بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الذي هدانا لدينه ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه وعبده ورسوله أفضل صلاة صلاها على أحد من أنبيائه ورسله .
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه وأن يجنبنا ما يسخطه وأن يحبب إليها العدل والإنصاف ، ويكره في قلوبنا الجور الوخلاف ، آمين .
أما بعد ، أيدنا الله وإياكم بطاعته ، فإنكم ذكرتم قول طائفة من المشغبين الذين لا يحققون فيما يقولون ، ولا يعرفون ما ينطقون ، ولا يدرون معنى ما عنه يسألون ، ويظنون أنهم إذا أوردوه فقد ألجموا خصومهم بلجام ، وكعموا مخالفيهم بكعما ، ولم يشكوا أنهم قد أتوا ببرهان قاطع ، وصدعوا بحجاج قاطعة ، وقدروا أنهم قد أفحموا مناظريهم بقول مسكت ودليل مبهت ، وهم في ذلك ما زالوا إلا على كشف عوارهم والإبداء عن جهلهم والإبانة عن إغفالهم على ما نبيه ، إن شاء الله تعالى .
مخ ۳
السؤال :
وذلك أنهم إذا اختلفوا في المجادلة وأجهدوا أنفسهم في المناظرة ، قالوا لمن عارضهم : من أجل وأفضل وأورع وأفقه وأعلم ؟ مالك أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أحمد أو داود ؟
فقام عندهم هذا السؤال الساقط مقام ما لا جواب له ولا اعتراض عليه ، وظنوا أنهم ليس ها هنا إلا التسليم لظنهم وغلطهم ، والإذعان لسؤالهم الساقط ، سالكين في ذلك مسلك الحمية ، ولا بسين ثوب العصبية ، وسائرين بسيرة أهل الجاهلية ، من التفاخر والمغالبة ، والتنازع والمجاذبة ، والميل إلى ما لا يغني من الحق شيئا ، ولا ينيله من حسناته حسنة ، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة ، ولا يرجو منه في غد شفاعة ، ومن هو مشغول عنه يوم القيامة بنفسه !
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولهذا السؤال أجوبة نذكرها إن شاء الله ، كل واحد منها كاف في بيان هجرية هذا السؤال ، ورادع لهم عن العودة له إن شاء الله .
الجواب الأول :
فأول ذلك أن يقال لمن سأل هذا السؤال : أن من جملة سؤالكم عن حكم ألفاظ لا تدرون معناها ، ولا تقيمون موضوعها ولا تفهمون حقيقتها ، ولا تعلمون ما المراد بها ، ولا تعقلون تفسيرها ، في أصل كمن يحكم فيما لا يدري ما هو ! ويقضي بلفظ هو جاهل بمعناه ، وكل من رأينا منهم فإنهم لا يدرون معنى قول القائل : فلان أعلم من فلان ، ولا ما المراد بقول القائل : فلان أفقه من فلان ، ولا ما الغرض من قول القائل : فلان أجل من فلان ، ولا ما المقصود من قول القائل : فلان أفضل من فلان !
فكان الأولى على من سأل هذا السؤال أن يبحث عن معنى هذه الألفاظ ، وعن هذه الصفات التي إذا وجدت في إنسان أتم منها في غيره قضي بأنه أعلم منه وأفقه منه وأجل منه وأفضل منه ، فلو فعلوا هذا أو عرفوا معاني الألفاظ لكفوا أنفسهم مؤونة هذا السؤال ، ولعرفوا من المستوجب للبسوق في التسمية بهذه الأسماء .
الجواب الثاني :
والجواب الثاني : أن يقال لهم : لا اختلاف بين جميع أهل الأديان عامة ، فكيف أهل الإيمان خاصة ، في أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداود ، وأعلم ، وأبجل ، وأولى عند الله تعالى وعند الناس بكل فضل وخير ، وقد ذكرهم الله تعالى عز وجل فقال : { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ()، وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } البقرة آية 140-141 .
فإذا كان الأنبياء عليه السلام لم نكلف معرفة أعمالهم ، ولا حملنا دراية ما كسبوا ، وأخبرنا الله عز وجل أننا لا نسأل عما كانوا يعملون ، فحق بلا شك فيمن دونهم أولى بسقوط معرفة أعمالهم ودراية أحوالهم عنا ، فصح بهذا أن السؤال عمن كان أعلم : مالك أو أبو حنيفة أو الشافعي أو أحمد أو داود ، فضول من القول ، وغث من السؤال ، واشتغال بما لا يغني ، وتهمم بما لا فائدة فيه ، وهذه حال لا يتهبل بها عاقل .
فإذا كان ذلك كذلك ، فلولا ما فشا من ضلالة من ضل بهذا السؤال الفاسد لكان الإعراض عن الكلام فيه واجبا ، والإقبال على سؤال ما يلزم المرء أولى ، ولكن فرض النصيحة للمسلمين واجب ، فلزمنا بيان ما سألوا عنه من ذلك لوجهين :
أحدهما : تبيين أن هذا السؤال الذي موهوا به ، وإنكار هذا المنكر الذي شغبوا به ، قال الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } سورة آل عمران آية 104 .
والوجه الثاني : تحذير من عسى أن يجوز عليه هذا الباطل ، فلعله ينجو من ضلالته وحيرته ، قال رسول الله ص : ( الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) أو كما قال عليه السلام .
الجواب الثالث :
والجواب الثالث أن يقال لهم : هبكم أن من قلدتموه بدينكم ضلالة وجهالة ، وجعلتموه دون الله تعالى ودون رسوله ص وليجة ، فحرمتم ما حرم ، وحللتم ما حلل ، وأوجبتم ما أوجب ، وأنزلتموه حيث أخبر الله تعالى عن نفسه دون غيره ، إذ يقول جل ذكره : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } سورة الأنبياء آية 23 ، فهبكم أنه كان أعلم من سائر من قدرتم تغليبه عليهم ، وأنه كان أفضل منهم وأجل وأورع وأفقه ، فهل عندكم أو عند أحد من أهل الأرض كافة شك في أن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانوا أفقه وأعلم وأفضل وأجل وأورع وأحفظ وأولى بكل خير من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود ؟ فلا بد لهم من الجواب بأنه لا شك عندهم في ذلك .
فإذ لا شك في ذلك ولا مرية ، وظن هؤلاء الجهال أن كون من جعلوا دينهم قلادة في عنقه ورفضوا له حكم القرآن وكلام رسول الله ص متقدما في العلم والورع والفقه والجلالة لمن قلده غيرهم دينهم أيضا موجب لهم اسم الصواب وصفة الإحسان ، فتقليدهم واتباعهم ما ورد عن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم كان أولى بهم ، إذ إنما جعلوا علتهم في اتباعهم من اتبعوه إنما هي تقدمه في العلم والفقه والفضل والجلالة والورع ، فواجب على هذا ترك من قلدوه دينهم وأن يتبعوا من ذكرنا من الصحابة ؛ لأنهم بلا شك أفضل من صاحبهم وأعلم وأفقه وأجل .
الرابع :
والجواب الرابع أن يقال لهم : قال الله عز وجل : { كل حرب بما لديهم فرحون } الروم آية 32 .
وليت شعري ! أيشك هذا الجاهل الذي سأل هذا السؤال في أن كل طائفة قلدت رجلا من هؤلاء المذكورين فإنهم لولا أنه عندهم أفقه من سائرهم وأعلم وأفضل وأجل وأورع لما قلدوه دينهم ، فقد كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعرفوا أن غيرهم بصاحبه كالذي يجدونه هم بصاحبهم ولا فرق ، وكل فتاة بأبيها معجبة ، ولكل أناس في جميلهم خبر ، فإن كانوا لا يعرفون هذا ، فقد جمعوا مع العماوة الجنون ، ومع قوة الجهل ضعف الحس ، وقد رويت عن كل طائفة في صاحبهم شنع منها خفيف ومنها فظيع .
