واكتشفت أن الدنيا في بلاد العالم يمكن أن تختلف عن دنيانا، وطبائع الناس أيضا تختلف، لكن هذا الاكتشاف لم يساعدني على رؤية الأوطان الأخرى وسكانها لأول مرة فحسب، ولكني رأيت وطني والناس في الوطن لأول مرة أيضا.
وبدأت أدرك أن السفر خارج الوطن ضروري، ليس فقط لأعرف البلاد الأخرى وأهلها، وإنما لأعرف من أنا ومن نحن؟ فإن معرفة النفس لا تتحقق إلا في ضوء معرفة الآخرين.
وأصبحت كلما أسافر ثم أعود إلى الوطن ترتطم عيناي أول ما ترتطم بتلك الصورة الضخمة فوق الجدران، وعلى أقواس النصر في الميادين، وفوق أعمدة النور في الشوارع، داخل إطارها المذهب، تحوطها الأعلام ولمبات كهربية، تطارد الإنسان منا أينما ذهب، تطل عليه من فوق مكتبه، ومن فوق مائدة الأكل في أي مطعم، ومن فوق فنجان القهوة في أي مقهى، ومن فوق سريره وهو نائم إلى جوار زوجته: صورة حاكم مصر.
الفصل الثاني
النصف الآخر من الأرض
ورثت عن أبي كراهية لحاكم مصر والإنجليز، ولم أكن أنجذب إلا لرجل مثل أبي، وفي كلية الطب كان أول حب لرجل قرر أن يطرد الإنجليز من مصر. لكنه لم يطرد الإنجليز، وطاردته الحكومة حتى مات في السجن.
وأصبح للسجن في ذهني علاقة بالحب، وكلما أسمع عن رجل مسجون أو دخل السجن يوما أحس الخفقات تحت ضلوعي.
حين عدت من السفر وجدت التراب فوق مكتبي، ومن فوق الجدار صورة الحاكم الضخمة داخل إطار ذهبي كبير، وأصبح قلبي ثقيلا، ولا أدخل مكتبي إلا وأشعر بالغربة.
وفي ربيع عام 1964 التقينا، أنا وهو وحدنا، وسألته من أين جاء. قال من السجن. وضحكنا وملأنا صدورنا بهواء المقطم وذرات الغبار، وتزوجنا دون أن أشتري ملابس جديدة، واشترينا ثوبا جديدا لطفلتي ارتدته في يوم العيد، وعدنا إلى البيت نحمل كعكة كبيرة.
وفي سكون الليل وضعت رأسي على صدره وأنهيت غربتي، لكن الصفارات في الشارع ظلت تنطلق من عربات البوليس، ورجال بالهراوات يطاردون التلاميذ، وعساكر واقفون على كل شبر من الشارع كالأعمدة الخشبية، ظهورهم للناس ووجوههم للحائط.
ناپیژندل شوی مخ