كان المؤتمر ضخما، وكله من النساء، نظمه الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، أكثر من ألف امرأة يمثلن 92 دولة، ثم ممثلات المنظمات الدولية وعددها ثلاثون أو أكثر، ولأول مرة في حياتي أعيش خمسة أيام كاملة في مجتمع نسائي من كل الجنسيات.
وكنا مجموعة من النساء المصريات والعربيات، عددنا يبلغ المائة، وكل دولة عربية أرسلت وفدا من خمس نساء أو أكثر يمثلن الحكومات العربية، ولكل وفد رئيسة تجلس في الوسط ومن أمامها لافتة بيضاء كتب عليها اسم الدولة، وعلى صدر كل واحدة دبوس ولافتة بيضاء كتب عليها اسمها ولقبها.
وجلست في أحد المقاعد المخصصة لوفد مصر، ولم أعلق الدبوس فوق صدري، منذ الطفولة وأنا أكره الدبابيس المعلقة فوق صدور النساء، ومنذ أول مؤتمر حضرته في كلية الطب وأنا أكره منظر اللافتات فوق الصدور، وحروف الاسم واللقب معلقة فوق جسم الإنسان كما تعلق الماركة والسعر واسم الدكان فوق الأحذية والملابس وعلب السردين، ومن حولي ألف امرأة مكدسات في القاعة، والنوافذ مغلقة، والهواء الصناعي المكيف يختلط في صدري برائحة العطور الأنثوية، وكلمات رئيسات الوفود من فوق المنصة ترن في رأسي كضربات المطرقة.
عطست بصوت عال وأنا جالسة لأطرد الهواء والكلمات المصنوعة، وسمعتني رئيسة الوفد المصري وأنا أعطس فرشقتني بنظرة حادة من فوق المنصة، ولمحت صدري الخالي من الدبوس فاعتبرتني ضد النظام، وجاءت جلستها بعد أن هبطت من فوق المنصة إلى جوار امرأة من إسرائيل فانتفضت مذعورة ولمت أوراقها وأسرعت في الممر بين المقاعد لتجلس في مكان آخر، وعضوات الوفد الأخريات يتبعنها حيث تذهب، يتأرجحن على كعوبهن العالية الرفيعة من خلفها كسرب بطيء من البط.
منذ الطفولة وأنا أكره أحذية أمي ذات الكعب العالي، لكن أكثر ما كرهته هو دور التابع، ومنظر الخادم وهو يسير خلف أبي أو أمي، وظللت جالسة في مكاني، وكان بيني وبين المرأة الإسرائيلية مسافة تزيد عن المترين، وظهري ناحيتها وعيناي ناحية المنصة، لكن رئيسة الوفد اعتبرتني وكأنما عقدت صلحا مع إسرائيل.
وحظيت قضية فيتنام بالصدارة في كلمات الوفد، اشتركت جميع الوفود في إدانة السياسة الأمريكية واعتدائها على شعب فيتنام، ووقفت على المنصة فتاة فدائية من فيتنام اسمها ونتوانتو بملابسها الكاكي وعينيها الطويلتين المسحوبتين إلى أعلى. لم تتجاوز الأربعة والعشرين عاما وتقود سرية في جنوب فيتنام، فقدت أختها في الحرب، وأسر أخوها، ومنذ تسع سنوات وهي تحارب، استطاعت سريتها تحت قيادتها أن تسقط طائرة أمريكية وتحرق سفينة مائتي جندي أمريكي. هي وحدها قتلت 35 جنديا أمريكيا، جسمها صغير كالطفلة، وضفائرها طويلة كتلميذات المدارس، وابتسامتها رقيقة كالأم، وهي نفسها أم لطفل عمره ثمانية شهور، لكن النظرة الثاقبة في عينيها وخطواتها السريعة كوثبات الفهد تؤكد لي أنها يمكن أن تقتل.
وجاءت قضية فلسطين بعد فيتنام، ووقفت مندوبة فلسطين على المنصة، حكت تاريخ نشأة إسرائيل، وآلة الحرب الإسرائيلية والإنجليزية ثم الأمريكية، والشعب الفلسطيني الذي قتل بالآلاف وطرد من أرضه، وأصبح يعيش في الخيام خارج وطنه، والقهر والإذلال في الأرض المحتلة داخل إسرائيل.
وحظيت القضية الفلسطينية بتأييد الوفود كلها إلا وفدي: رومانيا وإسرائيل. •••
رأيتها لأول مرة وهي جالسة وسط مجموعة من النساء وقلت لنفسي: هذا الوجه مألوف، أين رأيته؟ وفي لحظة عرفتها؛ إنها فالنتينا التي طالعتنا صورها في الصحف بعد أن طارت في سفينة الفضاء ثم عادت إلى الأرض لتحمل على صدرها النجمة الذهبية، جاءت فالنتينا إلى هلسنكي رئيسة لوفد الاتحاد السوفييتي في المؤتمر: شابة نحيفة الجسم دقيقة الملامح، لها أنف مستقيم مدبب، وعينان زرقاوان عميقتان، وشفتان دقيقتان مطبقتان لا تعرفان الثرثرة، وقلما تنفرجان رغم البسمة الطبيعية الهادئة تكسو ملامح وجهها الصغير. والتفت حول فالنتينا النساء من مختلف الوفود يعانقنها، وتوالت عليها كلمات الإعجاب وكثير من الأسئلة، كيف صعدت إلى السماء؟ هل شعرت بخوف؟ العالم كله يعترف ببطولتك، فهل تشعرين أنك عظيمة؟ وأنت جميلة أيضا ورقيقة، فكيف قمت بهذه الرحلة العجيبة؟ وعانقتها إحدى السيدات وهي تلهث قائلة: لم أتصور أنني سأراك بعيني في يوم من الأيام ... لم أتصور أنك امرأة مثلنا من لحم ودم.
ورغم هذا الجو المفعم بالإعجاب لم يبد على فالنتينا أي زهو بنفسها، وظلت ملامحها هادئة باسمة ولم تنس في غمرة الإعجاب بها بقية عضوات الوفد السوفييتي، فقدمتهن واحدة واحدة إلى النساء وقالت بصوت هادئ: لست وحدي، عندنا بطلات من النساء في كل مكان من الاتحاد السوفييتي يكافحن كل يوم من أجل بناء المجتمع.
ناپیژندل شوی مخ