد عنهم النكير على من جعل (المولى) إماما وبمعنى الإمام، ولم ترجع في ذلك إلى شئ من كتبهم ومصنفاتهم، وإنما رجعت خلو الكتب والمصنفات من تسطير ذلك، وليس خلوها منه دليلا على فساده، لا سيما وقد بينا إثبات من لا يطعن عليه من أهل اللغة، إن الإمامة بلفظة (مولى)
مخ ۲۸
واستشهدنا بأشعارهم التي هي أشهر عنهم من أن يجحد لو أمكن إنكارها ولا خلاف بين أهل العلم أن المثبت في هذا الباب وإشكاله أولى من النافي.
فأما ما قسمته (1) من أمر الكميت، فإن القسم الأول منه قد أتينا عليه بما لم نسمع له جوابا.
والثاني: قد مضى أيضا ما هو إسقاط له، وهو أنه إن جاز أن يتوهم على الكميت وهو أحد من استشهد بشعره في كتاب الله عز وجل، وفاق في النظم شعر أهل عصره، وبلغ في الفصاحة الرتبة التي لم يخف على أحد من أهل الأدب أن يكون حملته العصبية والعناد على أن يتقي الله تعالى على ما وصفت بالقلب، ويستعمل عبارة لم يستعملها أحد قبله، ويضع لفظا على غير معناه، حتى يسيره في الشعر، ويظهر التدين به، لم يأمن أن يكون كثير من فصحاء الجاهلية الذين لم يعتقدوا الإيمان فيحجزهم عن الكذب دون أن يكونوا كالكميت في الديانة، قد وضعوا أكثر (2) هذه الألفاظ الذي نضعها نحن على المعاني الآن، ولم يكن لها قبل، بل كانت على غيرها، ومعهودة في سواها لعصبية على طائفة منهم لغرض من الأغراض، أو محبة الابداع، ليعرفوا بالخلاف أو عنادا لبعض منهم، أو لسبب من الأسباب فاتقوا الله تعالى في ذلك على حسب اتقاء الكميت في لفظة (مولى) ويكونوا به أخلق وفعلهم له أجدر، وهو عليهم ومنهم أجوز، وهذا هدم للأصل بأسره، وإفساد اللغة جميعا، وتشكيك فيها جملة، وهو باب الالحاد.
فأما الوجه الثالث: فإنه تأويل فاسد بين الإحالة، وذلك أنه لو كان
مخ ۲۹
كما وصفت جعلت إماما باعتقاد الفضل لا بالقول، لعلق ما يعنيه به من الولاية على الجميع والرئاسة بذكر الفضل بعينه دون القول الذي لم يوجبه البتة وإنما كان على ما زعمت عنده كاشفا عن رتبة بها يستحق ذلك الوصف، أو كان إذ ذكر القول لا يقتصر عليه في باب الرئاسة دون ما يوجبه من الفضل، بل يضم أحدهما إلى الآخر.
فلما أفرد القول نفسه، دل على أنه لم يرد إيجاب الإمامة بغيره، كيف وهو مع هذا يعدد في جميع قصائده المشهورة في مدائح بني هاشم فضله، الذي بان به من الكل شيئا بعد شئ، وخصلة بعد خصلة، ولا يوجب له الإمامة عند ذكر شئ فيه بلفظه، حتى إذا انتهى إلى يوم الغدير بعينه.
فالإمامة بنفس القول الواقع فيه دون ما سواه، فهل يخفى هذا الباب (1) على أحد، أو يمكن تأويله مع ما وصفنا إلا عند إمكان تأويل جميع أقوال الشعراء على غير أغراضهم، وصرفها بأسرها عن مراداتهم.
وأما استشراحك إياي شعر حسان، فإني لم أنصرف عنه إلى الاجمال (2) إلا لعلمي بشهرته عندكم واستفاضته، فكان اقتصاري على ما مضى من نظيره في الشهرة من الشعر يغني عن ذكره معينا.
