* (1)
.. الوصول إلى أرومية العشائر الكردية وعبثها البلباس مير راوندوز رحلة الدكتور روص إلى المير مقارنة بين القرى التركية والكردية دمدم مقر المير الكبير (الأب) أخلاق الناس لباسهم وأزياؤهم عاداتهم عمى المير الكبير إخوان المير الخرافات عدم إقراء الضيف الوحشية والشجاعة قوانين المير وعدالته العقوبات الصارمة الجيش في الميدان الاستيلاء على عقرة إخضاع العمادية ذهاب الدكتور روص إلى معسكر المير مواجهته للمير والتحدث معه معسكر المير عودة الدكتور روص شخصية المير وأخلاقه محاولاتي للاتصال به عدم توفقي في ذلك توجهي إلى بغداد عن طريق السليمانية.
** أرومية 17 تشرين الأول 1834 م
إن سفرة ثلاثة أيام يا عزيزتي من القرية التي حررت فيها رسالتي السابقة إليك قد أوصلتني إلى هذه المكان الجميل ، العريق في القدم ، الذي يعتبر مسقط رأس زرادشت المشهور. إذ يقع طريقنا من طسوج إلى هنا في منطقة سلماس وسهلها ، وهي من أجمل المناطق في أذربيجان.
... وتسيطر على هذه البلاد في الحقيقة عشائر متوحشة خارجة عن الطوق ، لا يضع حدا لتصرفاتها سوى ضعفها النسبي. فالبلباس ، وهم عشيرة كانت قوية الشكيمة كثيرة العدد في يوم من الأيام ، يسكنون الجبال والسهول المحيطة بباليك ولا هيجان التي لا تبعد كثيرا عن أرومية نفسها. وهم بين حين وآخر يسلون أنفسهم بالانقضاض (1) على جهات سولدوز وسرادشت
مخ ۱۳
المجاورة ، وحتى على سوج بولاق في بعض الأحيان. وهناك كذلك الروان والهركية والنوجية ، وعشائر كثيرة أخرى ميالة هي ايضا إلى أن تسلي نفسها على هذه الشاكلة. ومن حسن الحظ أن تنشأ إلى الغرب من هذه المنطقة قوة مرهوبة الجانب تستطيع ، على ما فيها من خشونة ، أن تمارس تأثيرا مطوعا على هؤلاء النهابين الشرسين وتجبرهم على الخضوع التام الضروري ، برغم ما فيه من تعسف ، فتجعل بذلك قسما من البلاد آمنة سالمة يمكن التجول فيها في حالات معينة.
فلم يكن محمد باشا ، الذي يعرف بمير راوندوز (1)، قبل سنوات قليلة سوى رئيس مثل سائر الرؤساء الأكراد وقائد يقود محاربي عشيرته التي لم تعرف بغير اسم راوندوز. وقد بدأ سيرته بتنحية والده عن رئاسة القبيلة بحجة عدم اقتداره في تدبير شؤونها خلال الأيام العصيبة. على أن البعض يقول إن الوالد المتقدم في السن كان ميالا بطبيعته إلى الهدوء والتعبد فطلق العالم ومغرياته ، ووضع ابنه في منصبه. وبالطريقة نفسها تخلص من بعض إخوته ، فثبت أقدامه بحزم وقوة وأصبحت له السلطة المطلقة في موطنه راوندوز. وأخذ بعد ذلك يعمل على تعزيز سطوته وجمع الأتباع استعدادا لمعاركه المقبلة. لكن نهضته الحقيقية تبدأ بالحرب التي نشبت بين إيران وروسية حين اضطر الأمير المالك إلى سحب قواته وتحشيدها تجاه عدو أشد خطرا على
مخ ۱۴
البلاد بعد أن كان يهم بسحق المير وتأديبه. فاستغل المير هذه الفرصة ، ولم يسترجع جميع المناطق التي كان الأمير الإيراني قد حرمه منها فحسب بل مد يده أيضا إلى الغرب والشمال وتوفق في ذلك بحيث أصبح الآن مسيطرا على قسم كبير من شمالي ما بين النهرين ، إلى جانب الأصقاع الممتدة من أربيل إلى كركوك في الجانب الشرقي من دجلة.
والمقول بصورة أكيدة أن ما يقرب من خمسين ألف رجل يقفون الآن تحت تصرفه ، وتدفع للنصف الأحسن من هؤلاء أجورهم بانتظام وهم يعملون بصورة مستديمة لأنه لا يزال يستخدمهم في إخضاع المناطق العاصية عليه ، وهكذا تتسع ممتلكاته بسرعة. لكن الجزء المهم من القصة كلها هو التغير الأخلاقي الكبير الذي حصل في البلاد التي أخضعها لحكمه. فإن البلاد بعد أن كانت تحتلها أمة من اللصوص الذين ما إن يجدوا مسافرا يمر إلا ويحاولون إيقافه وسلبه ، أو الذين يقدمون على ذبح المرء إذا وجدوا بيضة في يده كما يقولون هم أنفسهم ، قد أصبحت خالية من أية سرقة أو سارق. فقد قضى على صنعة اللصوصية من أصلها بعملية بتارة : إذ صار الذي تكتشف بحوزته أشياء تعود للغير يعاقب في نفس المكان الذي يكتشف أمره فيه ، أو يقتل من دون رحمة. وتتوقف العقوبة في هذا الشأن على ظروف الجريمة ، فيعاقب المذنب لأول مرة بسمل واحدة من عينيه أو قطع إحدى يديه أو بجدع الأنف أحيانا. ثم يعاقب للمرة الثانية بتشويه أشد من هذا القبيل ، أما في المرة الثالثة فإنه يعاقب بالموت على الدوام.
