وافترقنا في الثانية صباحا على موعد أن ألقاه في الصباح.
وحين أصبحت وحدي في الحجرة الضيقة التي عثرت عليها في ازدحام فنادق مدريد بمثل ما تعثر على الإبرة في كومة القش، حجرة مليئة بصور القديسين، وهناك صورة كبيرة نوعا للعذراء أسفلها مصباح كهربائي، ولكن بلاتينه الداخلي يضيء بنور أحمر خافت على هيئة صليب، جعل حركة رسم الصليب قبل الدخول إلى الساحة تعود تدق على ذاكرتي وتدق. حين احتوتني الحجرة شعرت برغبة في البكاء، رغبة لا علاقة لها البتة بحادث اليوم، ولكنها مجرد شجن خاص وضيق. ولكنني استسخفت الرغبة، بل استسخفت المسألة كلها. ما هذا الجنون؟ ولماذا أحمل وحدي تلك الجنازة السوداء الخانقة في صدري؟ وهل أنا مسئول عن أرواح الناس وما يحدث لهم؟ وماذا كان باستطاعتي أن أفعل ولم أفعله لأوقف الكارثة؟
إن ما حدث قد حدث، وإذا كان الناس قد نسوه وتفرقوا بعد الاحتفال إلى لهوهم وحياتهم، بينما مضت به وحده عربة الإسعاف بين الموت والحياة إلى المستشفى؛ فتلك هي لا بد سنة الناس هنا، بل هي سنة الحياة! فليس مفروضا أن تتوقف لأن أحدهم مات أو أصيب ولو كان الميت بطلا.
خواطر وردود على الخواطر كنت أقولها لنفسي محاولا أن أبعد شبح ما حدث عن تفكيري، محاولا أن أبعد هذا الإنسان النحيف الرقيق عن وعيي بلا جدوى، كانت الصور تعود وتصر على العودة كنتف متفرقة من فيلم طازج لا تزال عالقة به أملاح التحميض، ونمت.
وفي الصباح صحوت، وكان أول ما فعلته بعد تناول الشاي في المقهى القريب أني اشتريت الجرائد ورحت أقلب صفحات أولاها إلى أن وصلت إلى ما خيل إلي أنه صفحة الرياضة، وأنا لا أعرف الإسبانية، ولكني من جذورها المشتركة مع الإنجليزية والفرنسية استطعت التعرف على الخبر. كان في ركن من الصفحة بعنوان على ثلاثة أعمدة ولم أجد فيه ذكرا لكلمة الموت.
وفي جريدة ثانية كان الخبر منشورا على عمود في الصفحة الأولى ومعه صورة، ومرة أخرى عاودتني خيبة الأمل. كنت أتوقع أن أصحو فأجد الخبر قد عم المدينة، ولا حديث للناس والجرائد إلا عنه، وها هم أناس يزدحم بهم المقهى يتناولون إفطارهم في صمت جاهل وقور.
«الفصل الأخير»
غادرت المكان تاركا الجرائد ما عدا إحداها، تلك التي ذكرت عنوان المستشفى الذي يرقد فيه، ومضيت أسير في الشوارع بلا هدف وقد قررت أن أخلف موعدي مع عوض.
كانت الشوارع مزدحمة بأناس كثيرين أيضا؛ آلاف الناس الصغار الكثيرين ماضين مكهربين مكربجين إلى أعمالهم دون كلمة واحدة عما حدث بالأمس وعن الميتادور الصريع.
وفجأة قررت أن أذهب إلى المستشفى، ورمقني سائق التاكسي بنظرة مستطلعة وأنا أشير إليه دون أن أنطق إلى العنوان المكتوب في الجريدة وقد وضعت تحته خطا، وفي الطريق قال كلاما كثيرا بالإسبانية ممزوجا ببعض كلمات إنجليزية - لا بد علمه إياها التعامل مع الأمريكان - كلاما فهمت منه أنه يعلق على ما حدث للميتادور ويريد رأيي، واكتفيت بهز رأسي، وحين يئس غمغم ببضع كلمات خمنت أنها لا بد سباب.
ناپیژندل شوی مخ