مقدمة
1 - حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين
2 - ترقي الشرائع بترقي الإنسان
3 - القوة في الشرائع
4 - مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية
5 - في كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر
مقدمة
1 - حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين
2 - ترقي الشرائع بترقي الإنسان
3 - القوة في الشرائع
4 - مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية
5 - في كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر
رسالة في بيان كيفية انتشار الأديان
رسالة في بيان كيفية انتشار الأديان
تأليف
رفيق العظم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، أما بعد ...
فإن الولوع بالبحث عن حوادث هذا الوجود الاجتماعي ليس أحسن منه وقعا في النفس ولا أجل منه فائدة في المباحث العلمية التي تستقري حلقات السلسلة التاريخية، لا سيما إذا تجرد صاحبه عن لباس التشيع وتنزه عن وصمة الغرض، وقد كنت - بالنظر لما حبب إلي من البحث في تاريخ نظام الاجتماع البشري - نشرت في الجزء التاسع من جريدة الهلال العلمية لسنتها الحاضرة
1
جوابا عن سؤال سأله بعض الأدباء في الجريدة المذكورة مؤداه: هل التمدن الإسلامي في صدر الإسلام قام بالسيف أم بالقلم؟ ولم أتصد للجواب عن سؤال السائل وقتئذ إلا رغبة لكشف حقيقة يظهر من نفس السؤال أنها تهم السائل كما تهم كثيرين غيره من ذوي الميل لمعرفة حقائق الحوادث الاجتماعية؛ إذ مما يدرك بالبديهة أن التمدن الإسلامي لم يقم في صدر الإسلام، بل قام بعده - أي بعد أن استتب في الأرض سلطان المسلمين وتدونت علوم الدين - وإنما الشريعة الإسلامية هي التي قامت في صدر الإسلام. فالتمدن الإسلامي
2
قام عن الشريعة الإسلامية ولم يقم معها، فباطن مراد السائل إذن هو غير ما يتبادر للذهن من ظاهره، ولا جرم، فإن تتبع العلل يؤدي إلى معرفة حقيقة معلولاتها، وهذا ما دعاني لأن بدأت في جوابي المذكور ببيان العلاقة التي بين التمدن والأديان عموما وبينه وبين الشريعة الإسلامية خصوصا، ومن ثم تخلصت لبسط كيفية قيام الإسلام وانتشار شريعته بين الأنام، فبرهنت على أنها إنما قامت بالدعوة، فالتمدن الإسلامي قام عنها بالقلم لا بالسيف، فلم يقع ذلك عند بعض الكتاب موقع القبول، فتصدى للرد علي فيما كتبت، حيث نشر في الجزء التالي من الجريدة المذكورة مقالة بإمضاء «ر. ن»، حاول فيها إقامة الدليل النقلي على قيام الإسلام بالسيف، وأن التمدن الإسلامي قام معه كذلك، فعندئذ لم أر بدا من ولوجي في باب المناظرة توصلا لإقناع حضرته بأنه مخطئ فيما توهمه وذهب إليه، وما زلت معه في أخذ ورد حتى إذا اعترى قلمه الكلال أو كاد رأيته جعل يكتب بالبنان ما لا يوافقه عليه الجنان، أو كأنه يحاول الإشارة من طرف خفي إلى استنكار مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية مع أن الجهاد شرع في كثير من الشرائع الإلهية السابقة، فلا ينكر على الشريعة الإسلامية كما لم ينكر على غيرها من قبل، وبما أن بيان ذلك على وجه أوسع مما بسطناه له في جريدة الهلال الأغر ضروري لإقناع حضرته وفريق القائلين بقيام الإسلام - أو الشريعة الإسلامية أو الدين الإسلامي - بالسيف - وهو مما لا يسعه مقام الجرائد العلمية - فقد اختتمت مناظرتي معه، وتمت بالوعد بوضع رسالة خاصة آتي بها على تفصيل ما أجملناه في الجريدة المذكورة مشفوعا بتحقيقات أخرى ذات علاقة بأصل المبحث لا تخلو من فوائد جمة تطمئن معها الضمائر وترتاح إليها الخواطر، متوخيا في ذلك جانب الحقيقة وبيان حكاية الواقع مع نبذ التشيع لفريق والتحامل على آخر شأن الكتاب الصادقين الذين لا يستهويهم هوى الغرض والتعصب، ولا تنقاد أقلامهم لغير حرية الفكر والضمير.
وإنني وفاء بالوعد وضعت هذه الرسالة المختصرة التي لو سلكت في كل مبحث منها مسلك التطويل والتفصيل لوجدت للقول مجالا ذا سعة، غير أني رأيت الاختصار والإجمال أولى بمثل هذا المقام، وعلم الله أني لم أخض غمار هذا البحث إلا بعد ما حاولت الإعراض كثيرا عما بات يتردد صداه في الآذان من صوت البهت الصادر عن فريق القائلين بقيام الإسلام بالسيف إيهاما وتغريرا، وإخال أن في هذا ما يمهد لي العذر عند إخواني في الوطنية من أي مذهب كانوا على وضع هذه الرسالة التي لم أقصد بها إلا إقناع معشر لو اعتبروا بالحكمة المأثورة عن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: «لماذا تنظر إلى القذي في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينيك» لكفونا مؤنة الأخذ والرد، ولكن أبى الحق إلا الظهور والسلام.
وقد قسمت هذه الرسالة إلى خمسة فصول: الفصل الأول: حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين، الفصل الثاني: ترقي الشرائع بترقي الإنسان، الفصل الثالث: القوة في الشرائع، الفصل الرابع: مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية، الفصل الخامس: كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر، وفيها مطالب، فأرجو ممن يطلع عليها أن لا يحمل كلامي على غير محمل الإخلاص في خدمة الحق، وأن يسبل ذيل المعذرة على ما يراه فيها من خطأ ربما أداني إليه قصر باعي، وإنما هي كلمة حق لم يسعها الصدر فباح بها اللسان، وها أنا أشرع ببيان المقصود، وبالله المستعان.
الفصل الأول
حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين
من البديهي أن الإنسان يستحيل عليه الاستغناء عن مشاركة من سواه من بني الطينة البشرية حتى في أدنى الأعمال التي هي من ضروريات الحياة، وإلا لكان كالسائمة يأكل مما تنبت الأرض ويشرب مما تمطر السماء دون افتقار منه إلى الألفة الاجتماعية التي هي من بواعث العقل الذي فضل الله به الإنسان على سائر الحيوان، لهذا فالإنسان منذ فطر عقلا شعر بالحاجة إلى الاجتماع الذي به قوام الحياة الأدبية، فافترق إلى جماعات وأقوام كانت في أبسط أطوارها خاضعة لحكم النظام الاجتماعي ولو بما يسمى بالعصبية.
ولا ريب أن الاجتماع على صورته المذكورة غير جدير بالاعتبار الكمالي في جانب الحاجة إلى التآلف العمومي والاجتماع المدني، لهذا افتقرت الشعوب مع التمادي والتدريج واتساع دائرة المعاملات الدنيوية إلى روابط أعم من العصبية، تجمع إليها شتات القوى المتوزعة وتضم إلى سلسلتها حلقات الأقوام المتفرقة، التماسا للتعاون الذي هو علة النمو والبقاء، وتدرجت في مهد الزمان عواطف الشعور البشري بالحاجة إلى القوة الوازعة التي تصان في جانبها حقوق الأفراد باعتبار الأعمال المشتركة والشخصية، والجماعات باعتبار الحقوق القومية والعلائق الجوارية، وذلك لأن تنوع العناصر البشرية الداعي لتعدد المطامع والغايات بين أصناف الإنسان لما كان من شأنه إيجاد المنازعات الشخصية والمشاحنات القومية التي تضر بالعمران وتأخذ على البشر سبل الترقي في الحياة الاجتماعية في كل آن، فكان من الضرورة وجود قوة معنوية تجذب أطراف الشعوب إلى نقطة جامعة، تستحيل بها العصبية الجنسية إلى رابطة عمومية، يترتب عليها توحيد الكلمة وتوثيق عرى التأليف والاجتماع وتوطد دعائم النظام المدني الكافل بدوام الترقي البشري على صراط الحكمة والعلم.
ومن البديهي أن تلك الروابط المفتقر إليها جماعات الإنسان وهذه القوة المعنوية التي يرتاح إليها الجنان إنما هي الشرائع الإلهية التي تجمع الشعوب على كلمة الألفة والحب وتوثق بينهم عرى الإخاء والمساواة، وترشدهم إلى الطاعة التي هي أساس الشرائع الداعية إلى انتظام الأحوال وتبادل الأيدي على الأعمال، فالشرائع ضرورية للبشر بمقدار حاجتهم إلى الاجتماع.
ومن المقرر أن خضوع جماعات من الإنسان مختلفي العناصر والأجناس لسلطة واعية ونظام شامل أمر يصعب حصوله، ما لم يكن أولى بصالحهم الاجتماعي الأعم، ولما تحقق عند البشر مع التمادي والتدريج أن الشرائع الإلهية هي ذلك الوجه الكافل براحة الاجتماع العمومي، وأن خضوعهم لشرائعه تعالى، وانقيادهم لكلمتها الجامعة أمر لا بد منه في جانب مصلحة المجتمعات القائمة بالتعاون والاتحاد اللذين يترتب عليهما نمو الحياة الأدبية وبقاء النوع كان تمسكهم بمبدأ التآلف الاجتماعي تحت جامعة الأديان أمرا مستمرا لم تخل منه الشعوب في كل زمان.
ولا جرم أن دعامة الاجتماع هو الدين؛ إذ به يصان نظام الأمم من الخلل والتفريق، ويدفع خطر الفوضى والعصبيات الجنسية التي تهوي بالشعوب من الهلكة إلى مكان سحيق.