ولا شك أن صرامة هذا القانون تستدعيها الظروف السائدة في البلاد التي يراد ضبطها ، والحالة فيها. فهو قانون رئيس من رؤساء اللصوص ينفذه من دون خوف أو وجل ، ومن دون أن يعفى منه أحد ، لأجل أن يسيطر به على رجال عصابته. وحينما يعلم الجميع بأن أحكام هذا القانون لا استئناف لها ولا تمييز ، وليس هناك رحمة في عدالته ، فإنهم لا بد أن يرتجفوا ويطيعوا. ولا شك أن أي شيء يقل عن ذلك في صرامته وقسوته لا يمكن أن يكون مؤثرا في هذه الظروف. فكان لذلك وقع شديد بين الناس بحيث صار كل من في البلاد
مخ ۱۵
الخاضعة لحكم المير وسيطرته لا يمس حتى كيس الذهب إذا وجده في الطريق ، وإنما يخبر مختار القرية القريبة من الموقع ، وهذا بدوره يكون من واجبه أن يبعث من يحضره له فيحفظه عنده حتى يتم تسليمه إلى صاحبه الشرعي ، على أن يخبر المير نفسه بذلك في الوقت نفسه.
ويروى عن المير أنه تناهى إليه ذات يوم أن أحد إخوته المقربين إليه مر راكبا ببستان يعود لرجل فقير واقتطف رمانة منه ، دون أن يترخص من صاحبه.
فبعث عليه وواجهه بالتهمة التي لم ينكرها ، ثم سأله عن اليد التي اقتطف بها الرمانة والأصبع الذي قطعها به ، فأمر بقطعه. وتروى عنه قصة أخرى فتذكرنا بقصة مماثلة تؤثر عن نادر شاه الذي لا يقل عنه المير صرامة وقسوة. فقد وجدت جثة رجل على قارعة الطريق بالقرب من إحدى القرى ، وقد شوهتها الذئاب وبنات آوى ومزقتها شر ممزق. فوصل خبرها إلى المير نفسه ، وأمر بإجراء التحريات المعتادة جميعها لكن القتلة لم يتوصل أحد إلى معرفتهم.
وحينما سئل القرويون عن جلية الأمر ألقوا اللوم على ذئاب الغابة المجاورة التي سبق أن التهمت القسم الأكبر من الجثة. فأمر المير بإحضار الذئاب ، وعند ذاك خرجت القرية كلها للقبض على الذئاب لأن سكانها كانوا على علم بالعاقبة الوخيمة التي تنتظرهم فيما لو عجزوا عن ذلك. وحينما جيء ببعض الذئاب إلى الرجل العظيم أمر بتعذيبها وقتلها قتلا فظيعا أخذت ترتجف لهو له أوصال القرويين الذين شاهدوها ، حتى أجهدوا أنفسهم في اكتشاف القتلة وتسليمهم إلى العدالة لإنقاذ أنفسهم من المصير المرعب الذي كان يدل عليه ما حدث للذئاب المسكينة. وهذه القصة وإن تكن بعيدة الوقوع ، فإنها تدل على الضوء الذي يجب أن ينظر فيه إلى أعمال هذا الرجل.
ولأجل أن يتسنى لي وصف أمير كتب له على ما يظهر أن يؤثر تأثيرا مهما في جزء كبير من هذه البلاد الطريفة جدا أراني مضطرا للانتفاع ببعض النبذ المستمدة من يوميات الدكتور روص طبيب المقيمية البريطانية ببغداد الذي أسعفه الحظ فتسنى له أن يقوم برحلة في هذه البلاد المخطرة بدعوة من المير نفسه. فإن المير مصطفى والد مير راوندوز كان رجلا أعمى على ما يبدو ،
مخ ۱۶
ويأمل أن يرد بصره إليه اتصل المير بالكولونيل تايلور (المقيم) ورجاه بأن يوفد له طبيبا إنكليزيا يجرب فيه ما عنده من مهارة. فاغتنم الكولونيل تايلور هذه الفرصة لتنمية العلاقات مع هذا الرجل العجيب في الحال ، وكلف الدكتور روص بهذه المهمة الطريفة. فتوجه إلى بلاد المير في قافلة يرأسها عمه بايزيد بك الذي كان قد أرسل إلى بغداد للاتصال بالمقيم البريطاني حول القضية.
على أنه من الضروري أن أخبركم أولا بأن المير ، علاوة على جميع فتوحات فيما بين النهرين والقسم الأسفل من بلاد آشور ، كان في ذلك الوقت قد امتدت يده إلى بلاد العمادية ، الخصبة الواسعة على كونها جبلية وعرة ، التي تقع في شمال غرب راوندوز وشمالي الموصل أيضا. وقد كانت هذه الدويلة ، أو الباشوية لأنها كانت في حكم أحد الباشوات ، موضع ثناء الجميع ومدحهم لخصبها وجمالها ولكثافة السكان فيها. فقد أجمع عدة رجال محترمين في تصريحهم لي على أنها تحتوي على اثني عشر ألف قرية ، غير صغيرة ، تتألف كل منها من عدد من الأسر (أو البيوت) يتراوح بين المئتين والثلاثمائة. وهذا قول لا بد أن يكون بعيدا كل البعد عن الواقع ، لأننا إذا اعتبرنا أن القرية الواحدة تحتوي على مئة وخمسين بيتا فقط ، وإذا افترضنا أن كل بيت يضم خمسة أنفس لا غير نجد أن المجموع يبلغ تسعة ملايين نسمة ، وهو عدد يتجاوز عدد الموجود من السكان في إيران كلها. ولذلك لا بد أن يؤخذ الرقم هذا ليدل على أن العمادية كثيرة السكان لا غير.