مخ ۴
فالمالكيون يروون عن ابن القاسم أنه قال : كفى بقول مالك حجة ، ولو رأيت مالكا لاستعظمت مخالفته ، وأنه كرر هذا القول مرارا .
وروي عن بعض متفقهة الحنفيين أنه قال : أبو حنيفة كان أعلم بالقضاء من محمد ص .
وذكر عن الربيع أنه قال : الشافعي لا يخطئ في واو ولا ألف ، وحدثني محمد بن يحيى بن غالب عن الخليل بن أحمد البستي أنه قال بعض الحنبليين : أحمد بن حنبل عظمة .
قال أبو محمد رحمه الله : وهذه الأقوال شنيعة ، وبعضها كفر مجرد ، وهو القول بأن أبا حنيفة أعلم بالقضاء من رسول الله ص ، وهذا كلام يغني إيراده عن تكلف الرد عليه بأكثر من أن نقول : قائل هذا القول عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ، فما يخرج هذا الكلام من قلب مسلم .
وأما الذي ذكروه عن ابن القاسم من قوله : كفى بقول مالك حجة ، فما هذا يصح عنه البتة ؛ لأنه ضلالة عظيمة ، وقول شنيع ، وإذا قال الله عز وجل : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } النساء آية 165 ، فكيف يقول مسلم له مسكة عقل : إن قول أحد بعد النبي ص حجة ؟!
وكذلك قوله : لو رأيت مالكا لاستعظمت مخالفته ، قال أبو محمد رحمه الله : فيا ليت شعري ! لو رأى هذا المخاطب مالكا ماذا كان يرى فيه مما يستعظم مخالفته ؟ أتراه كان يرى في يده عصا يقلبها حية ؟ أو يراه يبرئ الأكمه والأبرص أو يحيي الموتى ؟ أو يراه يطعم النفر الكثير من الطعام اليسير ؟ أو يراه ينبع الماء من بين أصابعه ؟ أو يراه يشق القمر ؟ أو يراه يأتي بكلام معجز ؟ .
هذه الأمور التي يستعظم من رآها مخالفة من رآها منه ، لا رؤية إنسان كسائر الناس ، ولا فرق ، يفتي برأيه وحسب ما أداه إليه اجتهاده ، فيخطئ ويصيب كما فعل كل مفت سواء وسواء .
وما أرى هذا القول يصح عن ابن القاسم أيضا ، فإنه قول في نهاية الغثاثة والسقوط ، ولعمري لقد رأى مالكا سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وحماد بن زيد ، والأوزاعي ، والليث ، وابن جريح ، وابن أبي ذئب ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، ثم رآه أيضا وكيع بن الجراح ، وعبد الله بن المبارك ، والوليد بن مسلم ، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، والشافعي ، وهؤلاء أئمة المسلمين في عصرهم ، فما منهم أحد استعظم مخالفته ، بل ما استحلوا متابعته ، ولا رضوا لأنفسهم تقليده ، ولا الانتماء إلى مذهبه ، ولا وقع لهم هذا الأمر المجهول الذي يحكونه عن ابن القاسم ، ولعلهم كذبوا عليه .
ثم قد رآى مالكا أبو يوسف القاضي وناظره وجالسه ، وكذلك محمد بن الحسن ، فما استعظما مخالفته ، بل مالا عنه إلى غيره ، وكذلك ما يشك في رؤية يحيى بن سليمان الجعفي ، والحسن بن زياد ، ونوح بن دراج ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري له ، فما استعظموا مخالفته ، بل مالوا إلى زفر بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة ، وهو فتى من أصحابه لم يبلغ الخمسين عاما ، وكذلك أيضا قد رآى مالكا أسد بن الفرات ، وهشام بن عبد الله الرازي ، ورويا عنه ، ثم لم يستعظما مخالفته ، بل تركا قوله ، ومالا إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن تلميذي أبي حنيفة .
وكذلك ما يمترى في رؤية أبي إسحاق الفزاري له ، وكذلك أيضا مخلد بن الحسن ، وبشر بن الوليد ، ومحمد بن سماعة ، ويحيى بن هلال ، فما استعظموا مخالفته ، بل مالوا عنه إلى الأوزاعي وإلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وكذلك رآه وأخذ عنه الوليد بن مسلم ، ثم لم يستعظم مخالفته بل مال عنه إلى الأوزاعي .
ثم دع هؤلاء ، فقد رآه أصحابه : ابن أبي حازم ، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي ، وابن نافع ، ومطرف ، وابن الماجشون ، وابن كنانة ، وابن وهب ، وأشهب ، وجالسوه سنين ، وكتبوا علمه ، ولم يستعظموا مخالفته ، بل خالفوه الخلاف الكثير العظيم ، ولا وقع لهم هذا الأمر الذي يحكونه هؤلاء عن ابن القاسم وحده ، على أنه قد روي عنه أنه خالفه في نيف وثلاثين مسألة ، وإن كانوا يروون أنه قال : ما خلفت مالكا إلا بمالك ، وهذا أيضا فاسد من القول جدا ، لأن المسائل التي خالفه فيها لولا أنه استحق الخلاف عنده ما خالفه ؛ لأنه لا يجوز لمسلم خلاف مالا يحل عنده خلافه ، فعلى كل حال ، قد استجاز ابن القاسم مخالفة مالك ، ولم يستعظمها كما يحكي هؤلاء عنه ، ويحكون أيضا عن ابن وهب أنه قال : الحديث مضلة إلا للفقهاء ، ولولا مالك والليث لضللنا . !
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا بعيد جدا عن ابن وهب أن يقول مثل هذا الكلام الباطل القبيح الجامع للبلاء ، الناقض لعرا الإسلام .
وليت شعري ! إذا كان الحديث الثابت عن رسول الله ص مضلة ، فأين المهداة ؟ أفي الاستحسان والرأي يحرم بها في دين الله تعالى ويحلل ، وتفرض بها الفرائض ، وتسقط بهما الشرائع ، وتحدث بها الديانة ، ويحكم بها على الله عز وجل ؟! إن هذا لهو الضلال المبين .
والله تعالى يقول مخاطبا لنبيه ص : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل آية 44 ، فلم يجعل الله عز وجل التبيين إلا في حديث رسول الله ص لا في شيء سواه .
وليت شعري ! من هم الفقهاء إلا أصحاب الحديث العالمون بصحيحه ، الذين يدينون به ربهم من السقيم الساقط الذي يعول عليه أهل الرأي .
وأما أصحاب الحديث فهم العالمون بناسخه من منسوخه ، وكيف يضم إلى القرآن وكيف يستعمل جميعه ، ويستثنى بعضه من بعض ، العالمون بأخبار الصحابة والتابعين من بعدهم ، فما نعلم الفقهاء إلا هؤلاء .
وأما من أخذ برأي إنسان واحد لا يعدوه ، فما يعرف ما صح عن النبي ص ، ولا ما أجمع عليه العلماء مما اختلفوا فيه ، فما عرف قط ما هو الفقه ، ولا للفقه إليه طريق ، بل هو خابط خبط عشواء في الدين ، راكب مضلة لا يدري حقيقة ما يعتقد من باطله .
ومن العجب أيضا أن يقول القائل : لولا مالك والليث لضللنا . فليت شعري ! ، كيف كان المسلمون قبل أن يولد مالك والليث ؟! أعلى ضلال كانوا حتى ولدا هذا الرجلان ؟ حاش لله من ذلك ، نبرأ إلى الله عز وجل من كل هدى أتانا به مالك والليث مما لم يكن معروفا عن رسول الله ص، ومن قبل أن يولدا هما وأبوهما ، ومعاذ الله من أن تكون هذه الصفة لأحد من الناس غير رسول الله ص ، الذي يقول له ربه تعالى : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } سورة إبراهيم آية 1 .
