عملية قتل تجعل الجماهير تفيق وتختفي من أمامها العناوين البراقة والحجب وكل ما يجعل من مصارعة الثيران رياضة تجذب وتثير الانفعال، ويبدو الأمر في النهاية على حقيقته العارية البشعة. إنه ليس سوى عملية قتل، الإنسان فيها هو الذي يتولى ذبح الثور، ويفعل هذا على مشهد من ثلاثين ألف متفرج. عملية ترعاها الدولة وتنظمها وتدعو لها في كل أنحاء العالم ليأتي السياح آلافا وأفواجا وينفقوا الإسترليني والدولار، وتمتلئ خزائن البنوك الخاوية، وفي إسبانيا بنوك كثيرة أكثر من البنوك في أي مكان آخر من العالم، ومع هذا فهي على حسب إحصاءات هيئة الأمم المتحدة أفقر بلاد أوروبا . آلاف السياح وملايين الإسترليني والدولارات التي تضل لأمر ما طريقها إلى جيوب الفقراء، وتتكدس في خزائن البنوك ولدى أصحاب البنوك وزبائنها وروادها، ويحدث هذا كله بثمن أن يقوم إنسان يرتدي ملابس مزركشة وسط ضجة ومهرجان واحتفال وموسيقى بذبح ثور وإسالة دمائه، ذبحا مؤلما أشد الألم يتأوه له الرجال ويكاد يغمى على النساء! الشاب الذي كان يجلس أمامي أخفى رأسه كالطفل المذعور بين ركبتيه، والإسباني جاري انهمك في مسح عرقه الذي مضى ينزف بغزارة، وجارتي الحسناء أخرجها المشهد من كل تصلبها الخجل وجمودها، ومن الحمرة القانية شحب وجهها حتى أصبح في صفرة العلم الإسباني. وبدأت أسنانها تصطك، بينا سيدة سمينة أمامي بصفين مضت تحملق في المشهد وهي في حالة استسلام كامل. بدا هذا واضحا من طريقة مضغها للبانة حيث لم تتوقف عن المضغ، وكلما وجهت الطعنة إلى الثور ونخ بنصفه الأمامي ألما، وتفجر الدم يبلل الرمال ويصنع منها طين الدم البني، ويلوث بعضه ملابس الميتادور الأنيقة، أطالت الفترة بين مضغة اللبانة والمضغة التالية، وبينما سيد مهذب جدا في نفس صفها يبتسم وعيناه لا تتحولان عن المشهد، وبالأصح كانت ملامحه قد توقفت على هيئة وجه مبتسم استغرقته المشاهدة وشغلته إلى درجة لم يجد لديه وقتا أو بالا لمجرد تغيير ملامحه.
مشهد لا يحرك إلا الألم البشع! يحركه استنكارا وضيقا واحتجاجا عند أناس، وعند أناس آخرين يحرك المتعة بالألم. أدنأ الأحاسيس وأكثرها خسة وشذوذا. ذلك الاستعذاب للألم والرغبة في إطالته والاستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشهيد في النهاية ثور، ذلك الثور مثلا، ذلك الذي لم يلبث تحت وقع الطعنات الكثيرة أن ارتمى على الأرض مجهدا وحسبوا أنه مات، ولكنه ما لبث أن وقف مرة أخرى وكأنه بسبعة أرواح، وحاصروه وبدأ الميتادور يلوح بعباءته استعدادا لجولة طعن أخرى. وبدأ الجمهور يتأوه مقدما وبصوت عال مسموع، ولكن الثور لم يلبث أن تهاوى على جانبه لآخر مرة، وبقي في مكانه صريعا لا يتحرك.
الفصل الثامن
ومن ساحة صامتة كئيبة مليئة بالخزي والتقزز والندم والاشمئزاز ، وكأنما الجميع حتى المشاهدين قد ساهموا منذ هنيهة في ارتكاب جريمة خلقية شاذة. انسحب المصارعون كلهم حتى ذلك الذي ذبح الثور، فلا انتظار لتحية هذه المرة أو زهو. حسبه أنه سيخرج قبل أن يفطن إليه الجمهور وينفجر قاذفا إياه بكل ما في متناوله. كان الجمهور لا يزال يحيا مع الثور المقتول وكأنما يقيم له جنازة تلقائية سريعة، يتذاكر فيها كل ما أبداه خلال المصارعة من ألوان القوة، وبطريقته الخاصة. الصمت، يؤنبه.
وجاءت الخيول الأربعة، وأحكم وضع الحبل على قرونه، وبدأت تجره خارج الساحة، ومن أعماق الصمت المخيم اندفع فجأة مواء، هذه المرة عميق وحقيقي لا سخرية فيه ولا صفير، وظل يشيع جثة الثور حتى غابت بخيولها خارج الساحة. كان المواء استهجانا لمقتله، الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الجمهور في وقت كهذا أن يبدي سخطه ويصدر حكمه، الحكم بانتصار الثور الميت على الميتادور الحي، طريقة خيل إلي من صراحتها وصرامتها وقسوتها أن الميتادور لحظتها لا بد فضل ألف مرة لو كان هو الميت بهذا التمجيد على أن يكون هو الحي بكل ذلك الاستهجان. وأي إنسان مكانه كان رغما عنه يتمنى أن يصبح الميت المنتصر، ولا يبقى للحظة واحدة ذلك الحي المهزوم.