وقد كان يحكمها باشا ينتمي إلى أسرة كردية معروفة ، بتنصيب من الباب العالي. لكن سوء حكمه ، والحسد الذي قوبل به من الآخرين ، والنزعات المحلية ، قد أدت كلها إلى إسقاطه عنه. فأصبحت البلاد منقسمة إلى عدة رئاسات محلية صغيرة لا تلتفت بشيء إلى الباشا الحاكم الذي كان رجلا ضعيفا أحمق ، أضاع سلطته وسطوته على الناس وحبس نفسه في قصره المنيع الموجود في العمادية ، بينما كان المير يكتسح البلاد ويقضي على هذه الرئاسات الشخصية واحدة بعد أخرى. وباستغلال الضغائن العائلية والخيانة دفع المير الرشوات المناسبة ودخل تلك القلعة المهمة ، ومن هناك أخذ يوجه
مخ ۱۷
جهوده بمزيد من الحيوية للقضاء على ما تبقى من القلاع في تلك البلاد. على أن العمادية لم تكن قد سقطت بعد حينما زار البلاد الدكتور روص ، وكان المير منهمكا في محاصرة عقرة ، إحدى القلاع الحصينة جدا الواقعة على الزاب ، والتي تبعد مسيرة أربع عشرة ساعة من شمال أربيل.
وكان الدكتور روص قد غادر بغداد في منتصف مايس 1833 م ، وبين الملاحظات الأولى التي دونها عن الرحلة التباين الكبير الموجود ما بين المناطق التركية والكردية من حيث السكان والشؤون الزراعية. فقد كانت جميع القرى في المناطق التركية مهجورة ، لأن السكان قد فروا منها لتحاشي ما كانت تفرضه الحكومة عليهم. وكل من بقي فيها كان يلهج بالتذمر من باشا بغداد ، علي باشا ، وحالما كان يظهر في الأفق رجل من رجال الحكومة كان الناس يفرون من وجهه ليخفوا أنفسهم عنه. غير أن قافلة الدكتور ما إن وصلت لآلتون كوبري حتى تقاطر الناس عليها لاستقبال بايزيد بك ، وهم يضعون الزهور فوق رؤوسهم كما يفعلون في أيام العطل والمناسبات ، وتزاحموا على تقبيل يده ، ثم هتفوا له حينما مر أمامهم.
وقد كان السهل الممتد ما بين آلتون كوبري وأربيل مكسوا بالأزهار المختلطة بأوفر أنواع الخضرة وأبهجها ، كما كانت البلاد تعج بالسكان. ويصف الدكتور روص استقبال بايزيد بك في آخر مكان بكونه على غاية ما يكون من الجمال والروعة ، من ناحية الملابس والأزياء والروح الودية التي كانت تبعث الحياة في تلك المناظر الخلابة.
وفي التاسع عشر من مايس ترك الدكتور روص أربيل متوجها إلى راوندوز التي كان يقيم بالقرب منها مصطفى بك العجوز ، هدف الناحية المهنية من سفرته. وبعد أن اجتازوا بلادا جبلية مخصبة ، مغطاة بالكثير من أشجار البلوط القصيرة ، وارتقوا عددا من الممرات المنحدرة ، وصلوا إلى دمدم محل إقامة الرجل العجوز الذي كانوا يشرفون منه على وادي راوندوز وقلعتها ، حيث كانت الأخيرة على بعد مسافة لا تزيد على ساعة ركوب واحدة. ودمدم قلعة صغيرة مشيدة فوق قمة صخرية شاهقة يبلغ ارتفاعها مئة قدم ، وتشرف
مخ ۱۸
على بلدة صغيرة تتألف من مئة دار حقيرة تنتشر بين غابة كثيفة من البساتين الحاوية لكل نوع من أنواع الأشجار المثمرة. وكانت بلدة راوندوز تتألف ، على ما يبدو من هذا الموقع ، من حوالي ألفي دار متواضعة مع شيء يشبه القلعة يقع ما بين الجبال على الضفة الجنوبية من الزاب الكبير ، الذي كان يمتد من فوقه جسر من جذوع الأشجار المستندة على دعامتين حجريتين والمغطاة بشيء من الأغصان والتراب. وقد كان النهر ضيقا سريع الجريان ، جائشا عميقا ، لكن الأكلاك على بعد ثماني ساعات من أسفل هذا الموقع كان من الممكن لها أن تعبره. ولم يسمح للدكتور بزيارة راوندوز ، ولا بالتجوال الكثير في المنطقة ، لكنه يذكر بين ما سمع من الأشياء التي تلفت النظر شيئا واحدا على الأخص. فقد ذكر شيئا عن عمود من الرخام يقوم فوق قاعدة مضلعة ويبلغ طوله كله حوالي ثلاثة رماح (ثلاثون إلى خمسة وثلاثين قدما)، وهو مغطى بالكتابات المنحوتة فيه ، وقد أبدى عدد من الأوربيين من قبل رغبة في مشاهدته في مختلف الأوقات ، لكنهم لم يسمح لهم كلهم بذلك. ومما قيل في هذا الشأن أن العمود يبعد عن دمدم مسيرة يومين ، والمعتقد أن الملكة سميراميس هي التي أقامته هناك.