وأيضا : فإن القائل لهذا القول الساقط مفضل لمالك والليث على رسول الله ص ، ولولا مالك والليث لضل ، ولم يستغن بالنبي ص عنهما ، وهذا كفر صريح مجرد .
وأيضا : أفي ضلال هو من لقي العلماء غير هذين الرجلين ؟ إن هذا لعجب ، ومعاذ الله أن يكون هذا الكلام السخيف ثابتا عن ابن وهب ، فإنه قد أخذ فأكثر عن سفيان الثوري وابن عيينة وابن جريج وعمرو بن الحارث وابن أبي ذئب ، فليت شعري ! أضلالا أخذ عن هؤلاء أم هدى ؟! بل ما نقل العلماء قديما وحديثا إلا الهدى الذي اهتدى به مالك والليث ومن قبلهما ومن بعدهما من الإنس والجن ، ومن العجب أن الجهال المعجبين بهذا الكلام الفاسد لا يلتفتون إلى أقوال الليث ، فقد تركوا نصف الهدى ، فليزمهم على هذا أنهم على نصف الضلالة ، وقد قلنا إن مثل هذا لا يصح عن ابن وهب .
وهكذا الذي يحكى عن الربيع أن الشافعي لا يخطئ في واو ولا ألف ، فهذا أيضا عندنا كذب لا يصح عن الربيع ، وما يستجيز هذا القول فيمن دون رسول الله ص إلا ضعيف الدين ، ضعيف العقل ، وإنقاذ مثل هذا الجنون عن أولئك المقدمين أولى .
وأما الخشارة التي نحن فيها فأكثرهم : { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } النجل آية 21 ، : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } الفرقان 44 ، لا يحققون حقيقة ، ولا يأنفون من حماقة ، ولا يسألون عن برهان ، ولا يبالون كيف أخذوا دينهم ، في اتباع ما وجدوا عليه آباءهم وكبراءهم ، ومن نشؤوا بين أظهرهم ، كما فعل أهل الكتاب سواء سواء ، وقد أنذر رسول الله ص بذلك إذ اخبر أننا سنركب سنن من كان قبلنا ، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلناه ، فقيل له : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن إذا ؟ أو كلاما هذا معناه ، نعوذ بالله من الخذلان والضلال ، ونسأله الثبات على ما مضى عليه الصحابة والتابعون ، ومن قفا سبيلهم وصبر على مر الحق إذا فسد الأكثر ، وأن يعصمنا من بدعة التقليد المحدث بعد القرون الثلاثة المحمودة ، آمين .
قال أبو محمد رحمه الله : ولو استطاعت هذه الطائفة المستأخرة من الحنفية والمالكية أن يدعوا لصاحبهم أنه تكلم في المهد ما تأخروا عن ذلك .
فقد رأيت في بعض الكتب التي جمعوها في فضائل مالك رحمه الله : أنه كان في فخذه مكتوب بالنور : ( مالك عدة الله ) وأدخلوا في فضائلهم أنه قام خمسا وعشرين سنة ليس بينه وبين مسجد رسول الله ص إلا نيف وعشرون خطوة ، ولم يصل فيه صلاة فرض ولا جمعة .
وهذا لا يدخل في الفضائل أصلا ، بل هو مما يجب أن يعتذر له منه ، وما نظن به في ذلك إلا خيرا أو عذرا ().
فإما عذر صحيح عند الله تعالى وهو أولى به عندنا ، وإما تأويل تأوله من أنه كان لا يستجير الصلاة خلف الأمراء الفساق ، فإن هذا : فهو تأويل أخطأ فيه ، هو فيه مأجور أجرا واحدا ؛ لأن النبي ص أمر بالصلاة خلف الأمراء المؤخرين لها عن وقتها ، وليس في الفسق أكثر من فعل من فرط في الصلاة عمدا حتى خرج وقتها .
وقد سمعت بعضهم يقول : إن مالكا رأى عجوزا رأت النبي ص ، قال أبو محمد رحمه الله : وهذا كذب لا خفاء به ؛ لأنه لم يعش بعد أنس بن مالك رضي الله عنه احد رأى النبي ص إلا أبو الطفيل عامر بن وثلة وحده ، وكان موت أنس بن مالك قبل مولد مالك ، وما ذكر احد قط أن مالكا رأى أبا الطفيل .
وقد ذكروا أنه المراد ب ( عالم المدينة ) في الحديث المروي من طريق أبي الزبير هو مالك ، وهذا تقول منهم على رسول الله ص بغير علم ، ومن قطع على مراده ص فقد كذب عليه ، فليتبوأ مقعده من النار ، وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء آية 36 ، وقال تعالى : { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } النجم آية 28 ، وقال تعالى : { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } النور آية 15 ، فمن قطع بأن عالم المدينة المذكور في ذلك الحديث لو صح هو مالك بن أنس فقد قفا ما لا علم له به ، وقال ما ليس له به علم ، واتبع الظن ، والظن أكذب الحديث ، وقال على رسول الله ص بظنه فصار كاذبا عليه ، نعوذ بالله من الضلال ، وأيضا فلو صح لهم أنه مالك بيقين لما كان في ذلك متعلق أصلا ؛ لأنه ليس في ذلك الحديث أنه لا يوجد مثله في العلم ولا نظيره ، وإنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه ، فإذا كان من الممكن أن يوجد مثله في العلم في زمانه فليس هو أولى بما وجد التقدم في العلم ممن هو مثله في ذلك ، ولا في الحديث أيضا إنه يوجد بعده أعلم منه ، فقد سقط تعلقهم به جملة ، وبالله تعالى نتأيد .
فإن منعوا ذلك وأخرجوه من الممكن وقطعوا أنه لا يكون ذلك أبدا عجزوا ربهم وهذا كفر ، وهذا لا يعلم بنص ، وإذ لا نص في ذلك فقد منع من أين يكون فقد قطع على الله تعالى بالكذب ، فهم في هذا ما بين أمرين : إما كفر ، وإما كذب على الله تعالى ، فليختاروا ، وما فيهما حظ لمختار ، فإن أبوا منهما معا ، فقد سقط تعلقهم بهذا الحديث ، وبطل تمويههم به على كل وجه ، وبالله تعالى التوفيق .
وقال منهم قائلون : قال سفيان بن عيينة : كانوا يرون أنه مالك .
قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لو صح عن سفيان ، فإن كان يكون زنا من الذين حكى ذلك عنهم سفيان ، ولعل سفيان إنما أخبر بذلك منكرا عليهم ، ولعلهم كانوا من أصحاب مالك وتلاميذه ، وهذا الذي لا يجوز أن يظن بسفيان وغيره ؛ لأنه كان عبدا اتقى الله عز وجل من أن يقطع على رسول الله ص بغير نص صحيح ، وبرهان هذا هو ابن عيينة الذي ينسبون إليه هذا الباطل ، وهو مخالف لمالك ، فما قلده قط ، ولا اتبعه ، ولا طلب فتياه ، ولا كتب أقواله ، ولا عمل بشيء من رأيه ، ولا في مسألة من المسائل ، فلو كان عالم المدينة المذكور هو مالك عند سفيان لما استجاز مخالفتته ، ولا استحل تعطيل فتياه .
وأيضا : فقد أخبرنا يوسف بن عبد الله بن أبي جعفر عن أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل الترمذي قال نا نعيم بن حماد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ص : ( يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة ) قيل لسفيان : فمن تراه ؟ قال : قال نعيم بن حماد : فسمعته أكثر من ثلاثين مرة يقول : إن كان أحد فهو لعمري هذا العابد في المدينة ، يكنى أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب .
