يا للمراوغات التي تلجأ إليها النساء! ذلك ما فكر فيه جرانت وهو يراقب إبرتها وهي تخترق الجورب الصوفي الذي كانت ترتقه، ثم عاد إلى التفكير في مشكلته. وكان لا يزال يفكر فيها حين أوى إلى الفراش. لكن وقبل أن يخلد للنوم قرر أن يكتب إلى برايس في الصباح. في واقع الأمر سيكون خطابا يفيد وصوله إلى هذه الأنحاء الملائمة للصحة وعن أمله في أن تتحسن صحته في وقت أسرع مما حدده له الطبيب، لكن في سياق ذلك سينتهز فرصة أن يصحح موقفه بأن يطلع من يهمهم الأمر على وجود صحيفة الرجل الفرنسي معه.
راح في نوم عميق غير متقطع نجم عن الهواء العليل وصفو سريرته، واستيقظ على صمت مطبق. لم يكن الصمت في الخارج فقط، بل كان المنزل نفسه في حالة من الغشية. وتذكر جرانت فجأة أن اليوم هو يوم الأحد. لن يخرج بريد من الوادي اليوم. سيتعين عليه أن يقطع بخطابه كامل المسافة حتى بلدة سكون.
سأل تومي على الإفطار إن كان بإمكانه أن يستعير السيارة ليذهب إلى سكون ليبعث برسالة مهمة، وعرضت لورا عليه أن تقله بالسيارة. لذا ما إن انتهى الإفطار حتى عاد إلى غرفته ليكتب الرسالة، وفي النهاية كان مسرورا جدا بها. أتى على ذكر مسألة راكب المقصورة «بي 7» في سياق الرسالة بإتقان راف خفي يجعل قطعة لا تنتمي إلى النمط العام لثوب تتواءم معه. قال إنه لم يستطع التخلص من ذكرى العمل بأسرع ما يمكنه؛ لأن أول شيء واجهه في نهاية الرحلة كان جثة هامدة. وأضاف أن مضيفا غاضبا من مضيفي عربات النوم كان يهز الجثة بعنف ظنا منه أن الرجل كان نائما حتى يفيق من سكره فحسب. لكن ذلك لم يكن من شأنه، وحمدا للرب على ذلك. كان دوره الوحيد في هذه المسألة هو أنه اختلس بغير قصد صحيفة من المقصورة. إذ وجدها بين أوراقه حين كان يتناول الإفطار. كانت صحيفة «سيجنال»، وكان سيعتبر أنه من المفروغ منه أنها تخصه لولا أنه وجد أن شخصا ما كان قد خط على عجل بقلم رصاص محاولة شعرية في الجزء الخاص بآخر الأخبار في الصحيفة. كان الشعر بالإنجليزية، وربما لم يكن المتوفى هو من كتبه على الإطلاق. وقد نمى إلى علمه أن التحقيق يجري في لندن. وإن رأى برايس أن لهذا المصدر الصغير للمعلومات أي أهمية فيمكنه أن يسلمه إلى السلطات المعنية.
نزل الدرج ليجد أن أجواء يوم الأحد قد تبددت. كان المنزل يعج بحرب وتمرد. كان بات قد اكتشف أن أحدهم ذاهب إلى بلدة سكون (التي كانت تبدو لعينه الريفية، حتى في يوم الأحد، حاضرة ذات تنوع ممتع)، فأراد أن يذهب هو الآخر إلى هناك. وعلى الجانب الآخر، كانت أمه مصرة على أنه سيذهب إلى مدرسة الأحد كالمعتاد.
كانت تقول: «يجب أن تكون مسرورا بأننا سنوصلك، بدلا من التذمر بشأن عدم رغبتك في الذهاب.»
فكر جرانت أن كلمة «التذمر» كانت غير ملائمة للغاية لوصف المعارضة المستعرة التي اتقد بها بات كالشعلة. كان يهتز ويرتج من شدة معارضته، كأنه سيارة متوقفة ومحركها يعمل.
ذكرته لورا قائلة: «لو لم نكن ذاهبين إلى سكون لكان سيتحتم عليك أن تذهب إلى الكنيسة سيرا كالمعتاد.» «هراء، من الذي يعبأ بالسير؟! نتبادل أنا ودوجي أحاديث شيقة ونحن نسير.» كان دوجي هو ابن الراعي. واستطرد قائلا: «الذهاب إلى مدرسة الأحد مضيعة للوقت حين يمكنني أن أذهب إلى سكون، وهذه حقيقة لا جدال فيها. هذا ليس عدلا.» «بات، لن أسمح لك بأن تشير إلى مدرسة الأحد بأنها مضيعة للوقت.» «لن تنعمي بوجودي على الإطلاق إن لم تكوني حذرة. سأموت من تدهور صحتي.» «أوه. ما الذي من شأنه أن يؤدي إلى ذلك؟» «الافتقار إلى الهواء النقي.»
بدأت تضحك. وقالت: «بات، أنت مدهش!» لكن كان من الخطأ دوما أن تسخر من بات. كان يأخذ الأمور المتعلقة به بجدية بالغة.
قال بمرارة: «حسنا، اضحكي! ستذهبين إلى الكنيسة في أيام الأحد لتضعي أكاليل من الزهور على قبري، هذا ما ستفعلينه في أيام الأحد، وليس الذهاب إلى سكون!» «من المستحيل أن أفعل شيئا بهذا البذخ. كل ما ستحصل عليه مني هو حفنة من أزهار أقحوان المروج بين الحين والآخر حين أكون مارة بالمقابر. اذهب وأحضر كوفيتك؛ ستحتاج إليها.» «سأحضر ربطة عنق! إننا في شهر مارس!» «لا يزال الجو باردا. أحضر كوفيتك. ستساعد في حفظك من تدهور الصحة ذاك.» «يا لاهتمامك الكبير بتدهور صحتي، أنت وأقحواناتك . دائما ما كانت عائلة جرانت حقيرة. حفنة من الحقراء البائسين. أنا مسرور جدا لأنني أنتمي لعائلة رانكن، ومسرور جدا لأنني لست مضطرا لارتداء قماش الطرطان الأحمر المريع الذي ترتديه عائلتكم.» كان إزار بات الأخضر المهترئ بنقش عشيرة ماكنتاير، وهو ما كان يتماشى على نحو أفضل مع شعره الأحمر من نقش عشيرة جرانت الزاهي الألوان. كان هذا النقش يعود لأم تومي، وكونها عضوة صالحة في عشيرة ماكنتاير، كانت مسرورة لرؤية حفيدها يرتدي ما أطلقت عليه «لباسا متحضرا».
سار بخطى متثاقلة إلى المقعد الخلفي من السيارة، وجلس وصدره يجيش بمشاعر مكبوتة، وألقى «ربطة العنق» غير المرضي عنها متنصلا منها فتكومت في أقصى طرف المقعد.
ناپیژندل شوی مخ