ولم يكتب الدكتور روص عن دمدم وسكانها بلهجة مشجعة. فقد كتب يقول عن السكان «إنهم على ما يبدو لا يعرفون شيئا عما هو حسن في العالم. وهم يلبسون ألبسة خلقة ، وبيوتهم أشبه بأقنان الخنازير لا غير. يضاف إلى ذلك أنهم وحوش متجهمو الخلقة ، لا يعطون حتى ولا جرعة واحدة من الحليب من دون تذمر وصخب ، وكل شيء آخر لا بد أن ينتزع منهم بالقوة. وحينما أعطيتهم بعض الأدوية أخذوا يدمدمون لأني لأني لم أزودهم بالقناني اللازمة لحفظها بها». على أن لباس الموسرين منهم كان يشبه لباس البغداديين. أما الفقراء فقد كانوا يرتدون سترة قصيرة ، وسراويل صوفية فضفاضة ، وصديريا من اللباد لا أردان له ، مع أحذية قطنية ، وجوارب صوفية. كما كانوا يضعون فوق رؤوسهم العمامة الكردية الخاصة. ويلبس النساء ثوبا أزرق ، مع سراويل فضفاضة مشدودة من أسفل حول رسغ الرجلين ، وعباءة
مخ ۱۹
مربعة تشد من زاويتين بحيث تصبح مدلاة من فوق الظهر. أما في الرأس فيلبس قطعة مدورة من الفضة تتدلى منها دلايات كبيرة تعلق في كل منها قطع من العملة حول الرأس والرقبة ، مصنوعة كلها من الفضة. وتعد طريقة التحية عندهم شيئا مستغربا ، إذ يمسك أحد المتسالمين الآخر من المعصم الأيمن ويقبل ذراعه. وفي كل مساء كان ستة أو ثمانية من القرويين يتناولون العشاء في بيت المير ، مع عدد من المحاربين القدماء من أصدقاء شبابه. ومما لا حظه الدكتور هنا انتشار الرمد بين الناس.
وقد تبين أن المير العجوز (مصطفى) أعمى لا يرجى له شفاء. وسبب ذلك ، على ما يرويه هو نفسه ، أنه أصيب بالرمد ذات يوم لأنه وضع الثلج فوق رأسه حينما اشتد عليه الحر أثناء تسلقه الجبل الذي وجد فوقه طبقة سميكة منه. على أن بعض الروايات تزعم أن عينيه قد سملتا بأمر من ابنه ، وتم ذلك بواسطة «ميل» ساخن إلى حد الاحمرار لكن الدكتور روص يؤكد بأن هذا خطأ محض. أما سبب تنازله عن الحكم لابنه فهو على جانب أكبر من الشك وعدم التأكد. إذ يزعم البعض أن تنحيته كانت بالقوة ، بينما كان يقول آخرون إنه اقتنع بأن ابنه سيكون أعظم منه فتنازل له عن الحكم طوعا لا كرها.
وللمير محمد ، أو الباشا ، أربعة إخوة على قيد الحياة. غير أن اثنين منهم ، وهما تيمور خان وسليمان بك ، قد سجنا (1) في قلعة تقع على بعد خمس ساعات من راوندوز. وكان الأخ الثالث أحمد بك يتولى حاكمية أربيل ، بينما كان الرابع وهو رسول بك يتولى شؤون الجيش. يضاف إلى ذلك أن المير له ثلاث زوجات من دون ذرية ، وليس من المؤمل وهو في الخامسة
مخ ۲۰
والأربعين من عمره الآن أن تكون له ذرية في المستقبل ، ولذلك يعتبر رسول (1) بك خليفته من بعده.
ويبدو أن الدكتور قد عومل بحقارة في دمدم التي عاد منها إلى أربيل لينتظر فيها أوامر المير الجديدة بشأنه. وقد وجد في طريقه إلى هناك أن سكان إحدى القرى كانوا يأتون بأطفالهم إلى امرأة عجوز مرت بالقرية صدقة ، فأخذت تنفخ صلواتها عليهم وتنعم عليهم بقطع من الخرق البالية والنقود التي كانت تباركها أيضا ، فتعلق برؤوس الأطفال على شاكلة الرقى والتعاويذ ضد النحس ودفعا للشر. وقد وجد الدكتور أن الأكراد مثل سائر الجبليين كلهم لهم عقيدة قوية بالخرافات. «فكل تل وكل قمة كان له عفريته الخاص ، وهناك بالقرب من راوندوز مغارة ملأى بالعفاريت» فقد سمع من هناك في 1831 م هدير مدافع وهي تطلق في اتجاه البلدة ، فأعقب ذلك انتشار الطاعون في الحال. وظلت الأخبار تنتشر عن هذا الحادث لمدة شهر أو شهرين حتى انقطعت فجأة هي والطاعون مرة واحدة. وقد أيد هذا عدد من الناس المحترمين وعدوه شيئا حقيقيا.
وتدل الملاحظات التي توصل اليها الدكتور روص في طريقه إلى أربيل ، وبعد وصوله إلى هناك بمدة من الزمن ، على أن الضيافة الكردية لم ترق له كثيرا. إذ يظهر منذ اللحظة التي أوصله فيها مهمنداره بايزيد بك إلى دمدم وتخلى عنه فيها أن تبدلا في غير صالحه قد طرأ على المعاملة التي كان يعامل بها نظرا لعدم وجود من يجبر الفلاحين الغلاظ على السلوك الحسن معه. فهو يقول : «انهم أناس لطيفون بمقدار كاف حتى يجبرون على رفع الكلفة ، وعند ذلك تبدو طبيعتهم المتجهمة فلا يوجد عندهم سخاء حقيقي ولا إكرام للضيف وهم يختلفون بذلك تمام الاختلاف عن القبائل العربية التي تعطي ما عندها عن طيبة خاطر ، وتتسابق فيما بينها لتقديم الهدايا». ومع ذلك فإنهم لو لم يؤخذوا من مخيم لآخر بصفتهم أصدقاء الشيخ فإن نفس الأشخاص الذين
مخ ۲۱
كانوا يعاملونهم معاملة حسنة ربما كانوا سيعمدون إلى سلبهم وتجريدهم من ملابسهم.