قال أبو محمد رحمه الله : فهذا يبين بطلان ظنهم في قول سفيان ، وأيضا على أبي الزبير وهو مدلس ، ما لم يقل حدثنا ، أو أخبرنا ، فظهر بطلان ظنهم من كل جهة .
نعم ، وادعى بعضهم في الخبر الوارد من طريق عمرو بن حكام عن شعبة ورويناه أيضا من طريق هشام عن داود بن أبي هند ، وفيه : ( أنه لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ) أنهم أهل مذهب مالك ، وهذا من استجاز الكذب واستحلاله في الدرجة القصوى ، وما أفريقية والأندلس بأولى باسم المغرب من مصر والشام ، وأهلهما على خلاف مالك ، بل الظاهر على مذهب أهل السنة جملة ، ولا أيضا من صحراء زناتة والغالب عليها الخوارج والمعتزلة ، والشيه على جبال كتامة ، وقد كانت أفريقية على رأي أبي حنيفة ، والأندلس على رأي الأوزاعي دهرا طويلا ، فما الذي جعل صرف الخبر المذكور إلى ما هما عليه الآن أولى من صرفه إلى ما كانتا عليه قبل ذلك ، ولا ندري إلى ما تؤول إليه حالهما في المستأنف ، إلا أن يدعوا علم الغيب ، فحسبك هذا ضلالا .
وأيضا : فبلا شك ندري أنه إذ قال عليه السلام : ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق ) فإن أهل الغرب كانوا حينئذ نصارى أولهم عن آخرهم ، ليس فيهم مسلم بوجه من الوجوه ؛ لأنه إنما فتحت مصر والشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأفريقية في زمان معاوية رضي الله عنه ، وفتحت الأندلس في زمن الوليد بن عبد الملك ، وقد أيقنا أن النبي ص لا يقول إلا الحق ().
فإن صح الحديث المذكور فنحن موقنون أنه عليه السلام لم يخص وقتا دون وقت ، فإذا وجب أن يكون الأمر كذلك : فالأغلب أن ذلك الوقت لم يأت بهد ، ولعله عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وإلا فما يدر بهم ، والقول بالظن لا يحل أيضا ، فإن حمل الحديث المذكور على ظاهره اولى ، بل لا يحل سوى ذلك بلا دليل من نص أو إجماع .
ونحن إذا تدبرنا ذلك الحديث وجدنا لفظه يوجب الذم لا المدح ؛ لأنه عليه السلام إنما كان يكون مخبرا بأنهم لا يزالون ظاهرين على الحق ، والظهور في لغة العرب هو الغلبة ، فإنما يقتضي هذا اللفظ أنهم لا يزالون غالبين لأهل الحق حتى يأتي أمر الله .
قال أبو محمد رحمه الله : وهكذا وجدناهم أبدا مخالفين للحق ، مخامرين له ، دافعين له ، فأول ذلك أن المباشرين لقتل عثمان رضي الله عنه كانوا من أهل الغرب من أهل مصر ، وهم كنانة بن بشر التجيبي ، وعمران بن سودان ، وقنبرة ، وعبد الرحمن بن غدير البلوي ، كلهم مصريون .
ثم بعد بذلك أمر علي بن بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية رحمة الله عليه ، فعلي صاحب الحق بلا شك ، ومعاوية مجتهد متأول مخطئ معذور مأجور أجرا واحدا ، إذ لا خفاء في أن الفرق في الفضل بين معاوية أبين من أن يشكل على منصف ، وإن معاوية كان رحمه الله صاحبا فاضلا ، ولكن قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } الحديد آية 10 .
فعلي بن أبي طالب مهاجر أول ، سابق بدري أحدي خندقي حديبي ، ومعاوية رحمه الله من مسلمة الفتح ، وكان معاوية الغالب لعلي إلى أن مات ، والظاهر على حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ثم ظهور الفاسق يزيد على حق بقية معاوية من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من أهل المدينة ، يوم الحرة ، وعظيم ما ارتكبه في الإسلام بأوباش أهل الغرب من أهل الشام ومصر .
ثم ظهور الفاسق الحجاج ومن قدمه على حق أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وابن الزبير بقية الصحابة ، وصاحب الحق ، والحجاج ومن ولاة أهل الباطل والثورة ، وشق عصا المسلمين بلا تأويل أصلا ، ولا بوجه له مخرج ، ورجمه مكة بأوباش أهل الغرب من أهل مصر والشام .
ثم ظهور جور بني مروان وآله ، فما رأى الناس عدلا في تلك المدة إلا الجور المبين ، ولعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر ، والاستخفاف بالصلاة إلا عامين من ولاية عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه ، وستة أشهر من ولاية يزيد بن الوليد رحمه الله ، وكان الأمر في مدة سليمان على قصرها افتراء وخفة ().
ثم ظهور الكفرة بني عبيد الله بالمغرب وغلبتهم بالكفر المجرد ، ما بين البحر الشامي إلى ما وراء مكة والمدينة إلى الفرات ، قد طمسوا نور الإسلام ونكسوا أعلامه إلى يومنا هذا ، فما هذا الخبر إن صح إلا إنذارا بظهور أهل الغرب على أهل الحق ، وغلبتهم إياه ، وطمسهم لآثاره ، وهو أعظم حجة عليهم .
فهذه صفة أهل الغرب وأهله عيانا ، لا يقدر على دفعه إلا وقاح الوجه ، مدافع للعيان ، لا يبالي بمثله ، وليس بعضهم أولى بصحة دعواه من بعض .
وكل طائفة تدعي أنها أهل الحق ، ولا حق إلا في كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله ص المبلغة بالسند الصحيح إليه عليه السلام فقط ، ولا بقي نور الإسلام وطلب السنن عن رسول الله ص كما يجب إلا بأقصى المشرق بخراسان وما هنالك .
وما الغرب فخال من ذلك كله ، صفر من جميعه إلا من الشاذ الفاذ والنارد الغريب ، وكلهم مقلد لآبائه ، معرض عن سنة رسول الله ص وعن أحكامه ، وعن أحكام القرآن ، لا تجاوز تراقيهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
قال أبو محمد رحمه الله : فهذا ما راموا به نصر قول مالك رحمه الله وتغليبه ، إلى حماقات سوى هذه يريدون أن يعربوا بها فيعجموا ، ويقصدون أن يبنوا فيهدموا ، من نحو قولهم : إن مالكا رحمه الله صلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة .
والعجب ممن أراد مدحه بهذا وهو خلاف ما كان عليه رسول الله ص وأصحابه رضي الله عنهم ، وقد صح عن ص أنه ما قام ليلة حتى الصباح ، وأنه عليه السلام نهى عن ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبا الدرداء رضي الله عنهم .
وقال عليه السلام : ( قم ونم ) ، وأخبر عليه السلام أنه من رغب عن سنتي في ذلك فليس منه .
أفترى مالكا في هذه الأربعين سنة لم يكن له إلى أهله حاجة ؟ ألم يمرض ؟ ألم تعرض له في الليل بولة ولا قرقرة ؟ ألم تغلبه سنة ؟ . إن هذا لعجب ، فهذا مع أنه ذم وبدعة ، فهو أيضا كذب وفرية ومحال في الطبيعة .
وحكوا أيضا عن ابن القاسم صاحبه رحمه الله : أنه كان يختم القرآن في رمضان مئتي مرة ، وهذه طامة من فضائح الكذب المشبع ؛ لأن هذا إذا قسم ، وقع لكل يوم وليلة ختم القرآن فيها ست مرات وثلثي مرة زيادة ، ومثل هذا من القول فهو أميل إلى الاستخفاف بالقرآن ، والاستهزاء بكلام الله عز وجل وتلاوته غير موفاة الحروف .
