لم تنشأ الفرق الدينية إلا في عصر متأخر عندما أصبح للأحبار في الدولة الثانية سلطة إصدار القرارات وتصريف شئون الدولة. ولكي يحتفظوا بهذه السلطة على الدوام اغتصبوا لأنفسهم حق النقيب، وأرادوا أخيرا تنصيب أنفسهم ملوكا. ويسهل معرفة السبب في ذلك؛ ففي الدولة الأولى كان من المستحيل إصدار أي قرار باسم الحبر؛ لأن الحبر لم يكن له حق إصدار القرارات، بل كان حقه يقتصر على إعطاء الردود الإلهية بناء على طلب النقباء أو المجالس، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يتطلع الأحبار إلى اتخاذ قرارات جديدة، بل كان جهدهم منصبا على تنظيم القرارات الموروثة وحمايتها، وكانت المحافظة على القوانين من الفساد أفضل وسيلة يملكونها للدفاع عن حرياتهم ضد النقباء. وعلى العكس من ذلك فإنهم، بمجرد تدخلهم في شئون الدولة، وممارستهم حق الرئيس بالإضافة إلى الحبروية، طمح كل منهم في أن يشتهر اسمه في ميدان الدين وفي الميادين الأخرى، بحيث ينظم كل شيء بسلطة الحبر، ويصدر كل يوم قرارات جديدة خاصة بالشعائر والإيمان وبموضوعات أخرى، ويدعي أنها لا تقل في قدسيتها وفي إلزامها عن قوانين موسى. ومنذ ذلك الحين بدأ الدين في التدهور حتى أصبح مجرد خرافة مشئومة، على حين فسد المعنى الحقيقي للقوانين وتفسيراتها الصحيحة. وفضلا عن ذلك، ففي العصور الأولى بعد إعادة بناء الدولة، بينما كان الأحبار يحاولون شق طريق للوصول إلى السلطة، أخذوا يوافقون على جميع أفعال عامة الشعب، توددا إليها، ووافقوا على أبعد هذه الأفعال عن الدين، ووفقوا بين الكتاب وأسوأ العادات. ويشهد «ملاخي» على ذلك شهادة صريحة، فبعد أن لام كهنة زمانه الذين سماهم المفسدين باسم الله، واصل هجومه عليهم قائلا: «لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم ومن فيه يطلبون الشريعة إذ هو ملاك رب الجنود، أما أنتم فعدلتم عن الطريق وشككتم كثيرين في الشريعة ونقضتم عهد لاوي، قال رب الجنود» (ملاخي، 2: 7-8). واستمر في توجيه الاتهامات إليهم، قائلا: إنهم يفسرون القوانين كما يشاءون وكما يهوى البشر لا كما يريد الله. ومما لا شك فيه أن الأحبار لم يكونوا على قدر من الفطنة يمكنهم من تغطية سلوكهم بالنسبة إلى من هم أكثر منهم ذكاء. ومن هنا فقد تجرأ هؤلاء الأخيرون على القول بأن القوانين المكتوبة هي وحدها الملزمة، أما القراءات التي يلحقها الفريسيون، بسبب غفلتهم، بتراث القدماء
5 (يرى يوسف في تاريخ اليهود القديم أن معظم الفريسيين كانوا ينتسبون إلى العامة)، فإنها لا تستحق التنفيذ. ومهما يكن من شيء، فلا يمكن إنكار أن التملق الشديد للأحبار، وفساد الدين والقوانين بعد أن تضخمت نصوصه بطريقة مذهلة، قد أدى إلى إثارة المنازعات المتكررة والخصومات المستمرة، ودخل الناس في هذا الجدل بتعصب شديد، مستندين في هذا الجانب وذاك إلى رجال القانون،
6
وصار من المستحيل إرجاعهم إلى حد الاعتدال، وأصبح الشقاق بين الفرق أمرا حتميا. (2)
يجب أن نلحظ أيضا أن الأنبياء - وهم مجرد رعايا عاديين - دفعوا الناس إلى التطرف أكثر مما دفعوهم إلى الصلاح نتيجة للحرية التي استباحوها لأنفسهم في التعرض للناس وفي سبهم ولومهم، على حين أن الملوك استطاعوا، باستخدام سلطتهم العادية، أن يحملوهم على التسليم لهم دون مقاومة تذكر، بل إن الأنبياء كثيرا ما كانوا يثيرون سخط الملوك، حتى الأتقياء منهم، بسبب السلطة التي كان معترفا بها لهم في الحكم على حسن الأفعال وقبحها، وفي لوم الملوك أنفسهم عندما يتعارض سلوكهم العام أو الخاص مع ما قرره الأنبياء، ويروي الكتاب أن الملك آسا
7
حكم طبقا للشريعة الإلهية ولكنه وضع النبي حناني
8
في الطاحونة (انظر الأخبار الثاني، 16)
9
ناپیژندل شوی مخ