المعبد وهو عامل الوحدة بين الأسباط. (2)
قسم الطاعة الواجب على المواطنين لله.
وقد كانت مهمة الدولة التيوقراطية التخفيف من حدة الانفعالات للمواطنين وللرؤساء على السواء، فقد عهد إلى اللاويين مهمة تفسير القوانين دون رؤساء الأسباط، خشية أن يستغل هؤلاء هذه المهمة في ارتكاب الجرائم معتمدين على سلطتهم في تفسير القوانين لإخفاء جريمتهم، كما حرم اللاويون من كل وظيفة سياسية ومن كل حق في الملكية. وكان من عادة الشعب الاجتماع مرة كل سبع سنوات لسماع نصوص التشريع من الحبر وقراءة التوراة حتى تتم مراجعة الرؤساء وتطبيقهم للشريعة. كان الشعب يحترم رؤساءه فإذا انحرفوا غضب عليهم. ثانيا، كان الجيش مكونا من مواطنين دون المرتزقة؛ لذلك لم يستطع الطغاة الاعتماد على الجيش ضد الشعب، فالجيش هو الشعب، كذلك لم يتعرض العبرانيون إلى خطر الطغيان من الأسباط فقد كان الدين هو الرابطة بينهم، فإذا خرج أحدهما على شريعة الله أصبح عدوا له. ثالثا، كان هناك خوف دائم من ظهور نبي جديد يعيد إقامة التوازن باعتباره ممثلا لله وتنتصر العامة له، فإذا اتضح كذب النبي كان على رئيس القبيلة محاكمته وإعدامه. ولم يكن احترام رئيس السبط راجعا إلى نبل أصله أو إلى حقه الموروث بل إلى سنه وخلقه، ولم يكن عند العبرانيين فرق بين الجيش والشعب، فقد كانوا مواطنين في وقت السلم ومحاربين في وقت الحرب، وكان رئيس الدولة هو قائد الجيش؛ لذلك لم يرغب أحد في الحرب لذاتها بل إقرارا للسلام. هذه هي الأسباب التي جعلت طموح رؤساء الأسباط لا يخرج على الحد المعقول.
وتقوم الدولة أيضا بمهمة السيطرة على انفعالات المواطنين؛ وذلك لقيامها على حب المواطنين لبلدهم والدفاع عن استقلاله. وبعد أن عقد العبرانيون الحلف مع الله كان استقلالهم شرفا لله وأصبحت سائر الشعوب عدوة له، بل إن الإقامة خارج وطنهم كانت عارا؛ لأنهم لم يكن لهم الحق في إقامة شعائر دينهم، وقد أصبح هذا الشعور الوطني طبيعة ثانية لديهم، وقد تميزت شعائرهم عن سائر الشعوب الأخرى بل وكانت على النقيض منها. فباجتماع هذه العوامل كلها - تحرر المواطنين من نير الأجنبي، حبهم المطلق للوطن، كراهية الأجنبي ومعارضته كواجب مقدس، الشعائر الخاصة - استطاع العبرانيون الثبات أمام كل المخاطر والمحن.
107
وكانت المصلحة هي الدافع الوحيد في سلوك العبرانيين وفي حرصهم على الدولة لأنهم لم يحصلوا على حق الملكية المطلق إلا في هذه الدولة الإلهية، فقد كان لكل مواطن الحق في امتلاك قطعة أرض كما يمتلك الرئيس، فإذا باعها لفقره أعيدت إليه في الأعياد. كان الفقر محتملا وذلك لتطبيق مبدأ حب الجار والإحسان إليه؛ لذلك لا يستطيع العبرانيون أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، وكان كل المواطنين سواسية ولذلك لم تحدث حروب أهلية، وقد ساعد حب الجار على الإبقاء على صدق الإيمان خاصة أن الإيمان هو الطاعة لقوانين الدولة حتى في أحوال المعيشة من زراعة وصناعة وتجارة؛ لذلك كان المثل الأعلى للسلوك هو السلوك الإجباري لا السلوك الاختياري.
ولكن العبرانيين لم يحافظوا دائما على تطبيق الشريعة، ومن ثم وقعوا تحت نير الأجنبي، وانهارت دولتهم تماما، ولا يمكن إرجاع ذلك إلى أن هذا الشعب كان عاصيا بطبعه، فقد اختلفت الشعوب فيما بينها في لغاتها وعاداتها وتقاليدها، ولكن يمكن أن يقال أنه إذا كان العبرانيون حقا أكثر عصيانا من الشعوب الأخرى فذلك يرجع إلى نقص في شريعتهم التي وضعت بدافع من الانتقام لا بوازع خلقي؛ أي أنها وضعت عقابا لهم، فلو كان الله قد أراد لهم دولة مستقلة مستقرة لأعطاهم شريعة أخرى قائمة على أسس أخرى. لقد شاء العبرانيون الاحتفاظ بالخدمة المقدسة للأطفال حديثي الولادة دون تمييز بين اللاويين وغيرهم، ولكنهم جميعا عبدوا العجل باستثناء اللاويين؛ لذلك استبعد الأطفال وتم اختيار اللاويين بدلا عنهم، ويدل تفضيل اللاويين على غيرهم على عدم طهارة باقي الشعب.