الفصل الثاني
ترقي الشرائع بترقي الإنسان
من المقرر الثابت في تاريخ الإنسان أخذه بالترقي في سلم المدنية منذ العصور القديمة إلى الآن، وقد مر عليك أن روابط الأديان هي القائمة بحفظ نظام الإنسان، فلهذا كانت الشرائع الإلهية - التي على إثرها تقوم ومنها تستنبط الشرائع الوضعية - تتوالى على الشعوب بواسطة الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، بما يوافق المناسبات الطبيعية والترقيات التدريجية الملازمة للحضارة والعمران مع توالي الأزمان، بدليل أن ما من رسول إلا ويبعث إلى قومه على فترة من الرسل فيوحى إليه بشريعة أرقى، تنسخ ما قبلها وتكون أجمع لضروب الأحكام التي تقتضيها سنة الترقي البشري والتقدم الاجتماعي، هذا من حيث الفروع لا من حيث الأصول؛ إذ الأصل في الشرائع الإلهية واحد وهو التوحيد، فالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لم يكن من العبث إرسالهم هكذا في أزمنة متباعدة، نهاية كل منها بداية غيره، بل سنة الترقي وحكمة موحي الشرائع جل شأنه في هذا اقتضت ذلك؛ رعاية لمصالح العباد المنوط حفظها بالشرائع الكافلة بانتظام النظام الاجتماعي بالنسبة لما يصادفه كل نبي من الشئون والمناسبات الطبيعية، بالإضافة إلى كل أمة وزمان، والاعتراف بهذه الحقيقة لا يفتقر لغير اطراح التشيع المذهبي ولغير النظر إليها بعين التروي والإنصاف؛ إذ حكمة التشريع على نهج الترقي المذكور قضية ثابتة حتى في الوضعيات العقلية لا يتردد في قبولها الوجدان ولا يماحك فيها إنسان فكيف بها إذا كانت من وضع الحكيم العليم بمصالح عباده أجمعين.
فشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لو كانت مع موافقتها بالوضع للمناسبات الزمانية مستوفية لشروط الدوام والاستمرار لما كان أوحي فيما بعد إلى موسى عليه السلام بشريعة أخرى تخالفها في كثير من الأحكام، كإباحة الجمع بين الأختين في الأولى وتحريمه في الثانية مثلا، لا جرم أن علم الخالق تعالى بحاجة الخلق التي تختلف باختلاف الأزمنة وتترقى بترقي الشعوب هو الذي اقتضى ذلك، وإلا لاختل نظام الوجود الاجتماعي المستمد روح القوة من نور الشرائع والأديان، لهذا نرى أيضا أن الشريعة المحمدية - الجديرة بالنظر والاعتبار لتأثيرها على النظام الاجتماعي تأثيرا سريعا وتلقي العقول لها بالقبول والناس بالرضا والاختيار - لما كانت خاتمة الشرائع الإلهية كان من الحكمة بلوغها درجة الكمال بالنسبة لما تقدمها من الشرائع التي لم تتجاوز حد الحاجة الاجتماعية، بالإضافة إلى أزمنة ظهورها وتبليغها بواسطة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فالله سبحانه وتعالى لما اقتضى علمه الكريم وجود شريعة كاملة تأتلف بها القلوب ويتم بها نظام الاجتماع فتكون خاتمة شرائعه الإلهية أنزل هذه الشريعة المحمدية مهيئة لأن تجمع أمما مختلفة وشعوبا متباينة، وارتضاها لأن تكون شرعا قيما للناس كافة، بدليل قوله تعالى خطابا للمؤمنين أي لمن آمن بصاحب هذه الشريعة وبما جاء به وصار من أتباعه وأهل ملته من أهل الكتاب وغيرهم من الطوائف والملل الأخرى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، فمفهوم هذه الآية الشاملة في الخطاب للمسلمين ممن كان منهم من أهل الكتاب وغيرهم واضح لا يحتاج إلى زيادة تفسير وبيان.
ويؤيد هذا الدليل الحق ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام المحيطة بالزهيدة والجليل من العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية، وهي أحكام الحدود والعقوبة والقصاص، والسياسة والحقوق وفروعها، والترغيب والترهيب وفروعهما، وغير ذلك مما لم تستوفه شريعة من الشرائع السابقة، ومن نظر في كتب الأصول في الشريعة الإسلامية وما حوته من المسائل الشرعية واستوعبته من دقائق الأحكام العادلة الملائمة لكل زمن، بل ولكل حالة تقتضيها سنة الترقي والانتقال في الهيئة الاجتماعية لما توقف عن الاعتراف إن لم يكن باللسان فبالضمير والوجدان، بأنها الشريعة الكاملة السمحاء التي أتم الله بها نعمة الراحة الاجتماعية على من تلقاها من البشر؛ إذ أية شريعة غير الشريعة الإسلامية ترشد الإنسان إلى كل باعث من بواعث الراحة والطمأنينة في الحياة البشرية، فتعلمه آداب المعاشرة والمعاملة والتخاطب، والطهارة، والقيام والجلوس، حتى آداب الأكل واللبس، وبالإجمال فهي ترشده لكل طرق الخير، وتنهاه عن كل طرق الشر،
1
وتبين له حدود كل صلة تربطه مع ذوي رحمه وقرباه ثم عشيرته ثم قبيلته ثم بني وطنه ثم بني جامعته ومن عداهم من أهل الكتاب والملل الأخرى، كل ذلك بتوضيح صحيح مقبول لدى العقل مؤيد بالتجارب مفيد بالعمل، وهي تفرض على المؤمن الطاعة لله وللرسول وأولي الأمر، والطاعة كما هو المعلوم أنه أساس الشرائع ودعامة العمران، ثم هي تحدد معنى الطاعة لصاحب الأمر (الإمام) بحيث لا تكون أمرا لما يؤدي إلى معصية الخالق تعالى فيما أمر به ونهى عنه، ولا تفريطا يختل به نظام الألفة العمومي ويتداعى ركن المجتمع الإسلامي، وتوضح كيفية ارتباط الأفراد بولي الأمر الإمام الحاكم ارتباطا دينيا وسياسيا وارتباطه بالشريعة في تحديد سلطة الهيئة الحاكمة على الهيئة المحكومة والتصرف بأمور الرعية بما لا يتعدى جانب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، ولا يتجاوز حدود العدل والمساواة في إجراء الأحكام وتوزيع الضرائب وجباية الأموال، ثم هي تعين للإمام كيفية تصرفاته السياسية وكيف ينبغي أن يعامل الأقوام المحاربة والمسالمة، وكيف تراعي في ذلك النسب والعلائق الجوارية، إلى غير ذلك من أنواع المعاملات السياسية سواء كانت عمومية ذات علائق خارجية أو خصوصية ذات بواعث داخلية، مما يظهر منه مزيد ارتباط السياسة بالدين في الشريعة المحمدية على وجه كافل بإعزاز جانب الجماعة الإسلامية، وهذا المبدأ الأساسي في هذه الشريعة الغراء من أهم المبادئ التي قامت على دعامتها الممالك والدول الإسلامية، حتى إن كثيرا ما حاولت هدمه الدول الأوربية بمساعيها المعلومة في الشرق إدخالا للفساد على أساس الحكومات الإسلامية، وإضعافا لقوة أهل الإسلام الذين هم مع تفرق عناصرهم وانتشارهم في البسيطة مرتبطون بنقطة جامعة هي ذات الخلافة الإسلامية، ولكن أنى لتلكم الدول الوصول إلى تلك الغاية البعيدة المنال على توالي الأجيال.
هذا، وبالجملة فمزايا هذه الشريعة التي لا تدخل تحت الحصر لم توجد في شريعة من الشرائع السابقة، واختصاصها بتلك المزايا دون غيرها يؤيد أنها أرقى الشرائع، وبما أنها خاتمة الشرائع أيضا، اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون كذلك وافية بالغرض من جميع الوجوه، فعلماء التشريع في هذا العصر الذي اتسعت فيه دائرة المعاملات المشتركة والسياسية اتساعا فاق حد الحصر مهما توسعوا في وضع القوانين العقلية بعد تطبيقها على التجارب النظرية في المعاملات المستحدثة تراها إن لم تكن استنباطا من الشريعة الإسلامية، فهي لا تخرج في مؤداها عن معاني الأصول في هذه الشريعة الغراء الموحاة منذ ثلاثة عشر جيلا مضت عليها من الزمان، وهي ما زالت ولا تزال كنزا ينضح التمدن من الأحكام كل جديد، تزان بدرره نحور العصور والحس شاهد عدل، والباحثون في أصول الشرائع من ذوي الإنصاف إذا راجعوا كتب الشريعة الإسلامية بكل تدقيق لا يخالفوننا في هذه الحقيقة حيث تتضح لهم بأجلى بيان.
الفصل الثالث
القوة في الشرائع
قد علمت من مجمل ما قدمناه أن الشرائع هي الكفيلة بحفظ نظام الإنسان، وترقي المدنية والعمران، لما أنها الحد الفاصل بين الأهواء المتغالبة الناشئة عن احتكاك المقاصد بين أصناف الإنسان الميال من طبعه إلى حب الأثرة، المفطور على الشر، فهو لو أطلق له العنان في ميدان المقاصد النفسية لبلغ منتهى البله، وأصبح فاقد النظام يأكل قويه الضعيف، بدليل ما يشاهد من حالة الأقوام غير المتمتعين بأنوار الشرائع الذين هم لهذا السبب أقرب إلى الحيوانية منهم إلى الإنسانية.
فالشرائع في الحقيقة هي قوام الحياة الاجتماعية وعلى وجودها تتوقف سعادة النفس البشرية، لما أنها الوازع الذي يأخذ على النفوس سبل الاندفاع وراء الأهواء، والرادع الذي يكبح جماح العواطف قسرا عن قصد كل طريق عوجاء؛ إذ لما كان الإنسان ميالا إلى الإطلاق عند قيد الحجر القانوني رغابا باهتضام حقوق أخيه، وكانت الشرائع بالإضافة إلى مقصدها المعنوي بمثابة القوة التي تقف بكل فرد منه عند حد الواجب، وتعرفه من الحقوق ما كان له أو عليه كان القسر فيها من لوازم التشريع المعنوية التي تأخذ بعنان إرادة البشر عما لا ينبغي لها أن ترسل فيه، وإلا فلو عرف الإنسان طريق الواجب بالطبع فلم يتعدها، وأذعن للحق سواء كان له أو عليه لانتفت الحاجة إلى الشرائع، وانجلت روابط الاجتماع القومية، حيث تستحيل بين أصناف الإنسان إلى الرابطة النوعية فتقوم المساواة الإخائية والزواجر النفسية مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهيهات هيهات، فإنه فضلا عن استحالة وصول الإنسان إلى هذا المقام، فهو مع علمه بضرورة الشرائع وتمتعه براحة الإيواء إلى ظلها الظليل ميال للشذوذ عنها وإن انقاد لها مع التمادي والإرشاد من حيث الوجهة الدينية فلا ينقاد لها من حيث الوجهة الدنيوية إلا على رغم الأميال النزاعة إلى الشر، وإلا لما احتيج في إقامة أحكام الشرائع إلى الوازع الذي يأخذ بالقوة على أيدي ذوي العبث بالحقوق، بل لكان الرجوع بالنفس إلى مجرد أمر الشارع عند كل خلاف يقع بين متخاصمين هو الحكم الفصل المغني عن القوة الحاكمة والقوة الإجرائية (التنفيذية) المنوط بهما حفظ نظام العباد وصيانة حقوق الأفراد.