وقد اطلع الدكتور روص في أربيل على الكثير من أحوال الأكراد ، وهو يتكلم بشدة عن ميولهم الفظة وجنوحهم إلى التهيج. فهو يقول : «إن طبيعة الكردي مجبولة على الحرب. لأنه يدرب عليها من المهد ، ولا يرتاح مطلقا من دون الاشتباك مع الغير أو خوض المعارك. فقد وجدت صبيانا لا تزيد أعمارهم على اثنتي عشرة أو خمس عشرة سنة وهم يعانون أو جاعا من جروح بليغة كانوا قد أصيبوا بها في معارك متأخرة. وقد علمت بأن معاركهم معارك دامية للغاية ، وهم يبدأونها بإطلاق النار من البنادق لكنهم سرعان ما يعمدون فيها إلى الخناجر. وليس ذلك من قبيل الضجيج أو التهويش المعروف عند العرب ، وإنما هو قتال عنيف يؤدي في الغالب إلى قتل الكثيرين وجرحهم. وهم يزدرون بحكومة بغداد وجيشها ازدراء متناهيا ، ويقولون إن المدينة لو كان فيها أي نفع لهم لما استطاع الأتراك أن يقفوا في وجههم يوما واحدا دون احتلالها. وقد وجدوا الفرصة سانحة للاستيلاء على أربيل وآلتون كوبري في بعض المناسبات ، ولم يستغرق استيلاؤهم على أربيل سوى ساعة واحدة. وهم لا يعتمدون في الحصول على احتياجاتهم على أية بلاد أخرى إلا بلادهم. فإن كل ما يحتاجونه يتم إنتاجه في بلدهم ، ومع ان جبالهم تكون مواقع دفاع حصينة منيعة تجاه المحتلين الأجانب فإن وديانها وجهاتها الوعرة تنتج بقليل من الجهد كل ما يرغبون في زراعته بوفرة ، وتزودهم بذخيرة لا تنضب من الخشب والماء والمرعى».
وتعطى البلاد المحيطة بأربيل من الباشا بالالتزام للشيوخ منطقة منطقة بالطريقة التي يسير بموجبها النظام الإقطاعي المعروف. فإن عشائر طي العربية تخضع للباشا (1) وتبعث بقطعات غير يسيرة من رجالها لجيشه ، الذي كان حينذاك في عقرة. وقد كان الباشا على ما يبدو محبوبا عندهم ، أو مرهوب
مخ ۲۲
الجانب ، وقد يكون ذلك ناشئا عن الصرامة التي تتصف بها حكومته. فمن النادر أن يسمع شيء عن السرقة واللصوصية ، ولا تغلق باب من الأبواب في الليل مطلقا. ومع ذلك يندر أن تطبق عقوبة الموت بين ظهرانيهم. وإنما تقطع اليد عن السرقة وتقطع القدم عقابا للفرار من الجندية ، وتسمل عين واحدة أو عينان عن الجرائم الأخرى. على أن عقوبات أشد صرامة من هذه قد تفرض في بعض الأحيان على سبيل العبرة للآخرين. فقد لجأ ذات يوم إلى بلاد المير شيخ من شيوخ القبيلة العربية طي (1) مع عشيرته ، بعد أن أجبرتها على الرحيل من ديرتها عبر دجلة قبيلة الجربا القوية ، وهناك عاش عيشة رضية هادئة في ظل القوانين والأنظمة التي وضعها المير. لكنه مل الهدوء وسئم الخمول الذي تفرضه حياة الدعة والعطالة ، وبينما كانت إحدى القوافل تمر بمخيمه آمنة مطمئنة أغراه ما فيها من سلب ونهب إغراء لم يستطع كبحه في نفسه فانقض عليها وغنم جميع ما كانت تحمله من سلع وبضائع. غير أن اليوم الثاني ما إن انتهى وحل المساء حتى حضر إلى مخيمه نصف دزينة من الأكراد ، ودخلوا إلى خيمته من دون كلام أو مراسيم ثم احتزوا رأسه على بابها وعادوا من حيث أتوا بهدوء.
وحينما كان الدكتور في أربيل قوبل بترحاب غير يسير من قبل أحمد بك حاكم أربيل وشقيق المير ، وزاره سلطان بك أحد رؤساء المعسكر. وهناك علم أن الجيش كان يتألف من خمسة عشر إلى عشرين ألف رجل ، وكانوا كلهم عاطلين في معسكرهم لأن عقرة كانت قد تم الاستيلاء عليها قبل مدة من الزمن. ويقع هذا الحصن على قمة صخرة تكاد تكون عمودية على ما يبدو ، ولا يمكن الوصول إليها إلا من طريق واحد ضيق بحيث لا يستطيع أن يركب فيه شخصان جنبا إلى جنب (2).
مخ ۲۳
وقد كان سكانها يعتقدون بأن قلعتهم لا يمكن أن تستولي عليها قوة في العالم ، ولم يكن ينتظر حتى الباشا نفسه أن تقع في يده بهذه السرعة. غير أنه حدث ذات يوم انه قد هوجم هو نفسه من كمين كانت ثلة استطلاعية تابعة للعدو قد نصبته في مكان خطر ، وكاد يؤخذ أسيرا بهذه الطريقة. فاغتاظ أتباعه لذلك بحيث إنه سار في صباح اليوم التالي على رأسهم لمهاجمة ذلك المكان الذي تم احتلاله بالفعل خلال ثلاث ساعات بعد أن خسر مئة وخمسين من رجاله فقط. فاندهش أكراد العمادية لهذه المفاجأة الفذة بحيث إنهم تخلوا عن المكان من دون مزيد من القتال.
