وكل حركة من المصارع يحشد لها كل طاقته المشتتة، ويضع فيها كل حذقه ليرد بها على الهجوم، وكل حركة كهذه تصدر عنه ولا تظفر من الجمهور بتحية أو ترتفع لها «أوليه» تزيد الموقف تعقيدا والأعصاب المشدودة توترا.
يظل الميتادور هكذا واجف القلب فاقدة الثقة ضائعا بالكاد يستطيع التماسك والوقوف، خائفا من الثور خوفا يضيف إلى وجهه كل جزء من الثانية طبقة صفرة جديدة، يظل هكذا إلى أن يحدث ويأتي بحركة رد يخرج بها من مأزق وعر، فتفلت من الجمهور رغم عنه آهة الاستحسان الأولى. فقط حين تتصاعد هذه «الأوليه» الأولى، وتصاعدها بالمناسبة ليس أمرا سهلا؛ ففي دقائق البداية يقف الجمهور دائما من الميتادور موقف المتحفظ الكابح لجماح انفعاله بحيث يظل بإرادته يؤجل إظهار استحسانه إلى حركة أروع وأخطر.
وإذا ترك الأمر لإرادته فمن المحتمل جدا أن تنتهي المصارعة دون أن تظهر بادرة استحسان، ولأن إظهارها أمر مهم وهو الذي يجعل المصارعة تحمى والمصارع يقوى وينتصر. بغير مشاركة هذا العنصر المهم فلن توجد اللعبة أو قد توجد على هيئة محاورات باردة لا تثير أية متعة أو انفعال؛ ولهذا فصيحة الاستحسان الأولى تأتي دائما لا إرادية، أكثر من هذا، تأتي رغم إرادة الجمهور الكابت لرغبته كلما انتابته الرغبة لإظهار الاستحسان.
هذه «الأوليه» الأولى هي الشرارة التي تحدث وتضرم النيران.
فعلى أثرها تنتهي تماما كل مظاهر اضطراب البداية ويتحول المصارع من طرف سلبي همه أن يدافع عن نفسه ضد هجمات الثور حتى وإن بدا أنه هو الذي يستفزه للهجوم، إلى الطرف الإيجابي الذي يسيطر على المصارعة ويحركها ويزيد سرعتها ويبطئها. الطرف الذي يحرك الثور في الاتجاه الذي يريد، فيضيق عليه الخناق أو ينصب له الشرك، صاحب اليد العليا.
وهنا وحين تتخطى مرحلة الميوليتا هذا الطور الأول ينسى الميتادور شكله المتكبر المترفع الذي يحب أن يبدو به أمام الثور وأمام الناس، ويبدأ يتحرك بحرية وبلا أي تقيد بالمظهر، وهمه كله أن يستغل قدرته على التحرك السريع وخفته كي يتغلب بها على شدة مراس خصمه وقدرته الجبارة على الجري والاندفاع.
وهكذا مضى صديقي الميتادور وكل أعصابي وانتباهي وتركيزي قد أصبحت جميعها معه وكأنني أخوض المعركة بجواره. مضى يحاور الثور الذي بدا، بارتفاع منطقة أكتافه الأمامية وعنقه ورأسه عن بقية جسده، كأسد بقري متوحش أحضر لتوه من الغابة. أسد لم يتكفل جسده العاري من كل فروة أو شعر بتخفيف حدة مظهره أو كتلته، وكأنه مصنوع من صخر أسود كثيف ثقيل أو من حديد حي، الضخم ضخامة لا بد تبعث على الدهشة والذهول إذا قورنت بسرعته وقدرته على الاندفاع من الصفر إلى سرعة أكثر من المائة كيلومتر فجأة، وقدرته الأخرى الخارقة على التوقف فجأة أيضا، والهبوط من المائة إلى الصفر مرة واحدة. وليس توقفا فقط، ولكنه التوقف والدوران دورة كاملة ثم معاودة الاندفاع من الصفر إلى المائة، وكل هذا يحدث في لمح البصر ويصدر عن هذه الكتلة الثقيلة الرهيبة الضخمة.