الفصل الرابع
مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية
من البديهي أن الإنسان المتخلق بخلق ثابت، الناشئ على عادة مستمرة واعتقاد خالص يتناوله الأبناء عن الآباء، يصعب عليه تحوله عن ذلك كله على حين اقتناع منه ورسوخ في عقله بحسن ما هو عليه، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، لا سيما إذا كان من قوم تمكنت من نفوسهم العوائد والتقاليد تمكنا عسر الزوال، ولا نخال من ينكر هذه الحقيقة تلقاء ما هو شاهد ومعلوم في حالة الأفراد من حيث الأخلاق الشخصية التي لا تنجع فيمن شب على الرذيل منها وسائط التربية والتهذيب إلا بعد العناء الكثير وحالة الجماعات من حيث العوائد السافلة القومية التي لا يتأتى لقوم التحول عنها لما هو أشرف وأرقى منها إلا باستعمال الوسائل التدريجية، فما بالك بالشرائع الإلهية التي يراها القوم لأول وهلة داعية لترك كثير مما ألفوه من العوائد والتقاليد وانطبعوا عليه من أخلاق ذميمة ونبذ ما رسخ في أذهانهم أجيالا عديدة من الاعتقاد، فضلا عما يرونه في الشرائع من الروابط والأحكام التي تحجر مطلق التصرف وتحدد الأعمال.
وهذا بالطبع مما يخالف أميال الخاصة حيث تغل به أيديهم العاتية ولا يدرك العامة ما فيه من المزايا العظيمة العائدة على المجتمع الإنساني بالخير المحض إلا بعد الاختبار والتعليم، فيأخذ منهم العتو على الأنبياء أولي الشرائع كل مأخذ فيسفهون أقوالهم تارة ويتعمدون أذاهم أخرى، لا لأن ما يأتون به من الشرائع يكلفهم ما لا يستطاع إذ - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها - ولا لأنها تخالف ما يقتضيه العقل والعدل - حاشا لله - بل لجهل فريق منهم بمزايا الشريعة ولأخذها على أيدي الفريق الآخر كما تقدم. ومن المقرر أن النبي مكلف بتبليغ رسالته ونشر دعوته، ولو تحمل بسبب ذلك غاية الإهانة ونهاية العناء، وفي هذه الحال لا بد من أن تؤثر دعوته على أفكار العقلاء من قومه الذين يبدأهم بإظهار سره بغية الاستعانة بهم على أمره، لا سيما إذا تحداهم بالمعجزات وبرهن على صدق نبوته بالآيات البينات، فيصغون له ويطمئنون إليه، فيجتهد بأن يستحدث منهم صاحبا أو صاحبين، ليستحدث بالاثنين اثنين آخرين، وبالأربعة أربعة آخرين، وهكذا بالتدريج حتى تكثر جماعته ويتعدد أنصاره، فيكون منهم في منعة فيجهر بأمره ويعلن دعوته، فيتنبه له المخالفون من قومه الذين كانوا آمنين جانبه لضعفه ووحدته، وكلما زاد حزبه ازداد قومه والمخالفون له رهبة منه وبغضا فيه ومعاداة له، وربما تعمدوا قتله وقتل من تبعه من الناس، الذين يصبحون محفوفين بالخطر بين جماهير الأعداء محتاجين لبسط السلطة والاعتصام بالقوة حفظا لناموس الشريعة وقياما بنصرة الحق، وتثبيتا لدعوة نبيهم التي يتوقف على انتشارها خير أولئك الجماهير، الذين لم يدعهم لردها سوى الجهل والعناء، ولا يتيسر لهم ذلك إلا إذا أذن لهم الشارع باستعمال القوة، فيشرع لهم الجهاد وقتال المعارضين بحكم الضرورة، حتى يكون جانب جماعة المؤمنين محفوظا من كيد الكائدين وإيذاء المخالفين، وإلا لو استسلموا للضعف من ابتداء أمرهم لذهبوا ضحية جهل المعارضين، ولم تقم لهم قائمة في بث منافع الدين.
لهذا فمشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية لا تخلو عن حكمة بالغة، وليس فيها ما يمس بجوهر الشرائع ما دام أن الشارع لم يقصد إلا الخير العام، ومعارضة الشعوب - ابتداء - للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ليس إلا لمحض العناد والجهل بمزايا الشرائع، وقد يكون لأسباب أخرى سياسية مصدرها أولو السلطة وأرباب الرياسة في الهيئة الاجتماعية، لما يرونه فيها من القيود التي تغل أيدي جورهم وتمنعهم عن فجورهم، فيشعرون بثقل يد الشريعة العادلة ويخشون من أن تثل عروش عتوهم في الأرض، فيقومون لذلك في وجه صاحب الشريعة مثبطين معارضين، فيميل معهم مؤازرا من يميل إما رهبة منهم أو رغبة فيهم وطاعة لهم، فهؤلاء لما لم يقف بهم العتو عند حد الضرر للنفس بصدها عن سبيل الحق، بل أجرموا بمنع غيرهم أيضا عن قبول الخير المحض، والعقل يجوز قتل المجرم الآثم، فقد وجب قتالهم وقتلهم أنى وجدوا بحكم العقل والعدل؛ لأنهم الصادون عن سبيل الله المانعون للخير العام، فمشروعية الجهاد بمثلهم في الشرائع الإلهية عادلة لا سبيل لإنكارها بوجه من الوجوه.
فإذا تمهد هذا فاعلم أن من ينكر على الديانة المحمدية مشروعية الجهاد فيها فقد أخطأ خطأ ناشئا عن عدم البحث والاستقراء لأمور؛ أولها: أن الشرائع بمعناها المضاف إلى الغرض الظاهر من وضعها للبشر قوة تقف بالإنسان عند حد الواجب - كما رأيت في الفصل الثالث - فلا تستغرب فيها مشروعية الجهاد، وثانيها: أن الجهاد شرع في كثير من الشرائع السابقة كشريعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام قبل أن يشرع في الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، فهي لم تختص به وحدها، وثالثها: أن الجهاد لإعلاء كلمة الحق ودفع شر المؤذين لا ينكر على الشرائع الإلهية كما رأيت فيما مر في هذا الفصل، ورابعها: أن الجهاد في الشريعة الإسلامية شرع على وجه أخف مما كان عليه في شريعتي موسى وداود عليهما السلام وإليك البيان.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة إبراهيم عليه السلام
فأما أن الجهاد مشروعا في تلك الشرائع السابقة فثابت بنص «الكتاب»، فقد جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حارب ملوك المشرق عندما كسروا ملوك السدوميين، وافتك من أسرهم ابن أخيه لوطا، واسترد أملاك السدوميين وأسلابهم، ولم يرض بأن يأخذ لنفسه نصيبا من هذه الغنيمة ما عدا الرجال الذين كانوا معه - ولعلهم القواد - وهم: عانر وأشكول وممرا، فإنه سمح لهم بأخذ نصيبهم منها، فقيام إبراهيم عليه السلام بنفسه لقتال هؤلاء الأعداء يدل على أنه مأذون بذلك من لدن الخالق تعالى، وأن قتال الأعداء والجهاد فيهم كان مشروعا في شريعته الطاهرة حتى فعل ما فعل، وإلا ما كان ليقدم على ذلك بالنظر لمقام النبوة إذا لم يكن مأمورا به، وهذا مما لا ريب فيه.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة موسى عليه السلام
وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام فقد شرع الجهاد في شريعته على وجه بلغ من الشدة ما بلغ، فقد جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج أن الله سبحانه وتعالى أمره أن يبيد عن وجه الأرض كثيرا من الشعوب، وأن يكسر أصنامهم، وهؤلاء الشعوب هم: الأموريون والحثيون والفرزيون والكنعانيون والحريون واليبوسيون، وأنه سبحانه يزعج له جميع الشعوب الذين يأتي عليهم ويعطيه أرضهم، وكان كذلك، فقد جاء في الإصحاح الحادي والعشرين والثاني والعشرين من سفر العدد أنه - أي موسى عليه السلام - قاتل الأموريين وملكهم سيحون، وقتله وأخذ بلاده بحد السيف من نهر أرنون إلى نهر نبوق، وقاتل بني عمرن وملكهم عوج وأخذ أرضهم بحد السيف، وحارب الموآبيين والمريانيين، وأرسل بعض أسباط إسرائيل لمحاربة الكنعانيين وغيرهم. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات منذ خروجه من مصر ودخوله في سورية حتى وفاته عليه السلام، وقبل وفاته أقام يشوع قائدا على جماعة بني إسرائيل، وما زال بنو إسرائيل متبعين حكم الجهاد إلى انقراض دولتهم بعوامل الحروب المتوالية في الأرض.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة داود عليه الصلاة والسلام
وكذلك داود عليه السلام فقد شرع الجهاد في شريعته على وجه شديد أيضا، كما ورد في صموئيل الأول والثاني فإنه حارب العمالقة واسترد منهم ما سلبوه من مدينته صقلع التي أعطاه إياه أخيش، وحارب أشبوشب وقهره، وبقيت الحرب بينهما سنتين، وحارب اليبوسيين وافتتح منهم أورشليم، وحارب الفلسطينيين وقهرهم حتى لم يعودوا يضايقوه، وهاجم الأمم المجاورة فغلب الفلسطينيين مرة ثانية وحارب الموآبيين وضرب الخراج على الآراميين، وذلل عماليق والأروميين واستاق منهم غنائم وافرة، والتحمت الحرب بينه وبين ملك بني عمون الذي استصرخ الآرميين فأجابوه وأعانوه، وحدثت ثلاثة حروب شديدة بين الفريقين واشتد القتال حتى خرج داود عليه السلام بنفسه وقاد جنوده وضربهم ضربة عظيمة حتى أخضع بني عمون والآراميين، فامتد تخومه إلى الفرات. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات حتى إنه قصد أن يبني هيكلا للرب، إلا أنه امتنع لأمر الله؛ لأنه كان رجل حرب (7ص) تقدم عنده فريضة الجهاد في سبيل الله على إقامة مساجد الله.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام
وكذلك شرع الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، بدليل قوله في إنجيل متى (عدد 34) «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا»، فمفهوم هذه الآية صريح في مشروعية الجهاد صراحة تبلغ الغاية في الدلالة على الشدة، وعلى حكمها أعلنت الحرب الدينية في عهد الإمبراطور يوقيانوس وغيره في الممالك الغربية، وامتد أيضا صوت دعاة الجهاد في أطراف الممالك الأوربية في العصور المتوسطة الهجرية، فالتحمت حروب الصليب في المشرق التحاما متواصلا مدة تزيد عن جيلين، وكثيرا ما نودي أيضا في نفس أوربا بالحروب الدينية مع الكنائس المنشقة، مما ذهب فيه من الأموال والأنفس ما لا يعد ولا يحد، وفي أعمال جمعية الأنكبزيسيون في إسبانيا التي استمرت من عهد الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا إلى عهد الملك فيلبوس الثاني
1
ما يغني عن زيادة البيان، ولم يزل هذا الحكم جاريا إلى الآن عند الدول الغربية المسيحية، وإن صبغوه بصبغة سياسية استحياء من وصمة التعصب التي تلصق بهم عند تألبهم الديني على اهتضام كل حق للغير، وإن قيل: لماذا لم يكن عيسى عليه الصلاة والسلام في عهد بعثته من المجاهدين في الأعداء المخالفين من الوثنيين كغيره من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ما دام أنه بالنفس صرح هذا التصريح الشديد في مشروعية الجهاد؟ فالجواب عن ذلك أنه
صلى الله عليه وسلم
لم يكن كغيره من الأنبياء
2
في منعة من عشيرته أو قومه أو أصحابه من المؤمنين، ولم يبلغ أتباعه في عهده حد الكثرة والمنعة التي تقيه من أذى المؤذنين، شأن غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا لما تأخر عن الجهاد في الأعداء إتماما لأمر ربه، وعرض نفسه للصلب، وأتباعه للإهانة والاضطهاد، حتى أصبحوا بعده قليلين مستضعفين في الأرض يستعملون طقوس العبادة سرا، ويضطهدون من قياصرة الرومان اضطهادا كاد يلاشيهم من الأرض لو لم يتداركهم بعض إمبراطورة الرومان، ومنهم الإمبراطور ثيودوروس الذي تنصر، وأقام بعد ذلك الدين المسيحي بقوة السيف كما ستراه مفصلا في الفصل التالي إن شاء الله.