هذا لو أمكن ، ثم هو بعد معصية لله تعالى ؛ لأنه قد صح عن النبي ص أن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ليال ، ولم يختلف عن هذا أخد من الصحابة رضي الله عنهم في دون ذلك إلا في مرة واحدة في الليلة فقط ، ثم بعد هذا كله فهو محال وكذب ، أتراه لم ينم طول شهر رمضان لا ليلا ولا نهارا ؟ أما كانت عليه صلاة فرض ؟ أما كان عليه إفطار بأكل وشرب ؟ أما كان عليه شهود جمعة ؟ وإنصات للخطبة ؟ أما كان عليه وضوء وما يوجب الوضوء من بول وغيره وغسل جمعة ؟ أما كان من بني آدم فيأخذه من دندنة النهار والليل حيران وصداع ودوار وعشواء النفس وبحة الصوت ؟ أما كان يسأم ولا يفتر من قراءة القرآن ست مرات في كل بياض يوم وثلثا زيادة شهرا كاملا متصلا ؟ هذه صفة الملائكة التي ذكر الله عز وجل فيهم أنهم لا يسأمون ولا يفترون ، وليست هذه صفة آدمي أصلا ، أما يستحي من له مسكة عقل أو دين من أن يحدث بمثل هذا الحديث الذي قد جمع فيه الكذب والمعصية ؟ ونسأل الله تعالى أن لا يخذلنا بمنه .
ويقولون : أن مالكا ثبت على علم المدينة .
وهذا كلام في غاية الفساد ؛ لأن الذين خرجوا عن المدينة من الصحابة رضي الله عنهم وثم التابعين لهم ، ثم الفقهاء بعدهم كالحسن البصري ، وابن سيرين ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وغيرهم ، إن أطلقوا عليهم أنهم بدلوا الدين وأحدثوا شريعة ، فقد افتروا إثما عظيما ، فإن لم يبالوا بذلك ولا تورعوا عنه عاد ذلك عليهم ؛ لأنه إذا جاز ذلك على من ذكرنا ، جاز ذلك على من بقي في المدينة من الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى من بعدهم ، وعلى تابعيهم ، وعلى مالك ومن معه ، وهذا كله هو الباطل المحض ، وقد أعاذ الله جميعهم من ذلك ، ونزعهم عنه ، ولا يظن ذلك بأحد منهم إلا فاسق خبيث .
وكذلك إن قالوا : إن عمر وعثمان رضي الله عنهما أغفلا تعليم رعيتهما من أهل العراق والشام ومصر أمور الدين ، وهم في طاعتهم ، يولون عليهم عمالهم من الصحابة ، وتفد عليهم وفودهم ، فضيع عمر وعثمان رضي الله عنهما تعليم شرائع الإسلام ، وأهملاهم وكتماهم الديانة ، فهذا إخراج للخليفتين المرضيين رضي الله عنهما عن الإسلام ، ولعمري إن الظان ذلك بهما أولى بهذه الصفة .
فصح أن الذي عند أهل المدينة هو عند غيرهم من فقهاء الأمصار سواء سواء ، ولا فرق ، إذ ليس العلم مكتوما ، والحمد لله رب العالمين ، ولا أهل المدينة بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في البلاد أولى بالعلم من غيرهم ، وبالله تعالى التوفيق .
مخ ۵
وأما الحنفيون فقد ادعوا لصاحبهم رواية عن عبد الله بن الحارث بن جزء صاحب رسول الله ص عن النبي ص .
وهذا لا يصح ؛ لأن أبا حنيفة مات رحمه الله سنة خمسين ومئة بلا خلاف ، وله سبعون سنة ، هكذا حكى ابنه حماد عن سن أبيه ، فمولد أبي حنيفة على هذا في سنة احدى وثمانين أو سنة ثمانين ، ولم يعش بعد احدى وتسعين من الصحابة رضي الله عنهم أحد ، وفي الخبر المذكور عن أبي حنيفة أنه لقى عبد الله بن الحارث بمكة وله ست عشرة سنة ، فكان لقاؤه في سنة ستة وتسعين ، ولم يكن عبد الله حيا في ذلك العام بلا شك ؛ فإنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن أنس بن مالك رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد مات قبل هذا التاريخ بمدة .
قال أبو محمد رحمه الله : ولقد حملت العصبية ورقة الدين بعضهم على أن وضع على رسول الله ص حديثا رواه مأمون بن أحمد قال نا أحمد بن عبد الله الحرمازي وهو معروف بوضع الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله ص : ( يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس ) فمن أضل ممن يعترض ليتبوأ مقعده من النار نصرا لأقوال من لا يغني عنه شيئا ورأيه ، ونعوذ بالله من الخذلان .
ولقد روي عن بعضهم أنه قال : ما علقمة بدون ابن مسعود ، ولا إبراهيم بدون علقمة ، ولا حماد بن أبي سليمان بدون إبراهيم ، ولا صاحبكم يعني أبا حنيفة بدون حماد ، فأنتج هذا أن أبا حنيفة ليس بدون ابن مسعود في الفقه ، فإذا كانت هذه صفة أبي حنيفة عند أصحابه في الفقه ، فأين يقع عندهم مالك وغير مالك منه ؟!
قال أبو محمد رحمه الله : والذي لا نشك فيه : فإن الذي أحدثوه في الأقضية من الكشوف وكتابها وعقد مقالات ، والإشهاد عليها ، والاعذار مدة مسماة لا تتجاوز ثلاثين يوما ولا بيوم ، وسجن مدعي الإفلاس شهرا ، ثم حينئذ ينظرون في أمره وقبول الوكالة على صفة ما ، ومنعها على ما ، وقطع الحجة بعد التسجيل والتطواف بالشهود من واحد إلى ثان ، وإن علم الحاكم حكم تلك المسألة فإن هذا لم يك قط على عهد رسول الله ص ، وهذا ما لا يشكون فيه أصلا ، فلولا أن هذه الأمور عندهم خير زائد على ما كان في صفة أحكامه ص ، ثم على أحكام الصحابة رضي الله عنهم ، محدث مستحسن فما استعملوه ولا اشتغلوا به ، وهذا نفسه معنى قول القائل : ( أبو حنيفة كان أعلم بالقضاء من رسول الله ص ) ولولا خوف السيف ما أمنا إطلاق ذلك فيمن لا خلاق له منهم ، فإن لم يكن هذا خيرا زائدا عندهم ، وعلما حادثا حسنا ، فما يحل لهم أن يستعملوه .
وأما ما ذكر عن أصحاب الشافعي وأحمد وداود فهم أغلى غلوا في أصحابهم في مثل هذه التكاذيب ، ولكن ورد من ذلك إن شاء الله ما يتبين به لهؤلاء الجهال أن كل طائفة تعتقد أن صاحبها أعلم وأفضل وأجل وأورع وأفقه من الآخرين .
فقد روي أن رجلا قال لأبو ثور : سمعت فلانا يقول : إن الشافعي أفقه من مالك ، فقال له أبو ثور كلاما معناه : وأي عجب في هذا ؟ الشافعي أفقه من سعيد بن المسيب .
وذكر بعض الشافعيين خبرا عن رسول الله ص : ( أن الله يبعث على رأس كل مئة سنة رجلا من قريش يحيي به الدين ) قال هذا القائل : هو في الأولى عمر بن عبد العزيز ، والمئة الثانية محمد بن إدريس الشافعي .
وقد ذكر بعض مشاهير المؤرخين أنهم كتبوا على قبره : هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله .
فانظر أحقا تبلغ العصبية بهؤلاء القوم ؟ وهذه الآثار التي أسندوا إلى رسول الله ص لا تصح ، ولو صحت لكان تأويلهم فيها كذبا وظنا ، ونعوذ بالله من الخذلان .