وفي مقابله كان صديقي الميتادور عوده له مثل رشاقة ملامحه. ليس فارع الطول ولكنك لا تحس به قصيرا، وساقاه تبدوان في سرواله الضيق اللاصق بهما رفيعتين كنبوتين من نبابيت «الصعايدة» عندنا، ولكنهما أيضا تبدوان غير هشتين بالمرة وكأنما صنعتا من خشب الرمان، سريعتي الحركة بطريقة لا تكاد تراهما وهما تتحركان حتى لتظهرا وكأنهما ثابتتان، ولا وجه للمقارنة بين حجمه وحجم الثور. لا يكاد حجمه أو وزنه يعادل طرفا واحدا من أطراف الثور الأربعة، ولعل هذا ما كان يدفع الثور إلى الجنون وإلى الهجوم بجنون على ذلك الشيء الصغير الواقف أمامه في الساحة يتحداه، ويقف إذا هاجمه ولا يهرب منه أو يخاف، مستغلا الفارق البسيط الذي ميزته به الطبيعة أبرع وأروع استغلال؛ فالثور رغم كل جبروته وضخامته يتحرك على أربع، مسألة قد تبدو غير مهمة إذا كان الثور منطلقا في جريه إلى الأمام، أما حين يتطلب الأمر استدارة أو انحرافا أو تغييرا للاتجاه تصبح الأطراف الأربعة كارثة معوقة، ويبدو الثور عندها وكأنه العربة بلا «دركسيون» إذا كان عليها أن تنحرف فلا بد أن تصنع قوسا كبيرا .
وإذا كان عليها أن تستدير لا تفعل هذا بنقطة كما يفعل الإنسان في الطريق. إنه يستدير في دائرة، ويغير اتجاهه بمنحنى، وينحرف بقوس، ولا يملك كما لا يملك كل بني مملكته إلا أن يفعل هذا إلا إذا ملك القطار أن يتحرك بلا قضبان.
وعلى هذه النقطة التي تبدو بسيطة هينة بنيت لعبة مصارعة الثيران بكل مهرجاناتها وتاريخها وآلاف السياح الذين يأتون من آلاف الأمكنة وينفقون آلاف الملايين من الدولارات لرؤيتها. أجل قدرة الإنسان على أن يستدير حين يريد في نقطة وعدم قدرة الثور على الاستدارة إلا في دائرة. هذا الفرق بين النقطة والدائرة، بين المركز والمحيط، هو الذي يصنع منطقة الأمان التي يحتمي بها المصارع ويضمن ضمانا أكيدا ألا يمسه الثور طالما هو داخلها لا يتعداها. وكل ما يفعله ليحقق هذا الغرض أن الثور حين يقبل مهاجما وهدفه العباءة الحمراء يظل المصارع واقفا في مكانه ثابتا إلى أن يصبح الثور على مسافة نصف قطر الدائرة التي يصنعها الثور إذا دار حول محوره؛ أي الدائرة الكائنة بين ساقيه الأماميتين والخلفيتين. على المصارع أن ينتظر إلى أن يصبح الثور منه على هذه المسافة؛ لأنه لو تحرك والثور على بعد أكبر ففي استطاعة الثور أن يغير اتجاهه وينحرف ويصيبه، أما حين تكون بينهما هذه المسافة وينحرف المصارع فإن الثور إذا انحرف فهو لا يستطيع مطلقا أن يصل إليه أو يصيبه؛ لأن الثور حينئذ يكون قد اجتاز المكان الذي انحرف إليه المصارع حتى أصبح المصارع يواجه منتصف بطنه. وبفرض أن الثور استطاع أن يوقف اندفاعه فورا فهو لا يملك أيضا أن يصيب الرجل، وعليه لكي يفعل أن يستدير ليواجهه برأسه.
ناپیژندل شوی مخ