ولقد أذل اللاويون باقي الشعب لفضلهم عليه، واستغلوا هذه الظروف، وتحول الإخلاص الديني إلى نفاق، وبعد أن لحظ الشعب ذلك، وثبت على أحدهم أقل جرم ثار عليهم وهاجمهم، فنشأت الاضطرابات بعد أن تعبت الأسباط من إعالة هؤلاء القوم وكرهتهم لا سيما أنه لا توجد بينها وبينهم أية صلات قرابة، واشتدت الاضطرابات في سنوات القحط، وتنصل الشعب من واجباته نحوهم وكف عن إقامة الشعائر بعد أن شك فيها ورأى فيها مذلته. وقد حاول رؤساء الأسباط التقرب إلى الشعب وإبعاده عن الأحبار فقدموا له شعائر جديدة، وأعطى كل سبط لنفسه الحق في تفسير القوانين وخدمة الدين، ولكن الشعب غضب على اللاويين حتى أنه اعتقد أن موسى لم ينصبهم تنفيذا لأوامر الله بل طبقا لمزاجه الخاص. ألم يختر سبطه لخدمة الدين وجعل أخاه حبرا دائما؟ وقام فريق من الشعب بالدعوة إلى المساواة في الحقوق والواجبات، ولكن موسى قام بمعجزة لإثبات حسن نيته وأهلكهم جميعا، ولكن ثار الشعب بعد أن اعتقد أن ما فعله موسى لم يكن أمرا من الله بل من عنده، وزيادة على انتشار الطاعون عمت الفتنة، وعصى الشعب وسمح لنفسه بكل شيء حتى انتهى إلى الانهيار التام. وبعد أن ذاق نير الاستعمار الأجنبي ترك التنظيم الإلهي، وأراد تنصيب ملك منه يحل بلاطه محل المعبد ويصبح مركز الدولة ويحل تشريع الدولة محل التنظيم الديني للأحبار للمحافظة على تحالف الأسباط، ولكن تنصيب الملوك حمل في ثناياه بذور فتن عديدة أدت إلى انهيار الدولة تماما، فلم يسمح الملوك بوجود دولة، وسلطة مناوئة لسلطتهم، وعندما أراد بعض الملوك الصغار أخذ جزء من السلطة من أجل تنظيم شئون الدولة أراد الملوك الكبار أخذ كل سلطة في أيديهم، فعارض ذلك الأحبار الذين كان لهم حق تفسير القوانين، وكان على الملوك طاعة القوانين دون نسخها أو وضع قوانين جديدة، ولكن شاء الملوك استبعاد قوتين من طريقهم: قوة اللاويين؛ فقد كان قانونهم يمنع الملوك من التدخل في الشئون الدينية، وقوة النبي؛ فقد كان النبي يريد وضع المملكة تحت رحمته، ولكي يحقق الملوك مشيئتهم سمحوا ببناء معابد أخرى لآلهة أخرى لإضعاف سلطة اللاويين، ودفعوا بعض الأفراد للتنبؤ لمعارضة الأنبياء الحقيقيين، ولكن لم ينجح الملوك في تحقيق غرضهم؛ وذلك لأن الأنبياء لم يدعوا إلا وقت تنصيب الملوك الجدد الذين لم تثبت سلطتهم بعد، فكان من الصعب على الأنبياء الحكم على الملوك أيهم حبيب الله وأيهم عدوه. لم يكن للأنبياء أثر كبير، ولم يستطيعوا القضاء على طغيان الملوك لأن أسباب الطغيان ظلت باقية، فإذا قضوا على طاغية ظهر طاغية آخر، وتوالت الحروب والفتن، وحل العنف محل القانون الإلهي حتى سقطت دولة العبرانيين، وخضع العبرانيون للفرس وأطاعوا تشريعاتهم. وبعد تحررهم استولى الأحبار على السلطة من رؤساء الأسباط وطمح رجال الدين في أن يصبحوا أحبارا وملوكا وتدور الدائرة من جديد.
108
وينتهي سبينوزا من هذا العرض التاريخي إلى أن القانون الإلهي كان صادرا عن الحلف، وبدون هذا القانون لا يوجد إلا قانون الطبيعة، كما ينتهي إلى أن العبرانيين ليس لهم أي حق مقدس على الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا الحلف الذي كان على العبرانيين وحدهم الالتزام به.
ناپیژندل شوی مخ