بدأ سبينوزا بدراسة النبوة لأنها الموضوع الذي يتناوله الباحث عندما يريد دراسة الوحي؛ إذ يتم كشف الوحي من خلال النبوة، والنبوة في الغالب وحي مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول صلتها بمصدر الوحي، أي النبوة على المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله، والثاني النبوة صلة النبي بالرواة وانتقالها من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى يد حتى يتم التقنين، أي النبوة على المستوى الأفقي كما يحدده وضعها وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول يدرسه سبينوزا في أول الرسالة ثم يدرس الجانب الثاني بعد ذلك وهو بصدد النقد التاريخي للكتب المقدسة. والحقيقة أن الجانب الأول موضوع للفلسفة الإلهية، وهي نظرية النبوة بالمعنى الضيق، والمعروفة باسم نظرية الاتصال في الفلسفة الإسلامية، والثانوي موضوع لأصول الفقه أو لعلم الحديث الذي يدرس الرواية وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول مبحث ميتافيزيقي افتراضي، والثاني مبحث تاريخي علمي. الأول لا يتعدى الظن، والثاني هو المنطق الموضوعي لها.
ولا يتناول سبينوزا الجانب الأول من النبوة إلا بقدر يسير. فإذا كانت النبوة تعني تدخل الله في قوانين الطبيعة، فإن ذلك لم يحدث، لأن قدرة الله هي قدرة الطبيعة، وصفات الله هي قوانين الطبيعة، كما أن قدرة الله لا تفسر شيئا؛ لأن السبب المتعالي لا يمكنه تفسير واقعة طبيعية.
وكما أن قدرة الله ليست هي السبب في تفسير النبوة، كذلك «روح الله». صحيح أن الكتاب المقدس يذكر «روح الله» أو «روح الله للأنبياء» أو يخبر بأن الأنبياء قد تحدثوا باسم روح الله، ولكن كلمة «روح» في اللغة العبرية تعني اشتقاقيا (ريح) نسمة، نفس، نفخ، تنفس، قوة، طاقة، استعداد، قيمة، رأي، إرادة، رغبة، دافع ... إلخ؛ كما تستعمل للتعبير عن الانفعالات مثل التواضع، والغرور، والمحبة، والكراهية، وتقلب المزاج، والطبيعة؛ كما تستعمل أيضا للدلالة على روح الإنسان، ومناطق العالم. وهذه المعاني كلها مجازية صرفة؛ إذ تنسب كل واقعة لله إذا كانت جزءا من طبيعته، فيقال: «قدرة الله»، أو إذا كانت خاضعة لقدرته، فيقال: «سماء الله»، أو إذا كانت مخصصة لله، فيقال: معبد الله، أو إذا كانت منقولة عن السنة النبوية، فيقال: «شريعة الله»، أو إذا كانت تعبر عن درجة في التفضيل، فيقال: «جبال الله».
52
وقد كان من عادة اليهود نسبة كل شيء لله يجهلون علته المباشرة بل يعتبرون وقائع الطبيعة كلها أعمالا لله، خاصة خوارق العادات، أو الأشياء غير المألوفة عادة، فالرجل الطويل «نبي الله»، ومن هذه الناحية لا يختلف اليهود عن الوثنيين. لا تعني إذن «روح لله» أي معنى حقيقي، بل تعني عدة معان مجازية، خاصة أن اليهود كانوا يعتبرون الجسد مصدر الشر، والروح مصدر الخير. وقد استعملت هذه المعاني المجازية كتشبيهات على طريقة التوراة التي لا يمكنها التعبير عن الحقائق الإلهية إلا بالصور الإنسانية، فعندما يذكر كتاب أن روح الله كانت في النبي، أو أن الله أنزل روحه على البشر، فإن ذلك يعني أن الأنبياء كانوا بشرا ممتازين، يؤمنون بالله إيمانا صادقا، ويعبدونه عن حق ويستطيعون إدراك الأحكام الإلهية، إذ تدل الروح على النشاط الذهني أو على الحكم؛ ولذلك سميت الشريعة روح الله، وكذلك يمكن تسمية خيال النبي فكر الله،
53
والحقيقة أن فكر الله مطبوع في البشر جميعا، كالمعرفة الفطرية تماما، ولكن اعتقادا من العبرانيين أنهم أصفياء الله، ادعوا أن روح الله قد حلت في أنبيائهم؛ لأن العامة تجهل العلل المباشرة للمعرفة النبوية، وتعتريها الدهشة أمامها؛ لذلك نسبوا هذه المعرفة إلى الله كما تعودوا أن ينسبوا إليه كل شيء غريب عليهم.
فإن لم تكن قدرة الله أو روح الله سبب النبوة، فإنه لم يبق أمامنا إلا روح الإنسان، فالروح الإنسانية وطبيعتها هي السبب الأول في وجود الوحي لأنها قادرة على تكوين بعض الأفكار، تفسر بها طبيعة الأشياء، وتدل بها على الحياة الصحيحة، فلو لم تكن هناك روح إنسانية، لما كانت هناك نبوة، ولو لم يكن هناك إنسان، لما كان هناك الوحي. لا يهم سبينوزا إذن المصدر الإلهي للنبوة، بل يهمه أنها واقعة إنسانية، حدثت بالفعل، وبذلك يكون الدليل على النبوة هو وجود النبي، لا وجود الله.
كيف يظهر الوحي إذن من خلال النبوة؟ الوحي
Révélation
ناپیژندل شوی مخ