مطلب مشروعية الجهاد في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام
وأما مشروعية الجهاد في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام وأنها أخف مما هي عليه في شريعتي موسى وداود عليهما الصلاة والسلام، فذلك لأن لها حدودا وأحكاما لا تبلغ بها حد القسوة التي في تينك الشريعتين، فالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
لم يؤمر بأن يبيد الشعوب المحاربة عن بكرة أبيهم حتى وكل نسمة حية معهم من الحيوان كما في شريعة موسى عليه السلام، ولم يؤمر أن يقدم فريضة الجهاد على فريضة العبادة وإقامة مساجد الله كما في شريعة داود عليه السلام، بل أمر باستعمال الرفق والمسالمة، وقررت في شريعته قواعد وأحكام للجهاد لم تحتو على بعض منها الشرائع السابقة لأسباب لا نخال إلا أن القارئ علمها مما أشرنا إليه في الفصول السابقة، فمن ذلك أن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام تدعو قبل الحرب المحارب
3
الذي بلغته الدعوة إلى إحدى الخصلتين الإسلام أو الجزية، فإن أسلم كان من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى ودفع الجزية فهو في عهد الله وأمانه لا يضار في نفس ولا عرض ولا مال، وإن أبى وحورب ثم جنح للسلم يسالم لقوله تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وإلا، فلا يقتل في الحرب شيخ ولا غلام ولا عسيف
4
ولا امرأة ولا يجهز على جريح، ولا يتبع فار، وأسرى الحرب إذا كانوا أحرارا بالغين وكانوا من مشركي العرب الذين كانوا أشد عداوة وإيذاء للنبي
صلى الله عليه وسلم
فحكمهم القتل، وإن كانوا من غيرهم فللإمام أو من ينوب منابه واحدة من أربع: إما ضرب رقابهم بالسيف، أي قتلهم لا بأنواع التعذيب المنكر، وإما الافتداء بالمال أو بأسرى المسلمين، وإما المن عليهم بإخلاء سبيلهم، أو بوضع الجزية عليهم، حسبما يرى الإمام في ذلك من المصلحة اتباعا لقوله تعالى:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ، ففي هذه الأحكام العادلة من الرفق والتخفيف في أمر الجهاد ما لم تأت به شريعة من قبل وما لا تخفى عدالته على بصير.
وبالإجمال فالجهاد كما أنه شرع في غيرها على وجه أشد مما هو عليه في هذه الشريعة ولم ينكر عليها كذلك لا ينكر على هذه، لا سيما مع ما فيه من الحدود العادلة، فلا سبيل بعد هذا لغير الاعتراف بالحق، خصوصا عند كل منصف حر الضمير يرى الحق حقا فيقول إنه الحق.
الفصل الخامس
في كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر
قد تعين علينا بعد ما بسطناه من أمر الشرائع وحكمة مشروعية الجهاد فيها أن نشرع ببيان كيفية امتداد الشرائع الإلهية بين البشر، وعلى أي وجه كان قيامها في الأرض، لما أن هذا هو الغرض المقصود في كلامنا على الشرائع الإلهية بسبب ما يتوهمه ويقول به فريق من الناس من أن الشريعة الإسلامية إنما قامت وانتشرت بالسيف دون غيرها من الشرائع الإلهية وعلى الخصوص الشريعتين المنتشرتين مع الشريعة الإسلامية على وجه البسيطة إلى الآن، وهما شريعتا موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والحال أنه توهم باطل نشأ عن الوقوف عند حد الظاهر من حكم مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية والنظر إلى تاريخ الفتح الإسلامي من جهة دينية دون وجهته السياسية، مع أنه ليس في مشروعية الجهاد ولا في الفتح الإسلامي ما يؤيد زعم الزاعمين بقيام الإسلام بالسيف كما سنتلوه عليك مفصلا إن شاء الله.
ولو اعتبرنا هذا التوهم قصورا من بعض القائلين بهذا القول لأخذهم الأمور مجردة عن البحث والتدقيق واستسلامهم لضعف التمييز والرأي، فماذا نعتبره من البعض الآخر ممن لا يشك بسعة إطلاعهم وميلهم إلى التحقيق والتنقير وثقتهم من ضمائرهم بالعلم بحقيقة انتشار الدين الإسلامي، وأنه قام وانتشر بالدعوة لا بالسيف، أليس تعسفا لا داعي إليه سوى الرغبة بستر الحقائق بغشاء من التحرير والتمويه لأمر يعلمه الله والراسخون في العلم؟ ومن العار على كل كاتب حر الضمير أن يحرك قلمه على قرطاس ليسود به جبهة الحقائق بمداد التعسف بغية إقامة البرهان على أمر يخالفه في حقيقته الوجدان، وما لا نخال كلامنا هذا يسوء حضرة الكاتب المتستر مناظرنا في جريدة الهلال الذي تصدى لنقض قولنا المشعر بأن الإسلام قام بالدعوة ولم يقم بالسيف؛ إذ ليس في جميع ما خطه قلمه هناك إلا ما يدل على خلاف ما يعتقده في نفس الأمر لاعتماده فيما قاله عن قيام الإسلام على أمور ثلاثة - سيأتي بيانها - ليس فيها حجة لمحتج، ومحاولته لإثبات ما ذهب بالمغالطة والتمويه مما يرد بالبديهة عند كل منصف حر الضمير، وهذا ما حداني للظن بأنه إنما يحاول الإشارة من طرف خفي إلى استنكار مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية، وبما أن مقام تلك الجريدة لا يساعد على الإفاضة في هذا البحث الجليل، وبث ما يكنه الضمير من بيان خطأ الكاتب فيما توهمه وذهب إليه، فقد اختتمت مناظرتي معه بالوعد بوضع هذه الرسالة التي قصدت بها الإتيان على تفصيل ما أجملناه في الهلال الأغر، وحيث قد أبنت له فيما مر عن مزايا الشرائع الإلهية وحكمة مشروعية الجهاد فيها ما ينفي الاعتقاد باستنكار تلك المشروعية سواء في الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع الإلهية، فها أنا إتماما للبحث آتي على تفنيد أموره الثلاثة التي يوهم بها قيام الإسلام بالسيف، مضيفا إلى ذلك ما تيسر لي إيراده من الأدلة على كيفية قيام كل من الشريعة العيسوية والموسوية، وبيان أي شريعة كان قيامها بالسيف، وذلك للمقابلة بينهما وبين قيام الشريعة المحمدية، والحكم في ذلك بما يقتضيه العدل والإنصاف فأقول: أما الأمور الثلاثة التي اتخذها حضرة مناظرنا حجة على قيام الإسلام بالسيف: فأولها، زعمه باستعمال بعض الصحابة القوة في ردع بعض المقاومين للدعوة قبل الهجرة، وقوله: «كما يؤخذ ذلك عن واقعة حمزة بن عبد المطلب مع أبي جهل في المسجد، وبتأييد الإسلام بحمزة وعمر بن الخطاب؛ لأنهما كانا ذوي بطش وسطوة في قريش.»
والثاني: مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية.
والثالث: الفتح الإسلامي لاعتباره إياه فتحا دينيا أو هو الدعوة إلى الدين.