إن الهزيمة علنا وأمام الملأ هكذا وبحكم جماعي يصدره الآلاف مرة واحدة ومباشرة، الهزيمة التي لا تقبل جدلا ولا تملك أن تبررها حتى لنفسك، وما يصاحبها من ذل وخزي أكثر إيلاما من أي شيء آخر على سطح الأرض، أكثر إيلاما من الموت نفسه. إن فقد الحياة أهون بكثير من الحياة مع معاناتها.
ويا للمصارع المسكين! إنه إذا لزم جانب الحرص على نفسه ليخرج من المباراة سليما معافى لم يرحمه الناس، وإذا أراد إرضاء الناس واقترب كثيرا من الخطر لن ترحمه قرون الثور وأظلافه. للصدف جاءت وقفة الميتادور المهزوم وراء العارضة الخشبية القريبة مني، ولمحته يمسك بأعلى العارضة وكأنما يعلق أو يشنق نفسه منها، بينما جسده قد تراخى وتثنى ورأسه شبه متدل على صدره. كان يبدو كالمطعون سواء بسواء ، طعنة قرون أقسى من قرون الثور وأمر، قرون جمهور غاضب أصابته في الصميم وجعلته يتألم، ليس ألم المجروح فلم يكن هناك جرح أو دم، ولكنه ألم أشد وأعتى؛ ألم الهزيمة!
كان ما يحدث وما أراه جديدا علي تماما مروعا، لكأني في عالم مسحور وبين قوم ذوي قيم وحياة غريبة على عالمنا تماما، أو على الأقل غريبة على بلادنا في شرق البحر الأبيض وجنوبه.
إن الحياة هنا لها معنى مختلف اختلافا جذريا. لقد ربينا على أن أصح وأهم ما يمكننا عمله هو أن نحيا ونظل نقاوم الظروف والأعداء كي نبقى على قيد الحياة.
ولعل الأمر كذلك في إسبانيا نفسها وفي كل الدنيا، ولكن هنا في هذه الساحة يحاول الناس أن يخلقوا عالما آخر مختلفا عن العالم في الخارج وفي كل مكان. عالم الهدف فيه ليس أن تحيا أو تحافظ على وجودك، الهدف أن تنتصر بحيث تحل كلمات النصر أو الهزيمة محل كلمات الحياة أو الموت، وبحيث تختلف كل المقاييس تبعا لتغيير هذه القاعدة الأساسية من قواعد الوجود. وكأن الناس هنا لم يستطيعوا أن يغيروا هذه المقاييس في حياتهم العادية، فابتكروا مصارعة الثيران أو تبنوها وجعلوا لها ساحة، و«أرينا» ومتحفا وعالما كاملا يدخلونه ليحيوا ولو لبضع ساعات كل أسبوع بهذه المثل والقيم، وبدلا من أن تقرأ كتابا يروي لك قصة بطل لا يهمه الموت أو الحياة بقدر ما يهمه الهزيمة أو الانتصار، وبدلا من أن تدخل دارا للسينما أو مسرحا تطفأ فيه الأنوار وتعيش أو تقنع نفسك أنك تركت عالمك المليء بالضعف والانهيار وملايين الناس المتشبثين بحياتهم - وأنت منهم - تشبث المستميت، وأصبحت في عالم آخر، عالم مخلوق من أناس أبطال لا يترددون أمام أي صراع أو خطر، يخوضونه وينتصرون فيه أو يهلكون دونه. بدلا من هذا أوجد الإسبان لأنفسهم هذا المسرح الحي الذي يضم كائنات من الأحياء. مسرحا لا يخدعونك بتمثيل الصراع فيه، ولكنك تجد نفسك أمام صراع حقيقي لا تمثيل فيه ولا تمويه. الجماهير المطحونة المهزومة في حياتها اليومية، المتمسكة بالحياة رغم تفاهتها تمسكا مستميتا لا يخلصها منها سوى قوة قاهرة جبارة كالموت، هذه الجماهير تدخل الساحة لتشهد أناسا يستخفون بالحياة إلى درجة السفه، إلى درجة البطولة في سبيل أن ينتصروا؛ ولهذا فالمصارع لا ينظرون إليه نظرة تمجيد منفصلة عنهم. إن كلا منهم يخوض الصراع المخيف من خلاله! ويرسل كل منهم خيطا من ذات نفسه وروحه لتتجمع آلافها وتلتقي عند المصارع، وبنفسه وبها يخوض المعركة، يخوضها أساسا لحسابهم وكأنهم أنابوه عنهم ليقوم بالعمل البطولي العاجزين هم عن القيام به؛ ولهذا أيضا فما أشد نقمتهم عليه إذا لم يقم بعمله كبطل، إذا عمل حسابا لكيانه المستقل، ومحافظة عليه تهاون في القيام بالبطولة التي وكلوا إليه أمرها.
ناپیژندل شوی مخ