ولم تأخذ صحيفة واحدة بناصر السيد «البكري» في هذا الموقف؛ لأن الصحف الإسلامية لا تغضب الأمير من أجل شيخ الصوفية، ولأن الصحف غير الإسلامية لم تشأ أن تتعرض لمسألة من مسائل الدين.
إلا صحيفة «الدستور» التي كان يصدرها «فريد»، فإنها أخذت بناصر «البكري»، وهو من غير المقبولين عند صاحبها؛ لاختلافهما في المسلك والسيرة، ولكن صاحب الدستور نظر إلى شيء واحد في هذا الخلاف، وهو أن مظاهر الطرق الصوفية بدعة لا يستحسنها، وأن الأمير لم يكن على حق في غضبه على شيخ الطرق لمنع حضورها.
وتتم هذه الخصلة الفريدة في صاحب الدستور صباح اليوم التالي ليوم خروج المحمل، فقد اطلع «البكري» على الصحيفة فأرسل إلى صاحبها بمبلغ من المال كانت في أشد الحاجة إليه، فلم يقبل منه «فريد وجدي» غير قيمة الاشتراك لعام واحد، ثم رد إليه البقية قبل أن ينتصف النهار.
ولقد كانت أزمة الصحيفة أثرا من آثار «المبدأ» الذي لا ينحرف عنه الرجل قيد شعرة، وهو الجهر بالرأي، ولو خالف القوة والكثرة وخالف أحب الناس إليه، وقد كان من رأيه عند تأليف الحزب الوطني أن يكون تبليغ تأليفه والاحتجاج على الاحتلال عاما غير مقصور على الدولة البريطانية، فلم يقبل «مصطفى كامل» مقترحه، ولم يسكت «فريد وجدي» عن تأييد رأيه، فانصرف قراء اللواء عن قراءة الدستور، ولم يكن للدستور قراء من الشيع السياسية الأخرى، فكسدت الصحيفة وعجزت عن النهوض بتكاليفها، ولم يقبل صاحبها أن يعوض الخسارة بالمعونة المعروضة عليه من الجهات السياسة التي لا يوافقها.
ومن المعونات التي عرضت عليه في أحرج أيام الأزمة معونة كبيرة من جماعة «تركيا الفتاة»، يبذلونها للدستور مشاهرة ليكون لسانا عربيا لحركتهم الدستورية، ولكن على شريطة واحدة: وهي أن يرفع من صدر الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية»، فرفض الرجل هذه المعونة، ورفض أن يجعل صحيفته لسانا للحزب إلا بشروطه التي يرتضيها، ولو وافق الحزب على بقائها لسانا للجامعة الإسلامية .
وفي الوقت الذي كانت هذه المعونات تعرض عليه من شتى الجوانب - ومنها جانب الحاشية الخديوية - كان الرجل يتحامل على نفسه وعلى القليل من موارد مؤلفاته، لينفق عليها بعد تصغير صفحاتها واختصار أعدادها، فلما استنفد كل ما قدر على إنفاقه في هذا السبيل أعلن تعطيلها وهو مدين لتاجر الورق وموظفي التحرير والإدارة بمقدار غير يسير، فأبت عليه نزاهة النفس أن يؤخر مليما واحدا لصاحب دين، واتفق مع تاجر الورق على استخلاص دينه من مؤلفاته بثمن يقل أحيانا عن عشر ثمنها في المكتبات، ومنها على ما نذكر معجمه المسمى بكنز العلوم واللغة، وثمنه مائة وعشرون قرشا، فاتفق على حسبانه بثلاثة عشر قرشا، واشترط على التاجر أن يشتري النسخ التي تصرف للموظفين بما بقي لهم من متأخر الأجور والمرتبات، وحضر بنفسه تسليم النسخ واستلام الأثمان.
هذا هو الرجل الفريد في نزاهة نفسه واستقامة خلقه وحفاظه على مبدئه ورأيه.
وهو كذلك، أو أكثر من ذلك انفرادا بين كتاب عصره بجهوده في مؤلفاته، فلا نعرف أحدا منهم توفر وحده على تأليف «دائرة معارف» كاملة، ولا على التأليف في تفسير القرآن وفي معجمات اللغة والعلم، ولا على الجمع بين الدراسات الدينية والقصص الخيالية، ولا على الاستقلال وحده بإصدار صحيفة يومية، ولم يكن معه من المحررين غير كاتب هذه السطور، ولو استطاع وحده أن يؤدي أعمال التحرير خارج المكتب، ومنها الأحاديث وأخبار الدواوين، لاستقل وحده بالإدارة والتحرير.
وأشرف ما يكون صاحب المبدأ إذا كان استقلاله برأيه لا يأبى عليه أن يعرف لغيره حقهم في الاستقلال بما يرون.
وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبا ناشئا، خامل الذكر، ليس لي بحق الشهرة أن يكون لي رأي مستقل مسموع، ولكني كنت أخالفه في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسية وبعض معتقداته عما وراء المادة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطني من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثا ينفي كل ما يعزوه إليه كتاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنني لمحت منه عند أشد المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء.
ناپیژندل شوی مخ