فأما إذا رمتم شرحه، فهو قوله عند نصب رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام في يوم الغدير بعد استئذانه في قول الشعر والإذن له في ذلك على ما جاء في الأخبار (3).
مخ ۳۰
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا فقال: فمن مولاكم ووليكم * فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاديا إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا وهذا صريح في الاقرار منه بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، من جهة القول الكائن في يوم الغدير، من رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام، لا يمكن تأويله، ولا يسوغ صرفه إلى غير حقيقته.
فقال صاحب المجلس: هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير: " قم يا علي فإنني رضيتك للعالم إماما " كما قال حسان فيما أضفته [إليه؟ فإن كان قال ذلك فقد سقطت الخصومة، ولا حاجة بك إلى التعلق] (9) بلفظة (مولى) مع احتمالها.
وإن كان إنما قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) على ما تقدم القول فيه فهذا القول الذي حكيته عن حسان كذب لا محالة، والكذب سبيلنا جميعا أن نطرحه.
فقلت له: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن لم يكن قال هذا القول مفصلا، حتى حسب تفصيل حسان له، فقد أتى بمعناه بأخصر لفظ وأفهمه، فافتقر حسان في شرحه إلى ما حكيناه عنه من القول، وليس كل حكاية تضمنت غير (2) لفظ المحكي وإن أفادت المعنى مطرحة ولا
مخ ۳۱
مستدلا بها على كذب الحاكي، ولا غلطه.
ولو كان ما اعتمدت عليه اعتمادا لاستحال حكاية العربي بالفارسي، والفارسي بالنبطي، والعبراني بالسرياني، وبطلت جميع الحكايات المنظومة إذ كان ما حكى بها غير منظوم، وهذا يوجب أن لا يكون أحد من الشعراء المتقدمين ولا المتأخرين صدق في حكاية قضية مضت، وحكمة نقلت، وذكر كرم وجد، وفعل عجيب وقع، إلا إذا حكوه بألفاظه الجلية عينا، وذكروه على ترتيب التعبير سواء، وهذا ما لا نذهب إليه، ولا أحد من أهل النظر فنشتغل في الإطناب فيه.
فعاد صاحبي المتكلم أولا فقال: إن الذي أتيت به من شعر الأخطل فإنه وإن لم يكن أراد بقوله: " فأصبحت مولاها " الخلافة على ما قلت، وأراد قريشا على ما وصفت، فليسن أيضا فيه دلالة على ما ذهبت إليه، وذلك أنه أراد ب " مولى " أي ناصر قريش، ومن يجب أن ينصره قريش، والكميت فقد قلنا إنه لا يستحيل أن يكون اعتقد فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الكل بما جرى يوم الغدير، فأوجب له الإمامة به لا من جهة القول.
فراسله الكلام صاحب المجلس ها هنا فقال: ويمكن أن يكون غلط وإن كان من أهل اللغة، وإن امرء القيس مع جلالته في معنى صاحبه قد غلطه جماعة في شئ ذكره عنه لم أحفظه في وقت أتياني هذه المسألة، وهو نفسه - أعني الكميت - قد غلط في قوله:
أبرق وأرعد يا يزيد * فما وعيدك لي بضائر (1) فلم ينكر غلطه في لفظة " مولى " وإن كان على الصفة التي هو عليها
مخ ۳۲
في اللغة.
فقال المتكلم أولا: الأمر كما وصفه سيدنا - أدام الله عزه - يعني صاحب المجلس - ويمكن أيضا ما قلناه.
وتكلم رجل منهم من آخر المجلس فقال: وكيف وهم يدعون - يعني أصحابنا - أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في ذلك لعلي عليه السلام: " أنت أمير المؤمنين " فلا يستحيل أن يكون الكميت عمل على هذا فقال ما قال في شعره من جهته، ولم يقله من جهة لفظة " مولى ".