وفي يوم 30 أيار وصل كتاب من الباشا ينطوي على أمره بإبقاء الدكتور روص في أربيل حتى يطلبه هو على أن يخدم ويعامل بغاية الاحترام ، فكان لذلك تأثير في تحسين أحوال معيشته وتأمين راحته. وفي 6 حزيران وصل الخبر بأن الأحوال في العمادية قد سويت ، فتخلى الباشا السابق ، سيد باشا ، عن منصبه ونصب موسى (1) باشا في مكانه. كما نصب سليم باشا في عقرة ، ولما كانت جميع البلاد قد خضعت لحكومة راوندوز فقد أصبح كل شيء هادئا تمام الهدوء. ومع ذلك لم يصل أي أمر من سموه بإرسال الدكتور إلى معسكره إلا في يوم 3 تموز ، بعد كثير من الاعتراضات والاحتجاجات وعدد من التأكيدات المضللة عن وصول الباشا السريع إلى أربيل. فالظاهر أن الحاشية تبقي حركات الباشا وسكناته في سرية تامة ، إذ ليس في مقدور أحد أن يحزر متى تتم هذه المسيرة أو تلك ، حتى ولا أن يعرف الجهة التي ستسير فيها الجيوش إلى أن يتم الركوب.
وقد عبر الدكتور روص نهر الزاب بالكلك الذي يصفه بكونه أشبه ب «عربة نبتون» وقد سحب الكلك عبر النهر بحصانين اثنين سيقا في أول الأمر إلى الماء ثم ظلا يحثان على العبور من قبل ركاب الكلك نفسه الذين كانوا يقبضون على ذيليهما بقوة. فوصلت الجماعة إلى عقرة بعد مسيرة أربع عشرة
مخ ۲۴
ساعة وقطع ستة وخمسين ميلا إلى شمالي الشمال الشرقي. ويعتبر الدكتور روص كلا من أربيل وعقرة في شمال بغداد تقريبا.
وقد استقبله الباشا استقبالا حسنا ، لكنه بعث إليه بمن يعتذر منه شخصيا لعدم قيامه له في مجلسه أثناء دخوله عليه ، كما يجب أن يجري بالنسبة لخادم من خدام ملك إنكلترا ، نظرا لأنه كان محاطا بأناس لم يتم إخضاعهم إلا مؤخرا ولأن الوقوف بوجودهم ينطوي على التساوي بينه وبين الباشا في نظرهم ، وهذا مما قد لا يكون من مصلحته أن يفعله أو يعترف به أمام ملأ من الناس. فألفى الباشا رجلا وسيم المظهر محبا للخير ، يبلغ الخامسة والأربعين من عمره تقريبا. كما وجده أبيض البشرة تبدو فيه آثار الجدري. وقد اعورت إحدى عينيه وأصبحت منخفضة معتمة. وكانت لحيته تبلغ حوالي اثنتي عشرة بوصة في الطول ، ذات لون بني خفيف ، ولم يمشط نصفها الأسفل ولذلك كانت ملبدة بعضها ببعض. أما من النواحي الأخرى فقد كان مرتب اللباس والهندام. وكانت إحدى رجليه مصابة بالعرج لرفسة أصابته من أحد الخيول ، كما كان يتكلم بصوت خافت. وقد دخل في حديث طويل مع الدكتور روص أكثر من مرة ، في مواضيع عامة غالبا. فاستفسر منه عن طريقة التعليم في انكلترا ، وديانة أهل الهند والصين متصورا أن الصين كانت تابعة لنا على شاكلة الهند. وقد كان يرغب كذلك في معرفة علاقتنا بإيران وروسية. ثم استفسر في مناسبة أخرى عن أشياء كثيرة مثل استعمالات الأدوية وتأثيراتها ، وحالة النبض في أثناء المرض ، وعن الطاعون والهيضة وغير ذلك. وانتقل بعد ذلك إلى مواضيع الحرب ، فتحدث عن الطبنجات والمسدسات ، وأخرج طبنجة إنكليزية قديمة ذات سبطانتين وبندقية ، فكانت هذه مع سيف ومرقب (تلسكوب) وشمسية وسرير خشبي وعدد من المحافير تكون القسم الأكبر من اثاث خيمته وفيما يقرب من خيمته الخاصة كانت هناك خيمة واسعة ذات عمودين يعقد فيها الاجتماعات قبل الظهر وفي الليل. وهو لا يذهب إلى النوم مطلقا قبل بزوغ الفجر ، وعند ذاك ينام إلى التاسعة أو العاشرة من صباح اليوم التالي. وقبيل الصلاة الأخيرة بربع ساعة يعزف جوق صاخب شيئا من الموسيقى ، وفي وقت الصلاة تطلق طلقة من المدفع.
مخ ۲۵
أما القوة الموجودة في المعسكر فقد علم الدكتور روص أنها تقدر بحوالي عشرة آلاف رجل فقط ، وهى لا تكاد تساوي نصف الجيش الأصلي ، فقد سرح باقي الرجال إلى بيوتهم للقيام بمهمة الحصاد. ولا يمت المعسكر بصلة إلى النظام والنسق العسكريين بشيء ، على أن الشيء النظامي الوحيد هناك كان التفاف حلقة من الخيم الصغيرة حول خيمة الباشا ، وهي تحتوي على حرسه الخاص الذين يبلغون ثلاثة آلاف شخص في عددهم. وهؤلاء يكونون خدامه في نفس الوقت. ويتسلح المشاة بالبنادق والخناجر ، كما يتسلح الفرسان بالرماح والخناجر. وكل رئيس قبيلة تخيم قبيلته من حوله في معزل عن سائر القبائل ، فيؤدي ذلك إلى تشويه منظر المعسكر نفسه لأنه يمتد والحالة هذه إلى مدى يفهم منه بالنسبة لقواعد الحرب الأوربية أنه يحتوي على خمسين ألف مقاتل. ومع هذا ، فبرغم هذا الاحتياج إلى النظام والترتيب لم يكن يسمع فيه ولا صوت واحد ، ومن الممكن أن يصل كل فرد فيه إلى المكان المعين في ظرف خمس دقائق فقط. وقد كان الرجال يتمرنون من تلقاء أنفسهم على الرماية وإصابة الهدف بصورة مستمرة. وفي كل مساء يتناول ما بين المئة والمئتي جندي عشاءهم في خيمة الباشا متبعين في ذلك دورة خاصة تتناول العشائر جميعها. وقد شوهد عدد من الأسرى في المعسكر وهم مقيدون بالحديد في أعناقهم وأرجلهم. ويقول الدكتور روص إن الباشا معتاد على شراء غنائم وأسلاب الحرب جميعها بأسعار تساوي ضعف ما يدفعه لهم الآخرون.