ومن تأمل في هذه الأمور الثلاثة بنظر التدقيق لا يجد فيها أدنى دليل يستنتج منه قيام الإسلام بالسيف، وتوضيح ذلك بوجه الاختصار الذي يؤديني إليه فهمي القاصر عن مدارك ذوي الفضل من العلماء الذين هم أقدر مني على التوسع في هذا البحث الجليل بما رزقوه من البسطة في العلم، إن الأمر الأول منقرض بالبديهة؛ وذلك لأن حمزة ما كان من الصحابة حين الواقعة المذكورة كما زعم المناظر، بل صار صحابيا حين أسلم عقب الواقعة المذكورة، وإنما دعاه إلى ردع أبي جهل عن إيذاء النبي
صلى الله عليه وسلم
كونه ابن أخيه وأقرب الناس إليه، وسوء معاملة أبي جهل له واستعماله هو وقريش كل وسيلة من وسائل الحقد والحسد لإيصال الضرر والإهانة إليه، وذلك أمر لا يمكن لبني هاشم السكوت عنه بالطبع وهم عشيرته الأقربون، لا سيما مع ما هو المشهور عند العرب من العصبية التي يبذلون دونها المال والأرواح، لهذا فحمزة رضي الله عنه لم يختص وقتئذ بالدفاع عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، بل إن بني هاشم جميعا كانوا يمنعونه من قريش ويحفظونه من كل من أراده بسوء، وعمه أبو طالب كان يذب عنه ويحميه وهو قائم في الملأ يدعو الناس إلى الإسلام، وأبو طالب لم يكن يومئذ من أهل الإسلام، فهل كان يريد هو وغيره من بني هاشم بالذب عن النبي
صلى الله عليه وسلم
نصرة الإسلام بغية انتشاره بالقوة بين الأنام؟ وما الذي حمل قريشا على منابذة بني هاشم أيام الصحيفة التي علقت على الكعبة ثلاث سنين، وتعاقدهم فيها على قطع كل معاملة مع بني هاشم، حتى خرجوا إلى الشعب منفردين، إلا أنهم دخلوا في الإسلام وقاموا بنشره وتعميمه بقوة السيف، وهم لم يكونوا يومئذ قبلوه ولا صاروا من أتباعه ما خلا حمزة وعليا رضي الله عنهما؟ وما الداعي الذي دعا بني هاشم إلى احتمال هذه الإهانة ومنابذة قومهم لهم تلك السنين الثلاث؟ أهو الرغبة بنصرة الإسلام أم عصبية لشخص النبي عليه الصلاة والسلام؟ وعلى هذا يتمشى القول أيضا فيما ورد عن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما كان ومن تبعه في بدأ البعثة من النفر القليل مضطهدين من قريش - اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام -
1
وذلك لمكانتهما في قومهما من قريش، ولأنهما قدوة لهم فيما يصنعان، ومن أسلم منهما يمكنه أن يمنع النبي
صلى الله عليه وسلم
من أذى المعارضين، ليجهر بتبليغ دعوته المكلف بتبليغها من لدن رب العالمين، وهذا الذي حصل بعد إسلام عمر رضي الله عنه فإن المسلمين بعد أن كانوا يجتمعون خفية في دار الأرقم ويصلون الأوقات هناك تظاهروا بدينهم وأصبحوا يصلون في المسجد على كره من المشركين؛ إذ لما أسلم عمر رضي الله عنه قال للنبي
صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال: يا عمر إنا قليل، وقد رأيت ما لقينا، فقال عمر: والذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج النبي
صلى الله عليه وسلم
في صفين من المسلمين حمزة في أحدهما وعمر في الآخر حتى دخلوا المسجد.
والذي يظهر في سياق هذه الحادثة عند أدنى تأمل أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يطلب تأييد الإسلام بعمر ليستعين ببطشه وسطوته على نشر الإسلام كما زعمه حضرة مناظرنا في الهلال؛ بل لأنه في منعة من عشيرته تخوله دفع الأذى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
ممن يتعمدون أذاه إذا جهر بالدعوة إلى دينه القويم، ولأنه قدوة صالحة في العرب، يثبت ذلك تتابع الناس بعد إسلامه على الدخول في الإسلام مع أن عمر رضي الله عنه لم يستعمل السيف في إسلام أحد قط، لا قبل الهجرة ولا بعدها حتى، ولا في غضون خلافته التي امتد فيها سلطان المسلمين في أطراف المعمور، وهو رضي الله عنه كان أحرص الناس على اتباع أوامر القرآن وإطلاق حرية الأديان كما تشهد بذلك وصاياه لعمال الأطراف والقواد وكتب عهده لأهل الذمة في كل صقع وناد.
هذا، وأما الأمر الثاني؛ أي مشروعية الجهاد التي اتخذها الكاتب حجة على قيام الإسلام بالسيف استنادا على ما أورده في الهلال من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المصرحة بمشروعية الجهاد، فقد سبق لنا القول في مناظرتنا معه ثمة أن مشروعية الجهاد لا تكون حجة على قيام الإسلام بالسيف، وأن تلك الآيات كانت تنزل على النبي
صلى الله عليه وسلم
تباعا على مقتضى الظروف والأحوال، كما يتضح ذلك لمن أراد الوقوف عليه من كتب التفسير المطولة فالتراجع، ونزيده بيانا الآن أن ذلك كان بعد أن أعلن النبي
صلى الله عليه وسلم
دعوته بين الناس وأخذ الإسلام ينتشر بين العرب ويزداد أهله منذ أسلم وجوه الصحابة كحمزة وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم، وداخل قريشا من هذا ما داخلهم من الحسد الذي أداهم إلى معارضة النبي
صلى الله عليه وسلم
وتسفيه دعوته والبغي عليه وعلى أصحابه بما أمكنهم من الوسائل، حتى إنه لما كان يخرج في المواسم ويدعو قبائل العرب إلى الإسلام كان يتبعه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من كلامه يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وخلفائكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
ولما أعجزتهم وسائل التثبيط عمدوا إلى استعمال العنف والقوة، فكانوا يعذبون من أسلم من أصحابه ويقفون له ولهم في كل مرصد وواد، حتى لم ير النبي
صلى الله عليه وسلم
بدا من الهجرة إلى مدينة يثرب بعد بيعة العقبة الثانية
2
واستيثاقه من جماعة الأنصار، وذلك بعد أن فشا فيهم الإسلام وأتاه منهم جماعة مستخفين نحو سبعين رجلا ورغبوا إليه الهجرة مع أصحابه، وعاهدوه على أن يمنعوه من قريش حتى كان مما قاله له يومئذ العباس بن عبادة الأنصاري: والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال: لم نؤمر بذلك، ومن ثم أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة، ولما عزم بعدهم على الخروج وسمعت قريش بذلك تآمروا على قتله في الليلة التي عزم على الخروج فيها، ونجاه الله منهم مع صاحبه ورفيقه يومئذ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فغاظ ذلك قريشا لا سيما وقد علموا أن الأنصار مانعوه ولا ريب من كل من أراده بسوء، ولا سبيل لهم بعد هذا لإيصال الضرر إليه إلا بجمع القبائل على حربه وإثارة الفتنة بين العرب عليه خوفا من أن يغلب على أمرهم بدك دعائم سلطتهم الأدبية الدينية على العرب من حيث كونهم سكان الحرم وفيهم السدانة وعندهم البيت المقصود، وهذا الذي حصل بعد، فإنهم لم يدعوا واسطة هم ويهود قريظة والنضير لإثارة الخواطر عليه إلا استعملوها، ولما اشتدت عليه نكاية العرب وقريش على الخصوص أذن له عندئذ بالجهاد فيمن بغى عليه وعلى أصحابه وظلمهم،
3
لا لإكراه الناس على قبول الإسلام، بل بقصد حفظ هذه الجمعية الإسلامية التي يتكفل حفظها لهذا الدين بالانتشار شيئا فشيئا في الأرض، وأما ما عدا أولئك من الناس ممن لم يتعمدوا نكاية المؤمنين فإنه أذن للمؤمنين أن يبروهم ويقسطوا إليهم، فضلا عن أن يقاتلوهم أو يسيئوا معاملتهم وإن كانوا غير مسلمين، لذلك فهم بنظر الشارع غير داخلين في حكم ما دخل فيه غيرهم من المشركين الذين شرع الجهاد فيهم لرد بغيهم عن المسلمين، بدليل قوله تعالى:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ، وقوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
فلا وجه بعد هذا للاحتجاج بمشروعية الجهاد على قيام الإسلام بالسيف؛ إذ معنى قيامه بالسيف هو الإكراه على قبول الإسلام، وهذا لم يحصل لامتناعه في أصل الشريعة ، ولأن الجهاد كما علمت لم يشرع لهذه الغاية، وإلا لما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
أرسل دعاته بعد الفتح - فتح مكة - يدعون القبائل حول مكة للإسلام. هذا، وقد كان لديه ذلك الجيش الذي فتح به مكة وظفر بمن كانوا أشد الناس عداوة له وأعظمهم خطرا على المسلمين، إلا أنه لما لم تكن الغاية من الجهاد إلا دفع أذى المشركين الذين هم أشد ضررا على المسلمين ونكاية فيهم وكانت قريش كذلك، كان من الضروري أن يدفع شرها عن المسلمين بالحرب ويرد بغيها عليها بالقتال والقتل، بخلاف تلك القبائل التي أرسل الله النبي
صلى الله عليه وسلم
من يدعوها إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنها إنما كانت تجاري قريشا في بعض الأحيان رهبة منهم لا رغبة فيهم، وتعمدا لنكاية المسلمين، وكان ممن بعثه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
داعيا يومئذ لا محاربا خالد بن الوليد، بعثه إلى بني جذيمة ولم يأمره بقتال، فذهب وقاتلهم وقتل منهم من قتل، ولما انتهى الخبر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.» ثم أرسل عليا وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى الدماء والأموال بعد أن اعتذر خالد عما صنع، وأنزل فيه قرآن، وهو قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ، الآية، ولهذه الحادثة قصة طويلة لا محل لذكرها هنا، فلتراجع في الكامل وغيره من التواريخ وفيها دليل على أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ما كان يرى القتال في غير من يخشى أذاه على المسلمين، وأن الجهاد شرع في شريعته الغراء لا لأجل الدعوة إلى الدين، بل الدعوة إلى الدين هي غير الجهاد، كما سيمر عليك مفصلا إن شاء الله.
