وخطر للطفي السيد أن يحبط هذه المكيدة بعد أن جهرت بها الصحف الموالية للقصر، ومنها «المؤيد» الذي كان له وزنه ونفوذه في الصحافة العربية.
قال «لطفي السيد» مدافعا عن رأيه: إنه يدعو إلى استقلال مصر ولا ينكص عن هذه الدعوة، ولكن التمام غير الكمال، وقد يقال إن الطفل إنسان تام، ولكن الإنسان الكامل لا وجود له بين الأطفال ولا بين الكبار، وكان من حجته التي أعدها للدفاع عن رأيه أن بقاء الخلافة لا يقتضي أن تكون مصر مسلوبة السيادة، ولا أن يكون استقلالها ناقصا غير تام.
وشاءت المصادفات في دراسات المجمع أن تعرض مسألة الفرق بين التمام والكمال، وأن أذكر رئيسنا برأيه القديم، فابتسم وقال: لعله من الوجهات السياسية رأي مقبول، ولكنني لم أندم على شيء ندمي على ذلك التفسير الذي أحبطت به دسيسة القوم، ووددت لو أنني تركتهم يدعون ما يدعون ولم ألحق مبدأ «الاستقلال التام» بأي تفسير.
وبقي الرجل على شعار «مصر للمصريين» ومبدأ «الاستقلال التام» بغير تفسير، وكان هو ثالث ثلاثة وضعوا صيغة توكيل الوفد في طلب الاستقلال التام، أما الاثنان الآخران فهما صديقاه «عبد العزيز فهمي» و«سعد زغلول»، ولولا أنه لم ينتخب عضوا للجمعية التشريعية، لكان ثالثهما في زيارة دار الحماية للمطالبة بإلغاء الحماية البريطانية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، مع إنكار السيادة العثمانية والحماية البريطانية على السواء.
المرشح الديمقراطي
وقصة سقوطه في انتخابات الجمعية التشريعية إحدى أعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها من جراء المناداة بالحقوق الديمقراطية؛ إذ كان منافسه يشيع عنه أنه يطلب للمرأة الحق في الجمع بين أزواج أربعة؛ لأنه يطلب لها المساواة الديمقراطية، ويسألونه: هل أنت حقا من طلاب الديمقراطية؟ فيجيبهم بالتأكيد ويعيد لهم الشرح من جديد.
ومما أذكره أنني ذهبت إلى مكتبه بالجريدة لمؤاساته في هذه الخيبة المؤسفة، فوجدته قد تلقاها بصبر الحكماء وفكاهة العظة والاعتبار، وهو لا يخفي إعجابه بذلك «الريفي» الماكر الذي غلبه باسم الديمقراطية! ثم حضر «الشيخ طه حسين» وأنا عنده، وكان شابا يلبس العمامة لا يزال، فإذا بالأستاذ يتبسط معه ويعزيه؛ لأن زميله في ترجمة بعض الكتب - الأستاذ «محمد رمضان» - قد خرج بمثل هذه الهزيمة من معركة الانتخاب، وكان الشاب «طه حسين» كفؤا لهذه الدعابة، فكان جوابه للأستاذ: إنني أتقبل التعزية ولكنني أرجو يا أستاذنا ألا ترفضها!
وهذه الديمقراطية التي نادى بها لطفي السيد - فكرة وقولا - قد عاش لها وعاش بها عملا وإيمانا، وقد كانت هي الطابع الذي طبع عليه بمزاجه قبل أن يطبع عليه بتفكيره ودراسته، ولم تمنعه شيمته التي تتمثل فيها كل خلائق الوجاهة الفطرية أن يكون «أرستقراطيا» بالشكل ديمقراطيا بالموضوع، إذا جاز هذا التعبير.
كان هذا الرجل الممتاز بشخصيته وخلقه فكرة في حياة، أو حياة ملكتها الفكرة في خاصة شأنه وعامة عمله وقوله، وإخالنا نقيمه في مقامه الوطيد بين مفكري العصور حين نقول إنه في عصرنا هذا زميل عربي «لأرسطو» اليوناني، تجدد مع الزمن في مدرسة الثورة الفرنسية؛ مدرسة «فولتير»، و«روسو»، و«مونتسكيو». وعاش بعدهم فتقبل من حكمة العصر ما كانوا يتنزلون إلى قبوله من حكمة القرن العشرين، ولكنه لم يزل بعد منتصف هذا القرن العشرين على نمطه السلفي الأفلاطوني، فكرا في إهاب إنسان.
حول مذكرات عبد العزيز فهمي
ناپیژندل شوی مخ