في مرة من المرات دق الجرس رجل سمكري، واكتشفت أثناء وجوده أن إحدى الحنفيات تحتاج إلى جلدة حتى لا يتسرب منها قطرات الماء، وأخرج الرجل أدواته العديدة (تشبه أدوات الطبيب الجراح)، وأخذ يفحص الحنفية طويلا ثم قال في النهاية إنها لم تعد تصلح ولا بد من تركيب واحدة جديدة. وتذكرت الرجل السمكري في مصر الذي كلما أطلبه ليضع جلدة في الحنفية يقول لي إنه لا بد من تركيب حنفية جديدة، وبالطبع يطلب ثمنا باهظا، تذكرت ذلك وقلت للسمكري الهندي: لا ، هذه الطريقة أنا أعرفها من مصر. وضحك الرجل الهندي؛ لأنني اكتشفت حيلته ووضع الجلدة في الحنفية نظير أجر بسيط. •••
أحب التجول في الأحياء الشعبية، وأعشق السير في حواريها والتفرج على الدكاكين الصغيرة وزحام الناس والأصوات والروائح القوية المنبعثة من كل مكان. ولكني حين أسكن أفضل في حي هادئ بعيد عن الأصوات والزحام. وقد شاركت زوجي شقته الصغيرة في ذلك الحي الهادئ «ديفينس كولوني»، لكن الهدوء هنا لا يعني الهدوء الكامل؛ إذ ما إن تشرق الشمس في الصباح الباكر حتى تهب العصافير من أوكارها فوق الشجر وتبدأ تشدو بأصوات حادة عالية يشترك فيها عدد هائل من العصافير. في مصر حينما كنت أسمع عصفورا يشدو يطرب قلبي من الصوت الرقيق العذب، ولكن حينما يصبح هذا الصوت الرقيق العذب مضاعفا مئات المرات فإنه يفقد رقته وعذوبته ويصبح كصراخ النسور. إن أعذب الأصوات تصبح مزعجة إذا زادت عن الحد. العصافير هنا في الهند كثيرة وجريئة، وأحيانا تبلغ جرأتها أن تطير فوق رأسي وتخطف الخبز من يدي، إن جرأتها لا تقل عن جرأة البقر الذي يرعى في الشوارع ويسير بين العربات السريعة بغير وجل ولا خوف؛ وسبب ذلك هو أن الهنود يحترمون كل الكائنات الحية ولا يتعرضون لأي نوع منها بأي أذى.
حينما تكف العصافير قليلا عن الصياح يبدأ صياح الباعة الجائلين الذين يطوفون بالبيت حاملين فوق رءوسهم وعرباتهم مختلف أنواع الخضروات أو الفاكهة أو أية سلعة أخرى، وأيضا يطوف رجل الروبابيكيا مناديا: كبادي وله! («وله» باللغة الهندية تعني «ولد» أو «رجل»)، وحينما يكف الباعة قليلا عن صياحهم يأتي ذلك الرجل ومعه القرد أو الثعبان ويطوف بالبيوت مغنيا الأغاني الهندية أو نافخا في المزمار، ويرقص القرد على النغمات ويقوم الثعبان بألعاب بهلوانية، وتطل النساء من شرفات البيوت ويقذفن له بعض النقود، وأحيانا لا يكون المغني رجلا واحدا وإنما فرقة بأكملها من المغنين بالمزامير ودقات الطبول وحركات القردة والثعابين وقد يصاحبهم في جولاتهم فيل يركبه رئيسهم، أو ذلك الحاوي الذي ينام فوق المسامير ويأكل النار ويطير في الهواء فوق ملاءة كالبساط السحري.
لقد وجدت أنني لست في حاجة دائما إلى أن أخرج من بيتي لأتعرف على الهند؛ لأن الهند تأتي إليك بنفسها حتى باب بيتك، لكن ليس هذا إلا وجها واحدا من وجوه الهند، وكم تحتوي الهند على وجوه متعددة متباينة! •••
كنا في شهر يناير، والجو في نيودلهي كالربيع في مصر؛ الشمس دافئة حنون، ونسمة الهواء منعشة لا هي حارة ولا هي باردة. لا تكاد تحس ملمسها على جسمك، كأنما هي من درجة حرارة الجسم، كنا ننتظر في مطار «دلهي» الطائرة التي ستقلنا إلى جنوب الهند حيث منطقة مزارع الشاي، زوجي يقرأ جريدة التايمز الهندية وأنا أرقب حركة الناس من المطار. المطارات بصفة عامة كالعواصم، أمكنة عالمية تختلط فيها كل الأجناس وكل الألوان وكل اللغات. بمعنى آخر: هي أمكنة بغير جنس وبغير لون وبغير لغة؛ ولهذا السبب تبدو جذابة وقبيحة في نفس الوقت، جذابة لأنها تحطم كل الفوارق بين الأجناس والألوان واللغات والطبقات، وقبيحة لأنها بغير شخصية تذوب فيها (بما في ذلك وجهي أنا) في وجه واحد ليس له ملامح معينة.
على أن مطار «دلهي» له شخصية مميزة. لا أدري لماذا، ربما بسبب النساء الهنديات ذوات «الساري» والنقطة الحمراء في منتصف الجبهة، وأيضا أبواب المطار الزجاجية عليها نقطة حمراء في منتصف كل باب. لم أكن أعرف سر تلك النقطة الحمراء، لكني عرفت من بعد أنها بقايا عادة هندية دينية، ثم أصبحت من الزينة للنساء أو الرجال في بعض مناطق الهند.
حلقت بنا الطائرة الهندية في السماء الشاسعة الممتدة فوق أرض الهند المترامية الأطراف، حجم الهند يساوي حجم مصر 36 مرة، وتطير بك الطائرة بالساعات لتصل من بلد إلى بلد داخل الهند.
هبطت الطائرة في مدينة «مدراس» جنوب الهند، وعرفت أنني أصبحت على خط الاستواء وتحت قرص الشمس مباشرة؛ بسبب تلك الحرارة الشديدة والرطوبة التي تميز جو المناطق الاستوائية، تخففت من بعض ملابسي وبدأ العرق يتساقط من وجهي، رأيت الوجوه في جنوب الهند شديدة السمرة تشبه وجوه الناس في أفريقيا الاستوائية، لولا أن تقاطيع الوجه هنا دقيقة: الأنف مرتفع دقيق ومدبب، والشفتان رقيقتان، والشعر أسود ناعم وليس مجعدا، والعينان تلمعان في الوجه الأسمر الجذاب.
سرنا على شاطئ بحر مدراس وهو جزء من المحيط الهندي، ولم ينجح هواء البحر في تخفيف حدة الحر إلا قليلا، لست ممن تعودوا الحرارة الشديدة مع الرطوبة الشديدة؛ ولهذا أشعر بنوع من الاختناق في المناطق الاستوائية، وتبدو لي الأرض كأنما تحولت إلى قطعة من جهنم بغير نقطة هواء.
أسرعت ناحية السيارة التي ستقلنا إلى مناطق مزارع الشاي فوق الجبل، هدأت أنفاسي قليلا وجف العرق حين بدأت السيارة تصعد فوق الجبل، أصبح الهواء منعشا محملا برائحة الأشجار والزهور الاستوائية من كل نوع ولون، السيارة الهندية الصغيرة تتبع الطريق الجبلي اللولبي، وعند كل ثنية في الطريق يدوس السائق الهندي الأسمر على البوق؛ فالمساحة ضيقة ومن السهل أن تصطدم العربة بأي من هذه اللوريات التي تهبط الجبل محملة بالشاي.
ناپیژندل شوی مخ