وفي اليوم الثامن من تموز ترك الدكتور روص معسكر الباشا وسلك طريق الموصل. وفي الجانب الآخر من الزاب وجد مئة فارس عربي من قبيلة ألبو سلمان مستعدين لتوصيله خلال ما تبقى من ممتلكات مير راوندوز. فأعترض على هذا العدد الكبير من الرجال لكن رئيس هذه الثلة الكبيرة من الخيالة أفهمه بأن الأوامر التي تلقاها تفرض عليه ذلك ، وأنه لا يستطيع التخلي عن أي رجل منهم. ويغتنم الدكتور هذه الفرصة هنا ليشير إلى التباين الموجود في عادات موظفي هذا الباشا وموظفي المناطق التركية. ففي اللحظة التي دخل فيها هذه الجهات بوهت بطلبات البخشيش ، وبعد تجريده من كل ما كان يمكن
مخ ۲۶
أن يكون قد حمله معه فإن الأوغاد المناكيد تبعوه إلى منزله طالبين المزيد. أما في ممتلكات راوندوز فإن البخشيش لم يذكر قط. هذا وقد أجرى الدكتور مقارنات في كل ناحية من النواحي بين حكومة علي باشا في بغداد وحكومة المير ، وهو يعطي الأفضلية للأخير ويشير إلى أحاديث الخيانة التي كان يصرح بها علانية بالنسية لعلي باشا ، بينما كان الإطراء والثناء على المير يلهج بهما الجميع بصراحة.
وإلى هذا الحد نكتفي بما ورد في يوميات الدكتور روص. أما المعلومات التي زودني بها معظم الأشخاص الذين قابلتهم ، ممن له اطلاع كاف في الموضوع ، فتتفق مع معظم التفصيلات الواردة في هذه اليوميات. فإن شخصية المير وأخلاقه تظهر في أعماله (1). فهو طموح إلى حد الإفراط ، ومستهتر تماما بالنسبة للوسائل التي يصل بها إلى غاياته ومطامحه. ومع أنه فطن بعيد النظر فإنه حسود ومرتاب للغاية. وهو على تشبعه بفكرة العدالة الحقة التي لا تعرف المحاباة يسخر مبادئه للحصول على المزيد مما يشبع به أطماعه وليس لمجرد العدالة نفسها. أضف إلى ذلك أنه لا يتورع عن سفك الدماء لكنه غير ميال إلى أن يقتل الناس بطيش أو تهور ، ومن دون سبب. ومع
مخ ۲۷
ذلك فهو لا يرحم حينما يتيسر السبب مهما كانت أهميته. فقد روي لي أن قبيلة من القبائل الكردية كانت تعارضه بشدة في أثناء محاصرته للعمادية ، وظلت متمادية في ذلك حتى بعد أن سقطت في يده ، فساق عليها قواته وبعد أن أخضعها وعانى ما عانى من أجل ذلك قتل جميع من وصلت إليه يده من أفرادها حتى بلغت ضحاياه عدة آلاف من الرجال. وقد فعل ذلك على سبيل العبرة للآخرين.
ولا يمتد حسد المير إلا إلى الغرباء الذين يسيحون في البلاد من دون شغل يتضح له. فإن التجار والبغالة وسكان البلاد المجاورة لا يحتاجون إلى جواز سفر في ممتلكاته ، وهم أحرار في رواحهم وغدوهم. لكن الأشخاص القادمين من مسافة بعيدة ، وخاصة من بلاد أظهرت له شيئا من العداء في يوم من الأيام ، لا بد أن يتعرضوا للتوقيف أو الحبس كجواسيس. وقد استفسرت عما سيحل بي فيما لو دخلت بلاده من دون الحصول على رخصة مسبقة منه ، فكان جواب الجميع على ذلك أن الإقدام على محاولة مثل هذه تعد غاية في الطيش وعدم التبصر. لأنه رجل سيىء التفكير (بدفكر) وقد يتصورني جاسوسا فيسيء معاملتي ، وخاصة لأنني كنت سأدخل إلى ممتلكاته من تبريز. وحينما أبديت إصرارا في معرفة المعاملة السيئة التي يمكن أن أعامل بها قالوا لي بأنني يمكن أن أحجز في مكان منيع حتى يمكن أن يعرف ما يريده المير مني ، وبعد ذلك قد أطرد إلى خارج البلاد بطريقة لا يتسنى لي أن أرى شيئا منها. على أنني قد لا أقابل بالعنف في داخل ممتلكاته حرصا على سمعته الطيبة ، لكنني من المحتمل جدا أن أقع فريسة للصوص حالما أعبر الحدود في طريقي إلى الخارج. ومن السهل أن يحصل هذا في بلاد مضطربة مثل هذه (1).