هذا، وأما الأمر الثالث، وهو اعتبار المناظر الفتح الإسلامي فتحا دينيا، أو هو الدعوة إلى الدين، كما قال وزعمه لهذا بقيام الإسلام بالسيف استنادا على قاعدة الجهاد في الشريعة الإسلامية (الإسلام أو الجزية أو السيف) فمنقوض من وجوه أهمها أن في القاعدة المذكورة شرط «الجزية» وهو بين شرطي «الإسلام أو السيف» فلو كان الفتح فتحا دينيا أو هو الدعوة إلى الدين لما خير المحارب
4
بين «الإسلام أو الجزية» بل بين «الإسلام والسيف»، ولما لم يكن الأمر كذلك كان وضع هذه القاعدة ليس إلا للرفق والتخفيف، يدرك ذلك كل من تجرد عن لباس التعصب والغرض، فلم يحمل الكلام على غير مقاصده الظاهرة، وإلا فإذا كان الجهاد باعتبار هذه القاعدة هو الدعوة إلى الدين فما معنى وجود الخيار بين الإسلام أو الجزية، ولماذا جاء في قوله تعالى خطابا للنبي
صلى الله عليه وسلم :
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، وقوله تعالى خطابا للمؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وقوله تعالى في بيان معنى ما اشتملت عليه رسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى كافة:
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
فلا ريب أن هذه الآيات الكريمة وأمثالها الكثيرة تدل الدلالة الصريحة على أن الجهاد في الشريعة الإسلامية هو غير الدعوة إلى الدين، وقاعدة الجهاد على صورتها المذكورة ليست إلا للتخفيف في أمر الحرب، ووجه التخفيف فيها هو وجود الخيار بين «الإسلام أو الجزية» قبل السيف
5
الذي أتى شرطه مؤخرا في أمل عدم الوصول إليه، إلا بعد اليأس من خضوع العدو لسلطان المسلمين بوجه تحقن فيه الدماء، وتصان الأنفس والأموال، ولا يخدش وجه المدنية ويتداعى ركن الاجتماع، وهذا من جملة محاسن ما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من الأحكام البارة بالعمران الحريصة على حياة الإنسان، لا سيما في تلك العصور التي كانت الحروب فيها على أشد ما يكون من القسوة وعدم الرفق، سواء عند العرب أو غيرهم من الأمم الأخرى، وعلى ذلك فقاعدة الجهاد هذه وإن كانت في الشريعة الإسلامية حكما مستمرا إلى يوم القيامة إلا أنه ليس فيها أدنى دليل يؤيد قولهم بأن الجهاد هو الدعوة إلى الدين، وإلا للزم الإكراه على قبول الإسلام، وهذا ممتنع في أصل الشريعة ولم يحصل في عهد الفتح الإسلامي الذي اعتبره المناظر فتحا دينيا اعتمادا على هذه القاعدة، والحال أنه فتح سياسي لا علاقة بينه وبين الدعوة إلى الدين.
ومع أن التفرقة بين هذين الأمرين، أي الفتح الإسلامي والدعوة إلى الدين لا تحتاج إلى كثير تأمل عند ذوي الاطلاع على أصول الدين الإسلامي، وإن غم على كثير من الناس حتى مزجوا بين الأمرين مزجا أداهم إلى الظن بقيام الإسلام بالسيف، وهو ظن فاسد ليس أبعد ممن تمسك به عن الصواب وأقرب منه إلى الخطأ المعاب، فإن الشريعة الإسلامية جمعت بين السياسة والدين؛ إذ لم تقتصر في قسمها الدنيوي على المعاملات الشخصية فقط، بل شملت الحقوق المشتركة العمومية الداخلة تحت الأحكام السياسية فهي - أي الشريعة الإسلامية - تنقسم باعتبار الأصل إلى قسمين: قسم ديني وقسم دنيوي، فالقسم الديني ينطوي تحته قسمان: قسم العبادات، وقسم الترغيب والترهيب، والقسم الدنيوي كذلك ينقسم إلى قسمين: قسم المعاملات وفيه الحقوق المدنية والعقوبة والقصاص، وقسم السياسة وهو الذي يعين تصرف الإمام بكيفية جلب المصلحة العمومية للجمعية الإسلامية على حدود وأحكام مقررة مرجعها الكتاب والسنة، وبهذا القسم قام الفتح الإسلامي كما قام الإسلام بالقسم الديني، لا بحرب ولا إكراه، وقد تقدم معنا في الفصل الثاني بيان العلاقة التي تربط السياسة بالدين بالإضافة إلى تصرف الإمام بأمور الأمة، والإشارة فيه تغني عن التطويل؛ إذ المقام مقام إجمال لا مقام تفصيل، وهذا الإيضاح يكفي لرد زعم الزاعمين بأن الفتح الإسلامي هو الدعوة إلى الدين وأن الإسلام قام معه بالسيف؛ إذ الإسلام قام بالدعوة وليس للسيف أو الإكراه في امتداد الإسلام وقيامه أدنى علاقة مادية يقوم معها البرهان على خلاف ما قررناه، وإليك بيان كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض.
مطلب كيفية قيام الإسلام وانتشاره في الأرض
قد ذكرنا فيما تقدم لمحا من حال النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
قبل الهجرة وكيف أنه كان يدعو الناس إلى الإسلام بين جماهير الأعداء، الذين قاموا في وجهه بالمعارضة والرد وأخصهم قريش الذين هم قومه وعشيرته الأقربون، وما هو داعي الحسد الذي دعا هؤلاء إلى أن يكونوا من أشد المعارضين لدعوته المؤذين له ولمن تبعه من الناس، حتى عانى الصحابة منهم من المشقة وأصابهم من الفتنة ما أوجب هجرة كثير منهم إلى الحبشة وفيهم عثمان رضي الله عنه وعنهم أجمعين، ومع ذلك فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يخرج في كل موسم عند اجتماع العرب في مكة فيدعو القبائل إلى الإسلام فمنهم من كان يجادله ومنهم من يستمهله ومنهم من يرده ردا حسنا وبالعكس، ومنهم من يقبل دعوته سرا خشية أن يقال عنه أنه صبأ عن عبادة الأوثان أو خوفا من أن يناله من أذى قريش وأجلافها ما كان شأنهم مع المسلمين وعادتهم بالوقوف دون انتشار دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، حتى إذا كان يوما كعادته يدعو القبائل إلى الإسلام لقي رهطا من الخزرج عند العقبة ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوه بيعة العقبة الأولى، ولما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير وأمره أن يعلمهم القرآن فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة واجتمع به نفر من المسلمين، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فانطلق إليه هذا الثاني ليعلم أمره فدعاه إلى الإسلام فأسلم وتبعه سعد بن معاذ فأسلم أيضا، وأسلم معه جميع بني الأشهل في يوم واحد، وما زال مصعب يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور المدينة إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، ثم لما كانت بيعة العقبة الثانية وهاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وامتنع بالأنصار عظم الأمر على قريش فأخذوا يثيرون عليه الخواطر هم ويهود قريظة والنضير من سكان المدينة وعواليها، فكان ذلك هو الباعث على وجوب مشروعية الجهاد في شريعته الغراء، حتى كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يخرج بنفسه الشريفة إلى غزو القبائل تارة للتهديد حفظا لجماعة المسلمين من هجمات الهاجمين، وتارة لدفع القوة بمثلها حتى لا يكون في جانب المسلمين مطمع لجماهير الأعداء المخالفين، حتى إذا انكف عنه الأعداء واستقر الإسلام في الأرض كثر أتباعه وأخذت تفد عليه وفود مكة مسلمين مختارين كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة وغيرهم ممن أسلم قبل الفتح، لا سيما بعد عهدة الحديبية التي عقدت بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وبين أهل مكة في السنة السادسة من الهجرة، وأبيح بها الاختلاط بين المسلمين والمشركين فعقب هذا الاختلاط حرية التبادل الفكري حيث زالت موانعه بزوال تعصب قريش وامتناعهم من مخالطة المسلمين أو معاملتهم إلا بما يكرهون، فكان من ذلك أن تغلبت الحجة الإقناعية على ضمائر العقلاء من المشركين فأسلم كثير، وفيهم من الوجوه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
في غضون ذلك يكاتب ملوك الأقطار كقيصر والنجاشي والحارث الغساني والمقوقس، يدعوهم إلى الإسلام تعميما لدعوته وإعلانا لأمر ربه بين الأمم والشعوب، وهو يتلو عليهم قوله تعالى:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، وكاتب أيضا غير هؤلاء ممن ليسوا من أهل الكتاب ككسرى والمنذر بن ساوي وهوذة الحنفي وغيرهم من الملوك، ثم جعل نصب عينيه قريشا الذين كانوا مناصبيه الحرب والحائلين بينه وبين سائر الناس، فغزاهم في مكة فأظهره الله عليهم فأذل طغيانهم وكسر أصنامهم، ولما علموا أن الله غالب على أمره وأن الدين عند الله الإسلام أخذوا يقبلون عن طيب خاطر على الدخول في الإسلام، وبدلوا كفرهم بالإيمان وعنادهم بالتسليم لما جاء به من لدن الرحمن الرحيم، حيث لم يوقنوا بصدق نبوته وصحة رسالته إلا بعد أن غلبهم على أمرهم في البيت المعمور والمكان المقدس المشهور، فلما رأى العرب إسلام من أسلم من قريش وزوال الفتنة بزوال أهل الفساد والشر منهم - وكانت العرب تنتظر بإسلامها قريشا؛ إذ كانوا أئمة الناس وصريح ولد إسماعيل - أخذت تفد وفودهم على النبي
صلى الله عليه وسلم
من كل وجه مظهرين لديه الإسلام راغبين بتعليم شريعة خير الأنام ، فقدم عليه وفد ثقيف وفيهم من الأحلاف عبد ليلى بن عمرو بن عمير والحكم بن عمرو بن وهب وشرحبيل بن غيلان، ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة، وقدم وفد بلي ووفد أسد ووفد الزاريين وهم عشرة نفر، ووفد بني تميم مع حاجب بن زرارة وغيره ومعهم عيينه بن حصن الفزاري، وفيهم أنزل الله تعالى:
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ، الآيات، وقدم وفد بني فزارة وفيهم خارجة بن حصن ووفد بني ثعلبة بن منقذ، وقدم رسول ملوك حمير بكتبهم مقرين بالإسلام، ووفد سعد بن بكر وكان وافدهم ضمام بن ثعلبة، فسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن شرائع الإسلام وأسلم، فلما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: اتق البرص والجذام والجنون، فقال: ويحكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان، وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، وقد استنقذكم مما كنتم فيه وأظهر إسلامه فما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل مشرك ولا امرأة مشركة.
وهكذا جعل الناس بعد الفتح يدخلون في دين الله أفواجا كما قال الله تعالى في القرآن الكريم:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ، ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أرسل عليا إلى اليمن يدعو أهله إلى الإسلام ففعل، وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: السلام على همدان، يقوله ثلاثا، ثم تتابع أهل اليمن على الدخول في الإسلام، وكتب بذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فسجد شكرا لله تعالى.
