وبعد أن انتصر على داريوس لم يلتجئ إلى تكهنات العرافين حتى أتى اليوم الذي انتابه فيه جزع شديد، إذ تركه البكتريون وناوشه السكيثون وعجز عن الحركة متأثرا بجراحه «فعاد فريسة للخرافة» (وهذه هي عبارات كوينتوس كوريتوس نفسها، الكتاب السابع، 7)، «هذا الوهم الذي ينتاب الروح الإنسانية، وطلب من أرستاندر الذي كان موضع تصديقه، أن يقدم القرابين كي يتنبأ بمجرى الحوادث في المستقبل.» وهناك أمثلة كثيرة توضح هذا الشيء نفسه، وهو استسلام الناس للخرافات ما دام الخوف ينتابهم، ويتوجهون بعبادتهم التي لا طائل وراءها إلى أشباح وإلى متاهات خيالية لنفس حزينة خائفة. وأخيرا، فإن سلطان العرافين لم يمتد إلى الجمهور ولم يخشهم الملوك إلا في أسوأ الظروف التي تمر بها الدولة، ولكني لن أطيل في هذه الاعتبارات التي يعرفها الناس جميعا.
ولما كان الخوف سبب الخرافة كما قررنا من قبل، وليس سببها كما يدعي البعض فكرة غامضة من الألوهية موجودة في أذهان البشر، فإننا نلحظ أن كل الناس يميلون إليها بطبيعتهم، كما نلحظ أنها لا بد أن تكون متغيرة ومتقلبة إلى أقصى حد، شأنها في ذلك شأن معظم أوهام النفس ودوافع الجنون الشديد. ونلحظ أخيرا أن الخرافة لا تعتمد إلا على التمني والحقد والغضب والخداع؛ لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات كلها؛ وعلى ذلك فكلما استسلم الناس بسهولة إلى جميع أنواع الخرافات صعب عليهم التمسك الدائم بواحدة منها. ولما كان عامة الناس أشقياء دائما فإنهم لا يصلون أبدا إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفا لشقائهم إلا بأوهام جديدة يسعدون بها لأنها لم تخدعهم بعد، وقد كان هذا التقلب سببا في اضطرابات عديدة وحروب بشعة. يتضح إذن مما سبق وكما لحظ كوينتوس كوريتوس بدقة أيضا (الكتاب الرابع، الفصل العاشر) أن «الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة.» ولذلك كان من السهل باسم الدين دفع العامة تارة إلى عبادة الملوك كأنهم آلهة ودفعهم تارة أخرى إلى كراهيتهم ومعاملتهم وكأنهم طامة كبرى على الجنس البشري. وتجنبا لهذا الشر اتجهت العناية، بحرص شديد، إلى تجميل الدين - حقا كان أو باطلا - بالشعائر والمراسم التي تزيد من أهميته وتضمن له احتراما دائما بين المؤمنين. (ولم تنجح هذه الإجراءات في أي مكان بقدر ما نجحت عند المسلمين، حيث تعد المناقشة اليسيرة كفرا وحيث تطغى الأحكام السابقة على الحكم الصحيح، وحيث لا يمكن للعقل السليم أن يدلي برأي أو أن يبدي مجرد شك بسيط).
4
إن السر الكبير في النظام الملكي ومصلحته الحيوية هو خداع الناس وإضفاء اسم الدين على الخوف الذي تتم به السيطرة عليهم، بحيث يناضلون من أجل عبوديتهم، وكأن فيها خلاصهم، ويعتقدون أنهم ينالون أسمى مراتب الشرف - لا أنهم يلحقون بأنفسهم العار - عندما يريقون دماءهم ويضحون بحياتهم إرضاء لغرور فرد واحد. وعلى العكس من ذلك فلا يمكننا في جمهورية حرة أن نتصور أو أن نأخذ على عاتقنا شيئا أشر من ذلك؛ لأن الحرية العامة لا تسمح بأن يقوم الحكم الفردي على الأحكام السابقة أو أن يخضع لأي قهر، أما الفتن التي تثار باسم الدين فلا تحدث إلا عند سن قوانين متعلقة بموضوعات النظر والتأمل، فتدان بعض الآراء على أنها جرائم ويقع أصحابها تحت طائلة العقاب، ويلقى أنصارها ودعاتها حتفهم لا من أجل مصلحة الدولة بل لكراهية أعدائهم لهم وقسوتهم عليهم. ولو كان القانون العام يقضي بأن «الأفعال وحدها هي التي تخضع للقانون، أما الأقوال فلا تخضع مطلقا للعقاب.» لما أمكن لمثل هذه الفتن أن تتمسح بالقانون، ولما تحولت الخلافات في الرأي أبدا إلى فتن، ولما كان قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي أن نعيش في جمهورية يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء، ويعد الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاها، فقد رأيت أنني لن أكون قد قمت بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بينت أن هذه الحرية لا تمثل خطرا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معا.
5
هذا هو الموضوع الرئيس الذي أردت البرهنة عليه في هذه الرسالة. ولكي أصل إلى هذا الهدف كان علي أن أبين أولا أهم مظاهر التحيز في الدين، أي أن أبين بقايا عبودية الروح القديمة، كما كان علي أيضا أن أفحص مظاهر التحيز المتعلقة بحق السلطات العليا في الدولة،
6
إذ يحاول كثيرون ممن لا حياء لهم أن يسلبوا هذه السلطات أهم حقوقها وأن يبعدوا عنها باسم الدين قلوب العامة
7
التي لم تتخلص بعد من خرافات الوثنيين، مما يعود بنا مرة أخرى إلى الوقوع في العبودية الشاملة، وقبل أن أبين تفاصيل خطتي أبدأ الآن في شرح الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة.
ناپیژندل شوی مخ