مخ ۲۸
وقد كان ذلك كله موضع الاعتبار الجدي عندي. فإن شخصية هذا الأمير العجيب ، والتقدم السريع الذي أحرزه في السلطة والسطوة خلال السنوات الخمس أو الست الأخيرة ، مع التبدل الأخلاقي الذي كان من الممكن أن يحدثه في هذا الجزء من آسية ، قد جعلت من المحتم علي أن أراه وأتعرف عليه ، لأتبين مقدار الصحة المنطوية في الروايات التي تروى عنه. وبهذا التفكير تسلمت من المعتمد كتابا إليه ، مع بعض الهدايا ، وكان غرضي من ذلك أن أقدمها إليه شخصيا بنفسي باعتبارها بداية لعلاقة صداقة يمكن أن تكون مفيدة وملائمة فيما بعد. وكانت خطتي في ذلك أنني بوصولي إلى أوشنو ، وهو مكان على مسيرة يومين من هنا ، وعلى بعد ستين ميلا من راوندوز فقط ، أن أبعث إليه بكتاب خاص أشرح له فيه هويتي وطبيعة الأوراق الموجودة عندي وأقترح عليه إذا ما أراد تسلمها من يدي أنا بالذات أن يبعث لي دليلا يوصلني سالما إليه ، وإذا كانت له فكرة أخرى في الموضوع ان يبعث لي شخصا يتسلم الهدايا من عندي. ويمكنك أن تتصوري مقدار ما أصابني من الخيبة حينما علمت أن المير بدلا من أن يكون في راوندوز كما كنت أتوقع كان على مسيرة عشرة أيام منها ، حيث كان منهمكا بتنفيذ الخطة التي وضعها
مخ ۲۹
لفتوحاته. وهكذا فإن مراسلتي له في هذا الشأن كانت ستستغرق عشرين يوما على الأقل علاوة على عشرين يوما أخرى كنا سأقضيها أنا في الذهاب لمقابلته والعودة بعد ذلك. وهذا تأخير ليس من الممكن لي أن أتحمله بالنسبة لما يتيسر لي من الوقت. ومهما كان مقدار ما عندي من الرغبة في القيام بمثل هذه المهمة الطريفة ، كانت هناك أسباب كافية تعيقني عن وضع حريتي وحياتي في موضع التهلكة بالدخول إلى بلاد المير من دون الحصول على الرخصة اللازمة منه. وعلى هذا فقد ضحيت مرة أخرى ، بكل إحجام ، بالواجب الذي كنت عازما على القيام به. وبعد أن اكتفيت بالحصول على أحسن المعلومات التي تمكنت من التقاطها عن هذا الأمير العجيب توجهت إلى بغداد عن طريق السليمانية.
مخ ۳۰
* (2)
الوصول إلى السليمانية زيارة الضباط الإيرانيين له زيارته للباشا في السليمانية وصف الحالة فيها وصفه الباشا وحديثه معه جدله في مجلس الباشا عن بعض الخرافات وصف السليمانية حادث في مقبرة السليمانية استئذانه بالسفر وتقديم بعض الهدايا منعه من زيارة آثار شهرزور مقابلته للسرتيب قائد القوات الإيرانية في السليمانية مغادرة السليمانية مع دليل إلى كفري وصف الطريق النذر كاهات ذكر الجاف والهماوند النزول في زالة المهمندار والقرويون التوجه إلى ابراهيم خانجي سليم أغا دلو حالة الأمن في الطريق قرية ابراهيم خانجي رستم أغا وصف الأكراد الوصول إلى كفري
** السليمانية أول تشرين الثاني 1834 م
عزيزتي
قبل يومين حررت رسالة إليك ، لكنني وجدت أنني لا بد أن آخذها معي إلى بغداد لأنه لا يوجد بريد إلى لندن هنا. جاء إلى زيارتي يوم أمس بعد الفطور بعض الضباط الإيرانيين (1) الذين يقودون الجند الإيراني المرابط هنا.
والحقيقة أن أباهما عبد الرحمن وأعمامهما قد فعلا ذلك من قبل أيضا ، فكانت حالهم هذه من الأسباب المهمة للتصادم الذي تكرر حدوثه بين إيران والدولة العثمانية في تلك الأزمان. كما كان من أسباب أفول نجم البابانيين وانحطاط
مخ ۳۱
فرووا روايات مؤسفة عن الحالة العامة هنا ، لكنها لم تكن اسوأ مما تدل عليه المظاهر وتؤيده. وبعد ذلك ذهبت لزيارة الباشا الذي ألفيته في خيمته محاطا بعدد من الأكراد الوسيمين ، ولكن من دون مظهر فخم أو أبهة ذات شأن مسكين الرجل! إنه لا قبل له بذلك. فإن باشوية السليمانية الصغيرة ، غير الغنية مطلقا ولا القوية ، كانت فريسة لمجموعة من النكبات التي أنزلتها إلى حضيض التعاسة. فقد داهمتها أولا النزاعات العائلية ، أي الحرب الأهلية الناشبة بين أخوين ينشدان التفوق والسلطة. فأدى ذلك إلى تدخل أجنبي بطبيعة الحال ، ووقعت الباشوية التي كانت تابعة إلى باشوية بغداد من قبل في أيدي أمير كرمنشاه الإيراني محمد علي مرزا. على ان النزاعات الداخلية والهياجات ظلت مستمرة ، حتى أضعفت الفريقين بحيث إن جارهما مير راوندوز (1) وجد من المناسب بعد موت محمد علي مرزا ان يكتسح البلاد ويلحق جزءا غير يسير منها بإمارته. فسبب له ذلك حربا مع الحكومة الأذربيجانية التي فرضت سلطتها على هذه الجهات ، وحتمت على السليمانية المنكودة الطالع ان تقوم بأود الجيش الإيراني علاوة على دفعها الأتاوي للإيرانيين. ثم داهم البلاد الطاعون (2) الذي افنى ما يزيد على نصف السكان في البلدة وما يحيط بها من الريف. اما النصف الثاني فقد هاجر من استطاع منهم ان يترك البلاد إلى أماكن
مخ ۳۲