وقد قيل لي : إن طريق جدة إلى مكة ليست طول السنة في هذه القسوة التي رأيتها فيها ، بل هي في الربيع غيرها في الصيف ، إذ يرى منها المسافر في الربيع كلأ كثيرا ، وخصبا نضيرا ، وقتادا وطلحا ، وشجرا وسرحا.
كانت قوافل الحجاج من جدة إلى مكة خيطا غير منقطع ، والجمال تتهادى تحت الشقادف ، وكثيرا ما تضيق بها السبيل على رحبها ، وكان الملك أيده الله من شدة إشفاقه على الحاج ، وعلى الرعية ، لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ، ولا يفتأ ينتهر سائق السيارة ، كلما ساقها بعجلة ، قائلا له : «تريد أن تذبح الناس». وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته شقدفا ، أو تؤذي جملا أو جمالا ، وهكذا شأن الراعي البر ، الرؤوف برعيته ، الذي وجد أنه مأمور بمعرفة واجباته.
وما زلنا نسير حتى دخلنا حدود مكة ، التي يحرم فيها الصيد ، فالمسافة بالسيارة لا تتجاوز أربع ساعات ، وبعد ذلك وصلنا إلى الثكنة العسكرية ، وصرنا بين البيوت ، فعلمنا أننا تشرفنا بدخول البلدة التي تشرفت بمولد محمد صلى الله عليه وسلم سيد الوجود ، وبالبيت الذي طهره إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فقصدنا توا إلى البيت الحرام ، حيث طفنا وسعينا ، وجأرنا ودعونا ، والله يتقبل الدعاء ، ويغفر الذنوب في ذلك المقام الكريم ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [الزمر : 53].
* * *
مخ ۴۸