مخ ۶
وروينا عن أحمد بن محمد الأثرم أنه قال في مجلس أبي عبيد القاسم بن سلام في مسألة جرت ، فقال الأثرم : فقال هذا من لا يعدل به أحد في شرق الأرض ولا في غربها وهو أحمد بن حنبل ، فقال أبو عبيد : صدقت .
قال أبو محمد رحمه الله : ولقد بلغني أن طوائف من أتباع أحمد بن حنبل رحمه الله يمرون ببغداد على رحبة واسعة كان فيها أمام أحمد درب قصير ، فكان أحمد إذا مر به طأطأ رأسه ، فهم إذا مروا به الآن قالوا : طأطئوا ، فها هنا طأطأ الشيخ ، فيطأطئون رؤوسهم هنالك ، وليس بينهم وبين السماء سقف ولا عتبة .
وذكر بعض المؤرخين : أن في جنازته كان يمشي أمام النعش رجل من أصحابه يهتف بأعلى صوته :
وأظلمت الدنيا لفقد محمد * * * وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل
وأما قولهم : لولا أحمد بن حنبل لكفر الناس ولصاروا كلهم جهمية ، فأشهر من أن يحتاج إلى تكلف إيراده ، وكل هذا حماقة وضلالة لا معنى له ، ولا فائدة فيه ، وما غلا أحد قط - ولله الحمد - في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم هذا الغلو ، إلا أن الرافضة غلت في علي أضعاف هذا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
قال أبو محمد رحمه الله : وقد قال أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد ابن عمر إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وولي أبو نصر هذا قاضي القضاة ببغداد في رسالته التي يذكر فيها رجوعه عن مذهب مالك إلى مذهب داود بن علي : ولسنا نجعل من تصديره في كتبه ومسائله بقول سعيد بن المسيب والزهري وربيعة كمن تصديره في كتبه ومسائله بقول الله عز وجل وقول رسول الله ص وإجماع الأمة ، هيهات ، هذه فضيلة محتباة لصاحبها ومرتبة جليلة صار أبو سليمان رضي الله عنه قدوة فيها .
وقال بعض أصحاب دواد رحمه الله في شعر له مشهور مطول :
ولقد نظرت إلى العلوم بأسرها * * * فمنحت لب لبابها دوودا
جعل القرآن مع النبي وقوله * * * والمسلمين أدلة وشهودا
ما حاد عن سنن النبي معاندا * * * إذ غيره أضحى لهن عنيدا
لو كان حيا من مضى من مالك * * * أو صحبه أضحوا إليه وفودا
أو رد فينا الشافعي مشفعا * * * لرأيته للشافعي مفيدا
مخ ۷
وأبو حنيفة لو تعقب رأيه * * * أمسى يفند رأيه تفنيدا قال أبو محمد رحمه الله : فهذا اعتقاد كل طائفة في صاحبها ، وأما الحقيقة في بيان الألفاظ التي سألوا عنها ، فالواجب قبل كل شيء أن يعلموا ما معنى الجلالة ، وما معنى الفضل ، وما معنى الورع ، وما معنى العلم ، وما معنى الفقه ، ونحن نحتسب الأجر من الله عز وجل في بيان ذلك بحول الله عز وجل ، فنقول وبالله عز وجل نتأيد :
أما الجلالة : فلا تخلو هذه اللفظة من أن تكون يراد بها جلالة الحال في الدنيا ، أو جلالة الحال عند الله عز وجل ، ولا سبيل إلى وجه ثالث .
فأما جلالة الدنيا فبلا شك يعلم كل ذي عقل أن جعفر بن سليمان ، وعبد الله بن ربيع الحارثي أميري المدينة ، ومحمد بن عبد العزيز قاضيها في زمان مالك كانوا أجل في الدنيا من مالك ؛ لأنه كان أمرهم عليه نافذا .
وكذلك بلا شك كان موسى بن عيسى أمير الكوفة ، وابن أبي ليلى قاضيها في بعض أيام أبي حنيفة أجل في الدنيا من أبي حنيفة ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذا .
وكذلك كان السري بن الحكم ، ولهيعة بن عيسى أمير مصر وقاضيها في أيام الشافعي أجل في الدنيا من الشافعي ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذا .
وكذلك كان محمد بن عبد الله بن طاهر ، وإسماعيل بن إسحاق أمير بغداد وقاضيها في بعض أيام داود أجل في الدنيا من داود ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذا قبل أن يحميه الموفق بن إسماعيل ، إذ وقع بينهما ما قد عرف .
قال أبو محمد رحمه الله : وهذه جلالة ليس فضيلة ، فإن كان يريد هذا القائل جلالة المرء بكثرة أتباعه ، فأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أكثر من أتباع أبي حنيفة ، وأتباع هشام بن الحكم رئيس الرافضة أكثر من أتباع الشافعي ، وأتباع عبد الله بن يزيد الإباضي أكثر من أتباع مالك ، وأتباع سليمان بن جرير الزبيدي أكثر من أتباع أحمد ، فصح أنه لا معنى لكثرة الأتباع ولا فضيلة في ذلك .
وقد كان الشافعي مدة أقلهم أتباعا ، ثم هو اليوم أكثره أتباعا ، وكان للأوزاعي أتباع كثير ، ثم لم يبق له تابع ، فلو كانت كثرة الأتباع فضيلة لما ثبتت الفضائل على حال ، ولكانت تبطل وتزيد ، وهذا جنون ممن ظنه ؛ لأن الفضيلة مستقرة بموت المرء ، لا تنقص أبدا .
قال أبو محمد رحمه الله : وأما الجلالة عند الله عز وجل فأمر لا يعلمه أحد من ولد آدم اليوم ، ولا مذ مات النبي ص ، وإنما علم من الله ما جاء به الفضل فيمن جاء به من الصحابة رضي الله عنهم .
ومن قطع بغير نص على أن فلانا أجل عند الله من فلان بظنه فهو فاسق كاذب على الله عز وجل ، عظيم الجرم ، ملعون من الله تعالى ، قال الله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } هود آية 71 .
ولا خلاف بين الأمة كلها في أن الكاذب على الله عز وجل والقائل عليه بظنه ظالم ، فهو ملعون بنص القرآن .
مخ ۸
قال أبو محمد رحمه الله : وكذلك الفضل ، وإنما هو لمن أمرنا الله عز وجل أن نعظمه أكثر من تعظيمنا لغيره ، أو من كان أعلى درجة في الجنة من نظيره ، ولا معنى للفضل أصلا غير هذا ، فمن ادعى أنه يدري أي هؤلاء القوم أعلى درجة في الجنة فهو فاسق كاذب على الله عز وجل .
وقد كان في القرن الثاني والثالث فساق ومتأخرون في الفضل عمن بعدهم بلا شك ، وإنما الفضل فيمها على الأغلب ، لا إلى إنسان بعينه منهم البتة ، ولا جاء أيضا نص عن الله تعالى ، ولا عن رسوله ص بالأمر لنا بتعظيم بعضهم أكثر من تعظيم الآخرين ، بل هم علماء من جملة العلماء غيرهم ، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، فسقط سؤالهم بمن أفضل ومن أجل .
وأما الورع : فهو اجتناب الشبهات ، ولقد كان أبو حنيفة وأحمد وداود من هذه المنزلة في الغاية القصوى ، وأما مالك والشافعي فكانا يأخذان من الأمراء ، وورث عنهما واستعملاه وأثريا منه ، وهما في ذلك أصوب ممن ترك الأخذ منهم ، وما يقدح هذا عندنا في ورعهما أصلا ، ولقد كانوا رحمهم الله في غاية الورع .