6
ودخل الإسلام في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الحبشة، وبلاد الأفغان، وهذه دخلها الإسلام بدعوة رجل ممن أسلم من يهود العرب يسمى خالدا كما يرويه مؤرخو الأفغانيين،
7
وأنه وفد معه على النبي
صلى الله عليه وسلم
عام الفتح وفد من أمراء الأفغانيين وعليهم رئيس يسمى قيسا،
8
ورافق ذلك الوفد النبي
صلى الله عليه وسلم
في فتح مكة وأبلى بلاء حسنا، ولم يزل قبر قيس هذا مزارا في بلاد الأفغان ومعظما لذلك السبب إلى الآن.
9
وأسلم في عهد الرسالة كثير من الناس سرا وجهرا كنجاشي الحبشة ومقوقس مصر كما في رواية، وهرقل ملك الشام كما في رواية أيضا، وذلك بمجرد الدعوة وتلقي العقول لما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء بلا قتال ولا إكراه، ولو كان ثمت إكراه على الإسلام لكان أولى الناس بالإكراه اليهود من بني النضير لمجاورتهم لمدينة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولما ظهر منهم من إيذاء صاحب الشريعة وتعمدهم قتله في بعض الأحيان واستطاعة إكراههم وقتئذ على الإسلام، ومع ذلك فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
أمر بإجلائهم عن مواطنهم فقط، وأن تكون أموالهم فيئا للمسلمين دون أن يتعرض لهم في نفس أو عرض أو دين، وأي دليل أعظم من هذا على امتناع الإكراه في الشريعة الإسلامية، وأن الإسلام إنما قام وامتد بالدعوة لا بالسيف.
وفضلا عن هذا، أفليس فيمن يؤخذ ويقتل أو يعذب على ترك الإسلام دليل واضح على أنه إنما قبل الإسلام بالدعوة عن طيب خاطر واختيار لا بإكراه ولا إجبار، فقد طالما كانت قريش تتطاول على الصحابة بالشتم والإهانة ثم بالأخذ والقتل أو التعذيب بغية إرجاعهم عن الإسلام، وما كان يزيدهم ذلك إلا تمسكا بالإسلام وحبا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، حتى هاجر منهم من هاجر ومات في التعذيب من مات ولم يخطر لأحد منهم ترك الإسلام والرجوع إلى عبادة الأوثان، يشهد بذلك حادثة الصحابي الهمام زيد بن الدثنة
10
رضي الله تعالى عنه، حيث قال له أبو سفيان وقد ذهبوا به ليقتلوه: «أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن في مكانك تضرب عنقه؟» قال: «والله ما أحب أني جالس في أهلي وأن محمدا يشاك بشوكة.» فقال أبو سفيان: «ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا!»
هذا، ثم لما تمكن في الأرض سلطان المسلمين وأخذت تنكشف للأمم غير المسلمة حقائق ما انطوت عليه الشريعة الإسلامية لم يلبث الإسلام بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
أن امتد في أطراف المعمور امتدادا يشابه بسرعته امتداد النور، وذلك ليس إلا بمجرد تلقي العقول لما جاءت به هذه الشريعة الغراء بالقبول لا بقوة الإكراه والترهيب كما يزعمه الزاعمون، فإن الخلفاء في صدر الإسلام إلى عصر العباسيين اقتفوا من الممالك ما يبلغ أهله نيفا ومائة مليون من البشر جلهم من أهل الكتاب، ولم يعلم أن فاتحا من فاتحي الإسلام أكره شعبا منهم على الدخول في الإسلام بقوة السيف، بل إن الإسلام انتشر بين تلك الأمم والشعوب في أزمنة متفاوتة بالتدريج، كما يتضح ذلك لمن تصفح التواريخ العربية وغيرها، فنصارى المشرق من سكان آسيا الوسطى وسورية ومصر دخلوا الإسلام في صدر الإسلام في غضون مدة لا تزيد عن ثلاثين سنة، بسبب انتشار مذهب أريوس وقتئذ بين نصارى المشرق، وذلك لأن أريوس المذكور الذي كان أسقف الإسكندرية كان يقول بعدم وقوع الصلب على المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام وبنبوته، ولما جاء الإسلام وانتشر أهله في الشرق وتحقق عند المتمذهبين بالمذهب الأريوسي أن القرآن مصرح بنفي وقوع الصلب المذكور، بل مكفر لمن يقول به وبألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، فضلا عما رأوه أيضا في الشريعة الإسلامية من الأحكام العادلة والمزايا العظيمة التي تعود على المجتمع الإنساني بالخير المحض أخذوا يقبلون على الدخول في الإسلام عن طيب نفس واختيار، حتى لم يمض نصف قرن إلا وثلاثة أرباع نصارى المشرق من الإسلام.
وأسلم أهل خراسان وعامة بلاد فارس في خلافة الوليد وسليمان الأمويين، وأسلم أهل السند «داغستان» وما والاها من بلاد الترك بدعوة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي على رأس المائة الأولى من الهجرة، وتسمى ملوكهم بأسماء عربية، وأسلم البربر في إفريقيا لسماعهم بسيرة عمر بن عبد العزيز أيضا، وذلك في عهد ولاية إسماعيل بن عبيد الله على رأس المائة الأولى أيضا، بما فيهم أهالي طرابلس وتونس، ومن ثم امتد الإسلام إلى الأندلس، وكان معظم المسلمين في هذه البلاد من قبائل العرب وسكان المغرب النازحين، إلا ما قل من السكان الأصليين الذين تفرق منهم بعد الفتح من تفرق وانحاز إلى البرتغال من انحاز.
وعلى هذا الوجه انتشر الإسلام في الممالك المفتتحة، وفشى بين شعوبها الأصليين بالتدريج دون أن يكون للسيف أو الإكراه في إسلامهم دخل قط، هذا فضلا عما كان بعد ذلك، ولم يزل إلى الآن من دخول الناس في الدين الإسلامي أفواجا أفواجا، حتى من سكان الممالك التي لم تطلها قدم فاتح إسلامي كأهل سبيريا الذين يبلغون اثني عشر مليونا من البشر لم يكن فيهم غير المسلم، إلا ما قل من الوثنيين الذين أكرهتهم الدولة الروسية مع بعض المسلمين على التدين بالدين المسيحي منذ انقراض الدولة الإسلامية هناك، والغريب أن بعض جغرافي الإفرنج لا يذكرون في كتبهم اسم مسلم سبيري إلا ما قل، مع أنها بلاد مسلمة قامت فيها دولة الإسلام منذ سبعمائة سنة تقريبا، ولم تزل حتى انقرضت من نحو مائتي سنة، وكان آخر ملوكها كوجوم خان، وكقبائل القزعين والجفتاي والتتار المنتشرين في أطراف الصين الذين يبلغون مع مسلمي الصين سبعين مليونا من البشر كلهم من أهل الإسلام، مع أن الجغرافيين من الإفرنج يزعمون أن عدد المسلمين بالصين لا يزيد عن خمسة عشر مليونا، فتأمل، هذا فضلا عن سكان جزائر المحيط
11
وسكان إفريقيا من السودانيين الذي تبين بعد البحث والتدقيق أن ثلاثة أرباعهم من المسلمين، وأن الإسلام لم يزل يمتد بينهم بسرعته الغريبة إلى الآن.
فهؤلاء الشعوب أرباب العناصر المتباينة والممالك المتباعدة الذين نشأ فيهم الإسلام وانتشرت بينهم كلمة الإيمان في أزمنة متفرقة دون أن تطأ بلادهم قدم فاتح إسلامي، ماذا يقول العقلاء عن كيفية قبولهم للإسلام، أليس بالرضا والاختيار دون إكراه ولا إجبار؟! وبالإجمال فالمسلمون بالكرة الأرضية الآن يبلغون نحوا من ثلاثمائة وخمسة وأربعين مليونا من البشر،
12
لا يأتي للمكابر مهما غلبت عليه أميال التعصب أن يأتينا ببرهان على انتشار الإسلام بينهم بغير قبول عقولهم لما جاءت به الشريعة الإسلامية، فدخولهم في الإسلام بالرضا والاختيار، ومع ذلك فعلى فرض قيام الإسلام بالسيف - وهو ما لم يقم به ثبت مما مر عليك - فذلك لا يعيب الأديان، وإلا لعاب الدين المسيحي الذي لم تقم له قائمة إلا بقوة السيف، فلو كان ذلك يمس بجوهره الحقيقي لسقط اعتباره بين البشر، بل واعتبار غالب الأديان ومعاذ الله أن يكون ذلك كذلك، بسبب ما أوضحناه لك مفصلا في الفصل الأول والثاني، وبدليل تمسك الإنسان بالأديان على اختلاف الأزمنة منذ النشأة الاجتماعية إلى الآن.
مطلب كيفية قيام النصرانية وانتشارها في الأرض
وأما أن الدين المسيحي قام بالسيف، فبيانه أنا قدمنا لك في الفصل الثالث سبب اكتناف الضعف للدعوة المسيحية وبطؤ انتشار هذا الدين في بدأ الأمر بالنظر لما كان يلاقيه أشياعه من الاضطهاد والتنكيل، مما أوجب استعمال النصارى لطقوس العبادة سرا في أي مكان ظهروا فيه، وما زال بهم الأمر كذلك أجيالا ثلاثة، إلى أن قام الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول وانفرد بالملك سنة 324ب.م واعتنق الديانة المسيحية، ثم أصدر منشوره المعروف بمنشور ميلان الذي يطلق به حرية الأديان في الممالك الرومانية توصلا إلى دفع الاضطهاد عن المسيحيين وتمهيدا لنشر الديانة المسيحية في المملكة الرومانية، حتى تيسر له بهذه الوسيلة حماية المسيحيين بسطوة الملك وقوة السيف، بعد أن طرد اليهود من بيت المقدس وولى للقسوس،
13
فتأيد به هذا الدين وابتنى أهله الكنائس وأخذوا من ثم يجتمعون للعبادة جهرا بلا تهيب ولا مبالاة مدة تملك قسطنطين المذكور، وأما بعده فكان إمبراطورة الرومان منهم من ينحاز للمسيحيين فيثير ثائرة الاضطهاد والتنكيل على الوثنيين، ومنهم من ينحاز للوثنيين فيثيرها على المسلمين، إلى أن قام الإمبراطور يوقيانوس سنة 363ب.م وحذا في حمايته المسيحيين حذو قسطنطين، وأعلن الحرب المسيحية على سكان الممالك الأوربية الخاضعة للسلطنة الرومانية، فدبت في عهده ثانية روح الحياة في جسم المسيحيين فقويت شوكتهم وعظمت كلمتهم.
