شعرت صباح اليوم بقلق غريب نحو طفلي الصغير الذي تركته بالقاهرة مع ابنتي الكبرى، تذكرت أنني حلمت بالأمس حلما مزعجا، نسيت تفاصيله في الصباح. لكنه تركني بذلك الشعور المقلق الذي دفعني إلى أن أمسك التليفون وأطلب بيتي في القاهرة.
لم أكن أعلم أنني سأضطر للانتظار أربعة عشر يوما بلياليها، وكل يوم يدق الجرس ويأتيني صوت عاملة التليفون الهندية تقول: ستكون معك القاهرة بعد لحظات، ارفعي السماعة، وأظل رافعة السماعة طويلا ثم يأتيني صوتها مرة أخرى تقول: معذرة، وجدنا خط لندن مشغول، وأتساءل في دهشة: لندن؟ وما شأني أنا بلندن، أنا أريد الاتصال بالقاهرة؟
وتقول العاملة الهندية: ولكن جميع الخطوط عن طريق لندن، وخط لندن مشغول طول الوقت. دهشت أول الأمر لكني تذكرت أن الإنجليز استعمروا الهند ومصر فترة من الزمن، ولكن بعد خروج الإنجليز من الهند ومن مصر لماذا لا يكون هناك خط مباشر بين دلهي والقاهرة؟
بالطبع ظل خط لندن مشغولا، وبعد أربعة عشر يوما جاءني صوت ابنتي من القاهرة، ولم أستطع أن أسمع الكلمات بوضوح وضاعت دقائق المكالمة هباء دون أن أسمعها أو تسمعني. •••
الأدب الهندي أيضا لا يصل إلى القاهرة (كخطوط التليفون) إلا عن طريق لندن، نحن لا نقرأ من الأدب الهندي إلا ما يترجم إلى الإنجليزية في لندن، والهنود أيضا لا يعرفون من الأدب العربي إلا ما يترجم إلى الإنجليزية في لندن، ولندن لا تترجم من الأدب الهندي أو الأدب العربي إلا ما يروقها، وما يتفق مع نظرتها إلى الهند أو العرب؛ ولهذا فإن معظم ما في الأدب الهندي أو العربي لم يترجم في لندن، وظل مغلقا في السوق المحلية ولم يصل السوق العالمية، وبالطبع لم يحصل على جائزة نوبل؛ ولهذا أيضا لم نسمع عن أديب عظيم في الهند كما نسمع عن هؤلاء الأدباء العالميين من أمثال: هيمنجواي وكافكا وشتاينبك وغيرهم، مع أن الذي يذهب إلى الهند ويقرأ بعض إنتاج الأدباء والأديبات في ولايات الهند المختلفة يكتشف أن في الأدب الهندي ما هو عظيم، وما هو أكثر خصوبة وتنوعا من بعض إنتاج الأدباء العالميين الذين درجنا على أنهم هم العظماء وحدهم.
وكما حرمت المستعمرات من خيراتها وثرواتها المادية فقد حرمت أيضا من ثرواتها الفكرية والأدبية والفلسفية. وكما حرمت المستعمرات من كبريائها وكرامتها الوطنية حرمت أيضا من كبريائها وعظمتها في الأدب والفن أو العلم والفلسفة.
إن من يدرس الفلسفة الهندية القديمة يدرك أنها تحتوي على أفكار ومعان أكثر عمقا من بعض فلاسفة الغرب المشهورين، بل إن بعض هؤلاء الفلاسفة العالميين قد أخذوا الكثير من أفكارهم من الفلسفة الهندية القديمة. •••
اعتكفت عدة أيام في البيت وقرأت كتاب «الجيتا» وهو أهم الكتب المقدسة للدين الهندوكي، ويحتوي على فلسفة هذا الدين العريق، وكان الهنود يقرءونه حينما كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل، ودهشت وأنا أقرأ «الجيتا»؛ فقد وجدت فيها كثيرا من الأفكار الحديثة في علم النفس والفلسفة. في أحد فصولها عن النفس البشرية وتقسيماتها خيل إلي أنني أقرأ أفكار «رونالد لينج» أحدث علماء النفس في إنجلترا اليوم.
تقسم «الجيتا» النفس إلى غير حقيقية وتسميها اللا نفس، والنفس الحقيقية وتطلق عليها اسم «النفس».
أما علماء النفس المحدثون فيستخدمون كلمة النفس المزيفة والنفس الحقيقية، وهناك بالطبع اختلافات في التحليل والشرح، ولكن كم يأخذ هؤلاء العلماء الأوروبيون من الفلسفات القديمة! وكم يتجاهلون مصادرها الحقيقية!
ناپیژندل شوی مخ