وأما القطع بانهم أورع عند الله عز وجل فغيب لا يستجيز القطع به إلا فاسق ، وأورعهم في ظاهر أمرهم في الفتيا من كان أشدهم لمخالفة ما جاء في القرآن وما صح عن النبي ص ، وأبعدهم عن القطع برأيه ، وهذا أمر يعلمه كل ذي حس سليم ضرورة من جاهل أو عالم ، إلا من غالط عقله وكابر حسه .
وأما أيهم أعلم : فإن معنى العلم أن يكون عند المرء من رواية ذلك العلم وذكره لما عنده منه ، وثباته في أصول ذلك العلم الذي يختص به أكثر مما عند غيره من أهل ذلك العلم ، والذي كان عند أبي حنيفة من السنن فهو معروف محدود وهو قليل جدا ، وإنما أكثر معوله على قياسه ورأيه واستحسانه ، كما روي عنه أنه قال : علمنا هذا رأي ، فمن أتى بخير منه أخذناه .
وأما الذي عند مالك فهو كله في موطئه ، قد جمعه وشيء يسير قد جمعه الرواة عنه مما ليس في الموطأ ، وذلك جزء صغير ، قد حصل كل ذلك وضبط ، ولا يسع أحدا أن يظن به أنه كان عنده علم فكتمه ، وأحاديث صحاح فجحدها ، نعوذ بالله من ذلك ، فقد قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فبنذوه وراء ظهورهم } آل عمران 187 ، وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } البقرة آية 1590160.
قال أبو محمد رحمه الله : ولقد أساء الثناء عليه جدا من أدعى أنه كان عنده من العلم والسنن غير ما رواه الناس وغير ما بلغه إليهم من رواياته ، وكل ذلك لا يبلغ ألف حديث ومئتي حديث من مرسل ومسند .
وأما الشافعي رحمه الله فكان عنده موطأ مالك رحمه الله ، وحديث كثير عن سفيان بن عيينة ، وهذا كان أعلى ما عنده وأوثق ما لديه ، وخلط إلى ذلك ما لو تركه كان أولى به عن الرواة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ونحو ذلك .
وأما أحمد بن حنبل فكان مقداره في جمع السنن وضبطها والوقوف على ذكرها المقدار المشهور الذي لا يجهله إلا جاهل لا يعتد به في أهل العلم ، فهو أعلم من كل من ذكرنا ، وأضبط ، وأشد إشرافا على السنن التي هي العلم وبيان القرآن .
وأما داود فكان واسع الرواية جدا ، جامعا للسنن غاية الجمع ، ضابطا لها نهاية الضبط .
وقد ذكرنا أن كل من جمع من السنن الصحاح أكثر مما جمع غيره ، ومن أقوال العلماء أكثر مما عنده سواه ، وضبط ذلك بذكره وفهمه ، فهو أعلم بلا شك ببرهان ضرورة لا يقدر أحد على معارضته لما ذكرنا أن هذا هو معنى العلم لا ما سواه .
وأما الفتيا بالرأي فليس علما ولا فضيلة ، ولا يعجز عنه أحد ، بل هو مذموم من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن التابعون بعدهم ، وهم يقرون على أنفسهم بذلك :
فهذا ربيعة يقول للزهري : أنا أخبر الناس برأيي ، فإن شاؤوا أخذوه ، وإن شاؤوا ضربوا به الحائط .
قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن شيئا يكون سامعه بالخيار في أن يضرب به الحائط ، فحق أن يتعجل ضرب الحائط به ، وأن لا يفتي به في الدين ، ولا يخبر به عن الله عز وجل .
فهذا مالك يقول عند موته : وددت أني ضربت لكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط ().
قال أبو محمد رحمه الله (): ولعمري إن ما ندم عليه صاحبه هذه الندامة عند الموت ، فإن القاطع به في دماء المسلمين وفروجهم وأموالهم وأبشارهم ودينهم لمخذول .
وهذا ابن القاسم يقول : لا تباع كتب الرأي ؛ لأننا لا ندري أحق هي أم باطل .
قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن ما لم يقطع على جواز بيع كتبه ولم يدر أحق هي أم باطل لبعيد عن أن تجوز الفتيا به في الإسلام ، أو أن يخبر به عن الله تعالى .
وهذا سحنون يقول : ما ندري ما هذا الرأي ، سفكت به الدماء واستحلت به الفروج .
قال أبو محمد رحمه الله : فإن كان لا يدري ما هو فالذي أخذه عنه أبعد من أن يدريه لو نصحوا أنفسهم .
هذه أحكام ظاهرة الصدق لا ينكرها إلا ذو حمية يأنف أن يهتضم دنياه وتبطل اشرعته ، : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء آية 227 .
وأما الشافعي فإنه لا يجيز الرأي أصلا ، وهذا أحمد وإسحق بن راهويه وسائر المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الحديث ، وأما داود فأمره في إبطاله أشهر من أن يتكلف ذكره .
ولا فرق بين رأي مالك وأبي حنيفة ورأي الاوزاعي ورأي سفيان ورأي ابن أبي ليلى ، ورأي ابن شبرمة ، ورأي الحسن بن حي ، ورأي عثمان البتي ، ورأي الليث ، وكل ذلك رأي ، لا فضل لبعضه على بعض ، وكل هؤلاء مجتهد مأجور ، وكل من قلد واحدا منهم مخطئ ملوم غير معذور .
فإذ هذه صفة الرأي بإجماع الأمة كلها ، وإنما هو حكم بالظن ، وتخرص في الدين ، فليس يستحق المكثر منه ومن القول به صفة العلم ؛ لأنه ليس علما ، ولا حفظه من العلم بسبيل ، وإنما هو اشتغال بالباطل عن الحق ، وباب من كسب المال ، ووجة من التسوق والترؤس على الجيران ، وعند الحكام فقط ، وصناعة من صناعات المتأجر ، وقد خاب وخسر من جعل هذا عرضة من دينه ، نعوذ بالله من الخذلان .
وإنما العلم ما ذكرنا من المعرفة بأحكام القرآن ، وما صح عن رسول الله ص ، ومعرفة ثقات الناقلين للسنن ، وما أجمع عليه المسلمون ، وما اختلفوا فيه ، فهذا هو العلم ، وحامله هو العالم لا ما سوى ذلك .
وأعلى الناس منزلة في العلم فالصحابة رضي الله عنهم ، فإن الصاحب ولو لم يكن عنده إلا حديث واحد أخذه عن رسول الله ص فهو عند ذلك الصاحب حق يقين من عند الله تعالى ؛ لأنه أخذه ممن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وممن لا يخطئ في شيء من الديانة أصلا ، فهو عند ذلك الصاحب كالقرآن في صحة وروده من عند الله عز وجل في وجوب الطاعة له ، ثم التابعون ، فإنهم أخذوا السنن التي هي العلم عمن شهد الله له بالعدالة كلهم ، إذ يقول الله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } إلى قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } الفتح آية 29 ، وقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسنى } الحديد آية 10 ، وقال تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } الأنبياء آية 101 ن إلى قوله تعالى : { هذا يومكن الذي كنتم توعدون } الأنبياء آية 103 ، وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } الفتح آية 18 .
قال أبو محمد رحمه الله : فمن أخذ العلم عمن شهد الله تعالى لهم بالجنة قطعا وبالعدالة ، وبأنه تعالى رضي عنهم ، وعلم الله ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، فقد صحت لهم العصمة من تعمد الفسوق ، إذ لا يجتمع الفسوق والسكينة في قلب واحد ، فهو أعلى درجة في العلم وأثبت قدما فيه ، وأولى باسمه ، فمن أخذه من بعدهم ممن لا يقطعون له بالعدالة ، ولا بصحة غيبه ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، ولا يتن عن معتقده ممن ليس فيه إلا حسن الظن به فقط ، والله أعلم بباطنه ، وهذه صفة التابعين وكل من دونهم ، فلا يجوز أن يكون أعلم من صاحب بوجه من الوجوه .
