في هاجرة ظن نفسه يدوس بلاط فرن ، أو يضطجع في حمام ، وإن ترك على تلك الصخور لحما كاد يشتوي بلا نار ، أو ماء كاد يغلي بلا وقود ، وليس في تلك الشعاب أشجار ولا أنهار ، ولا مروج ولا عيون تلطف من حرارة تلك الحجارة السود في حمارة القيظ ، وكأن القاصد إلى هذا الوادي إنما يزداد بهذه القسوة الجغرافية أجرا وثوابا وارتفاع درجات ، فبقدر ما أفاض الله على هذا المكان من الشعاع المعنوي قضى بحرمانه من الحلية المادية.
وقد وصف الله تعالى هذه الحالة فقال عن لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) [إبراهيم : 37] وظاهر من هذا أنه واد مجرد للعبادة دون غيرها ، وأنه غير ذي زرع ولا ضرع ، ليزداد أجر الناس بالقصد إليه ، والعكوف فيه.
ولما كان شد الرحال إلى واد كهذا خال من جميع أسباب الحياة تقريبا ليس مما يرغب فيه الناس ، الذين من عادتهم أن يقصدوا الأماكن الرغيدة والمتنزهات ، وأن يعولوا على البقاع المريعة التي يأتيها رزقها رخاء ورغدا ، دعا إبراهيم ربه فقال : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [إبراهيم : 37].
فبدعوة إبراهيم هذه هوت إلى هذا المكان وإلى المتمكنين فيه أفئدة ، ورفرفت عليهم جوانح من جميع فجاج الأرض ، ترى الناس منذ ألوف من السنين يحجون هذا البيت المحرم ، ويحرمون قبل الوصول إليه بمراحل ، ويوفضون إليه كأنما يوفضون إلى أنزه بقاع البسيطة ، وأطيبها نجعة ، وأكثرها خيرا وميرا ، وتجد قلوبهم في الرحلة إليه ملأى بالفرح ، لا يكادون يصدقون أنهم مشاهدوه من شدة الوجد ، وغلبة الهيام ، حتى إذا شاهدوه ، فاضت العبرات ، وخفقت الجوانح ،
مخ ۵۰