إلا أن الديانة النصرانية لم تعم وتنتشر في المملكة الرومانية إلا في عهد الإمبراطور ثيودوروس، الذي قام في أواخر الربع الرابع من القرن الرابع للمسيح ونهج في نصرة دين النصرانية منهجا لم يسبقه إليه أحد ولا سمع بمثله في تاريخ الأديان، حيث أصدر أوامره إلى جميع الممالك الرومانية - وهي إذ ذاك إفريقيا وغالبا «فرنسا» وبريطانيا وإيطاليا والبلاد الواقعة بين إيطاليا والبحر الأسود والأرخبيل وتركيا ومصر والولايات الآسيوية إلى حدود الفرس - بإجبار كل من لم يتدين بالدين المسيحي على التدين به، وذبح من يمتنع عن ذلك، وتخريب المعابد والهياكل غير المسيحية، حتى كانت تساق الناس إلى الذبح سوق الغنم في جميع الممالك الرومانية، وفي جملتها مصر التي أصابها النصيب الأوفر من هذه النكبة النكباء يومئذ،
14
فكان في جملة ما احترق وهدم من الهياكل هيكل الإسكندرية،
15
الذي احترقت معه وقتئذ مكتبة الإسكندرية الشهيرة،
16
التي نسب حرقها أبو الفرج الملطي وغيره من مؤرخي المسيحيين إلى الفاتح الذائع الصيت عمرو بن العاص افتراء وبهتانا، ونقل عنه ذلك بعض مؤرخي العرب عن غير روية ولا تحقيق، ومنذ ذلك الحين تم قيام الدين المسيحي، فانتشر في كل المملكة الرومانية، وما زال بعد ذلك مؤيدا بالسيف بسبب الانشقاق والافتراق، معضدا بقوة السلطان التي استمرت أجيالا عديدة في أيدي أرباب الكهنوت، وهكذا إلى عهد غير بعيد عهد الحرية الحديثة الذي ابتدأ سنة 1789 مسيحية عقيب الثورة الفرنساوية الشهيرة، ولو أردنا تعداد الملوك الذين جردوا في غضون ذلك سيف القوة في سبيل تأييد النصرانية تارة والمذاهب المنشقة عنها أخرى لخرج بنا الكلام عن الموضوع الجوهري الذي نحن بصدده الآن.
مع أنه كان ينبغي للدين المسيحي في قرونه الثلاثة الأولى التي ذكرنا كيفية بطء انتشاره فيها أن يعم في أطراف المعمور، بالنظر لحاجة الشعوب يومئذ إلى الشرائع الإلهية، وظهور الرومان في مظهر الترقي المدني الذي يأبى صاحبه الإذعان لسفاسف العبادات الوثنية، خصوصا وأن المبشرين بالدين النصراني كانوا منبثين في الأرض يجاهدون بالنفس والمال توصلا لهذه الغاية كل الجهاد، ولعل اختلاف «الرسل» الذي أدى إلى الانشقاق واختلاف التأويل إذ ذاك، هو كان المانع من تغلب الشريعة العيسوية على الشرائع الفاسدة الوثنية، والله بذلك أعلم.
وبالإجمال فإن الدين المسيحي تأيد وامتد بقوة السيف، ومن قال بأنه قام بالتبشير فإنما يريد تمويه الحقيقة لا لداع موجب؛ إذ من العبث أن يقال إن شريعة يستمر أهلها أجيالا ثلاثة تحت طائلة الاضطهاد والتنكيل، ثم يظهرون ظهورا واحدا ويتغلبون على مئات الملايين من المقاومين دون الاعتضاد بسيف المنعة وقوة السلطان، مع أن قيام الدين المسيحي على الصفة المذكورة آنفا من القضايا المسلمة الظاهرة التي أفعمت بذكرها تواريخ الإفرنج، فلا سبيل لإنكارها بوجه من الوجوه؛ إذ لو كان التبشير وحده دون القوة هو الذي نشر النصرانية بين ثلاثمائة مليون من البشر في الأربعة أجيال الأولى من تاريخ الدعوة المسيحية، فينبغي أن يكون النصارى على تلك النسبة ألفا ومائتي مليون؛ إذ التبشير ما زال مستمرا منذ الدعوة إلى الآن، بل زادت وسائله تسهيلا منذ قرنين زيادة فائقة الحد، فالمبشر يمكنه بسبب كثرة وسائط الاختلاط العمومي واتساع نطاق الاستعمار الغربي أن يجول أطراف الكرة الأرضية معززا بروح القوة من دول المغرب، متبعا بالأساطيل الماخرة في البحار لحماية هؤلاء المبشرين في أي قطر احتلوه من الأقطار، فلو كان التبشير وحده هو العامل الوحيد في تعميم الدين المسيحي لرأينا من نتائجه الآن ما يبهر العقول، والحال أن ذلك لم يفد في هذين القرنين إلا في بعض المستعمرات الإفريقية وجزائر المحيط بين برابرة الأقوام، الذين قام بينهم التبشير على دعائم قوة الاستبداد والقسوة، مما ترتب عليه إهراق كثير من الدماء البريئة كما جرى في أوغندا من عهد غير بعيد، أي سنة 1892ب.م مما ذاع ذكره على ألسنة الجرائد في الخافقين، وما خلا ذلك فالمبشرون منتشرون في أنحاء المشرق انتشار الشرايين في الجسم وهم معززون بالقوة والمال، متشبثون من رسائل الترغيب بما لا نهاية بعده، ومع هذا فعملهم كله عقيم واجتهادهم أو جهادهم لم يوصلهم لأدنى غرض مما يرمون إليه،
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة .
مطلب كيفية قيام اليهودية وانتشارها في الأرض
هذا، وحيث قد أتممنا الكلام على كيفية قيام كل من الشريعتين المحمدية والعيسوية على صاحبيها أكمل الصلاة والتحية، فلنتكلم قليلا عن قيام الشريعة الموسوية على صاحبها الصلاة والسلام إيفاء للوعد ورفعا لشبهة الضمائر وإظهارا للحق الصراح، فنقول إن مبدأ دعوة موسى الكليم عليه الصلاة والسلام كان في مصر، حيث كان قومه مستعبدين عند المصريين فلم يعارضه في دعوته وقتئذ أحد من قومه بسبب كونهم أبناء عائلة واحدة واقعين تحت ذل الأسر المهين، وإنما عارضه في ذلك فرعون وقومه الذين تحداهم بالمعجزات، فخشي فرعون منه أن تؤثر دعوته في أفكار العقلاء من قومه من المصريين فيتبعونه ويفسدون عليه ملكه، فجعل يحاول إيصال الأذى إلى موسى عليه السلام وقومه، فعندها أمره الله سبحانه وتعالى بالخروج بقومه من مصر إلى الأرض المقدسة، وكان من قصة الخروج إلى أن دخل أرض الميعاد ما كان مما هو مبسوط في محله ولا حاجة للكلام عليه.
وإجمال القول أن بني إسرائيل لما لم تكن لهم هناك أرض يسكنونها، والشعوب الساكنون في تلك الأرض يستحيل أن يشركوا في ملكهم هذا الشعب العظيم بدون مقاومة وقتال، خصوصا وأن بني إسرائيل كانوا عقب خلاصهم من الاستعباد وخروجهم من التيه في حالة الضنك الذي يخشى معه أن تتخطفهم الأمم المحاربة، لهذا شرع لهم الجهاد في شريعة موسى عليه السلام، لكن على وجه شديد كما مر عليك حفظا لجماعة الدين من التشتت وأهله من الافتراق، ودخل يومئذ بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة بقوة السيف، وتملكوا فيها ما تملكوه بعد جهاد طويل.
هذا، ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام لم تتعد قومه ولم تنتشر شريعته بين الشعوب، وإنما اليهود أنفسهم هم الذين انتشروا وتفرقوا فيما بعد في الأرض، إلا أنهم كانوا غير مبالين إلى غير أبناء عنصرهم ليقوم منهم دعاة يدعون غيرهم إلى الدين، وكانوا مع تعززهم بشريعتهم أميل إلى كتمان تعاليمها منهم إلى إذاعتها بين الناس، لهذا السبب صح اعتبار الشريعة الموسوية شريعة خاصة قامت بقيام بني إسرائيل ونهوضهم للخلاص من أسر المصريين كما يظهر ذلك من سياق قصة موسى عليه الصلاة والسلام ، سواء في الكتب الدينية أو التواريخ فلا حاجة للتطويل في هذا البحث الجليل، وفيما مر جميعه كفاية تقنع ذوي العقول السليمة الذين لا يماحكون في الحق.
والله سبحانه وتعالى مفرق الأديان وله الحكمة البالغة في كل عمل وشان.
انتهت هذه الرسالة في 25 محرم الحرام سنة 1313 هجرية
تنبيه
إذا رأى حضرة مناظري الأديب «ر. ن» في رسالتي هذه محلا للاعتراض، وأراد نشره سواء في جريدة الهلال أو غيرها فليتكرم ببيان اسمه الصريح؛ إذ شرط المناظر أن لا يكون مجهولا، وإلا فإني أكون معذورا إذا لم أتصد للدخول معه في باب المناظرة بعد، وإن دخلته في جريدة الهلال لأسباب ما إخال أن حضرته يجهلها، وأما الآن وقد وضح الصبح للعيان فلا حاجة للإخلال بذلك الشرط، كما لا داعي يدعو المناظر في الحق إلى التستر ما دام أن كلينا يسعى وراء الحقائق، والباحث فيها لا يستغني عن التنبيه والعصمة لله وحده.
غب إتمام هذه الرسالة اطلع عليها حضرة العلامة الفاضل السيد الشريف محمد أفندي الحريري المفتي بحماة الشام حالا، فتفضل حفظه الله بتقريظها بالأبيات الآتية:
من بني العظم عمدة الأعيان
قد شهدنا الآثار بالأعيان
هذه شذرة لفضل رفيق
شبل محمود حجة في الزمان
ينجلي من سطورها نور فضل
كاشف الغي ثابت البرهان
أشبع القول في المراد عليها
باختصار قد ضم كل بيان
وبها مجمل التفاصيل قامت
عن شروح في العالم الإنساني
قد طوى ضمنها المقاصد طيا
هي في النشر حالة الإيمان
تلزم الخصم حده دون شك
باعتلا حكم شرعة العدناني
وهي حقا رسالة ذات شان
متنها شرح حكمة الأزمان
ناپیژندل شوی مخ