وجائز أن يكون أعلم من تابع ؛ لأن التابع لا يقطع بصدقه ، ولا بصحة نقله ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، كما نقطع نحن وهم بعدالة الصاحب عند لله عز وجل وبصدقه ؛ لأن العدل عند الله لا يكون إلا صادقا بلا شك ، لا سيما مع قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم } إلى قوله عز وجل : { إنك رؤوف رحيم } الحشر آية 8-10 ، فشهد الله لهم بالصدق والفلاح .
قال أبو محمد رحمه الله : فهذه درجة العلم ، وإذ معنى العلم هو ما ذكرنا ضرورة أن يكون أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن عن رسول الله ص ، وأضبطهم لها ، وأذكرهم لمعانيها ، وأدراهم بصحتها ، وبما أجمع عليه مما اختلفوا فيه .
وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة رضي الله عنهم أتم منها في محمد بن نصر المروزي ، فلو قال قائل : إنه ليس لرسول الله ص حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر ما بعد عن الصدق .
مخ ۹
وأما معنى الفقه فهو التنبه لما في الآية من القرآن ، ولما في الحديث الصحيح عن رسول الله ص من الأحكام ، وهذه درجة يعطيها الله عز وجل لمن يشاء من عباده ، قال رسول الله ص : ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) وقال عليه السلام : ( رب مبلغ أوعى من سامع ) أو كما قال عليه السلام .
قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أنه قد يكون في المتأخرين من هو أفقه من كثير من المتقدمين ، وهذا نفس كلامه ص .
قال أبو محمد رحمه الله : ومن قرأ كتب العلماء والفقهاء والسالفين والخالفين من المذكورين وغيرهم وقف يقينا على الأفقه منهم ، ولا سبيل إلى يعرف ذلك من افتصر على رأي رجل منهم دون غيره ؛ لأنه يحكم بما لا يدري فيما لا يدري ، وهذا جور لا يحل .
وأفقههم أشدهم ابتاعا لأحكام القرآن وأحكام الحديث الصحيح عن رسول الله ص ، وأبعدهم عن رأيه والقطع بظنه ، وعن التقليد لمعلمهم دون غيرهم ، فمالك وأبو حنيفة متقاربان في هذا المعنى ، وإن كان مالك أضبط للحديث وأحفظ منه ، وأصح حديثا وأتقن له ، وأبو حنيفة أطرد للقياس على ما عنده من ذلك ، وأكثر منه في التحكم بالآراء .
وأحقهم بصفة الفقه داود بن علي ؛ لأنه لا يفارق السنن والإجماع أصلا ، ولا يقول برأيه البتة ، ولا يقلد أحدا ، ثم أحمد بن حنبل وهو قليل الفتيا لشدة توقيه وتورعه على صفة علمه بالسنن وأقوال الصحابة والتابعين ، ثم الشافعي فإنه أول من انتقد الأقوال المختلظة ، وميز السنة من غيابة الرأي ، وعلم استخراج البرهان من غيضة الاستحسان ، ونهى عن التعصب للمعلمين ، وعن الحمية للبلدان ، ودعا إلى اتباع صحيح الحديث عن رسول الله ص حيث كان ، فالمؤمنون أخوة ، وأكرمهم عند الله أتقاهم ، وإنما فضل المرء بنفسه ، وأشار إلى كيف يأتي القرآن مع السنن ، والخاص مع العام من الآي والسنن ، فصار له بذلك فضل عظيم وسبق رفيع ، واستبان بهذه المناهج التي نهج دقة ذهنه وقوة خاطره وحدة فهمه وتقرب .
ثم سلك أحمد رحمه الله هذه الطريق ، وأربى على الشافعي بكثرة استعماله للسنن الثابتة ، وشدة ضبطه للروايات الصحاح ، ثم تلاهما داود رحمه الله ، فأكمل تلك الفضيلة ، وتمم تلك الحسنة ، وأوضح أن القرآن وكلام رسول الله ص وأفعاله وإقراره وإجماع العلماء كلهم قد استوعبت هذه الوجوه جميع الشرائع ونوازل الأحكام كلها ، أولها عن آخرها ، وأنه لا يشذ عنها شيء من أمور الدين أصلا ، وأن كل ما يسأل عنه السائلون فيه وجود حكمه فيها تبيان ونص لا يحتاج ولا يفتقر إلى قول أحد من الناس ، وأن كل ذلك منصوص عليه باسمه وحكمه ، محكم له غير ناقص ولا محذوف البيان ، وأن الله تعالى لن يحوج مع القرآن والسنة والإجماع إلى تكلف قياس ، ولا تعسف رأي ، ولا حكم بظن ، ولا إحداث لشرع ، ثم اتبع هذه الجملة تفصيلها ووفي في وعده في تفسيرها ، وبين ذلك بيانا كافيا ، فكانت له بذلك درجة موفورة ، وذخيرة الله عز وجل بها ، وذخرها له ، لحق بها المتقدمين ، وأثر على المتاخرين ، وأحيا ما دثر من أعمال الصحابة والتابعين لهم رضي الله عنهم أجمعين في اتباع السنن والقرآن فقط ، وأبان فساد الخبط في الدين من الأخذ بما في مسئلة من القرآن ، وترك ما فيها من صحيح الحديث ، وفي أختها بصحيح الحديث ، وترك ما فيها من القرآن وفي أختها بتقليد قائل ، وترك ما فيها من القرآن والسنة وفي أختهن بقياس ، وترك ما فيها من قرآن وحديث وقول قائل وفي أختهن بما استحسنه المفتي ، وترك ما فيها من نص أو قياس أو قول سلف ، فاقتنى الأجر في أهل الحق والإنصاف ، وأقام الحق على الشذوذ والخلاف ، وحوى بذلك خصل الجواد إذا استولى على الأمد ، وحصل على قصب السبق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
وإن كان قد أخطأ في كثير من فتاويه فالعصمة من الخطأ ليست لأحد من الناس بعد رسول الله ص ، ولكن له بالتنبيه على ما ذكرنا منزلة رفيعة ، ومحلة عالية ، ويستحق بذلك التقدم في الفقه ، وليس ذلك بموجب تقليده ، لما ذكرنا من أنه لم يعصم من الخطأ بعد رسول الله ص أحد من الناس ، ولا يحل أن يقلد من يخطئ ، وإن أصاب في كثير ، ولقد كان للشافعي من التمكن في ترتيب القياس ما ليس لأحد من القائلين به التاركين له النصوص من القرآن والسنة ، ولكن ليس ذلك عندنا من فضائله بل هو من وهلاته .
وأما الحفظ فهو ضبط ألفاظ الأحاديث ، وتثقيف سوادها في الذكر ، والمعرفة بأسانيدها ، وهذه صفة حفاظ الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن عفرة والدار قطني والعقيلي والحاكم ونظرائهم ، فهؤلاء في هذه الطريقة فوق هؤلاء المذكورين إلا أحمد ، فإنه في الحفظ نظير هؤلاء ، وبالله تعالى التوفيق .
فهذا أسعدكم الله بطاعته حقيقة الجواب فيما سألتم عنه بالبرهان الواضح ، والدليل اللائح ، لا بالتعصب ولا باتباع الهوى ، ونعوذ بالله من ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وسلم تسليما كثيرا .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (). انتهت الرسالة
قال الناسخ : وصادف الفراغ يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة ، وكتبه أفقر عباده إلى رحمته ومغفرته ارقطاي بن رجب عفا الله عنه ، وعن سائر المسلمين أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
قام بنسخها ابن تميم الظاهري
المشرف العام لدار أهل الظاهر
مخ ۱۰
www.aldahereyah.net
ناپیژندل شوی مخ