وتكلم قوم من جنبات المجلس، واختلط كلامهم، فسكتهم، ثم أقبلت على صاحبي المتكلم الأول مهما: ما (أنكرت على من) (1) قال لك:
إن ما لجأت (2) إليه أيضا في هذه النوبة مع تسليم أن " الهاء " كناية عن قريش من أن " المولى " هو الناصر، وإنما أراد نصرته لقريش، ونصرتهم له يسقط من قبل إن نصرة قريش لم يتجدد وجوبها عليه بالعقد له بالإمامة، بل هي لازمة (نصرتهم له (3)) قد تقدم وجوبها عليهم قبل العقد له من جهة السنة والكتاب والاجماع على وجوب نصرة المسلم للمسلم : والمتدين أخاه في الدين.
فلم يك يحتاج في وجوبها إلى طلب كرم أبيه وفضله كما زعم الشاعر في طلب قريش ذلك حيث يقول ما ذكره:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأوفى من أبيك وأمجدا وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
مخ ۳۳
تجدد حال بعد أن لم تكن فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (1) ولولا أن الأمر على ما قلناه دون ما قلت، ما كان وجوب نصرته لهم ونصرتهم له مما يوجب تهنئته وحمده دون سائر الناس الناصرين والمنصورين، اللهم إلا أن يكون نصرة إمامة، وسلطان رئاسته، فيعود الأمر إلى ما قلناه وقد قدمت أن تأمل الشعر بعين الإنصاف يؤكد قولنا، ويبطل ما خالفه دون النظر والاحتجاج وقد بان ذلك والحمد لله.
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت: ما قاله سيدنا - أدام الله عزه - في غلط امرئ القيس عند من غلطه والكميت في بيته من الشعر الذي طعن فيه فقد رضينا به شاهدا وذلك أن الذي غلطهما من منتحلي اللغة شذ بتغليطهما من سائر أهلها وتفرد في الحكم بما لم يوافقه عليه أحد من رؤساء علمائها وصار في ذلك فردا من بيتها ومسنا في الشذوذ من جملتها ولم يكن كذلك إلا لرئاستهما في المعرفة وتقديمها في الصناعة وكونها قدوة لمن نشأ بعدهما.
وإذا كان كذلك فواجب أن تكون هذه الحال حال من غلط من عددناه في لفظة " مولى " وما عبر بها وهذا يؤكد ما قلناه ويزيده بيانا ويسقط ما خالفه وضاده في معناه على أن البيت الذي حكى عن الأصمعي (2) الطعن فيه على الكميت - رحمة الله عليه - بخلاف بيته
مخ ۳۴
المتضمن النص على أمير المؤمنين عليه السلام بخبر الغدير في الحكم وذلك أنه إنما ساغ لمن طعن فيه الطعن لتفرده دون متقدم متبوع، ولا قرين مماثل مذكور، مع ما في ظاهر اللغة المشهورة في خلافه، وإن كانت له فيه حجج يعتمد عليها ودلائل يلجأ في جوازه إليها.
وما تأوله من خبر الغدير وصرح به فيه، فقد سبقه إليه من يعتمد في باب القول عليه ممن عددناه من أهل الفصاحة من الصحابة وأهل البيت عليهم السلام، وحكموا فيه بمثل ما حكم، وطابقه عليه وسائر أهل عصره من الشيعة، ومن (نشأ بعده) (1) من أهل الفصاحة، فلم يك عروضا لذلك، ولا نظيرا له من وجه من الوجوه.
ثم شرعت في إفساد ما تعلق به الرجل الذي حكيت اعتراضه بالخبر الوارد في يوم الغدير في السلام على علي بإمرة المؤمنين، فامتنعوا من استماعه.
وقال صاحبي المتكلم: الكلام معي لونه، وليس يجب أن تكلم كل من كلمك، فيذهب الزمان، وفروا من الكلام عليه كل الفرار، ثم شرع في كلام أورده لم أحفظ فيه زيادة على ما تكلم بعدم موافقته على معاني ما أسقطته به مما تقدم من كلامي، وانقضى المجلس وانصرفنا.
مخ ۳۵